مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
ثائرون في زمن ثائر
تركي بن رشود الشثري
[الثورات هي الأحداث السياسية الوحيدة التي تواجهنا مباشرة بشكل لا مناص منه بمسألة البداية، ذلك أن الثورات مهما حاولنا تعريفها ليست مجرد تغييرات]. حنة أرندت.

هل الأصل في الأشياء السكون أم الحركة؟

وهل السمت العام للعالم المعاصر رتيب بالدرجة الكافية؟

لقد انطوى العالم الأكبر على الفرد، والفرد اليوم يعاني من حتمية الإنتاج والإبداع والسير الحثيث في سبيل الأمرين؛ إنه يتحرك في كل الاتجاهات، ويبالغ في تقدير العقل لدرجة تفوق قدرة الجسد، ولو نال الجسد ما هجس به العقل لما آمن أحد بما وراء الحس.

لا أظن أن التساؤل عن شرارة البداية أجدى من التساؤل عن استمرار الثورة والتظلل بها حِينًا. بالفعل، لماذا يظل الناس يهتفون في الشوارع؟ ولماذا يمدون وسائل الأنباء بمواد دسمة؟ ولماذا نحن موعودون أبدًا بنشرات أخبار مليئة بالصور والمشاهد والتصريحات؟ هل جُنَّ العالم؟ أم هو الآن يفيق؟ لا أعتقد ذلك؛ فالإفاقة من الفوضى العالمية لا تكون بهذه السهولة، بل ستكون مرعبة جدًّا، مرعبة للجهاز العصبي، والجملة الدماغية تواصل قنوي فوق المحسوس مع الضوء والأصوات والمثيرات، وللتبادل المحموم اليوم عبر ’’تويتر’’ و’’فيسبوك’’ ووكالات الأنباء آثاره البيولوجية الفظيعة، وذلك عندما نقف على مدى تلاؤم المادة المطروحة مع المشاعر الدفينة في جدار النفس العربية المنكوسة المنكوبة؛ مما أعطى تبريرًا سريريًّا لحالات الإدمان المتنوعة في أوساط الشباب العربي.

ولا يخفى على مهتم أن موجات ’’ألفا’’ تبرز بعد ثلث ساعة من متابعة الشاشة، وتطول الموجات بحسب طول وقت المشاهدة، وهنا تتغير سوية الدماغ، ويصبح ذا قابلية للتشكل من جديد، وذا استعداد لتقبل الرسائل الموجهة؛ مما يدفعه للانقلاب على: المبادئ والقيم والعادات والثوابت، وهدم الولاء والبراء، ...إلخ.

نعم، قد يقال: إن هذا من قبيل المبالغة و’’الفوبيا’’ والتهويل، ولكن المنصف المدقق يرى بعين البصيرة: أين كنا؟ وأين نحن الآن؟

إن حلبات ’’الهِشِّك بِشِّك’’ و’’كليبات اللحم الرخيص’’ قلبت الشارع العربي رأسًا على عقِب، وكذلك حلقات النقاش والحوار التي طالت كل مقدَّس، ويرى أثر ذلك فيمن تطاول على الذات الإلهية، أو مَن ضاق ذرعًا بتطبيق الشريعة الإسلامية.

مَن الذي يستطيع أن يستلقي ويتأمل لمدة بسيطة؟ من يستطيع أن يقضي يومه بلا أخبار ولا شجار ولا إنتاج ولا إبداع؟ مَن الذي يرضى عن عقله وخبزه وزوجه ورئيس حكومته؟ مَن الذي يزرع قليلاً ويأكل قليلاً ويفكر قليلاً ويعطي الحكمة؟

ومكمن الداء هو استعجال المستقبل والخوف منه في آنٍ واحد، كلنا يريد القفز السريع للغد، وهو غد غير متنبأ به، بل صورته معتمة شديدة العتمة، إنه دخان يتصاعد على رءوس الحضارات؛ ويل للعقل مما بعد العقل!

لا يمكن أن تقف الأسطر أو أن تنتهي الأسئلة عن الثورة وعلم المستقبلات ومصير الإنسان؛ فلندعها لنعود للثائر وثورته، والعلاقة بين الفرد والجماعة في هذا العرس البهيج المختل، فليس بالضرورة أن تنطبق ثورة أوربا على ثورة العرب، فتكلفنا سنواتٍ ودماءً وعقولاً ونفوسًا وغير ذلك، ثم نتفيأ ظلال العدل والحرية والعسل.

هل سننتقل بسهولة من الثورة للدولة، ومن الشعار للمجنز؟

من المثير أن سؤالاً كـ(هل ماتت الدولة وولدت الشركة؟) عبارة عن سؤال محسوم في الغرب مع بعض ملفاته المغلقة، ولكنها أيضًا لم تغلق إلا بعد الاتفاق والمصالحة بين الطرفين الدولة والشركة.

إن سؤالاً كهذا قد يكون مثارًا للسخرية والشفقة فيما بعد ربيع العرب، وقد يكون موضع الاهتمام والرعاية من النظار وساسة المجتمعات، ومع مفصليته إلا أنه متأرجح بين احتمالين إستاتيكيين، وهذا من المؤشرات العالية على عماء مآلات الربيع العربي.

إننا معاشر أهل الكلام مدينون للثورة؛ فهي التي تغذي العقول بالجديد والمختلف، وتنفض الغبار عن المتكلس من الأطروحات، وهكذا، إنه الاستهتار بالفكر، والذي يمارسه كثير من المفكرين، وبعضهم لا يريد أن ينكشف.

لماذا يثور الناس؟ أم لماذا لا يثور الناس؟

سؤالان متباينان غاية التباين، ولكل واحد منهما مزاجه وإطاره وعرابيه، لن نجتر أسئلة الأسطر الأولى، ولكن: هل الثورة قرينة الأسئلة؟ أم قرينة الإجابات؟ وقد راق لي تسمية الدكتور سلمان العودة كتابه (أسئلة الثورة) مع الاختلاف في نقاط كثيرة، والاتفاق على أخرى قليلة، ولكن الشاهد هنا هو (أسئلة الثورة)، ولا أدري: هل تم هذا بوعي؟ أم صدر من اللاوعي؟ وصدوره من اللاوعي أجدى عندي؛ لأنه الدليل الأكيد على انفجار الأسئلة مع سحب الدخان المتصاعد من جسد بوعزيزي في تونس. لقد ذهبت إلى هناك، وقابلت الناس، ودخلت البيوت، وعانقت الرجال، وقبلت الأطفال، وسمعت منهم وشوشات الحرية، وصولة الانتصار على حاجب، وحيرة المستقبل على الحاجب الآخر، ووقفت بشارع بوعزيزي متأملاً متسائلاً متعجبًا، ولا يعرف سبب هذا التعجب إلا من جاوز عمره الستين، صحيح أنني في نصفها، ولكني قارئ قديم، وباحث مرهف الشعور تجاه آلام الشوارع، ولذلك تأملت وتساءلت وتعجبت.

وليلاحظ القارئ الكريم أنني لم أقف شاكًّا؛ لسبب بسيط: أن الثورة لا يخطط لها، بل هي فتيلة تشعل، فينفجر الشارع صارخًا. إن تراكم المطالب لسنوات، ونشوء جيل جديد لم يترسخ في الهدوء والحكمة الأمنية كفيل بأن يوقد المخضرم على عود يابس، فيأتي الجيل الناشط ليسكب البنزين بكميات كبيرة على تلك الوقيدة، فيمتطي ابن علي طائرته فارًّا بروحه. والعجيب أن الناس هناك حدثوني بأنهم لم يكونوا يطمعون في نهاية كهذه، بل لم يتوقعوها، يقولون: خرجنا من سيدي بوزيد وغيرها نطالب ببعض الأشياء، فسلم ابن علي البلد كاملاً، فوقع الخبر علينا كالصاعقة، بل أكثر من ذلك، قالوا: لم نفرح بخبر رحيله، بل دهمنا الخوف من الفوضى والنهب والسلب، ولكن الأمور كانت للأفضل، فاغتبطنا بعد ذلك بهذا الرحيل. ومن العجيب أن هذا الكلام لم نسمعه عبر وسائل الإعلام، وفي طول دول الربيع وعرضها أشياء كهذه لا يعرفها إلا من يخالط الشارع، ويقف في تلك الميادين، قبل أن تصل القضايا لردهات السياسيين واستوديوهات الإعلاميين.

اطلع ’’جورج فورستر’’ على الشارع بعد شبوب ثورة فرنسا بأربع سنين، فقال: (التيار المهيب للحمم البركانية التي تقذفها الثورة، والذي لا يوفر شيئًا، وما من أحد يمكنه إيقافه).

نعم تشب الثورة بموقف، وفي لحظة، وكذلك يضرب أرسطو المثل بثورة ’’سراقوزة’’ والتي اشتعلت بسبب قصة حب وخيانة قريب من سادة الدولة، يقول: (فإن الناس لا ينزعون إلى الثورة إلا لأسباب جدية، وإن أصغر الأشياء حينما تمس سادة الدولة ربما كانت هي ذات خطر عظيم).

ومع ذلك كله فالثورة ليست الأصل وليست الحل في كثير من الأحيان وكثير من البلاد.

