عبدالعزيز كحيل
هذا الرجل نسيج وحده ، فهو من أكبر قادة العمل الاسلامي في الهند، ورموز الإحياء والتجديد في العالم الاسلامي، وهو صاحب تكوين علمي مدني لكنّ قارئ كتبه يحسبه متخصّصا في القرآن والسنة لرسوخه في علومهما، وهو بعيد في مؤلّفاته عن الاجترار كلّ البعد ، لا يكاد يخلو فصل من كتبه من فهم جديد أو لفتة بديعة أو قراءة غير مسبوقة، حتى ان كتبه شكّلت منعرجا حقيقيا في مساري الفكري منذ ثلاثين سنة، ذلك أنّ لديه اطلاعا واسعًا على شؤون الدعوة والحياة والنفوس والسنن الاجتماعية مع قدرة فائقة على فهم نصوص الوحي وتنزيلها على الأحداث والوقائع، ومن فضل الله على الدعوة أنّه بلغ 97 سنة من عمره وما زال له نشاط دعوي لا ينقطع، ويمكن إجمال إبداعه في ثلاثة محاور كبرى:
1-علم الكلام القرآني: يقترح استبدال علم جديد مبنيّ على الحقائق القرآنية الكونية والنفسية بعلم الكلام النظري القديم الذي أصبح عديم الفائدة في العصر الحالي، والذي كان محاكاة للفلسفة الاغريقية، فهذا من شأنه مبارزة الإلحاد ومخاطبة العقل المعاصر المتحيّز إلى التجربة المخبرية والميدانية بأدواته وذلك بلفت النظر إلى عناصر الكون وحقائق النفس، وهذا المحور موجود في كثير من كتبه وخصّص له كتابه الفذّ ’’الإسلام يتحدى’’.
يقول الأستاذ: ’’تتلخّص حقيقة علم الكلام الجديد في أنه استجلاء حقائق الدين بالأدلّة التي تُطمئن الذهن الجديد والعقلية الجديدة وتوصل التعاليم الاسلامية بأحدث أساليب الاستدلال الملائمة للعقل الجديد’’، ويقول ’’ فقد كان علم الكلام القديم يبنى على نمط الاستدلال الفلسفي بينما يبنى علم الكلام الجديد على نمط الاستدلال الطبيعي، وكانت الحقيقة تبرهن سابقا لمنطق القياس ولكنّها تبرهن في عصرنا هذا بالشهادات الواقعية’’ .
2- المنهج الدعوي: يقترح اعتماد المنهج الطبيعي في التغيير، المستند إلى العمل الهادئ الموجّه للقلوب والعقول بالدرجة الأولى بعيدا عن المواجهة مهما كان نوعها ، وذلك حفاظا على نصاعة الرسالة وقدسية الدعوة ، فهو يحذّر من اعتماد العمليات القيصرية في التغيير وينصح بالخطط المرحلية الهادئة التي تجعل القلوب تهوي إلى الاسلام، وهذا يقتضي التسلّح بالبصيرة والصبر وقوّة التحمّل لهداية الناس وتحويل الأعداء والخصوم إلى مؤيّدين وأنصار، وله بالتالي تركيز كبير على الدعوة الفردية والتربية الروحية كما هو شأن جماعة الدعوة والتبليغ والنزعة الصوفية السنية، ويجنح بالتالي إلى تهميش العمل السياسي بل والنشاط الدعوي التنظيمي فضلا عن حمل السلاح حتى في وجه الكافر المعتدي والمحتلّ الأجنبي، لأنّ الدعوة المسالمة كفيلة – في نظره – بحلّ كلّ المشكلات التي تواجه المسلمين.
