عبد العزيز كحيل-خاص الوفاق
مع السعي الموفّق – إن شاء الله – إلى استئناف الحياة الإسلامية تُطرح قضية التأصيل الشرعي للعمل السياسي في أنظمة الحكم والإدارة والمال والاقتصاد والسياسات الأمنية والمجتمعية بما فيها الأسرة والفنّ والرياضة ونحوها، وأوّل شكل من أشكال تطبيق الشريعة وجودُ الخلفية الشرعية في كلّ أنشطة الدولة، وهنا يُثار سؤال قديم جديد هو’’ ما معنى لا سياسة إلاّ ما وافق الشرع’’؟ والإجابة أنه من المعلوم أنّ السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا نزل به وحي، فإن أردنا بقولنا ’’لا سياسة إلاّ ما وافق الشرع’’ أنّها لا تخالف ما نطق به الشرع فقولٌ صحيح، وإن أردنا ما نطق به الشرع حصرًا فهو غلط، فقد صدر من الصحابة رضي الله عنهم أفعال لم تدخل تحت أمر ولا نهي بنصّ القرآن والسنة، لكنّهم فعلوها – بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - لمصلحة الإسلام والمسلمين كحرق عثمان للمصاحف ونفي عمر لنصر بن حجاج ( من كلام ابن عقيل الحنبلي بتصرّف)
إنّ السياسة الشرعية لا تقتصر على تطبيق النصوص ولو كانت محكمة صحيحة صريحة لأنها تتناول من الوقائع والحوادث المتنوّعة والمتجدّدة ما لا يأتي عليه الحصر ولا تستوعبه النصوص المحدودة بطبيعتها، فيجد رجل السياسة نفسه أمام أحوال تحتاج إلى حلول وإجابات تلجئه إلى الاجتهاد بالرجوع إلى مصادر التشريع المعروفة وأوّلها القياس، فإذا لم يُسعفه ذلك مال إلى المصادر التبعية وعلى رأسها المصالح المرسلة.
· ما هي المصالح المرسلة ؟ : المصالح المرسلة هي كل منفعة ملائمة لمقصد الشارع وما تفرّع عنه من قواعد كلية، ولم يشهد لها نصٌ خاص بالاعتبار أو الإلغاء.
فهي بمثابة تطبيق لروح الشريعة ومقاصدها، وليست خروجا عليها أو انفلاتا منها، وهي بذلك تحقق نوعا من المرونة والتكيف داخل المنظومة الإسلامية لمواجهة كل المستجدات والنوازل التي تطرأ على مختلف مرافق الحياة، مما يؤكد صلاحية هذه الشريعة وخلودها على مرّ الأيام والأزمان.
وجميع المذاهب الإسلامية تعمل بالمصلحة إلا أنها اشتهرت بالانتساب للمذهب المالكي لأنه يعدّ المصلحة المرسلة دليلا مستقلا منفصلا عن باقي الأدلة، بخلاف المذاهب الأخرى التي أدرجتها تحت دليل من الأدلة المتفق عليها كالقياس أو إرجاعها لمقصود الشارع الذي يدلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع،
واتفق المالكية على اشتراط ضابطين لاعتبار المصالح المرسلة: الأول: أن تكون معقولة المعنى في ذاتها جارية على الأوصاف المناسبة، بحيث إذا عرضت على أهل العقول السليمة تلقتها بالقبول، وبهذا القيد يتضح أن مجال العمل بالمصالح المرسلة يتعلق بقسم المعاملات خاصة، دون قسم العبادات لأن هذه غير معقولة المعنى في الغالب،
والثاني أن تكون ملائمة لمقصود الشارع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا تعارض دليلا من أدلته القطعية.
فالأخذ بالمصلحة المرسلة مبدأ اتفقت جميع المذاهب خلافا للظاهرية، وهو ما عبّر عنه الإمام القرافي بقوله: ’’ وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا( أي المالكية)، وإن افتقدتَ المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وفرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب’’ .