وأكرر لا يعني نجاح الثورة في أوربا أنها ستنجح في غيرها، حتى ولو أتت ببعض النتائج، ونحن في هذا المقال لسنا ضد أو مع، بل نحن نصف ونشيد ببعض الممارسات التي لا مناص منها في بعض الحالات والظروف، ونرفض بعض الممارسات الأخرى قطعًا؛ فقد كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم».

ذلك أن الأمر مقرون بالاستطاعة، وليس النهي كذلك؛ إذ إن الأمر إيجاد، فلا بد من ربطه بالاستطاعة، بينما النهي ترك، والتروك لا تُربط بالاستطاعة.

نعم لم أُعرِّف الثورة، ولن أبحث عن تعريفها في قواميس الفلسفة وقواميس التنوير؛ فهذه ممارسة غير مجدية مع حالتنا، بل أراها مضللة، فثورة التاريخ ذهبت، وهذه ثورة ما بعد التاريخ، ثورة أوربا الدموية والسلمية والمعرفية والتقنية والسياسية شيء، والذي يحدث عندنا شيء آخر، ثم أيضًا: هل يعتبر انقلاب بعض الضباط على الحكومة، أو قفز فئة سياسية على كرسي الحكم، أو العصيان المدني، أو إضراب العمال، أو غيرها مما يشبهها؛ هل يسمى ما مضى ثورة؟! لا، بل هو أي شيء، لكنه ليس بثورة، وخاصة وصول فئة معينة للحكم بطريقة ما؛ اغتيال، انقلاب، اختطاف لمايكروفون الإذاعة؛ لأن هذه الفئة ستكون ديكتاتورية منظمة ومقنَّعة، لا دكتاتورية الفوضى والمباشرة، فيحتاج الناس إلى ثورة على هذه الثورة الشوهاء، بينما الذي حدث عندنا ثورة، سواء اختطفت فيما بعد أم لم تختطف، ولكنها ثورة، سواء أيدناها وشجعناها أم رفضناها وازْوَرَرْنا عنها، سواء طابت نهاياتها أم خابت، سواء رجحت إيجابياتها أم سلبياتها، سواء كانت مشروعة أم غير مشروعة؛ فذلك لا يغير من الواقع شيئًا. وهذا الحياد يقبله من شاء، ويرفضه من شاء، ويفسره من شاء بما شاء، فموقفي لا يهم القارئ بقدر ما يهمه إلقاء الضوء على بعض الزوايا في الحالة العربية.

يجب أن نفرق في داخل الجماعات بين مَن هاجر من قبل الثورة وقاتل، ومن سواه، وحتى المقاتلين الأوائل يجب أن ننظر: ماذا طرأ عليهم؟ هذا مع التحفظ الشديد على هذه الجماعات أصلاً، بمخلصيها ومن سواهم، وحتى الأتباع القدماء: هل كلهم مازال بتلك الروح التي دخل بها؟ وما أسباب دخوله؟ هل هو البحث عن الذات؟ أم محاولة محو الذات بالاصطفاف مع الإخوة والتناغم مع ما يملى عليه من أهداف ورؤى بحيث يتخلص من مؤنة التفكير والتنظير فيستقبل ولا يرسل؟

يقول ’’هتلر’’ في كتابه (كفاحي): (كلما زادت الوظائف والمناصب التي تقدمها الحركة؛ كلما انخفض مستوى الأتباع الذين ينضمون إليها، في النهاية سيكون السياسيون الانتهازيون من الكثرة بحيث لا يستطيع المجاهد القديم النزيه أن يتعرف على حركته القديمة، عندما يحدث هذا تكون هذه الحركة قد انتهت).

ويقول ’’إيريك هوفر’’ في كتابه (المؤمن الصادق): (والنقطة المهمة هنا هي أن التغريب عن النفس -وهو أمر لا بد منه لإعداد العجينة وتهيئتها لاعتناق مبدأ الحركة- يتم في كل الأحوال تقريبًا في جو من المشاعر المشحونة. إن إثارة المشاعر ليست مجرد وسيلة فاعلة لهز التوازن القائم بين الإنسان ونفسه، ولكنها، في الوقت نفسه، النتيجة الطبيعية لاختلال هذا التوازن. تستثار المشاعر حتى في الحالات التي يمكن فيها عزل الإنسان عن نفسه بطريقة هادئة تخلو من الانفعال. وحده الفرد الذي يتعايش مع نفسه هو القادر على أن ينظر إلى العالم من حوله بلا انفعال. عندما تزول حالة التعايش يصبح المرء مجبرًا على أن يرفض ويشجب، ويسيء الظن بالجميع، ويتحول إلى كائن يكتفي بردود الفعل الطائشة. مثل هذا الشخص مثل عنصر كيمائي راديكالي يتوق إلى الالتحام بأي شيء يمكنه أن يصل إليه. هذا الشخص لا يستطيع أن يقف بثبات وثقة بمعزل عن الصراع، ولكنه يجد نفسه مدفوعًا إلى الارتباط التام بهذا الجانب أو ذاك. تستطيع الحركات الجماهيرية، عبر إثارة المشاعر الملتهبة في قلوب أتباعها، أن تحطم التوازن النفسي الداخلي، كما أنها تقوم باستخدام طرق مباشرة لضمان اغتراب دائم عن النفس. تصف هذه الحركات أي وجود مستقل متميز بأنه وجود عقيم لا معنى له، بل وتذهب إلى اعتباره وجودًا منحلاً شريرًا. الإنسان بمفرده بائس وملوث وعديم الحيلة. لا يمكن للإنسان الخلاص إلا بفرض نفسه، والعثور على حياة جديدة في أحضان كيان جماعي مقدس، سواء كان هذا الكيان كنيسة، أو أُمة، أو حزبًا. وازدراء النفس هذا يولد مشاعر تظل في حالة اشتعال دائم).

الثورة لها جذر اجتماعي ومسار تاريخي وأثر سياسي، وإهمال ذلك والتشاغل عنه بالتصفيق الحار لزخم الشارع أو إعلان الرفض للثورة لا يعدو أن يكون عبثًا ينوء المثقف والعالم والمفكر بنفسه عنه.

المثقف والعالم والمفكر يتعاملون مع المعلومات والوقائع والنصوص، وهذا بلا شك يتطلب المزيد من الحيطة والحذر، بخلاف رجل الشارع والإعلامي والمثقف المستهتر من رواد القنوات والحوارات وإجابة جميع الدعوات، وبالفعل فالثورة لها مداخل ومخارج وأوائل وأواخر وجذر اجتماعي ومسار تاريخي وأثر سياسي، ويلف ذلك كله هالة من الغموض ومناطق من الضباب، مع تشابك في تأويل النصوص، وشح في المعلومات، وسرعة في الوقائع، وكل ذلك من مبررات الحذر والحيطة مع هذا التنين الذي يقذف الحمم.

في دراسة ’’تيد غور’’ تناولت 114 بلدًا من 1961م – 1965م، وهي فترة قصيرة جدًّا، ومع ذلك شبت بها 54 حربًا داخلية، وفي 30 منها تلقى المتمردون دعمًا من دول خارجية، وهذا يدلنا على أن المنطق السائد في الدراسات الاجتماعية والقائل بأن الحركات الثورية نابعة من الداخل وتتمتع بالاستقلال بحاجة للتمحيص وتكثيف الدرس واستصحاب المزيد من الحيطة والحذر.

إنها ثورة وتمت، والعمل الآن على الواقع ومع الواقع، وللتحرز ومن دون استجابة لضغط هذا الواقع.

لا يمكن أن يثور الناس إذا كانت أهدافهم حكامًا ومحكومين واحدة، وإن وجد التقصير، ولكن عندما يتحول الحاكم إلى كوكب، والشعب إلى نجم يطوف مبتهلاً -أو هكذا يراد له- حول هذا الكوكب، فأهدافه هي الأهداف، ورؤاه هي الرؤى، فلا يمكن التنبؤ بما سيحدث عندما يخرج هذا النجم من مداره ليصطدم بالكوكب. وعليه فبعدما تركل أهداف الحاكم، بل ويركل خلفها، يلتفت الناس بعضهم إلى بعض ليتساءلوا: وماذا بعد ذلك؟ ففي ظل غياب المؤسسات الشعبية الحقيقية لا يستطيع الناس أن يحددوا أهدافهم بدقة؛ ليأتي سراق الثورات فيخطفوا ذلك الطفل الرضيع المرتعش ليصنع على أعينهم، فإذا أفاق الشعب إفاقة ثانية راحوا ينتزعون هذا الطفل الغض مرة أخرى، فيتمزق بين الفريقين، وهذا هو الحاصل اليوم، وما الذي سيحصل إن لم يحصل هذا؟ فثورة العرب ثورة شارع، ثورة شعب، أناس ألقى أحدهم حجرًا ولم يصب بأذى، فتشجع الآخر فرمى حجرًا، ثم صرخ أحدهم فلم يُقل له: اخرس، فصرخ الآخر، فتعالى الصراخ، فأخذت القوم نوبة هستيرية عارمة تشمل البلد، محلة بعد أخرى، وزنقة تلو زنقة، إنهم ليسوا تيارًا ولا حزبًا، بل مجموعات شعبية حانقة. فإذا رحل الرئيس أطلت التيارات والأحزاب الكامنة كأبطال منقذين، زاعمين أنهم حرَّكوا الشارع، وحافظوا على نظام المظاهرات وأمن الناس، وقد يكون بعضهم محقًّا والبعض الآخر غير محق، ولكن الحاصل أنهم امتطَوا الثورة، وراحوا يتقاسمون الغِلال، وفي ظل غياب هؤلاء فالبديل حرب الشوارع، أو نزاع العرقيات والمذاهب، أو اقتتال العشائر، وهذه أوراق قد يلوح بها الحزب السياسي مهددًا ليعتبر نفسه النهاية الوحيدة والطريق الآمن للسالكين.

