تركي بن رشود الشثري
ومن ترك الحق ابتُلي بالباطل، ومن أعرض عن كتب الهدى تولّع بكتب الضّلال (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). [البقرة:101-102]. وهكذا سنّة ثابتة لا تتبدّل، من أعرض عن الحقّ ابتُلي بالباطل، ومن ازورّ عن مذهب أهل السّنة والجماعة ابتُلي بالانتماءات الباطلة، والأدهى من ذلك إذا فرح بما لديه ورفع عقيرته ليغيّر كلّ شيء، وينسف كلّ شيء لا لشيء إلاّ لهوى متّبع وإعجاب بالرّأي واحتفال بالعبقريّة، (وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). [الروم:31-32]، فهذه قاصمة الظّهر؛ فالمتأسّف الذي لم يفرح أرجى وأقرب للتّوبة والإنابة سلكنا الله مسلكها ووقانا مضلاّت الفتن إنّه مولى ذلك.
ومما يبهر الألباب ويسلب العقول، ويهيّج الوجدان ما عليه الغرب من رقيّ ونهوض ونباهة على الأصعدة كافة. إنّه الغرب الذي حال بين الشّرق والتّصور، والصّحيح إنّه الواقع الضّاغط، إنّه الفتنة الكبرى؛ فذامّه موصوم بالخبل، ومعاديه يلحق بفلول الإرهاب هناك خلف المحيطات حيث الذّهب والقصور والنّساء وتحقيق شروط الحضارة. تلخبطت أوراقنا الثّقافية ما بين شاتم للظّلام وما بين مسحور يهتدي بخطوه لأسياده الكبار أساتذة الدّنيا.
والله -جل وعلا- لم يجعل المقياس بين الحقّ والباطل والهدى والضّلال والرّشد والغيّ لا القوّة ولا النّجاح ولا النّظام ولا القوانين، ولا كلّ ما نشاهده ونسمعه عن الغرب لم يجعل هذا كلّه ميزانًا للأمم وفرقانًا يستبين به بنو البشر، ويكون حجّة عليهم دنيا وأخرى، بل في الغالب إنّ الملأ والقوم الذين تكرّر ذكرهم في القرآن مع كلّ الأنبياء لديهم القوّة والمال والنّجاح والحضارة العظمى، ويأتي النّبيّ بعصاه التي يرعى بها الغنم ليسوق الفريق المؤمن لسعادة الدّارين والفريق الكافر صاحب الحضارة لوبال الدّنيا وعذاب الأخرى، ولكنّ قومي لا يعلمون.
يقول تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً. وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً). [مريم:73-74].
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ). [الأحقاف:11].
(وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً). [فصلت:15].
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً). [فاطر: 44].
(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِير). [سبأ: 45].
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً). [الأنعام:6].
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ). [غافر: 82].
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا). [الروم:9].
وفي المقابل عندما يلتفّ الضّعفاء على شيء يزورّ عنه عِلية القوم وأهل المنعة لا لشيء إلاّ لأنّه أعجب الطبقة الكادحة وأغراها واقتنعت به (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ). [الشعراء:111].
(وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ). [هود:27]. وهي سبّة قديمة، وشِنشنة أعرفها من أخزم. يقولون هؤلاء اتّبعوك؛ لأنّهم لا أحلام لهم ولا نُهى، بل انساقوا خلفك للوهلة الأولى بلا رويّة و لا تفكير، أما نحن فأهل حزم ونظر، لا نذعن مباشرة، بل نقلّب الأمور ونفحصها ونعرضها على عقولنا الكبيرة، وها هي مدرسة العقلانيّين لا تقبل أحاديث الآحاد في الغيبيات، ولا ترى مناسبة الحدود الشّرعيّة لعصر الذرّة والمجرّة، وهذه المدرسة تهزأ بعلماء الشّريعة الأبرار لوقوفهم على ما ورد من الكتاب والسّنة على ضوء فهم صالح سلف الأمّة، وتصفهم بالجمود والتحجّر، وأنّهم لا يعملون النّقد والتّمحيص والغربلة للتّراث، ولا يمارسون تفجير النّصّ من الدّاخل، بل لا ينتجون النّصّ مكتفين بتفعيل النّصوص؛ فهم متلقّون لا منتجون، وسبحان الله، هذه المدرسة منطقيًّا وتسلسليًّا لن تقف على حدٍّ لا أقول إلى أن تبدأ تشرّع، فهي بالفعل تشرّع، ولكن أقول قد ينتهي بهم الحال إلى ادّعاء ألوهيّة الإنسان النّاقد، وهذا ما وصل إليه اينشتاين عندما قال بموت الإله وبزوغ الإنسان السوبر مان؟!
(وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ). [هود:29-30].
(وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ). [الأنعام:53]. أجرى الله تعالى الحكمة بأنّ أكثر أتباع الرّسل ضعفاء النّاس، ولذلك لمّا سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن نبينا صلّى الله عليه وسلّم: أأشراف النّاس يتّبعونه، أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم. قال: هم أتباع الرّسل.
(إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ). [الشعراء:113].
(لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ). [الأنعام: 52]. وهذه نزلت في فقراء المهاجرين كعمار وصهيب وبلال وابن مسعود لمّا طلب الكفار من النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أن يطردهم عن مجلسه؛ لأنّهم قالوا كي نجلس لنتفاوض معاً لا ينبغي لنا كسادة أن نجالس هؤلاء الشّرذمة، ويا ليت شعري عندما يُلقى بالثّور الأحمق أبي جهل في القليب، وعندما يُولّى بلال على الكوفة، وعندما يُلقى أبو جهل بالنّار ويسعى بلال ويخشخش بقدميه أمام سيّد الأوّلين والآخرين في الجنّة، فأيّ دين عظيم هذا؟! ولكنّنا غُلف القلوب.
ومن مزالق هذا الطّريق التّأسّي والاقتداء بما عليه علماء الزّيغ والتّضليل.
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه). [التوبة: 31]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). [التوبة:34].
(لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ). [المائدة:77]
(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ).
فالذي يفتي بما يوافق الهوى فهو الخبير النّحرير، وهو فقيه الواقع، والذي تطوّع له وسائل الإعلام، ويُشهر ويظهر، وأمّا العالم الرّباني والذي يقف غصّة في حلوق أرباب الشّهوات والشّبهات فلا يُدرى عنه، ولا عن نشاطه ولا سيرته ولا يُعرض على النّشء كنموذج يُحتذى، بل وكم فقدنا من عالم كبير فلم تهتزّ تلك المؤسّسات الإعلاميّة، ولم تنزعج لموته، وما يضيره، وهو المعروف في السّماء والمحبوب في قلوب المؤمنين.
*الإسلام اليوم
ومن ترك الحق ابتُلي بالباطل، ومن أعرض عن كتب الهدى تولّع بكتب الضّلال (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). [البقرة:101-102]. وهكذا سنّة ثابتة لا تتبدّل، من أعرض عن الحقّ ابتُلي بالباطل، ومن ازورّ عن مذهب أهل السّنة والجماعة ابتُلي بالانتماءات الباطلة، والأدهى من ذلك إذا فرح بما لديه ورفع عقيرته ليغيّر كلّ شيء، وينسف كلّ شيء لا لشيء إلاّ لهوى متّبع وإعجاب بالرّأي واحتفال بالعبقريّة، (وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). [الروم:31-32]، فهذه قاصمة الظّهر؛ فالمتأسّف الذي لم يفرح أرجى وأقرب للتّوبة والإنابة سلكنا الله مسلكها ووقانا مضلاّت الفتن إنّه مولى ذلك.
ومما يبهر الألباب ويسلب العقول، ويهيّج الوجدان ما عليه الغرب من رقيّ ونهوض ونباهة على الأصعدة كافة. إنّه الغرب الذي حال بين الشّرق والتّصور، والصّحيح إنّه الواقع الضّاغط، إنّه الفتنة الكبرى؛ فذامّه موصوم بالخبل، ومعاديه يلحق بفلول الإرهاب هناك خلف المحيطات حيث الذّهب والقصور والنّساء وتحقيق شروط الحضارة. تلخبطت أوراقنا الثّقافية ما بين شاتم للظّلام وما بين مسحور يهتدي بخطوه لأسياده الكبار أساتذة الدّنيا.
والله -جل وعلا- لم يجعل المقياس بين الحقّ والباطل والهدى والضّلال والرّشد والغيّ لا القوّة ولا النّجاح ولا النّظام ولا القوانين، ولا كلّ ما نشاهده ونسمعه عن الغرب لم يجعل هذا كلّه ميزانًا للأمم وفرقانًا يستبين به بنو البشر، ويكون حجّة عليهم دنيا وأخرى، بل في الغالب إنّ الملأ والقوم الذين تكرّر ذكرهم في القرآن مع كلّ الأنبياء لديهم القوّة والمال والنّجاح والحضارة العظمى، ويأتي النّبيّ بعصاه التي يرعى بها الغنم ليسوق الفريق المؤمن لسعادة الدّارين والفريق الكافر صاحب الحضارة لوبال الدّنيا وعذاب الأخرى، ولكنّ قومي لا يعلمون.