· توجّس يجب تجاوزُه: يتوجّس بعض الإسلاميين من ’’المصلحة’’ لأنّ هناك من يتذرّع بها للانفلات من أحكام الشرع بجعلها فوق هذه الأحكام زاعمًا أن مدار الشريعة على مصالح العباد وحيث وُجدت المصلحة فثمّ شرع الله ولو خالفت نصوص القرآن والسنة، هذا ما هو مأثور عن نجم الدين الطوفي قديمًا، وهو ديدن قسم من العلمانيين العرب في العصر الحاضر الذين يبرّرون الواقع بالقفز على الأدلّة الشرعية الثابتة والخضوع لهذا الواقع وإضفاء الشرعية عليه، لكنّ التخوّف غير مبرّر عندما يتعلّق الأمر بأصحاب المشروع الإسلامي الأصلاء، فهؤلاء يبذلون الغالي والنفيس لتطبيق شرع الله وليس للانفلات منه، وعملُهم بالمصلحة ذريعة لهذا التطبيق، تيسيرًا على الحكّام والمسؤولين وعلى الأمة، وجلبًا للمصالح الدينية والدنيوية، متمسّكين بالثوابت والمُحكَمات الشرعية، وهم يعلمون أن الحكم يدور مع علّته وجودًا وعدمً وليس مع الحكمة والمصلحة بحيث إذا وُجدا وُجد الحكم وإذا انعدما انعدم الحكم ، إنما العمل بالمصالح الذي نقصده عملٌ إسلاميٌ شرعيٌ أصيل منسجم مع أصول الفقه تمامًا.
· الأخذ بالمصالح عين الصواب: إنّ للشريعة الإسلامية مقاصد ثبَتَ بالاستقراء أنها جلب المصالح ودرء المفاسد، وإذا ثبت هذا باستقراء نصوص الشريعة فإنه يكون أصلاً كلياً، ويجري تطبيقه على الجزئيات التي ليس فيها نص أو دليل خاص، فإن المسائل التي ليس فيها نص أو إجماع يُنظر فيها بحسب ما ينتج عنها من مصالح أو مفاسد، ويعطى الحكم الشرعي لها بناءً على هذا النظر، وغياب الدليل التفصيلي الدال على الحكم لا يعني أن الحكم المبني على جلب مصلحة أو درء مفسدة ليس شرعياً، إذ له دليل قد يكون أقوى من الدليل التفصيلي، وهو الدليل الكلّي المستنبط بالاستقراء، وهذا الفهم هو عمدة قول كل القائلين بحجية المصالح المرسلة.
يقول الإمام ابن القيم: ’’فإنّ الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الّذي قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه بأيّ طريق كان فثمّ شرع الله ودينه ورضاه وأمره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق الّتي هي أقوى منه وأدلّ وأظهر، بل بيّن بما شرعه من الطرق أنّ مقصوده إقامة الحقّ والعدل وقيام الناس بالقسط، فأيّ طريق استخرج بها الحق وعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وإنّما المراد غاياتها الّتي هي المقاصد، ولكن نبّه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها، ولن تجد طريقاً من الطرق المثبتة للحق إلاّ وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها، وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟’’
ويقول: ’’ولا نقول إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها، وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي وإلاّ فإذا كانت عدلا فهي من الشرع’’
ويقول- رحمه الله – في نصّ طبقت شهرتُه الآفاق: ’’ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى الْعبثِ فَلَيْسَتْ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ ’’ (أي بالتحريف والتفسير المتَعنَّتٌ).
· اطمئنان إلى العمل بالمصلحة: لا يعتمد الحاكم المسلم على هواه ولا على بطانة السوء وإنما على العلماء الفحول الثقات المُخوَّلين بأمر الاجتهاد والإشارة عليه بالحكم الشرعي، وهؤلاء يعلمون أن الشارع الحكيم قد جعل جنس المصلحة في جنس الأحكام وليس خارجها فمن صُلبها يستنبطون ما ييسّر حياة الناس ويحتكمون إلى المصلحة فيما لا نصّ فيه، وقدوتُهم إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه إلى اليمن وأكّد أنه يجتهد رأيه ولا يألو إذا لم يُسعفه قرآن ولا سنة في واقعة من الوقائع، ثمّ إن الأصل في التكليف في مجال المعاملات الالتفات إلى المعاني والبواعث أي إعمال العقل، فهي إذًا مصالح معقولة، وذلك ما اعتمد عليه الصحابة رضي الله عنهم في إحداث ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم كجمع المصحف وكيفية استخلاف أبي بكر لعمر وإنشاء الدواوين وعدم تقسيم عمر لسواد العراق على الفاتحين.
نأخذ من هذا أن المصالح المرسلة اختيار في منطقة المباح بحسب الأنفع والأنسب، فتدخل فيها الوسائل المستجدّة والأساليب المستحدثة بالإضافة إلى كلّ ما يخدم الضروريات والحاجيات والتحسينيات أي المقاصد التي جاءت الشريعة برعايتها، وفي مقدمتها الكليات الخمس التي تحتضنها دائرة الضروريات، وتمتدّ إلى الحرية وأنواع الرعاية التي تليق بإنسانية الإنسان.
