د.يوسف مكي
التاريخ لا يعيد نفسه، مقولة فلسفية. فالتحولات التاريخية تأتي باستمرار، استجابة لواقع موضوعي يفرض نفسه، ويعبر عن حضوره بأدوات وقوى اجتماعية محددة تقود عملية التحول، المعبر عن أهدافها وتوجهاتها الفكرية والسياسية، والمعنى هنا أن أي تحول تاريخي يحمل بصمة خاصة به، تتسق مع حقائق الجغرافيا والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هذه المقدمة، تقودنا إلى بعض المقاربات بين ثورتي يوليو 1952 ويناير 2011 في أرض الكنانة. في كلتا الحالتين تحفظ كثير من المثقفين على توصيفهما بالثورة. فاختزل البعض ما جرى في يوليو 1952م، على أنه مجرد انقلاب عسكري، بمطالب إصلاحية محدودة، معتبراً الصخب والغليان الثوري شرطين لازمين لأي تحول ثوري. وبالمثل، رأى كثيرون في أحداث يناير 2011 مجرد احتجاج شعبي على عجز النظام السياسي الذي ساد أكثر من أربعة عقود، واستدلوا على ذلك بغياب القيادة والأهداف والبرنامج السياسي للتحول.
واقع الحال، أن توصيف ما حدث في الحالتين بالثورة، أو نفي ذلك عنهما، هو مسألة اختيار، تخضع كغيرها من المفاهيم لقانون النسبية، وكل مفهوم يحتاج إلى تعريف فلسفي وإجرائي، وإذا ما أنجز هذا التعريف، أمكننا التعامل معه، وإلزام المعرف بما ألزم نفسه به.
في العلوم السياسية، الثورات تأخذ مناحي وتعريفات مختلفة. فهناك ثورات وطنية ضد الاحتلال، تنتهي مهمتها بإنجاز الاستقلال السياسي، وقد شهد العالم الثالث إبان مقاومته للاحتلال الأجنبي أشكالاً عدة من هذه الثورات، بعضها حدث في صيغة انتفاضات شعبية، لم ترق إلى حمل السلاح، كما هو الحال في الهند والكونغو وعدد آخر من دول أمريكا اللاتينية. وفي حالات أخرى، حمل الثوار السلاح في وجه المستعمر وقدموا قرابين كثيرة من الشهداء، وتمكنوا في النهاية من تحقيق الاستقلال. وهناك ثورات اجتماعية، كما هو الحال في ثورات فرنسا وانجلترا وروسيا والصين، تأتي بهدف إحداث هياكل اجتماعية جوهرية، وتختار أشكالاً محددة من نظم الحكم.
في حالات كثيرة، تداخلت في الثورات التي حدثت في العالم الثالث، مهمتا الاستقلال الوطني والتحول الاجتماعي، ولعل أفضل مثال على ذلك ثورتا الصين والجزائر. بعض هذه الثورات نجح في تحقيق هدف الاستقلال، لكنه فشل في إنجاز التحول الاجتماعي وتحقيق العدل، وبعضها الآخر نجح في إنجاز المهمتين.
في ثورة يوليو 1952، التي احتفل المصريون، ومعهم الشعب العربي بمرور ستين عاماً على اندلاعها، تداخلت المعاني الوطنية والاجتماعية، وحدثت من دون صخب وغليان، وكانت بداياتها كما وصفها كثيرون بأنها مجرد انقلاب عسكري، بمطالب إصلاحية محدودة عرفها ميثاق الثورة بالمبادئ الستة، عبرت عن رفض للفساد وطموح في تأسيس جيش قوي، وتحقيق التنمية المستقلة. لقد جاءت الثورة ردة فعل على فشل الأنظمة العربية في حرب فلسطين 1948، وحصار الجيش المصري في الفالوجة، واحتجاجاً على صفقات الأسلحة الفاسدة التي استخدمت في الحرب التي قادت إلى النكبة. لكن الثورة في مراحل لاحقة، خاصة بعد تأميم قناة السويس ومواجهة العدوان الثلاثي: “الإسرائيلي” الفرنسي البريطاني، عام 1956، مزجت بين مضامين ثلاثة في آن، بما جعل منها ثورة وطنية وقومية واجتماعية.
