عبد العزيز كحيل
لم يلتحق الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – بربّه حتّى أرسى قواعد متينة واضحة المعالم لأمّته تستطيع أن تبنيّ عليها بناءات توحيديّة وتعبّديّة وعمرانيّة وحضاريّة تجمع بين الربانيّة والإنسانيّة وتكون نموذجاً للحياة الطاهرة الرفيعة المزدهرة الّتي تفضي بأصحابها إلى الجنّة بعد قيام الساعة، واستمرّ الوضع على ذلك حتّى فعلت العوامل الذاتيّة والموضوعيّة فعلها فبدأ الانحراف في الحياة الإسلاميّة يتحرّك رويداً رويدا بدءًا بسياسة الحكم والمال وانتهاءً بالالتزام الفرديّ، فانتقلت السياسة من الخلافة الراشدة إلى الملك الوراثيّ، وتحوّلت سياسة المال في الدولة من تأليف القلوب للإسلام إلى تأليفها للأسرة الحاكمة، وظهر الظلم الاجتماعيّ في ثنائيّة الترف والبذخ من جهة والفقر المدقع من جهة أخرى، وتحوّلت الأمّة من صانعة للحياة إلى مجموعة ساكنة ترى حقوقها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة تهضم فلا تجهر بالإنكار وإنّما تلوذ بالسكوت، بل تجنح إلى التفسيرات الغيبية المخدّرة وتنحاز إلى معاني الإرجاء ظانّةً أنّها مستمسكة بأهداب الدين، فنشأت الطرقية المنسوبة للتصوّف التي تتلخّص إجمالا في الانسحاب من معترك الحياة والتعويض عن ذلك بالتعبّد الفردي والممارسات المُحدَثة، وفي هذا الجوّ الذي غلب عليه الارتباك في الفهم والغبش في التصوّر والوهن في حياة الأمّة هجم الاستعمار الغربي على البلاد الاسلامية فابتلعها الواحدة تلو الأخرى باستثناء أجزاء من الجزيرة العربية، فبرح المسلمون سدّة الريادة والقيادة ، ونحّيت الشريعة الاسلامية، وانحسر اشعاع الاسلام في الوجدان والمساجد، ولولا أنّه دين رباني تكلؤه العناية الإلهية ويسنده كتاب خالد ويتسمك به أتباع مخلصون لاندثر من غير شكّ وأصابه ما حدث للنصرانية التي أصبحت على مرّ الأزمنة شعارا أجوف خاليا من العقيدة والعبادة والشرائع والأخلاق، ولا علاقة لها بالسيد المسيح ورسالته بأيّ وجه.
والذي ينبغي التأكيد عليه لخطورته أنّ نقطة الارتكاز بالنسبة لانحسار الاسلام تتمثّل في المجال العلمي الثقافي الذي برّزت فيه الأمة قرونا عديدة، أكثر من غيره من المجالات لأنها جميعا فرع عنه وتبَعٌ له من غير شكّ، فقد تلاشى الاشعاع العلمي الذي تفتّقت عنه العقلية المسلمة بعد أن حرّرت الرسالةُ الخاتمة الناسَ من الآصار الفكرية والتنفسية وما يختلجها من خرافات وأوهام تكبّل العقول وتشلّ العزائم، وحلّ محلّ الاشعاع والاجتهاد والابداع التقليد والتبعية والانسحاب للتترّس خلف القديم أو الوافد، وهكذا برحت العقيدة ساحة التربية الايمانية وأصبحت مادة للجدل الكلامي المتأثّر بالتراث الإغريقي ومناهج الفلاسفة، وانتقل الفقه من مواكبة الحياة الاجتماعية وحيوية الاجتهاد إلى التقليد والاكباب على المتون والحواشي والتعليقات على أساس أن ليس في الامكان أبدعُ ممّا ما كان، وما ترك الأوّل للآخر شيئا !!! فتضخّمت المباحث المجترّة حول العبادات الفردية ولم يبق التفاتٌ للفقه السياسي والدستوري والاداري والدولي إلاّ قليلا جدّا، وهذه نتيجة حتمية لانفصال السلطان عن القرآن وحدوث الطلاق بين الثقافي والسياسي، أي لم يعد هناك مجال للتأصيل الشرعي للنشاط الاجتماعي والسياسي والعالمي لأنّ العلم غدا حبيس قاعات الدرس ولم يعد موجّهاً للحياة الاسلامية كما كان وكما يُفترض أن يكون دائماً.