لقد افترست الثورةُ أبناءَها بحسب ’’ساترون’’؛ منذ الثورة الفرنسية ليلة الرابع عشر من تموز/يوليو 1789م، لقد صاح ’’لويس السادس عشر’’ في رسوله ’’ليانكورت’’: (إنه تمرد)، فرد الرسول: (كلا يا صاحب الجلالة؛ إنها ثورة).

ليلة كتب فيها التاريخ، وبثت روح روما القديمة في شوارع أوربا، ابتداء بباريس، وكان ذلك على موائد ’’ميكيافيلي’’ العنيفة، والتي تتغلغل في النفوس والأرواح عبر وسائل الفن والأدب، فلنستمع إليه يقول: (عند حلول المساء أعود إلى بيتي وأدخل مكتبتي، وعند الباب أخلع ملابسي اليومية المغطاة بالطين والغبار، وأرتدي حلتي الملكية، وبهذا الزي المناسب للمقام أدخل البلاط القديم للقدامى؛ حيث أُستقبَل مِن قِبلهم بإعجاب، وأتغذى بذلك الطعام الذي هو لي وحدي، والذي ولدت من أجله). بغض النظر عن تنصيب ’’ميكيافيلي’’ أبًا رُوحيًّا للثورة من عدمه، فالذي يهم أن الناس يُغذون بالأفكار عبر الأساليب الشيقة، والتي تحاكي الآمال والطموحات، وتهون العقبات، حتى تأتي اللحظة التي يكتب فيها التاريخ، وتدار عجلته من جديد، ولكن لا ننسى أن الثورة تفترس أبناءها، ليأتي أصحاب الدم البارد والوجوه القاسية والملاحظات الذكية ليحصدوا كل شيء.

تختمر فكرة التغيير في رءوس أهل الأدب والفكر، ثم يشعلها رجل الشارع اليائس، بينما رجال الأعمال يراقبون ما يجري من مكان قريب، حتى إذا سنحت الفرصة انقضوا كرجل واحد لقطف الثمر.

يبدو أن الثورة حتمية، كما يقرر أرسطو، بل ضرورة تاريخية وقانون، فهي عملية دائرية، وعليه؛ فليست نتوءًا، بل أصل، بل إن تناول أرسطو لها يوحي بأنها لا تؤدي إلى جديد، والحقيقة أن الثورة التي يناقشها أرسطو ليست الثورة التي نناقش هنا، فهو يتحدث عن الانتقال من نظام لآخر، أو عن تغيير الحكام في إطار بنية النظام القائم؛ قال في كتابه (السياسة) متحدثًا عن الثورة ما نصه: (وهي تجري في التغييرات التي تحدثها على طريقتين:

فتارة تهاجم مبدأ الحكومة عينه، حتى تستبدل بالدستور الموجود دستورًا آخر، فتستبدل مثلاً بالديمقراطية ’’الأوليجرشية’’، أو العكس، أو تستبدل بالجمهورية ’’الأرستقراطية’’، أو العكس، أو تستبدل الأوليين بالثانيتين.

وتارة بدل أن تتجه الثورة إلى الدستور القائم تحتفظ به كما تجده، لكن الظافرين يطمحون إلى أن يحكموا هم أنفسهم مراعين هذا الدستور، والثورات من هذا القبيل كثيرة الوقوع على الخصوص في الدول الأوليجرشية والملوكية).

وأما ما نبحث عنه، فهو تلك الثورة التي يمارسها الناس ضد أنفسهم وشارعهم وذاكرتهم السياسية، وهذا الذي زهدنا في القواميس الفلسفية والسياسية؛ فالناس بالمعنى الذي نتناول لا يريدون الثورة، بل يسكنون للرتابة واجترار القدر الهائل من الآلام لدرجات قصوى، ولكنهم فجأة يجدون أنفسهم في شارع أو ميدان يصرخون بأعلى أصواتهم: (ارحل) و(الشعب يريد)، ولو حللنا بعض هذه الشعارات لأُصبنا بخيبة أمل؛ نعم، الهيجان والصياح والشعارات تلامس مناطق كامنة في نفوس الناس حتى الحكماء منهم، فهم بشر ولهم مشاعر ووجدان، وفيهم طرب، ولكن المضامين الشعاراتية لا تطعم ولا تغني من جوع، فلو سألت هذا الشعاراتي أو ذاك ماذا تريد؟ لقال: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته! فإذا قلت له: وماذا سمعت الناس يقولون؟ فسيقول: إنهم يريدون الحرية والمساواة. فإذا قلت: وماذا يعني هذا الكلام؟ فسيرد: المهم أن يرحل، المهم أن يرحل.

ماذا يريدون من الحرية؟ وما هي الحرية؟ وما المقدار المطلوب منها؟ ومن يمنحها؟ وهل رحيل الرئيس كفيل بإعطاء الحرية التي تؤخذ ولا تُسأل، وتُنتزع ولا تُعطى؟ وهل هي حبيسة صندوق الرئيس مع المجوهرات والروبلات وغيرها، وما بينهم وبينها إلا انكسار القمقم؟

وهنا نافذة صغيرة على لبنان: من الذي يمنعك من حرية التعبير والصحافة والكلمة والصداقة والعلاقة وغير ذلك؟ (بطبيعة الحال ليست هذه الحرية فقط) ومع ذلك هناك قمع للحرية من المرجعيات أو الفصائل أو التيارات الموجودة، وهذه كلها لا يملك الرئيس حيالها أمرًا ولا نهيًا؛ فهل الحرية رهينة رحيل هذا الرئيس؟

واليوم للإسلاميين نصيب الأسد من الحكومات الجديدة، ومع ذلك لا يستطيع أحدهم أن يقول بتطبيق الشريعة ولا ينادي به، فإذا عاتبه أحد السلفيين، قال له: أحسن الظن يا أخي؛ نحن سنأخذ الدولة بالديمقراطية، وبعد ذلك سنطبق الشريعة!

فهم يُظهرون للأحزاب العلمانية وجهًا، وللشارع وجهًا، وللسلفيين وجهًا آخر؛ أين هؤلاء وأين الحرية؟! ولذلك أقول بكل ثقة: هؤلاء لا يصلحون لقيادة الدنيا ولا الآخرة، والسبب في غاية الجلاء؛ فالإسلام لا يقبل المحاصصة، والناس لا يقبلون الخداع والمكر والتلون؛ فالرئيس المخلوع يُخبئ الدكتاتورية خلف جدار الديمقراطية، والإسلاميون يخبئون -بزعمهم- الإسلام خلف جدار الديمقراطية، ولكل أسف هم لا يخبئون سوى الفراغ والمجهول وضياع الهوية، هذا بالإضافة إلى أنهم أحد الخيارات المقترحة في البيت الأبيض بعد زوال الأنظمة السابقة، فمن الفرضيات القوية لدى أمريكا بعد رحيل حسني وابن علي وغيرهما التعاون مع الإسلاميين المعتدلين ’’الحبوبين’’.

أيضًا إذا لم يَثُر الناس على أنفسهم؛ فالثورة على الرئيس وطرده أو سحله لا يعني نهاية الآلام ووقف النزيف، بل التغير الذي أحسه الناس في أنفسهم وهم يهتفون في الشارع وينتهكون محرمات الماضي ما هو إلا عَرَض طارئ لا يلبث أن يعود الناس بعده لأنفسهم وذواتهم الحقيقية والتي هي صنيعة سنوات الطاغوت والعِجل الجسد الذي له خوار.

نعم، الثورة تؤثر في النفوس، ولكن آثار السنين لا تمحوها حفلةُ ’’زار’’ واحدة في ميادين الهتاف والشعارات، وهذا التأثير البسيط قد لا ينفذ من الظاهر إلى الباطن أيضًا.

(وهم الحرية!) و(استبداد الحرية!) و(العلاقة بين الحرية والتحرر!) كلها أفكار بحاجة للتبسيط والنشر الإعلامي كي يفيد منها كل ثائر.

تقول حنة أرندت: (وإن أساس الحرية كان دائمًا يلفه الغموض، إن لم نقل: إنه كان عقيمًا بالكامل).

