مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
المفهوم الإسلامي للحرية
بقلم: أ.د. محمد عمارة

إن الجيل القرآني الفريد، الذي أقام الدين وأسس الدولة، وفتح الفتوح، ووضع قيم الإسلام في الحرية بالممارسة والتطبيق قد تحول إلى أقلية في الدولة الإسلامية بعد الفتوحات التي أدخلت في المجتمع الإسلامي شعوباً وقبائل وعادات وتقاليد ومواريث لم تتح لها سرعة الفتوحات التربية وإعادة الصياغة للإنسان، فأصبحت الغلبة في الدولة الإسلامية لعادات وتقاليد ومواريث وقيم عاشت طويلاً وترسخت في ظل استبداد الفرس والرومان. ويكفي لتقريب الصورة أن نعرف أن تعداد شبه الجزيرة العربية - يومئذ - كان حول المليون، بينما ضمت الدولة الإسلامية - على نحو سريع - قرابة الأربعين مليوناً من السكان! فاختل التوازن بين الجيل الذي صاغه الإسلام وبين الملايين التي أدخلتها الفتوحات السريعة إلى «معدة» المجتمع الإسلامي. ولقد كان عمر بن الخطاب واعياً بأخطار هذا «الوفد السلبي»، الذي يمتلك إغراءات الترف وغوايات الرفاهية التي تتمتع بها فضاءات هذه البلاد المفتوحة، على النقيض من البساطة والخشونة التي عاش في ظلالها الجيل القرآني «قوة ضاربة» للإسلام وحافظة لقيمه ومثله العليا، حتى لقد ذهب إلى حد محاولة «الحَجْر» على ملأ قريش وأشرافها الخروج إلى مجتمعات البلاد المفتوحة، ففرض ما يمكن أن يعد «تحديد الإقامة» لهم بالحجاز كي لا تجتذبهم إغراءات المجتمعات الغنية، فتقوم من حولهم مراكز قوى «تنتصر لمنظومة القيم الموروثة التي لم تخضع لتهذيب الإسلام». تحول كبير ويرصد التاريخ - بعبقرية - هذه الحقيقة التي مثلت تحولاً عن نقاء النموذج القيمي الإسلامي، لحساب المواريث التي ترسخت في ظلال الترف والاستبداد، فيقول: «وكان عمر قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن وأجل، فلما ولي عثمان (47ق - 35هـ/ 577 - 656م) لم يأخذهم به، فخرجوا إلى البلاد، فلما نزلوها، ورأوا الدنيا، ورآهم الناس، وتقربوا إليهم، وقالوا: يملكون فيكون لنا في ملكهم حظوة، فكان ذلك أول وهن على الإسلام، وأول فتنة كانت في العامة.. ولذلك كان عثمان أحب إلى قريش من عمر»(1). عوامل الفتنة: وكثمرة من ثمرات هذا التحول الاجتماعي، شهدنا كيف جاءت عوامل الفتنة ووقائعها ورموزها من المجتمعات التي أدخلتها الفتوحات السريعة في دولة الإسلام، دون أن تتاح لهم الفرصة للتهذيب بمنهاج الإسلام في إعادة صياغة الإنسان بقيم الإسلام. - لقد جاء اغتيال عمر من فارس، بمؤامرة نفذها أبو لؤلؤة المجوسي. - وجاءت الثورة على عثمان بن عفان من مصر والعراق. - وجاء الملك العضود من الشام. وهكذا، رويداً رويداً، تراجعت الحرية والشورى عن «الدولة والسلطة»، بينما ظل العلماء الذين ورثوا ميراث النبوة في أحضان الأمة، يصنعون الحضارة وتتوالى ثوراتهم ضد الاستبداد والاستعباد. متناقضات العصبية فلما ظهرت متناقضات العصبية العرقية - التي كان الإسلام قد هذبها في عهد النبوة، ووصفها ووصمها «بالجاهلية.. والمنتنة» - لما ظهرت هذه العصبية العرقية بين شعوبية الفرس وعصبية العرب، وعلت العصبية العربية في ظل الدولة الأموية، ثم علا شأن الشعوبية الفارسية في العقود الأولى من الحكم العباسي، خيل للخليفة العباسي المعتصم (218 - 227هـ/ 833 - 843م) أن عزل الفريقين - العرب والفرس - عن جيش الدولة يمكن أن يكون سبيلاً لحفظ وحدتها، وتحجيم النفوذ السياسي لهذه العصبيات العربية، فاستجلب المماليك من أواسط آسيا، وكوَّن منهم جيش الدولة، وجعل لهم معسكر في «سامراء» - بالقرب من بغداد - لكن هذه المؤسسة العسكرية، الغريبة عن روح الحضارة العربية والقيم الإسلامية، سرعان ما تضخمت وتحولت من أداة في يد الخلافة إلى حيث أصبحت الخلافة لعبة في يدها حتى لقد أصبحت «سامراء» هي العاصمة بدلاً من «بغداد»! وهكذا زحفت العسكرة على المجتمع، وغالبت عوامل «القوة» والجمود والتقليد قيم الإبداع والاجتهاد والتجديد.. فبدأ التراجع الحضاري يأخذ طريقه إلى الفضاء الإسلامي بالتدريج وعن هذا التحول السلبي - والرئيس - يقول الإمام محمد عبده: «كان الإسلام ديناً عربياً، ثم لحقه العلم فصار علماً عربياً، بعد أن كان يونانياً، حتى سيطر الترك والديلم وغيرهم ممن لم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين، بل جاؤوا إلى الإسلام بخشونة الجهل، يحملون ألوية الظلم، فلبثوا ثوبه على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم.. أما العلم فلم يحفلوا بأهله، وقبضوا عنه يد المعونة، وحملوا كثيراً من أعوانهم على أن يندرجوا في سلك العلماء، وأن يتسربلوا بسرابيلهم، ليعدوا من قبيلهم، ثم ليضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم العلم، ويبعد بنفوسهم