تركي بن رشود الشثري
’’الشّجرة ليست مجرّد جذور’’
استعارة غربيّة
ولكن لا عبرة بأيّ فرع لم ينبت على أصل، ولا عبرة بأيّ فرع دخيل أو أصوله مختلطة، ومن هنا وُلد المقال (التّطهير الفكريّ).
لا يشكّ متابع أنّنا عشنا مرحلة مخاض فكريّ هائل، وها نحن نتصوّر أنّنا في عنق الزّجاجة نستعدّ للانبثاق لعوالم المثال والجمهوريّة الفاضلة، والحقيقة أنّ الغربلة الآن أشدّ ضراوة بسبب الحريّة التي بدأ المحرومون منها في عرض الأرض العربيّة وطولها يتنشّقونها، وإنّي لأخاف الحريّة؛ فهي باهظة الثّمن. إنّها مسؤوليّة كبيرة وكبيرة جدًا؛ فالذين كانوا يتحدّثون عن طموحات الأمّة الكبرى، ويصفون كيف وقف طغمة من الحكّام الفاسدين والأنظمة الفاسدة في وجهها، وكيف كانوا سببًا في الشّلل النّصفيّ الذي أصابها وأقعدها لأجيال، واليوم سحل أولئك الحكّام، وبادت تلك الأنظمة، والكرة في ملعب أهل الآمال الكبرى وعرّابي الإصلاح، فماذا عساهم أن يفعلوا؟ هل عرفتم الآن لماذا أخاف الحريّة؟ لأنّها ليست ماء باردًا بل مسؤوليّة ينوء بحملها العصبة أولو القوة والتّركة كبيرة، والذّخيرة الحيويّة هزيلة، والشّق كبير، والرّاقع مرتجف اليدين. لن تطول المقدّمة، ولن أقدّم حلاًّ للأنظمة الجديدة، فليس هذا هو سبب المقال، وإنّما المقصود التّطهير الفكريّ في عصر يوهمنا بأنّه نهاية المخاض، وسوف نتحدّث عنه في سياق الأفراد: فالأفراد هم خميرة المجتمع وهم وقود مضاه، ومع ذلك فللإنسان كينونته الخاصّة، بعيدًا عن جميع العلائق والوثائق؛ فهو خلق كريم سويّ قويم مأمور ومنهيّ يعيش ليحقّق الغاية الوجوديّة له، ويسعى في الأرض بما يصلح عيشه. له نفس وعقل وضمير وشعور وإرادة وغريزة وعادة وحكايات وتجارب، ولو ظلّ طول ليله أو نهاره في قهوته أو مجلسه يهذي ويتحدث ويقول: (أرى) و(أعتقد) أمام الجموع والرّبوع، إلاّ أنّه ما إن يخلو بنفسه حتى تكاشفه بحقيقة ما يرى، ويعتقد، وما يظهر، وما يبطن، وليس بالضّرورة أن يكون منافقًا، وإن انطبق تعريف المنافق على ما مرّ، ولكنّه يتجمّل في عصر الصّورة والثّقافة والنّعومة والحريّة والحوار والآخر و.... يتزيّا بكلمات، وينحت مصطلحات، ويراوغ بجمل تدخل تحت عباءة أقواله الفضفاضة أكبر قدر ممكن من الأجساد والعقول والأرواح المرتجفة الخائفة. إنّنا في زمن التّغريد والزّغردة في تويتر وفيس بوك، وفي زمن قول ما يحب النّاس، والطّبطبة على الأنفس المكدودة والأرواح المجهَدة. لقد عملنا كالوسائط بين الجمهور، أو ما نعتقده جمهورًا؛ فالجميع ارتقى خشبة المسرح العتيق المهيب. الجمهور والممثّلون كلّهم أخذوا الأدوار في الإرسال والاستقبال والضّحية الرّسالة..؟!