3- نقد الحركات الإسلامية المعاصرة: وهو نقد لاذع مرير يحيط بكل جوانب عملها ، ورغم ما فيه من مبالغة وتهويل غير مبرّر في بعض الأحيان إلا أنّ 80بالمائة منه في حاجة إلى التفات ونظر عميق - كما قال د.عبد الحليم عويس رحمه الله - وقد جاء موقفه هذا كردّ فعل على الغلوّ في تسييس الدعوة الإسلامية على يد بعض مدارسها ورموزها في أكثر من بلد،
يقول الأستاذ وحيد الدين: ’’ونحن نرى أن الحركات الإسلاميّة القويّة في هذا العصر تخلد إلى أرض هذا الإسلام المنظور الملموس، و أنّها تتباين وتختلف في شعاراتها وهتافاتها بين المطالبة بإسلام جزئيّ أو إسلام كليّ.. ورغم هذا الاختلاف في المطالب فإن جميع هذه الحركات نشأت ونمت على سطح الدين الاجتماعيّ الموجود وليس على سطح الدين الكتابيّ الحقيقيّ، فأصبح إسلام اليوم مطيّةً وسنداً للوصول إلى القيادة والسيادة، أصبح محلاًّ تجاريّاً لجلب المنافع، وسوقاً من الأسواق يمكن بها استدرار الأموال والحصول على ما لا يمكن إحرازه من الأسواق الدنيويّة العامّة.
إنّه يمكن بالإسلام استجاشة العواطف والحصول على التبرّعات وملء صناديق النذور، كما يمكن بالإسلام حشد جمع غفير من الناس والإداء بالكلمات الرنانة بين أيديهم.. والغريب أنّ اليهود كانوا على نفس المنهج الّذي نرى المسلمين الآن سائرين عليه في كلّ مكان، ومن جانب آخر نشاهد الدين الحقيقيّ قد أصبح مغلفاً بين دفتي الكتاب ولا وجود له باعتباره صورةً فكريّةً ومجرّدَ خيال.. لقد أصبح الدين غريباً بين أتباعه والمتحمّسين له.’’
ويقول: ’’ والحق أن كثيرا من هذه الحركات مجرّد قلاقل واضطرابات وطنية لا علاقة لها بالإسلام الحقيقي، إن حركة الدعوة الاسلامية هي حركة الدعوة إلى الجنة، والجنة مكان لطيف ونفيس سيعمره أشخاص تخلّقوا بأخلاق الله وقاموا بشهادة الحق في علاقاتهم اليومية وتحرّكوا بدافع من الآخرة لا من أجل هدف سياسي أو اقتصادي ’’.
قد أبان الاستاذ هنا عن نزعته الصوفية أو التبليغية التي تحصر العمل الاسلامي في الدعوة الفردية وتنأى به عن النشاط العامّ رغم شمول الاسلام وشهادة السيرة النبوية وضرورة ذلك وحتميته في دنيا الناس.
ويقول: ’’ إن الذين أحدثوا الثورة الفرنسية أو الثورة الروسية قد غيّروا – على الأقلّ - طريقة الفكر في العالم، فحلّت فكرة الجمهورية محل فكرة الاستبداد، وحلّت فكرة الاشتراكية محلّ فكرة الرأسمالية، أمّا الذين ماتوا باسم الاسلام – حتى وإن كانوا أكثر عددا – فإنهم لم يستطيعوا ان يؤثّروا أيّما تأثير على مجرى الفكر العالمي ’’ .
وتجنّيه هذا على إسهام المسلمين في الفكر العالمي لا يُخطئه عاقل، ويكفي التنبيه إلى انّ الأستاذ نفسه أشار إلى أنّ الاسلام قد غيّر مجرى التاريخ البشري من خلال محورين أساسيّين هما إنهاء الحكم الإلهي أي اعتلاء الملوك سدّة الحكم وبقاؤهم فيها استنادا إلى التكليف الإلهي، وهذا التحوّل هو الذي ساق الديمقراطية إلى أروبا، اما المحور الثاني فهو تسخير الطبيعة للإنسان بدل تقديسه لها كما كان الحال في السابق، ومعلوم أنّ الغرب قد انتبه إلى هاتين الحقيقتين من خلال الاحتكاك بالمسلمين ، أي أنذ أهله تأثروا بالتطبيق لا بالتجريد، فيكفي الفكرَ الاسلاميَّ فخرا أنه مهّد الطريق للديمقراطية التي حرّرت البشر بعد أن كانوا عبيدا للملوك، وللعلوم التجريبية التي جعلتهم يُسخّرون الكون لأغراضهم الحياتية بعد ان كانوا يعبدونه ويقدّسونه باسم الدين.