المساواة مطلب ملح، واللامساواة هي علة الثورات، كما يؤكد على ذلك أرسطو في مواضع من كتابه (السياسة)، ولكن؛ ماذا تعني المساواة؟ وهل يمكن تحقيقها في ظل نظام قائم أيًّا كان؟ وهل النظام الذي يصل مواطنوه إلى درجة الغليان لفقدان المساواة قادر على تحقيق ذلك وتضميد جراح الماضي؟ وهل يستطيع الشعب أن يغفر؟ وهل...؟ وهل...؟

هذا إذا عرفنا أن أرسطو ذاته يقول بعد أسطر: (وفي الحق أن من لهم الحق في الثورة على وجه مشروع هم المواطنون ذَوُو الأهلية السامية). إذن هناك من هو فوق المساواة عند أرسطو، وهناك من لا يستحقها.

هل ولد الناس غير متساوين فقامت المدنيات بالمساواة بينهم؟! أم أنهم ولدوا متساوين فسلبتهم الدولة تلك المساواة؟!

نعم، هم يعرفون الذي لا يريدون، ولكنهم لا يعرفون على وجه الدقة: ماذا يريدون؟

في تاريخنا ثورات، وبعضها لا تصدق عليه اسم ’’الثورة’’، بل لم يسمِّه ثورة إلا الأجيال التي تلت تلك الأحداث، بينما سُميت في حينها (الخروج)، (الفتنة)، ففتنة الزنج مثلاً سُميت ’’تمرد العبيد’’ بزعامة سبارتاكوس في روما، وعبر عنها بـ(ثورة) رغم أنها صراعات أهلية أو تعبئات عرقية أو جنون أو تمرد أو قلة وفاء، سمه ما شئتَ، ولكنها ليست ثورة.

فغارات الزنج ليست ثورة كما يحلو لبعض مزوري أو محوري التاريخ أن يسموها، بل تسمى (نباح الكلاب الملونة) مثلاً، كيف لا؟ فعن ابن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخوارج كلاب النار». صححه الألباني.

نعم عانوا مظالم وضغوطًا من قبل الأتراك المسيطرين على مفاصل الدولة العباسية الثانية، ولكنهم كانوا في بدايتها أيضًا، قبل أن تستحكم هذه القبضة؛ فقد هاجوا سنة 249هـ، وأَبَقُوا من أسيادهم؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «العبد الآبق لا تقبل له صلاة حتى يرجع إلى مواليه». صححه الألباني.

جاء في كتاب (الشريعة) للآجري: (حدثني أبو غالب: أنه سمع أبا أمامة رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرجَتْ خارجةٌ بالشام فقُتلوا، وأُلقوا في جُبٍّ، أو في بئر، فأقبل أبو أمامة رضي الله وأنا معه، حتى وقف عليهم، ثم بكى، ثم قال: سبحان الله! ما فعل الشيطان بهذه الأمة؟ كلاب النار، كلاب النار، كلاب النار -ثلاثًا- شر قتلى تحت ظل السماء، خير قتلى تحت ظل السماء، خير قتلى تحت ظل السماء مَن قتلوه، قلت: يا أبا أمامة، أشيئًا تقول برأيك؟ أم شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني إذًا لجريء، إني إذًا لجريء، إني إذًا لجريء -ثلاثًا- بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثًا، حتى عدَّ عشرًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيأتي قوم يقرءون القرآنَ لا يجاوز تراقِيَهم، أو لا يعدو تراقِيَهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يعودون في الإسلام حتى يعود السهم على فوقه، طوبى لمن قتلهم، أو قتلوه».

والذي لا يعجبه المنطق النبوي فليضرب برأسه الصخر، نحن مسلمون مستسلمون مُحَكِّمون للنبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بيننا، ولا نجد حرجًا مما قضى، ونسلم تسليمًا؛ فما يعرف بثورة الزنج لم تكن ثورة ضد الإقطاع والمظلوميات كما يروج لها، بل هي دعوة قام بها أحد الأفَّاكين مدَّعيًا للنبوة ولعلم الغيب، وأنه مبعوث من الله، وأخذ يفسر الآيات تفسيرًا سياسيًّا؛ كتعليقه على قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتُلون ويُقتَلون}. [التوبة: 111]. فقال: إن المؤمنين وقد اشتروا أنفسهم لم يعودوا بعدُ عرضة للرق والعبودية. وبطبيعة الحال كان يخاطب زنوجًا بُلَهاء لا يَعون الخطاب ولا يُحسنون الجواب، فانطلقوا لا يلوون على شيء إلا السعي في الأرض بالفساد، ولو بَقُوا تحت أسيادهم لكان ذلك خيرًا لهم في دينهم ودنياهم، فمن أخبارهم أنهم قطعوا الطريق على سفينة حُجَّاج عرب لا ناقة لهم ولا جمل في هؤلاء ولا أسباب هيجانهم، فباعوهم تشفيًّا مما كان يصنع بهم، ومن أظلم الظلم أن يُباع الحر، ويزيد الإثم والغرم أن هذا حاجٌّ تُؤمَّن له السبل لا تُقطع عليه ويُباع ويَقبِض ثمنه هذا الآبِقُ.

لقد دعاهم علي محمد -وهو زعيمهم- إلى التخريب والتكفير والتقتيل والتشفي، وبث بينهم تعاليم الخوارج، ولكن الله مكَّن منهم، وطُفئت ثورتهم في منطلقها (المختارة)، وهي بلدة بناها لهم زعيمهم فتحصنوا بها وانطلقوا منها، وعاد الآبِقُ لسيده منكَّس الرأس يرجو المغفرة وطي الصفحة.

والمجال هنا لا يتصل بنظام الرق في الإسلام، أو أن الرق وُجد في كل الديانات والحضارات، ولم يُراعِ الرقيقَ وحقوقهم أحدٌ كما فعل الإسلام، ولم يُرغِّب دين في عتق الرقيق كما رغَّب الإسلام، أو أن ظلم هؤلاء من قِبل أسيادهم لا يجوز؛ ولكننا نتحدث عن حادثة وقعت من أناس حُكمُهم أنهم رقيق وردت فيهم نصوص فخالفوها، وقطعوا الطريق، وبالغوا في الانتقام، وتجاوزوا الحدود بنَفَس خارجي، وبقائد يدَّعي النبوة، ويطيعونه طاعةً عمياء، وقُتل في هذه المهزلة ما يقرب من مليوني نفسٍ، كما يذكر ابن طباطبا والسيوطي؛ فكيف لا نقول: (نباح الكلاب الملونة)؟!

ولذلك تحدثنا عن أخذ الحيطة والحذر لمن أراد الشروع في تناول شأن الثورة، لأنها تسمى (تمرد)، (انقلاب)، (إضراب)، (حركة جماهير)، وعليه؛ فـ(بارنجتون مور) و(صموئيل هونتينجتون) لا يعدان ما حدث في أعقاب انفصال المستعمرات الأمريكية عن بريطانيا بعد عام 1776م ثورةً، وفي المقابل يؤكد (فرانكلين جامسون) أنها ثورة أمريكية.

[الغرور والطموح صنعَا الثورة، أما الحرية فكانت التبرير]. نابليون.

العجيب في شأن الثورة أن هناك من يراهن عليها، ويعيش من أجلها، ولا ينام إلا على أحلامها، إنه ثائر، إنه ’’بندق مضحى ثاير ثاير’’.

يوجد من المفكرين والمثقفين والدعاة مَن لا يعيش إلا في أجواء الثورة، ولو سكن في فترات وقدَّم أطروحات هادئة توحي بالاستقرار، إلا أنه لا يلبث أن ينقض كالذئب الجريح، يُعبئ ويخطب ويعقد المؤتمرات، و(يصيح وينادي مَن يصيح). من الواضح أن المسألة ليست تغييرًا أو تجديدًا، وإن تقنعت بذلك، ولكن المسألة مسألة ثأر قديم من النظم، ومن الناس، ومن نفسه؛ فهل يعني ذلك أنه مريض؟! لا أدري، ولكن الذي أدريه أنه هو لا يدري، والذي أراهن عليه أن نيته حسنة، وهي: التطوير، التغيير، التجديد، ضخ دماء جديدة، إنه يغلق على نفسه الأبواب في أحيان كثيرة، ويبكي بكاءً مرًّا؛ ويل للشعوب من هؤلاء ’’الكارزميين’’!

يقول ’’موريسن جيزبرج’’: (كما يتضح لنا من الدور العظيم الذي يقوم به الخطباء والصحفيون، وفي غالب الأحيان نرى أن ما يؤهل المرء للزعامة ليس مقدرته على التفكير أو العرض المنطقي الواضح، ولكن في مشاركته في مواد كثيرة، وفي تعدد مزاياه، وتنوع مهاراته، وفي قدرته على التنقل والوثوب من موضوع إلى آخر، وفي طريقته القويمة الطيِّعة في الحديث والخطابة، وفي براعته في الإفحام وسرعة الجواب وحضور البديهة. والحائزون على مثل هذه المواهب والقدرات كثيرًا ما يكونون من الانتهازيين، وسرعان ما يُصبحون أداة تحركها المصالح الكبيرة القوية).

وبالمناسبة، ظهر في القرن التاسع عشر تيار يُنافح كلَّ الأنظمة، ويثور، ولا يريد شيئًا سوى أن يثور، غلب عليه اسم ’’التيار الفوضوي’’، وعلى رأسه الثائر الكبير ’’ميخائيل باكونين’’، هو الثائر الكبير لأنه عاش من أجل أن يثور! وثار من أجل أن يعيش!