عملنا كوسائط بين الجمهور وبين الأذواق المتأنّقة والمدن الفاضلة والسكينة الروحيّة والنّظم المنضبطة، وهنا رسالة للفرد الذي تقلّب في عدد من الأدوار، ومثّل عددًا من الشّخصيات:
هل فكّرت يومًا من الأيّام في العزلة الفكريّة؟
هل فكّرت يومًا من الأيّام في مراجعة أفكارك؟
هل فكّرت يومًا من الأيّام في رحلة للبحث عن الذّات؟
هل فكّرت يومًا من الأيّام في تحطيم أصنامك التي تذود عنها بعصاك؟
هل فكّرت يومًا من الأيّام في الواجبات الملحّة التي تركتها تتراكم؟
هل فكّرت يومًا من الأيّام في الأولويّات؟
هل فكّرت يومًا من الأيّام في: لماذا تقرأ؟ ولماذا تكتب؟ ولماذا تعتقد وترى؟
ولا داعي لسرد الأسئلة؛ فلكلّ إنسان أسئلته الخاصّة وشروطه الخاصّة، ولم نكتب لنجيب عن الأسئلة أعلاه، ولكنّها إشارة للمعنى الذي لن يسعد به إلاّ المفتّش لما بين السّطور وهو قريب النّوال، ويسير على من يسّره الله عليه، مع أنّ هذا هو عمل الفنّان الذي يرسم اللّوحة، ويترك التّأويل والتّعليل للمتلقّي؛ فهو يرسم لك جدولاً وضفّتين وحقلاً بعيدًا، ويترك لك المساحة بقدر الفضاء لتستنطق ما أراد، وهذا خلاف قدر الكاتب المسكين والمطالب بالأمثلة والشّواهد والإفصاح عن المعنى لدرجة صارخة، ومع ذلك أصرّ دائمًا على إبقاء مناطق مجهولة وسراديب ملتوية؛ ليتمتّع القارئ بفكّ رمز وقراءة طلسم هنا وهناك على ظهر هذه المدوّنة أو تلك، ولا بأس في نهاية المقال أن يجد القارئ المعنى الكلّيّ والمرمى الإجماليّ في غاية الجلاء والبيان.
ومما ينبغي أن نتطهّر منه كتابيًّا أن نعلم أنّ الكتابة طريقة من طرائق الفكر، وليست هي الفكر، هي ليست غاية بل وسيلة. يقول فاليري: (يوجد النّثر كلّما مرّت الكلمات في خلال نظرتنا كما تمرّ الكأس خلال أشعة الشّمس إذا واجه المرء خطرًا أو عقبة استعان بأيّ من الآلات يتاح له فإذا ما انجاب عنه الخطر لم يتذكّر ما إذا كانت تلك الآلة مطرقة أو عصا، على أنّ إدراكه لم يتعلّق بحال بتلك الآلة، وكلّ ما كان يلزمه على وجه التّحديد هو امتداد جسمه أو الاستعانة بوسيلة تطول بها يده حتى أعلى الغصن، فلم تكن تلك الأداة له غير إصبع سادسة أو ساق ثالثة، أو بالاختصار مجرّد وظيفة يقوم المرء بتمثيلها، وكذلك الشّأن في اللّغة؛ فهي بمثابة عصا، أو بمثابة سرابيل وقاء نحتمي بها من الآخرين، ونستخبر بها عنهم؛ فهي امتداد لحواسّنا).
لماذا تكتب ثم تكتب ثم بعد ذلك تعود لتكتب؟ إنّك تؤكّد على شيء إنّك كالغريق الذي يخرج أصوتًا غير مفهومة للآخرين ولا له أيضًا، ولكنّها تؤكّد على شيء أكبر من كلّ شيء. هل أنا أكتب إذن أنا موجود؟ وبما أنّنا ذكرنا الوجوديّة يقول جان بول سارتر: (أحد الدّواعي الأساسيّة للخلق الفنّي يتمثّل حقًّا في حاجتنا إلى الشّعور بأنّنا ضروريّون بالإضافة إلى العالم).
لا يساورني شكّ في أنّنا مغتربون في أوطاننا وبين أهلينا؛ فهذه ضريبة العولمة والسّوق المفتوحة، ولا يمكن بحال أن يتنعّم الإنسان بخيرات الانفتاح الدّوليّ نظميًّا، وعلاقاتيًّا، وخدماتيًّا، وسلعاتيًّا، وثقافاتيًّا، دون أن يسدّد فاتورة كلّ ذلك من عقله وأعصابه وروحه ونفسه وسكينته العامّة وسويّته العقليّة وسمْته الظّاهريّ. فهل آن الأوان لقهر الاغتراب وكسر الأغلال والعودة إلى الذّات؟ نعم كلّ ذلك ممكن، وقد انجلت الصّدمة الحضاريّة الكبرى(منتجات الغرب وعياله) والصّعقة الفكريّة الأخرى (منتجات الإسلاميّين) وللحديث بقيّة.
