مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
إسلامية الصراع حول القدس وفلسطين (1)
بقلم: د.محمد عمارة

في البداية.. لا بد من تحديد المُخاطب بهذه الصفحات، التي تتحدث عن «الطبيعة الإسلامية للصراع حول مدينة القدس» تحديداً.. وحول فلسطين بوجه عام. فالخطاب حول إسلامية القدس.. وإسلامية الصراع عليها بيننا وبين الصهيونية، وكيانها، ومسانديها، ليس مُوجَّهاً إلى «الذات»؛ ذات الذين يؤمنون بإسلامية القدس، وإسلامية الصراع حولها.. وإلا كان الأمر تحصيلاً للحاصل، لا يستحق عناء الخطاب! وإنما الخطاب هنا موجه - بالحوار - إلى الذين ينكرون إسلامية القدس، وإسلامية قضيتها، ومشكلتها، وإسلامية الصراع حولها، وإسلامية آليات تحريرها من الأسر «الصهيوني - الإمبريالي».. أولئك الذين يعترضون على أسلمة هذا الصراع القائم حولها، ويريدون إما الوقوف بطبيعة هذا الصراع عند «الدائرة الوطنية الفلسطينية»، باعتبار القدس مجرد أرض فلسطينية، وعاصمة للدولة الفلسطينية.. أو الوقوف بتوصيف هذا الصراع عند «الدائرة القومية العربية»، باعتبار المشروع الصهيوني مشروعاً قومياً يهودياً، يقوم التناقض بينه وبين المشروع القومي العربي.. ومن ثم، فالقدس قضية عربية - بالمعنى القومي - والصراع حولها قومي عربي فقط. أي أن الخطاب في هذه الصفحات موجه إلى الذين يريدون «علمنة» هذا الصراع، وتجريده من الطبيعة الإسلامية - العقدية والفكرية والحضارية - ويحذّرون من «أسلمته»، التي يرون فيها أخطار ومحاذير تضر بموقفنا وتحالفاتنا في هذا الصراع. المشكلةوالصراع والآليات والمقاصد لذلك، وجب البدء بتحديد «طبيعة المشكلة»، التي تحدد - بدورها - طبيعة الصراع، ومن ثم طبيعة آليات الحل، انتهاء بالمقاصد المبتغاة من تحرير هذه المدينة، التي تمثل البؤرة الأعقد في هذا الصراع. إن مشكلتنا لم ولن تكون مع «اليهودية»، التي جاء بها موسى عليه السلام، فنحن المسلمين نؤمن باليهودية رسالة سماوية من رسالات السماء، بل لا يكتمل إيمان المسلم إلا إذا آمن باليهودية كمعلم من معالم طريق الدين الإلهي الواحد، وشريعة متميزة لبني إسرائيل. ومشكلتنا ليست مع «توراة» موسى عليه السلام، فقرآننا الكريم يعلمنا أنها تنزيل إلهي، فيها هدى ونور: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ’’44’’} (المائدة). ومشكلتنا ليست مع «الإنسان اليهودي»، فحضارتنا الإسلامية هي التي جعلت من تعددية الشرائع والملل والشعوب والقبائل والأمم والأجناس والألوان والألسنة واللغات والقوميات والمناهج والثقافات والحضارات سنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل.. ووضعت هذه السنة الإلهية في الممارسة للتطبيق قروناً طوالاً، تمتع فيها اليهود بكنف الحضارة الإسلامية وأحضانها، كما لم يحدث لهم في أي وطن من الأوطان أو حضارة من الحضارات، فأثَّروا وتأثّروا، وفُتحت أمامهم كل ميادين التفاعل الحضاري، حتى غدت فلسفتهم فرعاً من الفلسفة الإسلامية، ولاهوتهم متأثراً بعلم الكلام الإسلامي، وعروض شعرهم متأثراً بعروض الشعر العربي، وأجرومية عبريتهم متأثرة بأجرومية العربية.. فاستظلوا لأكثر من عشرة قرون، بمظلة التعددية، في إطار الأمة الواحدة، وحراسة المبدأ الإسلامي: «لهم ما لنا، وعليهم ما علينا»، الذي لم تصل إلى