لماذا يثور الناس؟

يجيب أرسطو بقوله: (مادمنا نريد أن ندرس: من أين تتولد صنوف الشقاق والانقلابات السياسية؟ فلنبحث -بادئ الأمر بطريقة عامة- أصولها وعللها، ينبغي أن يقال: إن هذه العلل كلها ترد إلى أمور ثلاثة نبينها في قليل من الكلمات، وهي: الاستعداد النفسي لأولئك الذين يثورون، وغرض الثورة، وثالثًا: الظروف القاضية التي تجلب الاضطراب والشقاق بين المواطنين).

ذكر إثر ذلك سبعة صور للاستعداد النفسي، وتطرق لصراع الطبقات وللغنى والفقر والامتيازات واحتكار التشريفات واحتقار الشعب، ومع ذلك فلكل عصر ومصر وحالة صورها وتداعياتها، وإن توافقت في بعض أجزائها مع هذه العلل والأصول، والوقوف على هذا الشأن بحاجة لمقال مستقل.

وفي نظري أنه لن تنجح إلا إحدى ثورتين:

- ثورة تدعو لأيديولوجية مؤصلة مقعدة راسخة في قلوب وأرواح الجماهير، ويؤججها مجموعة من الخطباء المفوهين الذين لهم سطوة عميقة في نفوس هذا الجمهور؛ بحيث يخاطبون حواسه الخمس، ويصعدون به ويخفضون، ويجتمعون وإياه على عقيدة واضحة لا غموض فيها ولا التباس، عند ذلك ستضطر المعارضة للانزواء -ولو المؤقت- وستضطر القوى الكبرى إلى التماس التعاون مع علية هذه الثورة ومنظريها ذوي ’’البزة الكارزمية’’.

- وثورة تتحد فيها كلمة الجماهير على الحرية والشفافية المطلقتين غير المقننتين وغير المشروطتين، وتتماهى الفصائل المتباينة مع هذه الفكرة؛ بحيث تحقق لها وللجميع كل ما تصبو إليه النفس البشرية من مشتهيات.

أما ما يحصل الآن على الأرض العربية فما هو إلا جمهوريات فاضلة مثالية من اليمين ومن اليسار، ولا وجود للعقل في العوالم السحرية.

[عندما يستعد الطالب سيظهر المعلم]. مثل غربي.

وقبل أن نبارح هذا الموضع لن يفوتنا أن نعرج على الزعيم الثوري، بحسب ما اصطلح عليه في مدونات علم الاجتماع؛ إنه خطيب ومتكلم جيد، ويحاول جاهدًا أن يُخفي صدمته وذهوله من سرعة الأحداث وعجائبِيَّة ما صنع الشارع، بل ويتظاهر بأنه كان وراء ذلك كله، ويُذكر بمقاطع له في ’’اليوتيوب’’ أو مقالات بتواريخ قديمة سبق وأن تنبأ فيها بالثورة، ثم يبني على هذا الأساس قواعد وقوالب يريد سكب الثوار فيها، وأنى له ذلك؛ فهو لا يملك الثورة، ولا يستطيع إنتاج النصوص، إنه فقط يشرح ما يجري، ويتأول الوقائع، ويلقي المواعظ السياسية، وكذلك قد يكتفي في بعض الأطوار بتحريك المشاعر الكامنة للمستمعين، لا إعطاء آراء جديدة، وإذا كان عصيًّا على النظام السابق، ومعارضًا عنيدًا لقلاع الحكومة الآفلة، ومتحديًا صامدًا أمام سلاسلها وأغلالها؛ فقد يكون اليوم عبدًا للجماهير ومتسولاً لقبولها، فهو لا يزال يرشوها بالعناوين والشعارات والخطب والرموز، إنه باختصار يتذلل للشعب، كما تذلل قَبله الموالون للرئيس المستبد، لدرجة أن يطأ عقلَه بحذاء العواطف الجبار، ومع ذلك فهناك مَن يتملَّقون الرئيس، فإذا أفل نجمُه تملَّقوا الشعب بكل صفاقة، وكيف لا؟ والشعوب وإن كانت أحقادها لا حدود لها إلا أنها تنسى كثيرًا.

يقول باسكال: (لماذا نتبع الأكثرية؟! أَلأَنها أكثر عقلاً؟! لا، بل لأنها أعظم قوة).

إنني استطيع القول بأن ’’الكارزمية’’ وحدها لا تكفي، وإن صبغت الثورة بألوان بهيجة، وزودت وسائل الإعلام بتصريحات مثيرة، فهي عرضة لسرعة الاحتراق، وعليه؛ فقد صرح كثير من الدارسين لحالة الثورة بأن ’’الخميني’’ صاحب الشخصية الآسرة لن يتعاقب على كرسيه المعمَّمون لأسباب بسطوها في مواضعها.

ولا أعد هذا مناقضًا لسابقه، نعم، ستنجح هذه الثورة، وتجتاح مؤسسات اللاعدالة؛ لتؤسس لبناء جديد، وروح جديدة، ولكن لن تستغني عن النظام الشمولي، والنقد الذاتي الفاعل، وتبادل الأدوار، ومعرفة حدود استخدام ’’الكارزمية’’، فهي وحدها لا تكفي.

يورد ’’سير مارتن كونوي’’ ثلاثة أنماط للزعماء:

النمط الأول: قاسِري الزمرة ومُكرِهيها: مثل نابليون، وهو القائد الذي تقيمه فكرة كبرى ولا تقعده، ويبدأ بحشد الناس لها ضاربًا على أوتار معينة؛ بمعنى أنه يستطيع تحويل فكرته إلى قضية يَهُبُّ لأجلها المجموعُ، فيطبع الناس بشخصيته الفذة، ويجعلهم يرددون مبادئه، وهذا ما صنعه الملك عبد العزيز بالضبط.

النمط الثاني: أئمة الزمرة وهداتها: وهؤلاء رجال ذَوُو فِراسة مشبَّعة بعطف، ولهم إحساس مرهف، فيشعرون بما تشعر به الجماعة، وعندهم مقدرة بعد ذلك على التعبير الواضح عن هذا الشعور، بل وأكثر من ذلك؛ هم يستطيعون شرح مشاعر الناس للناس، لأنها في بعض الأحيان غامضة على الناس أنفسهم.

النمط الثالث: نواب الزمرة وممثلوها: وهم يقتصرون على التعبير عما برز من أراء الزمرة، ويوجد دائمًا ما يُقيدهم عن الإفصاح بآرائهم الشخصية، إنْ كان ثَمةَ أراء.

نعم، لسنا معنيين بتعريف الثورة، ولذلك سنورد تعريفًا قديمًا لا نقصد بإيراده أن تكون ثورة العرب مثالاً عليه بقدر ما نقارب سؤالَي المقدمة؛ وهما:

هل الأصل الحركة أم السكون؟ ولماذا يثور الناس؟

المؤرخ اليوناني بوليبيوس (200-118 ق.م) يعرفها بأنها: (الدورة المحددة المتكررة التي تحكم الشئون الإنسانية؛ لأنها مدفوعة دائمًا نحو الحدود القصوى).

دورة، ومحددة، ومتوقعة، وتحكم الشئون الإنسانية، وهي مدفوعة نحو الحدود القصوى. كل هذا لا يعنيه الثائرون في ميدان التحرير، ولا شارع سيدي بوزيد، ولا غيرها من معتصَمات العرب وتماثيلهم الثورية، وهذا الكلام لا يعني المنظِّرين المثرثرين على موائد هذه الثورات. هذا المؤرخ الذي أتى على فتوحات روما وتوسعاتها يتحدث عن عوالم يُغير بعضُها على بعض، ويسيطر بعضها على بعض، في دورة مستدامة، تتناقل فيها الأمم والشعوب الواقع على رقعة التاريخ القديم، فليس لنا هنا إلا حتمية التنقل وتغير الحال، وكبس الشعوب بكلتا يديها على خناق الرؤساء مهما تطاول الزمن، مع الاختلاف في الطريقة والأسلوب والتوقيت وعدمه بين العالم القديم والحديث، وبين الغرب والشرق.

أما بعد: هل انطفأت الثورة العربية؟

لا يبدو ذلك؛ فالقوم لا يريدون طرد نظام لإحلال آخر، بل يَصبون إلى اقتلاع تاريخ وإحلال آخر، إنهم وإن لم يصرحوا بذلك لن يتوقفوا حتى يكتبوا تاريخًا عربيًّا جديدًا يليق بالذاكرة والجغرافيا، ولكن هيهات! إن لصوص الثورات بالمرصاد، وأهل الجدل والمكاسب لن يُفوِّتوا الفرصة الغالية. نعم، إنها مهمة للتو بدأت، مع عدم إغفال ما مر من أن تأثير الثورة قد لا يتجاوز الظواهر.

هل من الممكن إصلاح الأخطاء الوراثية بهبة واحدة وشعار واحد وكلمة واحدة؟

هل من الممكن أن تندمل كل تلك الجراح والأتراح في فرحة واحدة وعرس ثوري واحد؟

هل يستطيع الجيل التكنولوجي السريع أن يجفف منابع الآثام التقليدية الغائرة في طول المنطقة وعرضها؟

لقد تعاقبت الأجيال على منظومة من المفاهيم السياسية والاجتماعية.