ومثلما تغيّر حال العقيدة والفقه تغيّر حال العبادة وتزكية النفوس بسبب المواقف الحديّة لبعض المدارس التربوية التي آثرت الخلاص الفردي فابتعدت بمُريديها عن معترك الحياة من جهة وزجّت بهم في أنواع من البدع والسلبية من جهة أخرى، وظهرت مبالغات لشيوخ الصوفية خرجت عن الاعتدال الشرعي والوسطية الاسلامية إلى أشكال من الرهبانية والتصوّف العجمي، فكادت تندرس معها معاني الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح والتجديد، وقد كان – وما زال – للسلطة الحاكمة يدٌ طُولَى في تشجيع هذه الرهبنة والطرقية المستندة نظريا إلى الزهد والتزكية حتى يبتعد الناس أكثر فأكثر عن شؤون السياسة والحكم فيخلو الجوّ للاستبداد والفساد والترف والافلات من المساءلة فضلا عن المحاسبة والجزاء، وحتى من الناحية الدينية لم يكن هذا التصوّف في نهاية مطافه سوى جملة من الرسوم والشكليات المُحدَثة التي قلّما تزكّي النفوس أو تطهّر القلوب أو تبعث على الزهد بمعناه الشرعي بل كثيرا ما انتهى إلى تعذيب الأتباع لنفوسهم في حين يرفل مشايخهم في النعيم الدنيوي يعبّون عبًّا ويكرعون كرعًا...ولا يزال الأمر كذلك إلى اليوم .
ما حال أمّة دبّ الانحراف إلى مفاصل حياتها الروحية والسياسية والعلمية والاجتماعية؟ هو التخلف والانحطاط والتراجع عن غايات الإستخلاف في الأرض وعمارتها وحسن عبادة الله، غير أنّ المشهد الذي امتدّ قرونا لم تغب عنه حيويّة هذا الدين نهائيا بل شاء الله أن تتخلّله ومضات ومحطّات تحمل الخير وتؤكّد على تفرّد الاسلام وبقاء الرسالة، فوسط ركام الاستبداد ظهرت – على سبيل المثال - نماذج عمر بن عبد العزيز ومحمود زنكي ونور الدين الشهيد الذين ساروا في الأمّة سيرة الخلفاء الراشدين، وبرز في الميدان العلمي أئمّة مجتهدون أفذاذ شذّوا عن عصرهم فجدّدوا واجتهدوا ونفضوا الغبار عن العلوم الدينية كابن تيمية وتلامذته وصولا إلى الشوكاني، بل إنّ رجالا عاشوا في فترة الانحطاط أسّسوا بقدراتهم الضخمة علوما جديدة كالشاطبي مع المقاصد وابن خلدون مع علم الاجتماع، أمّا القادة العسكريّون وأرباب الجهاد فحسبّنا صلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز ومحمد الفاتح، فقد كان زمانّهم لا يُنبئ بظهورهم إطلاقًا، لاستفحال الوهن في الأمّة تحت ضربات جحافل الصليبيّين والمغول والبيزنطيّين .