مستوى سموه حضارة من الحضارات الأخرى حتى الآن! مشكلتنا ليست مع اليهودية الدين.. ولا مع التوراة وشريعتها.. ولا مع اليهود.. وإنما مشكلتنا هي مع «الصورة التلمودية لليهودية» تلك التي نسخت ومسخت توحيد اليهودية، فحولته إلى وثنية أحلّت «يهوه» محل الله، ثم جعلته إلهاً لبني إسرائيل وحدهم، من دون الشعوب الأخرى، التي لها آلهتها المغايرة والمتعددة! المشكلة مع الصهيونية ومشكلتنا هي مع «اليهودية - الصهيونية»، التي جردت اليهودية من «عموم الدين»، وجعلتها ذروة «العنصرية» عندما عرّفت اليهودي بأنه: هو المولود من أم يهودية.. وليس المتدين حقاً باليهودية الحقة.. فأصبح المولود من أم يهودية بحكم وحق «الولادة البيولوجية» من «شعب الله المختار»، حتى ولو كان ملحداً، أو ابن زنا! ومشكلتنا - كذلك - هي مع «المشروع الصهيوني»، الذي تبنى أو استثمر عنصرية «اليهودية التلمودية»، ووظف إمكانات الجماعات اليهودية في الشراكة، التي دعت إليها الإمبريالية الغربية، في مرحلة زحفها الاستعماري الحديث على وطن العروبة وعالم الإسلام.. لأن هذا المشروع الصهيوني، ذو طبيعة استيطانية، تناقض وتنفي الوجود الوطني والعربي والإسلامي في فلسطين وما حولها، وذو وظيفة إمبريالية غربية، تجعل من الكيان الصهيوني جسماً غربياً وغريباً، مزروعاً بالقسر في قلب وطن أمتنا، يقطع وحدة أرضها، ويجهض محاولات نهوضها، ويتصدى بالعداء لصيغة يقظتها، قومية تلك الصيغة أو إسلامية. مشروع استيطاني فنحن بإزاء «مشروع استيطاني» غربي النشأة والطبيعة والمقاصد، تبلور - أول ما تبلور - في «اللاهوت البروتستانتي» الغربي، انطلاقاً من الفكر الأسطوري حول «رؤيا يوحنا»، وعودة المسيح عليه السلام؛ ليحكم الأرض ألف سنة سعيدة، بعد معركة «هرمجدون»، والذي جعل من جمع اليهود وحشرهم في فلسطين، وتهويد القدس، وإقامة الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى.. أي جعل من تحقيق العلو والهيمنة الصهيونية ديناً يتدين به البروتستانت في الغرب.. ثم حدث التبشير بهذا المشروع الديني بين الجماعات اليهودية.. فتلقفته الصهيونية - كحركة قومية عنصرية - والإمبريالية الغربية إبان زحفها على الشرق الإسلامي، وبحثها عن أقليات توظفها - كمواطئ أقدام - في المشروع الاستعماري.. فاجتمعت في هذا المشروع الصهيوني عناصر متعددة.. ومركبة.. منها: - البعد الديني: في لاهوت النصرانية الغربية.. وهو الذي بدأ بروتستانتياً، ثم مارس الابتزاز والتأثير على الكنيسة الكاثوليكية الغربية، حتى جعلها تشرع في «تهويد نصرانيتها»، بدلاً من تحقيق الاعتراف اليهودي بالمسيحية!.. فهي الآن تسعى لتجعل «يهوه» إلهها!.. وتتحدث عن «دج المسيح في إسرائيل»!.. وتعدل، ليس فقط في «الفكر المسيحي»، وإنما في «الأناجيل.. والصلوات»! لتصل إلى طلب «الغفران» من اليهود، بعد أن ظلت قروناً طويلة تبيع لأتباعها «صكوك الغفران»(2)!! معاهدة سرية فتمثال السياسي الإنجليزي «سيكس»، الذي عقد مع نظيره الفرنسي «بيكو» المعاهدة السرية والشهيرة، التي مزقت أوصال المشرق العربي سنة 1916م - تمثال هذا السياسي - في قريته «سلدمير»، بمقاطعة «يوركشاير» مكتوب عليه: «ابتهجي يا قدس»! فتمزيق أوصال الوطن العربي من قبل الاستعمار «العلماني» هدفه: القدس! والجنرال الإنجليزي «اللنبي» عندما دخل القدس سنة 1917م - على رأس جيشه الاستعماري - يتقمص صورة بابوات الحروب الصليبية، ويعبر عن أحلام الملك الصليبي «ريتشارد قلب الأسد»، فيقول «اللنبي»: «اليوم، انتهت الحروب الصليبية»! ويومئذ نشرت مجلة «بنش» Punch الإنجليزية رسماً «كاريكاتيرياً» لـ«ريتشارد قلب الأسد»، وهو يقول: «أخيراً، تحقق حُلمي»! ذلك تحت عنوان: «آخر حملة صليبية»!! أما الجنرال الفرنسي «جورو»، الذي يرفع راية العلمانية الفرنسية المتطرفة، فهو الذي يذهب - عند دخوله دمشق سنة 1920م - إلى قبر صلاح الدين الأيوبي، ليركله بحذائه، ويقول: «ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين»! بُعد ديني فالبعد الديني لهذا الصراع - حول القدس - قائم، وحيّ، ومتأجج في الفكر الغربي - اللاهوتي منه والعلماني - التاريخي منه والحديث.. والمعاصر لنا حتى هذه الأيام(3). كذلك نواجه في الطبيعة المركبة لهذا المشروع الصهيوني «البعد الإمبريالي الغربي»، الذي يوظف الصهيونية في خدمة هيمنته الاستعمارية والحضارية على وطن العروبة وعالم الإسلام.. وكذلك «البعد العنصري اليهودي»، الذي تغذيه القومية الصهيونية، التي استثمرت وتستثمر كل ألوان التعصب والأحقاد التي طفحت بها أسفار «التلمود» ضد «الأغيار»!.. وهي التي كثف القرآن الكريم حقائقها عندما قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ’’75’’} (آل عمران). فللمشكلة التي نواجهها: طابع ديني، وبعد لاهوتي.. بدأ في البروتستانتية الغربية، وها هو يزحف ليضم لها الكاثوليكية الغربية.. لتتلقفه الحركة الصهيونية، التي دعمته «باليهودية التلمودية»، لتوظف الجماعات اليهودية - بالتلمود - في خدمة هذه الشراكة في المشروع الإمبريالي الغربي، ضد وطن العروبة وعالم الإسلام. طبيعة مركبة وبسبب هذه الطبيعة المركبة - لهذه المشكلة، وهذا الصراع - عمل ويعمل في خدمة هذا المشروع: لاهوتيون، وملاحدة!.. ومتدينون وعلمانيون!.. ووضعيون ودهريون ومن ينتظرون عودة المسيح!.. وأيضاً، أعداء لليهود ولما يُسمَّى بالسامية، يريدون تهجيرهم من المجتمعات الغربية إلى أرض فلسطين، لتوظيفهم في هذا المشروع الاستعماري. وهذه الطبيعة المركبة للمشروع الصهيوني، هي التي جمعت بين «بونابرت» (1769 - 1821م)، وهو وضعي دهري، عندما ارتاد ميدان الدعوة إلى هذه الشراكة «الإمبريالية - اليهودية»، بندائه إلى يهود العالم كي يساعدوه على بناء إمبراطوريته الاستعمارية في الشرق لقاء «إعادتهم» إلى أرض فلسطين! فكتب، وهو محاصر لمدينة «عكا» سنة 1799م: «أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد.. إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل.. يا ورثة فلسطين الشرعيين.. إن الأمة الفرنسية.. تدعوكم إلى إرثكم، بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء»(4)! جمعت هذه الطبيعة المركبة لهذا المشروع، بين «بونابرت» - الدهري - وبين الكنائس البروتستانتية الغربية، التي رأت في حشر اليهود إلى فلسطين، وتهويد القدس، وإقامة الهيكل على أنقاض الأقصى، وإبادة العرب والمسلمين في معركة «هرمجدون»، السبيل إلى عودة المسيح ليحكم العالم ألف سنة سعيدة!.. وبين الكاثوليكية، التي عقدت مع الكيان الصهيوني معاهدة الاعتراف بالأمر الواقع - أي اغتصاب