فهل بالإمكان فض بكارة هذا الجسد المحتقن بالدم الفاسد، وتفريغ ما في جوفه من القيوح والصديد بصولة واحدة؟

إنها بالفعل (الأسئلة الثقيلة).

ومن وجهة نظري: إن الجميع يمتهنون السياسة بوجهها المتلِّون عدا السلفيين، الذين لم يدخلوا البرلمانات، ولم يقبلوا باللعبة الديمقراطية، والأدلة تند عن الحصر، ذلك أن الجميع يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول، ويداهن، بينما هؤلاء القوم لا يجيدون هذه الألاعيب، ومن هنا تُؤمن غوائلهم؛ إنهم لا يسرقون ولا يفسدون، بل يصلحون، ولكن تنقصهم الخبرة والدربة؛ فعلى كل منصف في بلاد العرب أن يؤازرهم، ويقدم لهم خدماته وخبراته وتعاونه المفتوح؛ لأنهم رُوح الأرض، وأصل الأصول، ومرآة الثقافة والهوية لهذه المنطقة، إنهم لا يتوصلون لتطبيق الشريعة عبر الكذب والغش والتظاهر بالتسامح، بل يريدون تطبيق ما تُجمع عليه الشعوب العربية بنسب فلكية، كما أراد الله لا كما تريد الشعوب، وإن كانت هذه الشعوب تريد الشريعة، إنهم لا يتوصلون إليها عبر قناطر مضادة لها في الغاية.

لدى السلفية السالِمة من خدوش الديمقراطية قولة لم تقلها بعدُ، وكلمة لم تفصح بها بعدُ وصولة لم تَصُلها بعدُ؛ فمن أراد المستقبل فهو في هذه الجوامع (المساجد) التي تكتظ بأصحاب الذقون الطويلة، والثياب القصيرة، والعلم والبصيرة، والخير والخيرة، فقد جربت المنطقة كل شيء إلا هذا؛ فلْيُعْطَوا الفرصة بطريقتهم هم، وانظروا ما هم فاعلون، وهنا أسجل رأيًا لا أحيد عنه: (الديمقراطية غير صالحة لتُربتنا، ولا لبني جلدتنا، ولا هم يصلحون لها، لا لأنهم غير أَكْفَاء لها، بل لأنها ذات أكمام ومقاسات وتفصيل لا يناسب لأجسادنا ولا لأرواحنا).

جميع الإسلاميين يقولون للشارع شيئًا، وللأحزاب الأخرى شيئًا آخر، وللسلفية السالِمة شيئًا ثالثًا؛ فلهم ثلاثة أقوال وثلاثة وجوه، وكلهم يزعمون أنه بمجرد أن يتمكنوا سيعودون للشريعة ولأحكام الإسلام ويُرغِمون الجميع عليها، ولكن بالتدرج بينما السلفيون لهم قول واحد ووجه واحد، وهذا لا يتنافى مع السياسة الشرعية، بل هو لبها؛ فأهل الإسلام يمتازون عن غيرهم بهذا الوضوح. يقول ميكيافيللي، على عِلاَّته وهَنَاته: (اظهَرْ كما ترغب أن تكون).

إن الغموض وتبديل الأقنعة حسب الحاجة هي ’’أم المفاسد’’؛ لأنها تغطي المفاسد كلها بالقناع المناسب في الوقت المناسب، وتخاتل وتخادع خلف هذه الْمَهامِه من الغموض واللف والدوران، ولا يعني ذلك أن يُعطى السلفيون السالِمون الحكم، أنا لا أقول هذا؛ لأنهم لو سُلِّمت لهم مفاتيح الدولة بين عشية وضحاها لوقعوا في مأزق، وهذا من الأسباب التي تجعلهم ينوءون بأنفسهم عن دهاليز السياسة، ولكني أقول ما قاله علي عزت بيجوفيتش وختم به كتابه: (الإسلام بين الشرق والغرب) تحت فصل: (التسليم لله). إنني أجزم أن جميع التيارات العلمانية والليبرالية عميلة وتتلقى تعليمات خارجية؛ لتحقيق أجندات أمريكية في شرق بلاد العرب، وفرنسية في غرب بلاد العرب، والتهم الآن تطال الإسلاميين المعتدلين من أنهم يتلقَّون التعليمات من البيت الأبيض؛ لتشاطر ’’الكعكة’’، والكلمة هنا موجهة للجمهور، لا للمتنفذين وأصحاب المطامع: اتجهوا لعلماء السلفية بعقلائكم وكباركم وأهل حَلِّكم وعَقدكم، تعاونوا معهم على إقامة الشريعة، فتجارب الغرب لا تناسبنا، ويكفى أن نتلمح التاريخ لنرى ماذا صنعت بنا الديمقراطية المزيفة لدى حسني مبارك وغيره، والديمقراطية الصحيحة لدى أردوغان ما هي إلا طاغوت تضخم جراءَهُ الجيشُ، وأخذ يضغط على الرئيس؛ لخوض أي غمار من أجل استهلاك السلاح، وإبرام العقود، والتخلص من بعض الأجزاء المعطلة. وما هو واقع الفرد التركي؟ وما مستوى دخله وأمنه الوظيفي والحياتي أيضًا؟ وهل يستطيع عاقل أن يسمي تركيا بلدًا إسلاميًا إلا إذا حق ذلك لإيران؟ وماذا عن التعاون العسكري والاستخباراتي بين تركيا و إسرائيل؟ وبالفعل، فهذا الشأن أيضًا ملف بحاجة لدرس طويل لعله يُتاح في القريب العاجل بإذن الله.

[الآن فهِمتُكم]. (ابن علي).

[أعي تطلعات الشعب المصري]. (مبارك).

يحذر الأطباء من لمس الجرح الميئوس من التئامه.

هل فعلاً: الخطر يدهم الدولة الرديئة عندما تشرع في الإصلاح؟ والمتوقع أنه من المتداول عند نظار الثورات، وهو أمر مفهوم، والعجيب في الأمر أنه غير مطروق، فلحظة الحسم يصلها الباحثون وقد تعِبوا من جذور الثورة وأسبابها، وفي الوقت نفسه هم يتشوفون لمآلات الثورة وتقاسم الكعكة من قبل النخب، إن الإصلاحات المرتعشة هنا وهناك -التي تعبر عن ذر الرماد في العيون بشكل مكشوف- لا تزيد الأمور إلا تعقيدًا، ولا تزيد الشارع إلا احتقانًا، وبالفعل عندما يتحرك الشارع يحتاج الأمر إلى تسوية مرضية لا تقبل أنصاف الحلول، وبشكل فوري وصادق.

هل نحن شعوب الفورات، الجيشانات، الأفكار، وسلالة العبقرية الفردية؟ وهل حركاتنا مؤثرة أكثر، ومتناقضة مع هدوئنا اليومي، وعظماؤنا أعظم تناقضًا بالنسبة لإنسانية رعاعنا، وقناعاتنا غريزية، ونشاطنا حدسي؟

على هذا الأساس تعامل معنا (توماس إدوارد لورنس) إبَّان الحركة العربية ضد ’’التتريك’’. ولقد تساءل وأطال التساؤل: من هم العرب؟!

وبالفعل، فحالتنا العربية تشبه الدوائر التي كلما ولَجتَ واحدة منها بزغت لك الأخرى متحدية. والسؤال المهم: هل ما زال العرب ظاهرة صوتية؟

لنسمع من الآخرين، ولنصغِ لصوتنا الداخلي، ولنحرر كل ما نسمع، ولنكرِّرْه بأنفسنا على مسامعنا؛ لكي نحسن التقدير ونقارب -ولو شيء يسير- أسئلة الثورة، ونمايز بين مستويات هذه الأسئلة:

فمِن: (أين كان العرب قبل احتراق بوعزيزي؟)

إلى: (هل ثورة العرب للعرب أم لغيرهم؟)

وبين السؤالين: شبكة عنقودية من الأسئلة والأسئلة.

الثورة قانون كوني وضرورة تاريخية، إنها دورة شاملة، كما قال الله تعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفًا وشيبةً يخلق ما يشاء وهو العليم القدير). [الروم: 54].

والشمس تنتظم مجموعتها بدوران الكواكب، وكذلك دورة الإلكترون، كما كشف ذلك (سومر فيلد)، ودورة الماء: التصاعد من البحيرات، ثم التكثف في السماء، والعودة إلى الأرض في دورة كاملة. لقد قامت الفيزياء على الدورات: من السكون للحركة، من الجمود للسيلان، من الكمون للظهور، وهكذا الدورات الاجتماعية؛ كما قال الله: {وتلك الأيام نداولها بين الناس}. [آل عمران: 140].

بالفعل لقد تغيرات أشياء كثيرة من حولنا ونحن لا نكاد نشعر. إن كثرة الإمساس تميت الإحساس، ولكن تظل هناك تغيرات كبرى عندما تصل الدورة التاريخية للذروة، وهنا ينفجر المشهد عن دهشة لا يبررها سوى أن الاحتكاك بالمتغيرات الصغيرة والمؤشرات الصغيرة جعلتنا عرضة للفجأة.