مزجت ثورة يوليو بين المضامين الوطنية والقومية والاجتماعية، حين انتصرت في معركة الجلاء، وقامت بتأميم قناة السويس، وكسرت احتكار السلاح. وعلى الصعيد القومي، نفخت روح التمرد على الواقع العربي الفاسد، وأسهمت في تحريك المياه الراكدة، وناصرت حركات التحرر العربي ضد الاحتلال، وحققت أول وحدة عربية في التاريخ المعاصر. وعلى الصعيد الاجتماعي، حققت مجانية التعليم والعلاج ووفرت السكن وفرص العمل، وقادت تنمية حقيقية مستقلة، وتبنت برنامج إصلاح زراعي، شمل توزيع الأراضي على الفلاحين، وأوصلت الكهرباء إلى الأرياف.
في إدارة الثورة للحكم، اتسقت مع حقائق عصرها، حيث انقسم العالم إلى معسكرين: رأسمالي بانتخابات وأحزاب سياسية وتداول للسلطة، واقتصاد مفتوح، ونظام آخر، شمولي يقوده حزب واحد، ويركز على المضامين الاجتماعية، وتهيمن فيه الدولة على وسائل الإنتاج. ولأن عبد الناصر، طرح بحدة التنمية المستقلة، بعيداً عن التبعية للقوى الخارجية، والتزم بالاختيار في عملية التنمية بالتخطيط وتحديد سلم الأولويات، فقد انحاز للاختيار الأخير، المعتمد على هيمنة الدولة على الفعاليات الاقتصادية، بعيداً عن الأطر السائدة في الديمقراطيات الغربية.
لكن عبد الناصر، كان مدركاً بحسه أهمية الاستناد إلى التاريخ، ومخزون النهضة المصرية، فلم يغب عن باله تذكير شعبه، بأن ثورة يوليو هي استمرار لثورة عرابي عام 1919، ولنضال سعد زغلول في نهاية الثلاثينات من القرن المنصرم، من أجل تحقيق الاستقلال. كما لم يفته التذكير بدور المصلحين والقادة المصريين كمحمد فريد ومصطفى كامل في النهوض بمصر، مؤكداً على أن حقبته النضالية هي حلقة في سلسلة متصلة من الكفاح المصري.
في ثورة يناير، اختزل هتاف الشارع في مطلب الحرية، وإسقاط النظام، وغابت الأهداف والقيادة والبرنامج السياسي، وصحب التغيير صخب وغليان وتظاهرات صاخبة شملت معظم المدن المصرية. وجاءت الحركة الاحتجاجية، بعد تحول قريب الشبه في تونس، وفي مرحلة أصبح فيها حكم الحزب الواحد، شيئاً مقيتاً وغير مقبول في الشارع العربي، لكن خيوط المرحلة القادمة وشكلها لم تتحدد بعد.
في حديث الرئيس المصري، محمد مرسي بمناسبة الذكرى الستين لثورة يوليو أوضح أنها خاضت معركة الجلاء والاستقلال، وقدمت نموذجاً لحركات التحرر في العالم، وأرست نموذجاً للتنمية وحشد الموارد، لكنه ذكر بتعثرها في مجال الديمقراطية والحريات، واعتبر ما جرى في يناير عام 2011 تصحيحاً للمسار.
هذا التقرير من قبل الرئيس مرسي، رغم صوابه في بعض الجوانب، أخفق في وضع ما جرى بمصر من تحولات كبرى بعد ثورة يوليو في إطار تاريخي، ضمن الخريطة الكونية. المرحلة التي أعقبت الحرب الكونية الثانية اتسمت بصعود نجم حركات التحرر الوطني، واختيارها جميعاً لشكل محدد من أنظمة الحكم، وبالمستوى نفسه، ينبغي وضع ثورة يناير في إطار تاريخي، ضمن الخريطة السياسية الكونية في بداية القرن الواحد والعشرين، حتى تكون مقاربتنا القادمة موضوعية وصحيحة ودقيقة.