عن طلبه، ودخلوا عليهم - وهم أغرار - من باب التقوى وحماية الدين، وزعموا الدين ناقصاً ليكملوه.. فاستعاروا للإسلام ما هو منه براء، ونجحوا في إقناع العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره، وتفخيم أوامره، والغوغاء عون الغاشم، وهم يد الظالم، فخلقوا لنا هذه الاحتفالات، وسنوا لنا عبادة الأولياء والعلماء والمتشبهين بهم، مما فرق الجماعة وأوقع الناس في الضلالة وقرروا أن المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة حتى توقف الفكر وتجمدت العقول ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية، ينشرون من القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأن لا نظر لهم في الشؤون العامة، وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة هو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم، ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهم متعرض لما لا يعنيه، وأن ما يظهر من فساد الأعمال واختلال الأحوال ليس من صنع الحكام، وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا أمل، وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله تعالى، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه، ووجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك، وفي بعض الأحاديث الموضوعة والضعيفة ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام». وقد انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضللين، وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف، واتخذوا من عقيدة الغدر مثبطاً للعزائم وغلاً للأيدي عن العمل، والعامل الأقوى في حمل النفوس على قبول الخرافات إنما هو السذاجة، وضعف البصيرة في الدين وموافقة الهوى، وهي أمور إذا اجتمعت أهلكت فاستتر الحق تحت ظلام الباطل، ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يتضارب وأصول دينهم ويباينها على خط مستقيم. ترويج خاطئ هذه السياسة هي التي روجت لما أدخل على الدين مما لا يعرفه، وسلبت من المسلم أملاً كان يخترق به أطباق السماوات، وأخدلت به إلى يأس يجاور به العجماوات، هناك استعجم الإسلام وانقلب عجمياً(2). هكذا حلل الإمام محمد عبده - بعبقرية حضارية - دور عسكرة الدولة التي سرت سلبياتها إلى المجتمع، ودور العجمة التي ميزت هذه العسكرة في إحلال الجمود والتقليد والخرافة محل المعالم الحضارية التي ميزت منظومة القيم الحضارية التي جاء بها الإسلام، والتي صاغت الجيل القرآني الفريد في صدر الإسلام. فلما جاء الإمام الشهيد حسن البنا (1324 - 1368هـ/ 1906 - 1949م) - وهو تلميذ نجيب للإمام محمد عبده - وأخذ في تشخيص عوامل التحلل والتراجع الحضاري في التاريخ الإسلامي، وتبنى ذات التحليل، وكتب يقول: «إن من أهم عوامل التحلل في الدولة الإسلامية، انتقال السلطة والرياسة إلى غير العرب، من الفرس تارة والديلم تارة أخرى والمماليك والأتراك، وغيرهم، ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن، لصعوبة إدراكهم لمعانيه»(3). فلما كانت الأخطار الخارجية - الصليبية - (489 - 690هـ/ 1096 - 1291م)، والتترية (656 - 659هـ / 1258 - 1261م) التي هددت الوجود الإسلامي - مدت هذه الأخطار في عمر «عسكرة الدولة»، فأصبحت الغلبة «لقوة العضلات» بدلاً من «ملكات العقل والعقلانية»، وغدت الأرض إقطاعاً للمماليك مقابل حمايتها من الصليبيين والتتار، وأصبحت الدولة قوة وقهراً واستبداداً وتراجعت من فضائها قيم الحرية والشورى ومشاركة الأمة في صناعة القرار، وأخذ فقهاء السلاطين ينظرون ويبررون لحكم التغلب، ويدعون لطاعة أهل الفسق والفجور طالما تغلبوا بالقوة على البلاد والعباد! تلك إشارات لمقام الحرية في الإسلام، ولأسباب صعودها وازدهارها، ولبعض أسباب تراجعها عن فضاء «الدولة والسلطة والسلطان». وهي إشارات ترسم معالم الطريق نحو استعادة هذه الحرية من جديد، إذ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها: - إعادة صياغة الإنسان بقيم الحرية التي جاء بها الإسلام. - والبدء بالصناعة الثقيلة: التربية قبل السياسة، والأمة قبل الدولة؛ لتأتي «الدولة الحرة» ثمرة ناضجة وطبيعية «للأمة الحرة»، وليتحقق شعار «كما تكونوا يولى عليكم»، بدلاً من الشعار القائم الآن: «كما يولى عليكم تكونوا». الهوامش (1) ابن أبي الحديد «شرح منهج البلاغة»، جـ11، ص 12، 13، طبعة الحلبي القاهرة. (2) محمد عبده «الأعمال الكاملة»، جـ3، ص 317 - 319، دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة، طبعة بيروت سنة 1972م. (3) حسن البنا «مجموعة الرسائل»، ص 131، 132، طبعة دار الشهاب القاهرة، بدون تاريخ.
*المجتمع
أضافة تعليق