*الإسلام اليوم
’’الشّجرة ليست مجرّد جذور’’
استعارة غربيّة
ولكن لا عبرة بأيّ فرع لم ينبت على أصل، ولا عبرة بأيّ فرع دخيل أو أصوله مختلطة، ومن هنا وُلد المقال (التّطهير الفكريّ).
لا يشكّ متابع أنّنا عشنا مرحلة مخاض فكريّ هائل، وها نحن نتصوّر أنّنا في عنق الزّجاجة نستعدّ للانبثاق لعوالم المثال والجمهوريّة الفاضلة، والحقيقة أنّ الغربلة الآن أشدّ ضراوة بسبب الحريّة التي بدأ المحرومون منها في عرض الأرض العربيّة وطولها يتنشّقونها، وإنّي لأخاف الحريّة؛ فهي باهظة الثّمن. إنّها مسؤوليّة كبيرة وكبيرة جدًا؛ فالذين كانوا يتحدّثون عن طموحات الأمّة الكبرى، ويصفون كيف وقف طغمة من الحكّام الفاسدين والأنظمة الفاسدة في وجهها، وكيف كانوا سببًا في الشّلل النّصفيّ الذي أصابها وأقعدها لأجيال، واليوم سحل أولئك الحكّام، وبادت تلك الأنظمة، والكرة في ملعب أهل الآمال الكبرى وعرّابي الإصلاح، فماذا عساهم أن يفعلوا؟ هل عرفتم الآن لماذا أخاف الحريّة؟ لأنّها ليست ماء باردًا بل مسؤوليّة ينوء بحملها العصبة أولو القوة والتّركة كبيرة، والذّخيرة الحيويّة هزيلة، والشّق كبير، والرّاقع مرتجف اليدين. لن تطول المقدّمة، ولن أقدّم حلاًّ للأنظمة الجديدة، فليس هذا هو سبب المقال، وإنّما المقصود التّطهير الفكريّ في عصر يوهمنا بأنّه نهاية المخاض، وسوف نتحدّث عنه في سياق الأفراد: فالأفراد هم خميرة المجتمع وهم وقود مضاه، ومع ذلك فللإنسان كينونته الخاصّة، بعيدًا عن جميع العلائق والوثائق؛ فهو خلق كريم سويّ قويم مأمور ومنهيّ يعيش ليحقّق الغاية الوجوديّة له، ويسعى في الأرض بما يصلح عيشه. له نفس وعقل وضمير وشعور وإرادة وغريزة وعادة وحكايات وتجارب، ولو ظلّ طول ليله أو نهاره في قهوته أو مجلسه يهذي ويتحدث ويقول: (أرى) و(أعتقد) أمام الجموع والرّبوع، إلاّ أنّه ما إن يخلو بنفسه حتى تكاشفه بحقيقة ما يرى، ويعتقد، وما يظهر، وما يبطن، وليس بالضّرورة أن يكون منافقًا، وإن انطبق تعريف المنافق على ما مرّ، ولكنّه يتجمّل في عصر الصّورة والثّقافة والنّعومة والحريّة والحوار والآخر و.... يتزيّا بكلمات، وينحت مصطلحات، ويراوغ بجمل تدخل تحت عباءة أقواله الفضفاضة أكبر قدر ممكن من الأجساد والعقول والأرواح المرتجفة الخائفة. إنّنا في زمن التّغريد والزّغردة في تويتر وفيس بوك، وفي زمن قول ما يحب النّاس، والطّبطبة على الأنفس المكدودة والأرواح المجهَدة. لقد عملنا كالوسائط بين الجمهور، أو ما نعتقده جمهورًا؛ فالجميع ارتقى خشبة المسرح العتيق المهيب. الجمهور والممثّلون كلّهم أخذوا الأدوار في الإرسال والاستقبال والضّحية الرّسالة..؟!