*التجديد العربي
التاريخ لا يعيد نفسه، مقولة فلسفية. فالتحولات التاريخية تأتي باستمرار، استجابة لواقع موضوعي يفرض نفسه، ويعبر عن حضوره بأدوات وقوى اجتماعية محددة تقود عملية التحول، المعبر عن أهدافها وتوجهاتها الفكرية والسياسية، والمعنى هنا أن أي تحول تاريخي يحمل بصمة خاصة به، تتسق مع حقائق الجغرافيا والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هذه المقدمة، تقودنا إلى بعض المقاربات بين ثورتي يوليو 1952 ويناير 2011 في أرض الكنانة. في كلتا الحالتين تحفظ كثير من المثقفين على توصيفهما بالثورة. فاختزل البعض ما جرى في يوليو 1952م، على أنه مجرد انقلاب عسكري، بمطالب إصلاحية محدودة، معتبراً الصخب والغليان الثوري شرطين لازمين لأي تحول ثوري. وبالمثل، رأى كثيرون في أحداث يناير 2011 مجرد احتجاج شعبي على عجز النظام السياسي الذي ساد أكثر من أربعة عقود، واستدلوا على ذلك بغياب القيادة والأهداف والبرنامج السياسي للتحول.
واقع الحال، أن توصيف ما حدث في الحالتين بالثورة، أو نفي ذلك عنهما، هو مسألة اختيار، تخضع كغيرها من المفاهيم لقانون النسبية، وكل مفهوم يحتاج إلى تعريف فلسفي وإجرائي، وإذا ما أنجز هذا التعريف، أمكننا التعامل معه، وإلزام المعرف بما ألزم نفسه به.
في العلوم السياسية، الثورات تأخذ مناحي وتعريفات مختلفة. فهناك ثورات وطنية ضد الاحتلال، تنتهي مهمتها بإنجاز الاستقلال السياسي، وقد شهد العالم الثالث إبان مقاومته للاحتلال الأجنبي أشكالاً عدة من هذه الثورات، بعضها حدث في صيغة انتفاضات شعبية، لم ترق إلى حمل السلاح، كما هو الحال في الهند والكونغو وعدد آخر من دول أمريكا اللاتينية. وفي حالات أخرى، حمل الثوار السلاح في وجه المستعمر وقدموا قرابين كثيرة من الشهداء، وتمكنوا في النهاية من تحقيق الاستقلال. وهناك ثورات اجتماعية، كما هو الحال في ثورات فرنسا وانجلترا وروسيا والصين، تأتي بهدف إحداث هياكل اجتماعية جوهرية، وتختار أشكالاً محددة من نظم الحكم.
في حالات كثيرة، تداخلت في الثورات التي حدثت في العالم الثالث، مهمتا الاستقلال الوطني والتحول الاجتماعي، ولعل أفضل مثال على ذلك ثورتا الصين والجزائر. بعض هذه الثورات نجح في تحقيق هدف الاستقلال، لكنه فشل في إنجاز التحول الاجتماعي وتحقيق العدل، وبعضها الآخر نجح في إنجاز المهمتين.
في ثورة يوليو 1952، التي احتفل المصريون، ومعهم الشعب العربي بمرور ستين عاماً على اندلاعها، تداخلت المعاني الوطنية والاجتماعية، وحدثت من دون صخب وغليان، وكانت بداياتها كما وصفها كثيرون بأنها مجرد انقلاب عسكري، بمطالب إصلاحية محدودة عرفها ميثاق الثورة بالمبادئ الستة، عبرت عن رفض للفساد وطموح في تأسيس جيش قوي، وتحقيق التنمية المستقلة. لقد جاءت الثورة ردة فعل على فشل الأنظمة العربية في حرب فلسطين 1948، وحصار الجيش المصري في الفالوجة، واحتجاجاً على صفقات الأسلحة الفاسدة التي استخدمت في الحرب التي قادت إلى النكبة. لكن الثورة في مراحل لاحقة، خاصة بعد تأميم قناة السويس ومواجهة العدوان الثلاثي: “الإسرائيلي” الفرنسي البريطاني، عام 1956، مزجت بين مضامين ثلاثة في آن، بما جعل منها ثورة وطنية وقومية واجتماعية.