وقد دفعت غلبة النزعة النقدية الحدّيّة للحركة الاسلامية الأستاذ إلى أن لمز الفتوحات الكبرى التي غيّرت مجرى التاريخ دينيا وجيوسياسيا والافتئات عليها بغير دليل، يقول ’’ يمكن القول بأنّ مردّ الفتوح الاسلامية السريعة في القرن الأول الاسلامي يرجع إلى إلى سريان الضعف والوهن في السلطتين الايرانية والرومية بسبب حروب طويلة ناشئة بينهما ، والمعلوم ان نشوب الحروب التي دكّت القوميّتين العظيمتين كان في يد الله وليس في قدرة الانسان’’
لا شكّ أن في الكلام غمطا واضحا للجهد البشري لدى الفاتحين ، إذ مفاده أن سقوط الدولتين العظميين كان بسبب ضعفهما لا بسبب قوّة المسلمين، والضعف قذفه الله تعالى ولا دخل للأحد فيه، فليس للفاتحين – إذن – فضل ولا دور فاعل، والحقيقة ان هذا الرأي ليس طفرة عند الاستاذ وحيد الدين بل هو تعبير عن موقف ثابت من المواجهة والصراع، فهو يرفضهما بقوّة ويدعو إلى السلام التامّ بين البشر و انسحاب المسلمين من ميادين المواجهة لأنّ منطق الدعوة يقتضي ذلك ، أمّا منطق المواجهة فينمّ عن أمراض نفسية ورغبات ذاتية لا علاقة لها بالدين !!!يقول بعد تحليله لمواجهة الجيوش الاسلامية للتتار واعتباره تلك المواجهة خطأ من الجانب الاسلامي كان ينبغي تفاديه والتعويض عنه بدعوة التتار:’’ وفي أيامنا هذه يواجه ُالاسلام من قبَل أعدائه الجدد مشكلات وصعوبات فنهض زعماء المسلمين بأجمعهم ضدّ المهاجمين الأعداء، لكن لم يظهر في هذه الفترة الطويلة زعيم واحد منهم يحسب الدعوة إلى الاسلام جهادا حقيقيا ويكرّس حياته لها.’’
وهذا كلام يكفي إيراده لبيان فساده، فماذا فعل إذن حسن البنا والمودودي وأبو الحسن الندوي وابن باديس وسعيد النورسي وغيرهم؟ وجنوح الرجل إلى ’’ اللاعنف’’ – كما هو شأن الاستاذ جودت سعيد والدكتور خالص جلبي – اختيار شخصي كان يمكن قبوله لولا قفز أصحابه على حقائق الاسلام ونصوصه وسنن الاجتماع وجنوحهم إلى نظرية مثالية يردّون بها محكمات الدين وقوانين الحياة البشرية، لذلك نجد هؤلاء يتبرّمون من الجهاد ويخلطون بينه وبين العدوان والإرهاب ويُلقون باللائمة على أيّ مسلم – فردا أو فصيلا – يرفع السلاح للدفاع عن نفسه أو بلده أمام العدوّ الخارجي .
وقد عيب على الأستاذ وحيد الدين قلّة اهتمامه بأمر الجهاد بل وتهوينه من شأنه ، وفي ذلك شيء من الصواب لكن الملمّ بفكر الرجل يدرك أنه يقصد مواجهة العقلية القتالية التي استولت على الشباب الإسلامي، وتصحيح مسار الذهن المسلم الذي أصبح صانعا للموت بدل الحياة باسم الجهاد .
ومهما يكن فيجب ألا يستغني أبناء الحركة عن مؤلفاته البديعة ومنها : ’’حاضرنا ومستقبلنا في ضوء الإسلام’’ - ’’قضية البعث الإسلامي’’ - ’’حكمة الدين’’ - ’’الإنسان القرآني’’ ، ولا يجوز الانتقاص من قيمة الرجل لمجرّد جرأته وحريّته الفكرية كما فعل بعض الأفاضل - عفا الله عنهم - الذين تسرّعوا واتّهموه بالماسونية ، مع أنّه عالم نحرير وداعية قدير ، وكل يؤخذ من كلامه ويترك إلا الرسول -صلى الله عليه وسلم -.