عملنا كوسائط بين الجمهور وبين الأذواق المتأنّقة والمدن الفاضلة والسكينة الروحيّة والنّظم المنضبطة، وهنا رسالة للفرد الذي تقلّب في عدد من الأدوار، ومثّل عددًا من الشّخصيات:
هل فكّرت يومًا من الأيّام في العزلة الفكريّة؟
هل فكّرت يومًا من الأيّام في مراجعة أفكارك؟
هل فكّرت يومًا من الأيّام في رحلة للبحث عن الذّات؟
هل فكّرت يومًا من الأيّام في تحطيم أصنامك التي تذود عنها بعصاك؟
هل فكّرت يومًا من الأيّام في الواجبات الملحّة التي تركتها تتراكم؟
هل فكّرت يومًا من الأيّام في الأولويّات؟
هل فكّرت يومًا من الأيّام في: لماذا تقرأ؟ ولماذا تكتب؟ ولماذا تعتقد وترى؟
ولا داعي لسرد الأسئلة؛ فلكلّ إنسان أسئلته الخاصّة وشروطه الخاصّة، ولم نكتب لنجيب عن الأسئلة أعلاه، ولكنّها إشارة للمعنى الذي لن يسعد به إلاّ المفتّش لما بين السّطور وهو قريب النّوال، ويسير على من يسّره الله عليه، مع أنّ هذا هو عمل الفنّان الذي يرسم اللّوحة، ويترك التّأويل والتّعليل للمتلقّي؛ فهو يرسم لك جدولاً وضفّتين وحقلاً بعيدًا، ويترك لك المساحة بقدر الفضاء لتستنطق ما أراد، وهذا خلاف قدر الكاتب المسكين والمطالب بالأمثلة والشّواهد والإفصاح عن المعنى لدرجة صارخة، ومع ذلك أصرّ دائمًا على إبقاء مناطق مجهولة وسراديب ملتوية؛ ليتمتّع القارئ بفكّ رمز وقراءة طلسم هنا وهناك على ظهر هذه المدوّنة أو تلك، ولا بأس في نهاية المقال أن يجد القارئ المعنى الكلّيّ والمرمى الإجماليّ في غاية الجلاء والبيان.
ومما ينبغي أن نتطهّر منه كتابيًّا أن نعلم أنّ الكتابة طريقة من طرائق الفكر، وليست هي الفكر، هي ليست غاية بل وسيلة. يقول فاليري: (يوجد النّثر كلّما مرّت الكلمات في خلال نظرتنا كما تمرّ الكأس خلال أشعة الشّمس إذا واجه المرء خطرًا أو عقبة استعان بأيّ من الآلات يتاح له فإذا ما انجاب عنه الخطر لم يتذكّر ما إذا كانت تلك الآلة مطرقة أو عصا، على أنّ إدراكه لم يتعلّق بحال بتلك الآلة، وكلّ ما كان يلزمه على وجه التّحديد هو امتداد جسمه أو الاستعانة بوسيلة تطول بها يده حتى أعلى الغصن، فلم تكن تلك الأداة له غير إصبع سادسة أو ساق ثالثة، أو بالاختصار مجرّد وظيفة يقوم المرء بتمثيلها، وكذلك الشّأن في اللّغة؛ فهي بمثابة عصا، أو بمثابة سرابيل وقاء نحتمي بها من الآخرين، ونستخبر بها عنهم؛ فهي امتداد لحواسّنا).
لماذا تكتب ثم تكتب ثم بعد ذلك تعود لتكتب؟ إنّك تؤكّد على شيء إنّك كالغريق الذي يخرج أصوتًا غير مفهومة للآخرين ولا له أيضًا، ولكنّها تؤكّد على شيء أكبر من كلّ شيء. هل أنا أكتب إذن أنا موجود؟ وبما أنّنا ذكرنا الوجوديّة يقول جان بول سارتر: (أحد الدّواعي الأساسيّة للخلق الفنّي يتمثّل حقًّا في حاجتنا إلى الشّعور بأنّنا ضروريّون بالإضافة إلى العالم).
لا يساورني شكّ في أنّنا مغتربون في أوطاننا وبين أهلينا؛ فهذه ضريبة العولمة والسّوق المفتوحة، ولا يمكن بحال أن يتنعّم الإنسان بخيرات الانفتاح الدّوليّ نظميًّا، وعلاقاتيًّا، وخدماتيًّا، وسلعاتيًّا، وثقافاتيًّا، دون أن يسدّد فاتورة كلّ ذلك من عقله وأعصابه وروحه ونفسه وسكينته العامّة وسويّته العقليّة وسمْته الظّاهريّ. فهل آن الأوان لقهر الاغتراب وكسر الأغلال والعودة إلى الذّات؟ نعم كلّ ذلك ممكن، وقد انجلت الصّدمة الحضاريّة الكبرى(منتجات الغرب وعياله) والصّعقة الفكريّة الأخرى (منتجات الإسلاميّين) وللحديث بقيّة.
*الإسلام اليوم