أما الميدان الذي غاب عنه العطاء الاسلامي كلّيًا فهو علوم المادة والتقنية والصناعة، فرغم ما كان للمسلمين من سبق يعترف به مؤرّخو العلم الغربيون في ميادين الطب والصيدلة والرياضيات والكيميا والفلك ونحوها فقد برحوا هذه المجالات – مع الأسف – منذ زمن بعيد حتى لم يعُد لهم فيها ذكر، وذلك ما أغرى بعض علماء الغرب بإنكار أيّ إسهام لنا في الحضارة الانسانية لأنّ الذي بلغ الحضيض اليوم لا يمكن – في نظرهم – أن يكون صاحب علم ولا ابتكار ولا اكتشاف في الماضي مهام زعم وادّعى، والحقيقة أن مشكلتنا هنا مزدوجة إذ تتمثّل – من جهة – في الانسحاب المبكّر من معترك العلوم التجريبية بعد عصر الازدهار والعطاء، ومن جهة أخرى في ميل الذهنية الاسلامية منذ أحقاب إلى حصر العلم النافع في الحيّز الديني وحده باعتباره مجال المفاخرة والتبريز، كأنما علوم الحياة الدنيا شيء ثانوي لا يستحق العناء الكبير، ولنا ان نفتح المكتبة الاسلامية لنقارن بين عدد المؤلّفات الشرعية والكتب العلمية، وسنجد أن لا مجال للمقارنة إطلاقا، وهذا واحد من أسباب تخلّفنا كما لا يخفى على احد، فالله تعالى أراد من تكرار آيات التسخير في القرآن الكريم أن نسخّر الكون – أي نبدع ونبتكر ونستكشف ونخترع – لا أن نقتصر على تلاوتها من غير تفاعل، وقد كان أسلافنا ينقلون معانيها من بين دفات المصحف إلى مخابر البحث وساحات الانجاز العلمي، بعد أن فهموا أنّ هذا هو المطلوب منهم دينيا ، وما يجلب لهم مرضاة الله لأنّه شرط أساسي في عمارة الأرض.
وبعد أمد طويل شاء الله أن تنطلق بوادر النهضة وسط ركام هائل من العوائق الذاتية – فكرية ونفسية ومادية – والخارجية – الغزو الثقافي وتبعية المسلمين للغرب – وتواصل العمل الاحيائي حتى أذن الله تعالى بالصحوة المباركة التي واجهت نفس التحديات وما زالت إلى اليوم، وأشدّها على الاطلاق العلمانية العدوانية لدى الحكّام والمثقّفين المتنفّذين في مراكز القرار والتوجيه، والتي ترفض أيّ توجّه اسلامي للمجتمع وتعمل بكلّ قوة على حصر الدين في العبادات الفردية والمظاهر الفلكلورية، وتّعلي من شأن التصوّر الغربي للدين والانسان والكون والحياة، باعتباره وحده التصوّر الصحيح والرؤية الصائبة، هذا بالإضافة إلى التآمر الغربي على الاسلام وشعوبه بسبب الأحقاد من جهة والأطماع من جهة ثانية، ووسط هذه التحديات يجب أن تعمل حركة البعث الاسلامي على إصلاح كل ما فسد عبر الأحقاب الماضية فتعمل على إشاعة معاني الحرية والعدل والشورى بعد تأصيلها تأصيلاً شرعيًا إنسانيًا وافيًا يُزيح الغبش وتفضح الاستبداد وتحاصره ألاعيبه وتكشف أدواته وممارساته، وتعيد للعقيدة صفاءها وبساطتها وتربطها مباشرة بالتربية الايمانية، وتستأنف ربط العلم الشرعي بقضايا الحياة الاجتماعية لتسديد خطاها وتحريرها من الانحراف الملازم لها منذ زمن التراجع، كما تُشيع التزكية الصحيحة على أسس قرآنية أصيلة تدفع إلى الاخلاص والورع والايجابية، ومن أوجب واجباتنا اليوم إعادة صياغة العقلية المسلمة لتتّجه إلى الاعتناء بالحياة الدنيا ليس على مستوى تزكيتها فحسب ولكن لاقتحام ميادين العمارة وامتلاك وسائل التطويع والتطوير ليعيش الناس في سبيل الله حياة طيبة ، وهذا يحتاج إلى الاقبال على العلوم الانسانية – بعد إعادة تأصيلها – والعلوم الكونية لأنّ كلّ ذلك عبادة لله.
ولعلّ المنعطف الحالي في الدول العربية يوفّر المناخ الملائم للعمل المطلوب ويتيح لأصحاب المشروع الاسلامي أن يجمعوا له طاقات بشرية ضخمة لها فهم وعزيمة لتصحيح مسار الأمة .