هذا الرجل نسيج وحده ، فهو من أكبر قادة العمل الاسلامي في الهند، ورموز الإحياء والتجديد في العالم الاسلامي، وهو صاحب تكوين علمي مدني لكنّ قارئ كتبه يحسبه متخصّصا في القرآن والسنة لرسوخه في علومهما، وهو بعيد في مؤلّفاته عن الاجترار كلّ البعد ، لا يكاد يخلو فصل من كتبه من فهم جديد أو لفتة بديعة أو قراءة غير مسبوقة، حتى ان كتبه شكّلت منعرجا حقيقيا في مساري الفكري منذ ثلاثين سنة، ذلك أنّ لديه اطلاعا واسعًا على شؤون الدعوة والحياة والنفوس والسنن الاجتماعية مع قدرة فائقة على فهم نصوص الوحي وتنزيلها على الأحداث والوقائع، ومن فضل الله على الدعوة أنّه بلغ 97 سنة من عمره وما زال له نشاط دعوي لا ينقطع، ويمكن إجمال إبداعه في ثلاثة محاور كبرى:
1-علم الكلام القرآني: يقترح استبدال علم جديد مبنيّ على الحقائق القرآنية الكونية والنفسية بعلم الكلام النظري القديم الذي أصبح عديم الفائدة في العصر الحالي، والذي كان محاكاة للفلسفة الاغريقية، فهذا من شأنه مبارزة الإلحاد ومخاطبة العقل المعاصر المتحيّز إلى التجربة المخبرية والميدانية بأدواته وذلك بلفت النظر إلى عناصر الكون وحقائق النفس، وهذا المحور موجود في كثير من كتبه وخصّص له كتابه الفذّ ’’الإسلام يتحدى’’.
يقول الأستاذ: ’’تتلخّص حقيقة علم الكلام الجديد في أنه استجلاء حقائق الدين بالأدلّة التي تُطمئن الذهن الجديد والعقلية الجديدة وتوصل التعاليم الاسلامية بأحدث أساليب الاستدلال الملائمة للعقل الجديد’’، ويقول ’’ فقد كان علم الكلام القديم يبنى على نمط الاستدلال الفلسفي بينما يبنى علم الكلام الجديد على نمط الاستدلال الطبيعي، وكانت الحقيقة تبرهن سابقا لمنطق القياس ولكنّها تبرهن في عصرنا هذا بالشهادات الواقعية’’ .
2- المنهج الدعوي: يقترح اعتماد المنهج الطبيعي في التغيير، المستند إلى العمل الهادئ الموجّه للقلوب والعقول بالدرجة الأولى بعيدا عن المواجهة مهما كان نوعها ، وذلك حفاظا على نصاعة الرسالة وقدسية الدعوة ، فهو يحذّر من اعتماد العمليات القيصرية في التغيير وينصح بالخطط المرحلية الهادئة التي تجعل القلوب تهوي إلى الاسلام، وهذا يقتضي التسلّح بالبصيرة والصبر وقوّة التحمّل لهداية الناس وتحويل الأعداء والخصوم إلى مؤيّدين وأنصار، وله بالتالي تركيز كبير على الدعوة الفردية والتربية الروحية كما هو شأن جماعة الدعوة والتبليغ والنزعة الصوفية السنية، ويجنح بالتالي إلى تهميش العمل السياسي بل والنشاط الدعوي التنظيمي فضلا عن حمل السلاح حتى في وجه الكافر المعتدي والمحتلّ الأجنبي، لأنّ الدعوة المسالمة كفيلة – في نظره – بحلّ كلّ المشكلات التي تواجه المسلمين.