يقول ابن خلدون في (المقدمة): (وأما أعمار الدول أيضًا، وإن كانت تختلف بحسب القرانات، إلا أن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال، والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين، الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته، قال تعالى: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة}. ولهذا قلنا: إن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل، ويؤيده ما ذكرناه في حكمة ’’التيه’’ الذي وقع في بني إسرائيل، وأن المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء، ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذل ولا عرفوه، فدل على اعتبار ’’الأربعين’’ في عمر الجيل الذي هو عمر الشخص الواحد، وإنما قلنا: إن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال؛ لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم، فحدهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون. والجيل الثاني تحول حالُهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، ويؤنس منهم المهانة والخضوع، ويبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأول، وباشروا أحوالهم، وشاهدوا اعتزازهم وسعيهم إلى المجد، ومراميهم في المدافعة والحماية، فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية، وإن ذهب منه ما ذهب، ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول، أو على ظن من وجودها فيهم. وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما فنقوه من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عيالاً على الدولة، ومن جملة النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم، وتسقط العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة، ويلبسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة، يموهون بها وهم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها، فإذا جاء المطالِب لهم لم يقاوموا مدافعته، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر بالموالي، ويصطنع من يغني عن الدولة بعض الغَناء، حتى يتأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت. فهذه كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون هَرَم الدولة وتخلفها، ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع كما مر في أن المجد والحسب إنما هو أربعة آباء، وقد أتيناك فيه ببرهان طبيعي كافٍ ظاهر مبني على ما مهدناه قبل من المقدمات؛ فتأمله، فلن تعدو وجه الحق إن كنت من أهل الإنصاف. وهذه الأجيال الثلاثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما مر، ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر، بتقريب قبله أو بعده، إلا إن عَرَض لها عارض آخر من فقدان المطالِب، فيكون الهرم حاصلاً مستوليًا والطالب لم يحضرها، ولو قد جاء الطالب لما وجد مدافعًا، كما قال الله: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}.)

ما الذي نريد قوله هو أنه لا بد من التفريق بين مستويين:

الأول: رأينا في الثورة.

الثاني: التعامل مع الثورة كمنجز.

لا مناص من خط رجعة، ومن نظرة عقلانية مضبوطة بأصولنا ومنهجنا؛ {لكل جعلنا شرعةً ومنهاجًا}. لا تقل كل ما تعرف، ولكن اعرف كل ما تقول، لا تتطرف ولا تغلُ، ولكن كن صادقًا، لا تنظر للأشياء بسكونية مفرطة؛ إن الله جل وعلا لما خلق هذا الكون خلقه في أطوار، وحكمه بنواميس، وقضى على أهله بالفناء، وتفرد بالبقاء، ولكن الإصرار العجيب على المواقف، ولزوم بعض الخنادق المظلمة يجعلنا بحاجة لتوضيح الواضح، وتأكيد الأكيد، ولكي لا نغشى مجالس الوعظ السياسي، نتراجع لمربعنا الأول، وهو طرح الفرضيات، والتعامل معها بنَصَف وذهن مفتوح.

الجماهير وعاء الثورات، والبحوث التي تناولتها تباينت في الحكم عليها من النقيض لنقيضه، لدرجة أن بعض الفلاسفة وبعض المدارس الفكرية يصِم بعضُها البعض بالكلاسيكية والتقليدية والعنصرية. عندما يفتح هذا الموضوع، وعندما يشهر هذا العنوان (الجماهير) لا يهمنا هنا تعريف الجمهور بقدر أن نقول كما قال ’’لوبون’’ بتصرف: (إنه لا يعني بها ازدحام أناس أمام نافورة في ساحة عامة للفرجة، بل هم المجموعة من البشر الذين يجمعهم وحدة ذهنية وفكرة واحدة). نعم، فهناك فرق بين علم النفس الاجتماعي، وعلم النفس الجماعي، والذي جعل المتحدثين في شأن الربيع العربي لا يميلون إلى ذكر ’’لوبون’’ ولا الاستشهاد بمقولاته أنه عنصري في تناوله للجمهور، وأيضًا يرى أنهم وسيلة هدم ومصدر كل الشرور، وأن الفرد في زحام الضجيج يصبح كالمنوَّم مغناطيسيًّا، ويبدر منه أفعال مجنونة لا يمكن أن تصدر منه حال كونه فردًا، فهو يتحول إلى ذرة في رمال الجمهور، وبلا شك أن مثل هذا الطرح يؤخذ منه ويرد عند إنزاله على واقع الربيع العربي، والإشارة إلى الجمهور، ومن ثَم إلى الخلاف بين النظار في ذلك، ومن ثَم إيراد اسم ’’لوبون’’ إنما هو لمقاصد يجب الوقوف عليها وبحثها، والإشارة فيها غَناء، ولعلنا ننهي هذه الإشارة بتوصية الباحث في شأن الجماهير: أن لا يؤخذ كثيرًا بقطعيات ’’لوبون’’، فهناك من نازع ’’لوبون’’، وهو ممن يعتد بنزاعه في عصره وبعد عصره. نقول هذا لأن ’’لوبون’’ هو الشعبي، وكتبه هي التي قدر لها الانتشار لأسباب ليس هذا مجال تعدادها، مع أنه سطا على نظريات عالم النفس الإيطالي (شبيو سيجلي)، واستقى كثيرًا من آرائه في كتابه (الزمرة المجرمة)، ولا غرو فقد اتُّهم ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع بأنه سطا على إنتاج أرسطو في علوم العمران واجتماع الناس، ووصف بالكلاسيكي على سبيل التقليل من شأن مقدمته، وهذا قدر نظار علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي.

كيف يكون الحال إذا تجمهر الشباب وحاملو الشهادات العاطلين، إن التنمية المزيفة في طول بلاد العرب وعرضها -التي يظهر فيها المسئول يقص الشريط الأحمر، وتعزف على رأسه الزغاريد، وبعد ذلك ينتهي كل شيء بعدما تم التوثيق الإعلامي والبث من محطات التلفزة الحكومية- جديرة بأن تُخرج الألوف من أنصاف المتعلمين بشهادات بائسة، وتلقي في رُوعهم أنهم متخصصون ومؤهلون، فيعانون نوع احتقان، فلهم حق سليب، كيف لا؟ وقد درسوا وبذلوا ونالوا الشهادة، ومع ذلك لم تستقبلهم الدولة بالوظائف، فيعيشون نفسية واحدة، هي نفسية المطالب والإحباط والمظلومية والاستعداد لاتباع أي صرخة هنا أو دعوة هناك للتحرك والاصطفاف، وفي التجمهر قوة، وله حوافز بعضها ظاهر وبعضها باطن، ويبدو المصدر الرئيس للالتفاف بالكشف عن نفسه عندما تتقدم الخطوات وترتفع الرايات ويصدع بالشعارات، وهنا يأتي دور الخطب واللغويات والعواطف، ويتسيد الإيحاء، وتستنطق الضمائر، ويولد العقل الجمعي الذي يتقبل المعجزات، ويتصور المستحيلات، ويقدم على الهول، ولا أريد أن أسمي هؤلاء قطيعًا، ولكنهم قطيع.

وهذا الذي مر من تشبع الشارع بالشعار وتحريكه بالخطب وباللامعقول، عن طريق ما يحلو لـ’’لوبون’’ وصفه بالتنويم المغناطيسي والإيحاء، كل هذا يحل محل وطأة العُرف والتقاليد الجبرية والمثاليات المقطوع بها والمصطلحات السيارة، والتي حكمت الناس في حال سكونهم؛ إذ لا بد من حلولِ ما يناقض هذه الحالَ السكونية في حال حركتهم وهيجانهم، فيبدءون بمخالفة العرف وكسر التقاليد والشك في المثاليات واستبدال المصطلحات، وهذه أدوار انتقالية خطيرة وحساسة، يتنافس المفكرون والمثقفون في توجيه دفة القيادة وقطف ثمار ما يزعمون أنه نتاج جهودهم وما تنبئوا به من قبل.