ولمزيد من الطمأنة نعيد التأكيد على أن المصلحة ليست تشريعًا جديدًا أو تغييرًا للأحكام أو تحريفًا لها، وليست بدَعًا أو تحلّلا من الدين – كما هو شأن الحيَل المحرّمة – بل إن لم تكن عينَ ما نطق به الشرع فهي – على الأقلّ – ما يقتضيه ما طلبه الشرع، مثلما أنّ المفاسد هي ما نهى عنه الشرع، ويجب عند الأخذ بالمصالح أن تكون الأعمال جائزة والوسائل غير محرّمة، بل المصالح ذاتُها قد نعمل بها باعتبارها وسائل إذا لم نعتبرها دليلا مستقلاًّ كما هو مذهب كثير من الفقهاء.
تبقى الإشارة إلى ضرورة التحلّي بالأريحية التامّة في التعامل مع مسائل الحكم لأنها ليست توقيفية مثل الشعائر التعبدية بل هي داخلة في نطاق المعقول، وبالتالي سيعتريها الخلاف الفقهي، والاختلاف باق ما بقي العلم والتعامل معه، ولا ضير في ذلك إذا تمّ الاتفاق على المُحكَمات، ولولا الأخذ بالمصالح لضاقت السبل بالحاكم المسلم، وهو عندما يأخذ بها يسعى إلى تحكيم الشريعة وإرضاء الله والتمكين للإسلام عند انعدام الدليل الجزئي المتفق عليه.
إن ما سبق يجب أن يدخل الأدبيات الإسلامية في العصر الجديد ويكون جزءا من تربية العلماء الدعاة وتكوينهم، وتنال القاعدة الإسلامية حظًّا منه لتحفيز أصحاب المشروع الإسلامي وتجاوز الأخطار الموهومة لنستطيع التحرّك الفعّال بديننا ومرجعيتنا وسط أمواج العولمة العاتية بعد غيابنا الحضاري الطويل من غير تردّد مثبّط ولا سعي نحو المجهول بل في إطار شرعي أصولي مقاصدي في إطار منظومة إسلامية منضبطة تقبل الانفتاح وتتحلّى بالمرونة.
مع السعي الموفّق – إن شاء الله – إلى استئناف الحياة الإسلامية تُطرح قضية التأصيل الشرعي للعمل السياسي في أنظمة الحكم والإدارة والمال والاقتصاد والسياسات الأمنية والمجتمعية بما فيها الأسرة والفنّ والرياضة ونحوها، وأوّل شكل من أشكال تطبيق الشريعة وجودُ الخلفية الشرعية في كلّ أنشطة الدولة، وهنا يُثار سؤال قديم جديد هو’’ ما معنى لا سياسة إلاّ ما وافق الشرع’’؟ والإجابة أنه من المعلوم أنّ السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا نزل به وحي، فإن أردنا بقولنا ’’لا سياسة إلاّ ما وافق الشرع’’ أنّها لا تخالف ما نطق به الشرع فقولٌ صحيح، وإن أردنا ما نطق به الشرع حصرًا فهو غلط، فقد صدر من الصحابة رضي الله عنهم أفعال لم تدخل تحت أمر ولا نهي بنصّ القرآن والسنة، لكنّهم فعلوها – بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - لمصلحة الإسلام والمسلمين كحرق عثمان للمصاحف ونفي عمر لنصر بن حجاج ( من كلام ابن عقيل الحنبلي بتصرّف)
إنّ السياسة الشرعية لا تقتصر على تطبيق النصوص ولو كانت محكمة صحيحة صريحة لأنها تتناول من الوقائع والحوادث المتنوّعة والمتجدّدة ما لا يأتي عليه الحصر ولا تستوعبه النصوص المحدودة بطبيعتها، فيجد رجل السياسة نفسه أمام أحوال تحتاج إلى حلول وإجابات تلجئه إلى الاجتهاد بالرجوع إلى مصادر التشريع المعروفة وأوّلها القياس، فإذا لم يُسعفه ذلك مال إلى المصادر التبعية وعلى رأسها المصالح المرسلة.
· ما هي المصالح المرسلة ؟ : المصالح المرسلة هي كل منفعة ملائمة لمقصد الشارع وما تفرّع عنه من قواعد كلية، ولم يشهد لها نصٌ خاص بالاعتبار أو الإلغاء.