فلسطين والقدس - وتحدثت في مقدمتها عن «العلاقة الفريدة بين الكاثوليكية والشعب اليهودي»!.. حتى لقد تحدث البابا يوحنا بولس الثاني عن القدس، بمناسبة «سنة الفداء»، فقال: «منذ عهد داود، الذي جعل أورشليم عاصمة لمملكته ومن بعده ابنه سليمان، الذي أقام الهيكل، ظلت أورشليم موضع الحب العميق في وجدان اليهود، الذين لم ينسوا ذكرها على مر الأيام، وظلت قلوبهم عالقة بها كل يوم، وهم يرون المدينة شعاراً لوطنهم»(5). وبيَّن الكونجرس الأمريكي، الذي قرر سنة 1995م نقل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» إلى «القدس».. وردد في مقدمة هذا القرار، نفس المعنى الذي تحدث عنه بابا الفاتكيان: «إن القدس هي الوطن الروحي لليهودية»! وطن روحي مع أن القدس لم تعرف في تاريخها - ولم يعرفها - نبي اليهودية!.. ولا نزلت فيها توراتها!.. وداود وسليمان، اللذان عاشا فيها لمحة من التاريخ، هما في عرف اليهودية ملوك، وليسوا رسلاً ولا أنبياء لليهودية!! فمن أين.. ومتى.. وكيف كانت أو تكون «الوطن الروحي لليهودية؟!». لقد أضفى الغرب الاستعماري على هذا المشروع الصهيوني طابعاً دينياً.. وجعله ضمن مكونات البعد الديني في الحضارة الغربية.. وعلى هذا الدرب سارت الحركة القومية الصهيونية، حتى الفصائل العلمانية والمادية منها، فتحدث الجميع عن أسطورة: وعد الله بأرض فلسطين لنسل إبراهيم عليه السلام، ثم احتكروا بالاغتصاب ميراث إبراهيم، دون الأغلبية من نسله من العرب والمسلمين!.. وتحدثوا جميعاً - متدينون وعلمانيون - عن أرض التوراة، والوطن التوراتي.. ورفضوا كل البدائل التي عرضت عليهم لإقامة وطن تُحل به «المشكلة اليهودية» - في أوغندا - أو كينيا.. أو كندا.. أو أستراليا.. أو حتى في سيناء! بل إن الصهاينة العلمانيين، حتى هذه اللحظة، يطبقون العقوبات التوراتية ضد المجاهدين من أبناء فلسطين: الإبادة.. وإهلاك الحرث والنسل.. وسد منافذ المنازل.. وهدم البيوت! الهوامش (1) هو الشروح الدينية والدنيوية الجامعة للتراث اليهودي، والذي دوّنه الحاخامات على امتداد نحو خمسمائة عام، فعكس نفسية الشتات وأحقاد اليهود على الأغيار، ومثّل الفكرية الانعزالية للجماعات اليهودية - أي فكرية «اليهودية الأرثوذكسية» على وجه التحديد - وكما تم تدوين التلمود في قرون عديدة فلقد تنوع أيضاً باختلاف أماكن التدوين.. فمنه: التلمود البابلي، والتلمود الأورشليمي. (2) انظر: صحيفة «الحياة»، لندن، أعداد 01، 11 / 5 / 1991م، و71، 92/3/1991م، و«الأهرام» عدد 12/5/1991م. (3) في البعد الديني للمشروع الصهيوني - باللاهوت النصراني الغربي - انظر: جريس هالسل «النبوءة والسياسة: الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية» ترجمة محمد السماك، طبعة جمعية الدعوة الإسلامية العالمية سنة 1989م، ومحمد السماك «الأصولية الإنجيلية أو الصهيونية المسيحية والموقف الأمريكي»، طبعة مالطا سنة 1991م. (4) محمد حسنين هيكل «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل»، الكتاب الأول ص 31، 32، طبعة القاهرة، سنة 1996م. (5) د. «الأنبا» يوحنا قلتة - النائب البطريركي للأقباط الكاثوليك - في مصر، الأهرام، مقال عنوانه: «حول رؤية الفاتيكان لقضية القدس»، عدد 21/5/1991م.
*المجتمع
أضافة تعليق