إن الأعراف الجديدة والمصطلحات الجديدة والروح الجديدة التي يستلهمها هذا الكظيظ من البشر لا تعني انتقال الواحد منهم من كونه فردًا إلى عازف ’’بيانو’’ في جوقة فينتقل من الفردية المحضة إلى الجماعة ذات الحياة الجديدة والسمات المباينة للسمات الفردية. كما يقرر ’’لوبون’’ أيضًا ويسهب في ذكر الخصائص النفسية والذهنية للجماعة لما انتقلت من الفردية، والحقيقة أن الذي تم هو انتقال الاجتماع إلى التجمع، وعلى هذا انقسم هذا العلم إلى: علم نفس الاجتماع، وعلم نفس الجماعة، وإلى: العقل الجماعي، والعقل الجمعي، وهذا لا يخفى على ’’لوبون’’، ولكن الذي غفل عنه هو وجود الاستعداد والنزوع والسمات التي تبرز لدى الفرد حال كونه منتظمًا في سلك الجماعة وهاتفًا في ميدان التحرير مثلاً أو غيره، فهي موجودة وكامنة، أو بمعنى أدق متربصة. إن ’’لوبون’’ لم يصرح بهذا أبدًا، وهذا بطبيعة الحال لا يتناقض مع فرضية وجود خلايا في دماغ الفرد لا تعمل بتفاعلها مع خلايا أخرى في دماغ الفرد ذاته، وإنما هي تتحرك وتستثار عندما تتلاقح مع خلايا المجموع، فينتج من ذلك ما ينتج من تغيرات في خصائص الفرد عندما يلتحم في المجموع هاتفًا أو رافعًا لشعار أو حتى مضحيًا بنفسه في سبيل القضية، ولا يعني هذا في المقابل أن تتوحد العقول لتصب في قالب واحد قد يسمى الضمير الجمعي أو غيره، فهذا من الإفراط في النظرة التركيبية، ومن المبالغة في وصف الكليات، فالذي يتم لا يتجاوز أن يكون التقاط إشارات بين هذه الأدمغة، وتكامل بين الخلايا بشكل جزئي، وأما المتبقي من الفراغات فيتكفل الوجدان والشعور بسدها ليخرج الناس من طبائعهم وخصائصهم النفسية إلى طبائع وخصائص جديدة، ذلك أمر جلي، سواء في العقل الجمعي أم الجماعي، ويستأنس بما نشاهده من التغير الطارئ على المثقف أو الرجل الأكاديمي عندما يتمدح في قبيلته، ويذوب في مزاين الإبل، أو في التجمع القبلي لأي شأن، فإن النظريات والفكر ينزويان لتطل العصبية برأسها بكل ما تحمله من معانِيَ مضادةٍ للثقافة والعلم، بل ونرى ذلك في أرباب المهن؛ فللجنود وللمعلمين وللمحامين وللقضاة وللأطباء، بل وداخل كل مهنة، هناك فروع يتفق أصحابها على سحنة ومزاج وأسلوب تفكير، بل وسبحان الله حتى الشكل يتواطأ بقدرة قادر على هذا المعنى؛ يقول صاحب الكشاف: (ولا يكاد يخفى على ذي الفِراسة الناظر بنور الله مخايل كل شخص بصناعة أو فن من العلم في روائه ومنطقه وشمائله، فما عمل آدمي عملاً إلا ألقى الله عليه رداء عمله).

تقول مدام (شتايل): (لو عرفت كل شيء لعذرت كل فرد).

وخير منه قول الله عز وجل: {قل لا أملِكُ لنفسي نفعًا ولا ضَرًّا إلا ما شاء الله ولو كنتُ أعلم الغيبَ لاستكثرتُ من الخيرِ وما مسنيَ السُّوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}. [الأعراف: 188].

يحق لنا أن نسأل عن المجتمع الجديد، وإلى أين نحن ذاهبون، ويحق لنا أيضًا وضع فرضيات كما يضع لنا غيرنا دائمًا.

ماذا عن المستقبل؟

ما هي الفرضيات الممكنة؟

كيف نقضي هذه المرحلة الانتقالية؟

العالم العربي اليوم يعيش فوضى وأزمة ثقة وفوبيا اختراق، بعدما نُسف كثير من الحقائق والالتزامات والتقاليد، برزت نخب وتهاوت أخرى وتعلقت الثالثة، وتحاكم بعض أهل الشارع للغرائز الأولى، وعمل في النهار ما كان مستترًا في الظلام.

وماذا بعد ذلك؟

هل تتحول البلاد العربية إلى تركيا أردوغان العلمانية ببصمة عربية؟

أم يطول ليل عبث الفلول فيستيقظ العرب على مذبحة ومواجهة مؤجلة تتدخل معها بعض القوى الغربية؟

هل تبرز في خلال السنوات العجاف -إذا ولى الربيع وجاء الخريف ويئس الناس- شخصية فذة (بطل) فيتوافق ذلك مع (الظرف) وتكون النتيجة الوَحدة المنشودة لقذف إسرائيل في البحر؟

وهكذا فوضع الفرضيات ’’ببلاش’’.

ألم تسنح الفرصة بعد لإقامة مراكز إستراتيجية لوضع الفرضيات وتفعيل علم المستقبلات؛ لنتفرغ لتحليل ما تواضعوا عليه، ونعفى -كمجتهدين- من المحاولات المرتجفة؟

(مجتمع الخوف) (مجتمع المخاطر) (إعلام الأزمات)

إن هناك حربًا ضروسًا بين جماعات الضغط والمصالح والنظم القائمة، وتنافسًا شرسًا على قلب المشاهِد والمتفرج من الجمهور، فالنظم تسلط وسائل الإعلام لبث الخوف من التهديدات الخارجية في حال التنازع، ومن الشغب الداخلي من ’’الأوباش’’ في حال انفلات الأمور، وجماعات الضغط تقوم بنفس الفعل لكن بوجه مختلف، كأن تثير قضايا من مثل: الناس محتنقون وينتظرون الفرج، وفي حال عدم استجابة الأنظمة فالله وحده الذي يعلم كيف سيكون الحال. وهكذا المزيد من الرعب، والمزيد من التوتر، والمزيد من الاندفاع للهاوية، بعدما يئس الجميع من الجميع، وفقدت الثقة، وبرزت الأنياب لانتزاع ما يمكن انتزاعه من المكاسب المادية والمعنوية.

بطبيعة الحال لا يعني ذلك أنه لا توجد أزمات ومخاوف فعلية، فالمشكل الاجتماعي له وجود في اللاوعي الشعبي؛ خوف صحي، وظيفي، أمني، بيئي، سكني، وطني، ...إلخ.

فيأتي المثقفون الطيبون والإعلاميون الطيبون لينقلوه من اللاوعي للوعي، ويسلطوا عليه الضوء؛ بحثًا عن حل. وفي المرحلة الأخيرة تتلقفه المعارضة كورقة رِهان تلوح به، وتمارس أنواعًا من الإرهاب والإرجاف المفتعل، والتخويف والتضخيم والتشويه بشكل مبتذل، مما لا يحل الأزمة، ولا يقدم رؤى عقلانية، بل ولا يريد أن يحلها أصلاً، فهي غنيمة باردة!

ولا يعني كذلك أن كل نشرة أخبار حكومية تحذر عدوًّا داخليًّا أو خارجيًّا أنها تصطاد في الماء العكر، وكذلك بالنسبة للمعارضة فيوجد من بينهم الصادقون المخلصون، ولكن هل هذا كل ما في الأمر؟ إن هناك أصابع خفية من الطرفين تتربص، وتريد أن تلتهم كل شيء لخدمة أجندات لا تمت للوطن وأهله بصلة، وعليه؛ يجب التنبه واليقظة لكل مدسوس ودعي من الطرفين.

وليس معنى ذلك أيضًا إغفال سنن الله في سقوط الأمم، وعدم التبصر في أحوال المجتمعات، والمتغيرات الطارئة عليها، من مثل: دخول الحُسن النسبي للمشهد، فبعدما كانت القيم مقدسة، والمبادئ محفوظة من المساءلة، وهذا هو صمام الأمان للأمم بغض النظر عن صحة هذه المعتقدات؛ تحولت إلى قضايا الْحُسن فيها نسبي، وقابلة للمطارحة الفكرية، والتشغيب الثقافي، عند ذلك تسمع لصوت السقوط، فالعقل إذا حلت جميع قيوده بلا استثناء فقام بهدم ثوابت الأمة فهو لا يستطيع والحالة تلك أن يقدم ثوابت بديلة لاستغراقه في الهدم، ولو قدر أن بضاعته جاهزة وبدائله متوافرة فلن تعدو أن تكون مبادئ وقوانين مهربة من أمم أخرى، فيكون كمن يزرع النخل في لندن، وهيهات! إن المبادئ كي تستقر وتحل محل مبادئ راسخة تحتاج إلى آماد طويلة يتخللها دمار وفوضى عارمة، وعليه؛ فعوام الناس خير من مثقفيهم المأجورين، وكذلك إذا انتشرت الشهوات في الطبقات العليا، ورمقتهم الطبقة الوسطى بعين التشهي، ولكن أيديهم مكتوفة عن نيلها، وكذلك إذا اتُّخذت المرأة مطية لأهل الأغراض الخسيسة، وأُسكت صوت العقل، وهذا هو سبب سقوط الإغريق والرومان والفرس، عندما تخلعت المرأة وتبذلت للرجال، وكذلك إذا تهاوت الطبقة الوسطى لتلحق بالكادحة، فتلك نذر الخطر وأذان الأفول.

ورد في كتاب (هانوتو): (متى تزول سلسلة المراتب في الأمة، ومتى تخسر القيادة نفوذها، ومتى يتداعى حصن الحرمة، ومتى ينقض البناء الاجتماعي؛ ينفسح المجال لأعمال الفرد، فكل يسعى وقتئذ في إنماء عمله حسب نواميس الطبيعة على أنقاض الأنظمة المنهدمة ذات الرطوبة).

وأخيرًا، هل نحن في استقبال الاستعمال، أم على مشارف الاستبدال؟

(اللهم استعملنا ولا تستبدل بنا غيرنا).
*الإسلام اليوم
أضافة تعليق