3- نقد الحركات الإسلامية المعاصرة: وهو نقد لاذع مرير يحيط بكل جوانب عملها ، ورغم ما فيه من مبالغة وتهويل غير مبرّر في بعض الأحيان إلا أنّ 80بالمائة منه في حاجة إلى التفات ونظر عميق - كما قال د.عبد الحليم عويس رحمه الله - وقد جاء موقفه هذا كردّ فعل على الغلوّ في تسييس الدعوة الإسلامية على يد بعض مدارسها ورموزها في أكثر من بلد،
يقول الأستاذ وحيد الدين: ’’ونحن نرى أن الحركات الإسلاميّة القويّة في هذا العصر تخلد إلى أرض هذا الإسلام المنظور الملموس، و أنّها تتباين وتختلف في شعاراتها وهتافاتها بين المطالبة بإسلام جزئيّ أو إسلام كليّ.. ورغم هذا الاختلاف في المطالب فإن جميع هذه الحركات نشأت ونمت على سطح الدين الاجتماعيّ الموجود وليس على سطح الدين الكتابيّ الحقيقيّ، فأصبح إسلام اليوم مطيّةً وسنداً للوصول إلى القيادة والسيادة، أصبح محلاًّ تجاريّاً لجلب المنافع، وسوقاً من الأسواق يمكن بها استدرار الأموال والحصول على ما لا يمكن إحرازه من الأسواق الدنيويّة العامّة.
إنّه يمكن بالإسلام استجاشة العواطف والحصول على التبرّعات وملء صناديق النذور، كما يمكن بالإسلام حشد جمع غفير من الناس والإداء بالكلمات الرنانة بين أيديهم.. والغريب أنّ اليهود كانوا على نفس المنهج الّذي نرى المسلمين الآن سائرين عليه في كلّ مكان، ومن جانب آخر نشاهد الدين الحقيقيّ قد أصبح مغلفاً بين دفتي الكتاب ولا وجود له باعتباره صورةً فكريّةً ومجرّدَ خيال.. لقد أصبح الدين غريباً بين أتباعه والمتحمّسين له.’’
ويقول: ’’ والحق أن كثيرا من هذه الحركات مجرّد قلاقل واضطرابات وطنية لا علاقة لها بالإسلام الحقيقي، إن حركة الدعوة الاسلامية هي حركة الدعوة إلى الجنة، والجنة مكان لطيف ونفيس سيعمره أشخاص تخلّقوا بأخلاق الله وقاموا بشهادة الحق في علاقاتهم اليومية وتحرّكوا بدافع من الآخرة لا من أجل هدف سياسي أو اقتصادي ’’.
قد أبان الاستاذ هنا عن نزعته الصوفية أو التبليغية التي تحصر العمل الاسلامي في الدعوة الفردية وتنأى به عن النشاط العامّ رغم شمول الاسلام وشهادة السيرة النبوية وضرورة ذلك وحتميته في دنيا الناس.
ويقول: ’’ إن الذين أحدثوا الثورة الفرنسية أو الثورة الروسية قد غيّروا – على الأقلّ - طريقة الفكر في العالم، فحلّت فكرة الجمهورية محل فكرة الاستبداد، وحلّت فكرة الاشتراكية محلّ فكرة الرأسمالية، أمّا الذين ماتوا باسم الاسلام – حتى وإن كانوا أكثر عددا – فإنهم لم يستطيعوا ان يؤثّروا أيّما تأثير على مجرى الفكر العالمي ’’ .
وتجنّيه هذا على إسهام المسلمين في الفكر العالمي لا يُخطئه عاقل، ويكفي التنبيه إلى انّ الأستاذ نفسه أشار إلى أنّ الاسلام قد غيّر مجرى التاريخ البشري من خلال محورين أساسيّين هما إنهاء الحكم الإلهي أي اعتلاء الملوك سدّة الحكم وبقاؤهم فيها استنادا إلى التكليف الإلهي، وهذا التحوّل هو الذي ساق الديمقراطية إلى أروبا، اما المحور الثاني فهو تسخير الطبيعة للإنسان بدل تقديسه لها كما كان الحال في السابق، ومعلوم أنّ الغرب قد انتبه إلى هاتين الحقيقتين من خلال الاحتكاك بالمسلمين ، أي أنذ أهله تأثروا بالتطبيق لا بالتجريد، فيكفي الفكرَ الاسلاميَّ فخرا أنه مهّد الطريق للديمقراطية التي حرّرت البشر بعد أن كانوا عبيدا للملوك، وللعلوم التجريبية التي جعلتهم يُسخّرون الكون لأغراضهم الحياتية بعد ان كانوا يعبدونه ويقدّسونه باسم الدين.