يقول تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً. وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً). [مريم:73-74].
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ). [الأحقاف:11].
(وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً). [فصلت:15].
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً). [فاطر: 44].
(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِير). [سبأ: 45].
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً). [الأنعام:6].
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ). [غافر: 82].
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا). [الروم:9].
وفي المقابل عندما يلتفّ الضّعفاء على شيء يزورّ عنه عِلية القوم وأهل المنعة لا لشيء إلاّ لأنّه أعجب الطبقة الكادحة وأغراها واقتنعت به (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ). [الشعراء:111].
(وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ). [هود:27]. وهي سبّة قديمة، وشِنشنة أعرفها من أخزم. يقولون هؤلاء اتّبعوك؛ لأنّهم لا أحلام لهم ولا نُهى، بل انساقوا خلفك للوهلة الأولى بلا رويّة و لا تفكير، أما نحن فأهل حزم ونظر، لا نذعن مباشرة، بل نقلّب الأمور ونفحصها ونعرضها على عقولنا الكبيرة، وها هي مدرسة العقلانيّين لا تقبل أحاديث الآحاد في الغيبيات، ولا ترى مناسبة الحدود الشّرعيّة لعصر الذرّة والمجرّة، وهذه المدرسة تهزأ بعلماء الشّريعة الأبرار لوقوفهم على ما ورد من الكتاب والسّنة على ضوء فهم صالح سلف الأمّة، وتصفهم بالجمود والتحجّر، وأنّهم لا يعملون النّقد والتّمحيص والغربلة للتّراث، ولا يمارسون تفجير النّصّ من الدّاخل، بل لا ينتجون النّصّ مكتفين بتفعيل النّصوص؛ فهم متلقّون لا منتجون، وسبحان الله، هذه المدرسة منطقيًّا وتسلسليًّا لن تقف على حدٍّ لا أقول إلى أن تبدأ تشرّع، فهي بالفعل تشرّع، ولكن أقول قد ينتهي بهم الحال إلى ادّعاء ألوهيّة الإنسان النّاقد، وهذا ما وصل إليه اينشتاين عندما قال بموت الإله وبزوغ الإنسان السوبر مان؟!
(وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ). [هود:29-30].
(وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ). [الأنعام:53]. أجرى الله تعالى الحكمة بأنّ أكثر أتباع الرّسل ضعفاء النّاس، ولذلك لمّا سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن نبينا صلّى الله عليه وسلّم: أأشراف النّاس يتّبعونه، أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم. قال: هم أتباع الرّسل.
(إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ). [الشعراء:113].
(لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ). [الأنعام: 52]. وهذه نزلت في فقراء المهاجرين كعمار وصهيب وبلال وابن مسعود لمّا طلب الكفار من النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أن يطردهم عن مجلسه؛ لأنّهم قالوا كي نجلس لنتفاوض معاً لا ينبغي لنا كسادة أن نجالس هؤلاء الشّرذمة، ويا ليت شعري عندما يُلقى بالثّور الأحمق أبي جهل في القليب، وعندما يُولّى بلال على الكوفة، وعندما يُلقى أبو جهل بالنّار ويسعى بلال ويخشخش بقدميه أمام سيّد الأوّلين والآخرين في الجنّة، فأيّ دين عظيم هذا؟! ولكنّنا غُلف القلوب.
ومن مزالق هذا الطّريق التّأسّي والاقتداء بما عليه علماء الزّيغ والتّضليل.
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه). [التوبة: 31]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). [التوبة:34].
(لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ). [المائدة:77]
(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ).
فالذي يفتي بما يوافق الهوى فهو الخبير النّحرير، وهو فقيه الواقع، والذي تطوّع له وسائل الإعلام، ويُشهر ويظهر، وأمّا العالم الرّباني والذي يقف غصّة في حلوق أرباب الشّهوات والشّبهات فلا يُدرى عنه، ولا عن نشاطه ولا سيرته ولا يُعرض على النّشء كنموذج يُحتذى، بل وكم فقدنا من عالم كبير فلم تهتزّ تلك المؤسّسات الإعلاميّة، ولم تنزعج لموته، وما يضيره، وهو المعروف في السّماء والمحبوب في قلوب المؤمنين.
*الإسلام اليوم