لم يلتحق الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – بربّه حتّى أرسى قواعد متينة واضحة المعالم لأمّته تستطيع أن تبنيّ عليها بناءات توحيديّة وتعبّديّة وعمرانيّة وحضاريّة تجمع بين الربانيّة والإنسانيّة وتكون نموذجاً للحياة الطاهرة الرفيعة المزدهرة الّتي تفضي بأصحابها إلى الجنّة بعد قيام الساعة، واستمرّ الوضع على ذلك حتّى فعلت العوامل الذاتيّة والموضوعيّة فعلها فبدأ الانحراف في الحياة الإسلاميّة يتحرّك رويداً رويدا بدءًا بسياسة الحكم والمال وانتهاءً بالالتزام الفرديّ، فانتقلت السياسة من الخلافة الراشدة إلى الملك الوراثيّ، وتحوّلت سياسة المال في الدولة من تأليف القلوب للإسلام إلى تأليفها للأسرة الحاكمة، وظهر الظلم الاجتماعيّ في ثنائيّة الترف والبذخ من جهة والفقر المدقع من جهة أخرى، وتحوّلت الأمّة من صانعة للحياة إلى مجموعة ساكنة ترى حقوقها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة تهضم فلا تجهر بالإنكار وإنّما تلوذ بالسكوت، بل تجنح إلى التفسيرات الغيبية المخدّرة وتنحاز إلى معاني الإرجاء ظانّةً أنّها مستمسكة بأهداب الدين، فنشأت الطرقية المنسوبة للتصوّف التي تتلخّص إجمالا في الانسحاب من معترك الحياة والتعويض عن ذلك بالتعبّد الفردي والممارسات المُحدَثة، وفي هذا الجوّ الذي غلب عليه الارتباك في الفهم والغبش في التصوّر والوهن في حياة الأمّة هجم الاستعمار الغربي على البلاد الاسلامية فابتلعها الواحدة تلو الأخرى باستثناء أجزاء من الجزيرة العربية، فبرح المسلمون سدّة الريادة والقيادة ، ونحّيت الشريعة الاسلامية، وانحسر اشعاع الاسلام في الوجدان والمساجد، ولولا أنّه دين رباني تكلؤه العناية الإلهية ويسنده كتاب خالد ويتسمك به أتباع مخلصون لاندثر من غير شكّ وأصابه ما حدث للنصرانية التي أصبحت على مرّ الأزمنة شعارا أجوف خاليا من العقيدة والعبادة والشرائع والأخلاق، ولا علاقة لها بالسيد المسيح ورسالته بأيّ وجه.
والذي ينبغي التأكيد عليه لخطورته أنّ نقطة الارتكاز بالنسبة لانحسار الاسلام تتمثّل في المجال العلمي الثقافي الذي برّزت فيه الأمة قرونا عديدة، أكثر من غيره من المجالات لأنها جميعا فرع عنه وتبَعٌ له من غير شكّ، فقد تلاشى الاشعاع العلمي الذي تفتّقت عنه العقلية المسلمة بعد أن حرّرت الرسالةُ الخاتمة الناسَ من الآصار الفكرية والتنفسية وما يختلجها من خرافات وأوهام تكبّل العقول وتشلّ العزائم، وحلّ محلّ الاشعاع والاجتهاد والابداع التقليد والتبعية والانسحاب للتترّس خلف القديم أو الوافد، وهكذا برحت العقيدة ساحة التربية الايمانية وأصبحت مادة للجدل الكلامي المتأثّر بالتراث الإغريقي ومناهج الفلاسفة، وانتقل الفقه من مواكبة الحياة الاجتماعية وحيوية الاجتهاد إلى التقليد والاكباب على المتون والحواشي والتعليقات على أساس أن ليس في الامكان أبدعُ ممّا ما كان، وما ترك الأوّل للآخر شيئا !!! فتضخّمت المباحث المجترّة حول العبادات الفردية ولم يبق التفاتٌ للفقه السياسي والدستوري والاداري والدولي إلاّ قليلا جدّا، وهذه نتيجة حتمية لانفصال السلطان عن القرآن وحدوث الطلاق بين الثقافي والسياسي، أي لم يعد هناك مجال للتأصيل الشرعي للنشاط الاجتماعي والسياسي والعالمي لأنّ العلم غدا حبيس قاعات الدرس ولم يعد موجّهاً للحياة الاسلامية كما كان وكما يُفترض أن يكون دائماً.