مزجت ثورة يوليو بين المضامين الوطنية والقومية والاجتماعية، حين انتصرت في معركة الجلاء، وقامت بتأميم قناة السويس، وكسرت احتكار السلاح. وعلى الصعيد القومي، نفخت روح التمرد على الواقع العربي الفاسد، وأسهمت في تحريك المياه الراكدة، وناصرت حركات التحرر العربي ضد الاحتلال، وحققت أول وحدة عربية في التاريخ المعاصر. وعلى الصعيد الاجتماعي، حققت مجانية التعليم والعلاج ووفرت السكن وفرص العمل، وقادت تنمية حقيقية مستقلة، وتبنت برنامج إصلاح زراعي، شمل توزيع الأراضي على الفلاحين، وأوصلت الكهرباء إلى الأرياف.
في إدارة الثورة للحكم، اتسقت مع حقائق عصرها، حيث انقسم العالم إلى معسكرين: رأسمالي بانتخابات وأحزاب سياسية وتداول للسلطة، واقتصاد مفتوح، ونظام آخر، شمولي يقوده حزب واحد، ويركز على المضامين الاجتماعية، وتهيمن فيه الدولة على وسائل الإنتاج. ولأن عبد الناصر، طرح بحدة التنمية المستقلة، بعيداً عن التبعية للقوى الخارجية، والتزم بالاختيار في عملية التنمية بالتخطيط وتحديد سلم الأولويات، فقد انحاز للاختيار الأخير، المعتمد على هيمنة الدولة على الفعاليات الاقتصادية، بعيداً عن الأطر السائدة في الديمقراطيات الغربية.
لكن عبد الناصر، كان مدركاً بحسه أهمية الاستناد إلى التاريخ، ومخزون النهضة المصرية، فلم يغب عن باله تذكير شعبه، بأن ثورة يوليو هي استمرار لثورة عرابي عام 1919، ولنضال سعد زغلول في نهاية الثلاثينات من القرن المنصرم، من أجل تحقيق الاستقلال. كما لم يفته التذكير بدور المصلحين والقادة المصريين كمحمد فريد ومصطفى كامل في النهوض بمصر، مؤكداً على أن حقبته النضالية هي حلقة في سلسلة متصلة من الكفاح المصري.
في ثورة يناير، اختزل هتاف الشارع في مطلب الحرية، وإسقاط النظام، وغابت الأهداف والقيادة والبرنامج السياسي، وصحب التغيير صخب وغليان وتظاهرات صاخبة شملت معظم المدن المصرية. وجاءت الحركة الاحتجاجية، بعد تحول قريب الشبه في تونس، وفي مرحلة أصبح فيها حكم الحزب الواحد، شيئاً مقيتاً وغير مقبول في الشارع العربي، لكن خيوط المرحلة القادمة وشكلها لم تتحدد بعد.
في حديث الرئيس المصري، محمد مرسي بمناسبة الذكرى الستين لثورة يوليو أوضح أنها خاضت معركة الجلاء والاستقلال، وقدمت نموذجاً لحركات التحرر في العالم، وأرست نموذجاً للتنمية وحشد الموارد، لكنه ذكر بتعثرها في مجال الديمقراطية والحريات، واعتبر ما جرى في يناير عام 2011 تصحيحاً للمسار.
هذا التقرير من قبل الرئيس مرسي، رغم صوابه في بعض الجوانب، أخفق في وضع ما جرى بمصر من تحولات كبرى بعد ثورة يوليو في إطار تاريخي، ضمن الخريطة الكونية. المرحلة التي أعقبت الحرب الكونية الثانية اتسمت بصعود نجم حركات التحرر الوطني، واختيارها جميعاً لشكل محدد من أنظمة الحكم، وبالمستوى نفسه، ينبغي وضع ثورة يناير في إطار تاريخي، ضمن الخريطة السياسية الكونية في بداية القرن الواحد والعشرين، حتى تكون مقاربتنا القادمة موضوعية وصحيحة ودقيقة.
*التجديد العربي