فهي بمثابة تطبيق لروح الشريعة ومقاصدها، وليست خروجا عليها أو انفلاتا منها، وهي بذلك تحقق نوعا من المرونة والتكيف داخل المنظومة الإسلامية لمواجهة كل المستجدات والنوازل التي تطرأ على مختلف مرافق الحياة، مما يؤكد صلاحية هذه الشريعة وخلودها على مرّ الأيام والأزمان.
وجميع المذاهب الإسلامية تعمل بالمصلحة إلا أنها اشتهرت بالانتساب للمذهب المالكي لأنه يعدّ المصلحة المرسلة دليلا مستقلا منفصلا عن باقي الأدلة، بخلاف المذاهب الأخرى التي أدرجتها تحت دليل من الأدلة المتفق عليها كالقياس أو إرجاعها لمقصود الشارع الذي يدلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع،
واتفق المالكية على اشتراط ضابطين لاعتبار المصالح المرسلة: الأول: أن تكون معقولة المعنى في ذاتها جارية على الأوصاف المناسبة، بحيث إذا عرضت على أهل العقول السليمة تلقتها بالقبول، وبهذا القيد يتضح أن مجال العمل بالمصالح المرسلة يتعلق بقسم المعاملات خاصة، دون قسم العبادات لأن هذه غير معقولة المعنى في الغالب،
والثاني أن تكون ملائمة لمقصود الشارع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا تعارض دليلا من أدلته القطعية.
فالأخذ بالمصلحة المرسلة مبدأ اتفقت جميع المذاهب خلافا للظاهرية، وهو ما عبّر عنه الإمام القرافي بقوله: ’’ وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا( أي المالكية)، وإن افتقدتَ المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وفرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب’’ .
· توجّس يجب تجاوزُه: يتوجّس بعض الإسلاميين من ’’المصلحة’’ لأنّ هناك من يتذرّع بها للانفلات من أحكام الشرع بجعلها فوق هذه الأحكام زاعمًا أن مدار الشريعة على مصالح العباد وحيث وُجدت المصلحة فثمّ شرع الله ولو خالفت نصوص القرآن والسنة، هذا ما هو مأثور عن نجم الدين الطوفي قديمًا، وهو ديدن قسم من العلمانيين العرب في العصر الحاضر الذين يبرّرون الواقع بالقفز على الأدلّة الشرعية الثابتة والخضوع لهذا الواقع وإضفاء الشرعية عليه، لكنّ التخوّف غير مبرّر عندما يتعلّق الأمر بأصحاب المشروع الإسلامي الأصلاء، فهؤلاء يبذلون الغالي والنفيس لتطبيق شرع الله وليس للانفلات منه، وعملُهم بالمصلحة ذريعة لهذا التطبيق، تيسيرًا على الحكّام والمسؤولين وعلى الأمة، وجلبًا للمصالح الدينية والدنيوية، متمسّكين بالثوابت والمُحكَمات الشرعية، وهم يعلمون أن الحكم يدور مع علّته وجودًا وعدمً وليس مع الحكمة والمصلحة بحيث إذا وُجدا وُجد الحكم وإذا انعدما انعدم الحكم ، إنما العمل بالمصالح الذي نقصده عملٌ إسلاميٌ شرعيٌ أصيل منسجم مع أصول الفقه تمامًا.
· الأخذ بالمصالح عين الصواب: إنّ للشريعة الإسلامية مقاصد ثبَتَ بالاستقراء أنها جلب المصالح ودرء المفاسد، وإذا ثبت هذا باستقراء نصوص الشريعة فإنه يكون أصلاً كلياً، ويجري تطبيقه على الجزئيات التي ليس فيها نص أو دليل خاص، فإن المسائل التي ليس فيها نص أو إجماع يُنظر فيها بحسب ما ينتج عنها من مصالح أو مفاسد، ويعطى الحكم الشرعي لها بناءً على هذا النظر، وغياب الدليل التفصيلي الدال على الحكم لا يعني أن الحكم المبني على جلب مصلحة أو درء مفسدة ليس شرعياً، إذ له دليل قد يكون أقوى من الدليل التفصيلي، وهو الدليل الكلّي المستنبط بالاستقراء، وهذا الفهم هو عمدة قول كل القائلين بحجية المصالح المرسلة.