ومثلما تغيّر حال العقيدة والفقه تغيّر حال العبادة وتزكية النفوس بسبب المواقف الحديّة لبعض المدارس التربوية التي آثرت الخلاص الفردي فابتعدت بمُريديها عن معترك الحياة من جهة وزجّت بهم في أنواع من البدع والسلبية من جهة أخرى، وظهرت مبالغات لشيوخ الصوفية خرجت عن الاعتدال الشرعي والوسطية الاسلامية إلى أشكال من الرهبانية والتصوّف العجمي، فكادت تندرس معها معاني الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح والتجديد، وقد كان – وما زال – للسلطة الحاكمة يدٌ طُولَى في تشجيع هذه الرهبنة والطرقية المستندة نظريا إلى الزهد والتزكية حتى يبتعد الناس أكثر فأكثر عن شؤون السياسة والحكم فيخلو الجوّ للاستبداد والفساد والترف والافلات من المساءلة فضلا عن المحاسبة والجزاء، وحتى من الناحية الدينية لم يكن هذا التصوّف في نهاية مطافه سوى جملة من الرسوم والشكليات المُحدَثة التي قلّما تزكّي النفوس أو تطهّر القلوب أو تبعث على الزهد بمعناه الشرعي بل كثيرا ما انتهى إلى تعذيب الأتباع لنفوسهم في حين يرفل مشايخهم في النعيم الدنيوي يعبّون عبًّا ويكرعون كرعًا...ولا يزال الأمر كذلك إلى اليوم .
ما حال أمّة دبّ الانحراف إلى مفاصل حياتها الروحية والسياسية والعلمية والاجتماعية؟ هو التخلف والانحطاط والتراجع عن غايات الإستخلاف في الأرض وعمارتها وحسن عبادة الله، غير أنّ المشهد الذي امتدّ قرونا لم تغب عنه حيويّة هذا الدين نهائيا بل شاء الله أن تتخلّله ومضات ومحطّات تحمل الخير وتؤكّد على تفرّد الاسلام وبقاء الرسالة، فوسط ركام الاستبداد ظهرت – على سبيل المثال - نماذج عمر بن عبد العزيز ومحمود زنكي ونور الدين الشهيد الذين ساروا في الأمّة سيرة الخلفاء الراشدين، وبرز في الميدان العلمي أئمّة مجتهدون أفذاذ شذّوا عن عصرهم فجدّدوا واجتهدوا ونفضوا الغبار عن العلوم الدينية كابن تيمية وتلامذته وصولا إلى الشوكاني، بل إنّ رجالا عاشوا في فترة الانحطاط أسّسوا بقدراتهم الضخمة علوما جديدة كالشاطبي مع المقاصد وابن خلدون مع علم الاجتماع، أمّا القادة العسكريّون وأرباب الجهاد فحسبّنا صلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز ومحمد الفاتح، فقد كان زمانّهم لا يُنبئ بظهورهم إطلاقًا، لاستفحال الوهن في الأمّة تحت ضربات جحافل الصليبيّين والمغول والبيزنطيّين .