وقد دفعت غلبة النزعة النقدية الحدّيّة للحركة الاسلامية الأستاذ إلى أن لمز الفتوحات الكبرى التي غيّرت مجرى التاريخ دينيا وجيوسياسيا والافتئات عليها بغير دليل، يقول ’’ يمكن القول بأنّ مردّ الفتوح الاسلامية السريعة في القرن الأول الاسلامي يرجع إلى إلى سريان الضعف والوهن في السلطتين الايرانية والرومية بسبب حروب طويلة ناشئة بينهما ، والمعلوم ان نشوب الحروب التي دكّت القوميّتين العظيمتين كان في يد الله وليس في قدرة الانسان’’
لا شكّ أن في الكلام غمطا واضحا للجهد البشري لدى الفاتحين ، إذ مفاده أن سقوط الدولتين العظميين كان بسبب ضعفهما لا بسبب قوّة المسلمين، والضعف قذفه الله تعالى ولا دخل للأحد فيه، فليس للفاتحين – إذن – فضل ولا دور فاعل، والحقيقة ان هذا الرأي ليس طفرة عند الاستاذ وحيد الدين بل هو تعبير عن موقف ثابت من المواجهة والصراع، فهو يرفضهما بقوّة ويدعو إلى السلام التامّ بين البشر و انسحاب المسلمين من ميادين المواجهة لأنّ منطق الدعوة يقتضي ذلك ، أمّا منطق المواجهة فينمّ عن أمراض نفسية ورغبات ذاتية لا علاقة لها بالدين !!!يقول بعد تحليله لمواجهة الجيوش الاسلامية للتتار واعتباره تلك المواجهة خطأ من الجانب الاسلامي كان ينبغي تفاديه والتعويض عنه بدعوة التتار:’’ وفي أيامنا هذه يواجه ُالاسلام من قبَل أعدائه الجدد مشكلات وصعوبات فنهض زعماء المسلمين بأجمعهم ضدّ المهاجمين الأعداء، لكن لم يظهر في هذه الفترة الطويلة زعيم واحد منهم يحسب الدعوة إلى الاسلام جهادا حقيقيا ويكرّس حياته لها.’’
وهذا كلام يكفي إيراده لبيان فساده، فماذا فعل إذن حسن البنا والمودودي وأبو الحسن الندوي وابن باديس وسعيد النورسي وغيرهم؟ وجنوح الرجل إلى ’’ اللاعنف’’ – كما هو شأن الاستاذ جودت سعيد والدكتور خالص جلبي – اختيار شخصي كان يمكن قبوله لولا قفز أصحابه على حقائق الاسلام ونصوصه وسنن الاجتماع وجنوحهم إلى نظرية مثالية يردّون بها محكمات الدين وقوانين الحياة البشرية، لذلك نجد هؤلاء يتبرّمون من الجهاد ويخلطون بينه وبين العدوان والإرهاب ويُلقون باللائمة على أيّ مسلم – فردا أو فصيلا – يرفع السلاح للدفاع عن نفسه أو بلده أمام العدوّ الخارجي .
وقد عيب على الأستاذ وحيد الدين قلّة اهتمامه بأمر الجهاد بل وتهوينه من شأنه ، وفي ذلك شيء من الصواب لكن الملمّ بفكر الرجل يدرك أنه يقصد مواجهة العقلية القتالية التي استولت على الشباب الإسلامي، وتصحيح مسار الذهن المسلم الذي أصبح صانعا للموت بدل الحياة باسم الجهاد .
ومهما يكن فيجب ألا يستغني أبناء الحركة عن مؤلفاته البديعة ومنها : ’’حاضرنا ومستقبلنا في ضوء الإسلام’’ - ’’قضية البعث الإسلامي’’ - ’’حكمة الدين’’ - ’’الإنسان القرآني’’ ، ولا يجوز الانتقاص من قيمة الرجل لمجرّد جرأته وحريّته الفكرية كما فعل بعض الأفاضل - عفا الله عنهم - الذين تسرّعوا واتّهموه بالماسونية ، مع أنّه عالم نحرير وداعية قدير ، وكل يؤخذ من كلامه ويترك إلا الرسول -صلى الله عليه وسلم -.