يقول الإمام ابن القيم: ’’فإنّ الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الّذي قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه بأيّ طريق كان فثمّ شرع الله ودينه ورضاه وأمره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق الّتي هي أقوى منه وأدلّ وأظهر، بل بيّن بما شرعه من الطرق أنّ مقصوده إقامة الحقّ والعدل وقيام الناس بالقسط، فأيّ طريق استخرج بها الحق وعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وإنّما المراد غاياتها الّتي هي المقاصد، ولكن نبّه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها، ولن تجد طريقاً من الطرق المثبتة للحق إلاّ وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها، وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟’’
ويقول: ’’ولا نقول إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها، وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي وإلاّ فإذا كانت عدلا فهي من الشرع’’
ويقول- رحمه الله – في نصّ طبقت شهرتُه الآفاق: ’’ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى الْعبثِ فَلَيْسَتْ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ ’’ (أي بالتحريف والتفسير المتَعنَّتٌ).
· اطمئنان إلى العمل بالمصلحة: لا يعتمد الحاكم المسلم على هواه ولا على بطانة السوء وإنما على العلماء الفحول الثقات المُخوَّلين بأمر الاجتهاد والإشارة عليه بالحكم الشرعي، وهؤلاء يعلمون أن الشارع الحكيم قد جعل جنس المصلحة في جنس الأحكام وليس خارجها فمن صُلبها يستنبطون ما ييسّر حياة الناس ويحتكمون إلى المصلحة فيما لا نصّ فيه، وقدوتُهم إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه إلى اليمن وأكّد أنه يجتهد رأيه ولا يألو إذا لم يُسعفه قرآن ولا سنة في واقعة من الوقائع، ثمّ إن الأصل في التكليف في مجال المعاملات الالتفات إلى المعاني والبواعث أي إعمال العقل، فهي إذًا مصالح معقولة، وذلك ما اعتمد عليه الصحابة رضي الله عنهم في إحداث ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم كجمع المصحف وكيفية استخلاف أبي بكر لعمر وإنشاء الدواوين وعدم تقسيم عمر لسواد العراق على الفاتحين.
نأخذ من هذا أن المصالح المرسلة اختيار في منطقة المباح بحسب الأنفع والأنسب، فتدخل فيها الوسائل المستجدّة والأساليب المستحدثة بالإضافة إلى كلّ ما يخدم الضروريات والحاجيات والتحسينيات أي المقاصد التي جاءت الشريعة برعايتها، وفي مقدمتها الكليات الخمس التي تحتضنها دائرة الضروريات، وتمتدّ إلى الحرية وأنواع الرعاية التي تليق بإنسانية الإنسان.
ولمزيد من الطمأنة نعيد التأكيد على أن المصلحة ليست تشريعًا جديدًا أو تغييرًا للأحكام أو تحريفًا لها، وليست بدَعًا أو تحلّلا من الدين – كما هو شأن الحيَل المحرّمة – بل إن لم تكن عينَ ما نطق به الشرع فهي – على الأقلّ – ما يقتضيه ما طلبه الشرع، مثلما أنّ المفاسد هي ما نهى عنه الشرع، ويجب عند الأخذ بالمصالح أن تكون الأعمال جائزة والوسائل غير محرّمة، بل المصالح ذاتُها قد نعمل بها باعتبارها وسائل إذا لم نعتبرها دليلا مستقلاًّ كما هو مذهب كثير من الفقهاء.
تبقى الإشارة إلى ضرورة التحلّي بالأريحية التامّة في التعامل مع مسائل الحكم لأنها ليست توقيفية مثل الشعائر التعبدية بل هي داخلة في نطاق المعقول، وبالتالي سيعتريها الخلاف الفقهي، والاختلاف باق ما بقي العلم والتعامل معه، ولا ضير في ذلك إذا تمّ الاتفاق على المُحكَمات، ولولا الأخذ بالمصالح لضاقت السبل بالحاكم المسلم، وهو عندما يأخذ بها يسعى إلى تحكيم الشريعة وإرضاء الله والتمكين للإسلام عند انعدام الدليل الجزئي المتفق عليه.
إن ما سبق يجب أن يدخل الأدبيات الإسلامية في العصر الجديد ويكون جزءا من تربية العلماء الدعاة وتكوينهم، وتنال القاعدة الإسلامية حظًّا منه لتحفيز أصحاب المشروع الإسلامي وتجاوز الأخطار الموهومة لنستطيع التحرّك الفعّال بديننا ومرجعيتنا وسط أمواج العولمة العاتية بعد غيابنا الحضاري الطويل من غير تردّد مثبّط ولا سعي نحو المجهول بل في إطار شرعي أصولي مقاصدي في إطار منظومة إسلامية منضبطة تقبل الانفتاح وتتحلّى بالمرونة.