أما الميدان الذي غاب عنه العطاء الاسلامي كلّيًا فهو علوم المادة والتقنية والصناعة، فرغم ما كان للمسلمين من سبق يعترف به مؤرّخو العلم الغربيون في ميادين الطب والصيدلة والرياضيات والكيميا والفلك ونحوها فقد برحوا هذه المجالات – مع الأسف – منذ زمن بعيد حتى لم يعُد لهم فيها ذكر، وذلك ما أغرى بعض علماء الغرب بإنكار أيّ إسهام لنا في الحضارة الانسانية لأنّ الذي بلغ الحضيض اليوم لا يمكن – في نظرهم – أن يكون صاحب علم ولا ابتكار ولا اكتشاف في الماضي مهام زعم وادّعى، والحقيقة أن مشكلتنا هنا مزدوجة إذ تتمثّل – من جهة – في الانسحاب المبكّر من معترك العلوم التجريبية بعد عصر الازدهار والعطاء، ومن جهة أخرى في ميل الذهنية الاسلامية منذ أحقاب إلى حصر العلم النافع في الحيّز الديني وحده باعتباره مجال المفاخرة والتبريز، كأنما علوم الحياة الدنيا شيء ثانوي لا يستحق العناء الكبير، ولنا ان نفتح المكتبة الاسلامية لنقارن بين عدد المؤلّفات الشرعية والكتب العلمية، وسنجد أن لا مجال للمقارنة إطلاقا، وهذا واحد من أسباب تخلّفنا كما لا يخفى على احد، فالله تعالى أراد من تكرار آيات التسخير في القرآن الكريم أن نسخّر الكون – أي نبدع ونبتكر ونستكشف ونخترع – لا أن نقتصر على تلاوتها من غير تفاعل، وقد كان أسلافنا ينقلون معانيها من بين دفات المصحف إلى مخابر البحث وساحات الانجاز العلمي، بعد أن فهموا أنّ هذا هو المطلوب منهم دينيا ، وما يجلب لهم مرضاة الله لأنّه شرط أساسي في عمارة الأرض.
وبعد أمد طويل شاء الله أن تنطلق بوادر النهضة وسط ركام هائل من العوائق الذاتية – فكرية ونفسية ومادية – والخارجية – الغزو الثقافي وتبعية المسلمين للغرب – وتواصل العمل الاحيائي حتى أذن الله تعالى بالصحوة المباركة التي واجهت نفس التحديات وما زالت إلى اليوم، وأشدّها على الاطلاق العلمانية العدوانية لدى الحكّام والمثقّفين المتنفّذين في مراكز القرار والتوجيه، والتي ترفض أيّ توجّه اسلامي للمجتمع وتعمل بكلّ قوة على حصر الدين في العبادات الفردية والمظاهر الفلكلورية، وتّعلي من شأن التصوّر الغربي للدين والانسان والكون والحياة، باعتباره وحده التصوّر الصحيح والرؤية الصائبة، هذا بالإضافة إلى التآمر الغربي على الاسلام وشعوبه بسبب الأحقاد من جهة والأطماع من جهة ثانية، ووسط هذه التحديات يجب أن تعمل حركة البعث الاسلامي على إصلاح كل ما فسد عبر الأحقاب الماضية فتعمل على إشاعة معاني الحرية والعدل والشورى بعد تأصيلها تأصيلاً شرعيًا إنسانيًا وافيًا يُزيح الغبش وتفضح الاستبداد وتحاصره ألاعيبه وتكشف أدواته وممارساته، وتعيد للعقيدة صفاءها وبساطتها وتربطها مباشرة بالتربية الايمانية، وتستأنف ربط العلم الشرعي بقضايا الحياة الاجتماعية لتسديد خطاها وتحريرها من الانحراف الملازم لها منذ زمن التراجع، كما تُشيع التزكية الصحيحة على أسس قرآنية أصيلة تدفع إلى الاخلاص والورع والايجابية، ومن أوجب واجباتنا اليوم إعادة صياغة العقلية المسلمة لتتّجه إلى الاعتناء بالحياة الدنيا ليس على مستوى تزكيتها فحسب ولكن لاقتحام ميادين العمارة وامتلاك وسائل التطويع والتطوير ليعيش الناس في سبيل الله حياة طيبة ، وهذا يحتاج إلى الاقبال على العلوم الانسانية – بعد إعادة تأصيلها – والعلوم الكونية لأنّ كلّ ذلك عبادة لله.
ولعلّ المنعطف الحالي في الدول العربية يوفّر المناخ الملائم للعمل المطلوب ويتيح لأصحاب المشروع الاسلامي أن يجمعوا له طاقات بشرية ضخمة لها فهم وعزيمة لتصحيح مسار الأمة .