مها المحمدي[خاص بالوفاق]
إن احتقاناً تعانيه أمة الإسلام يملئ رأسها أبخرة في دلالة قاطعة على تهيج لأغشية السلامة لديها يبشر بعاصفة عطسية متواصلة يُطلقها أنفها المزكوم لطرد ما علق بداخله من مثيرات !
وفي كتاب الله الكريم نماذج لأوضاع متشابهة يمكن إسقاط واقع الأمة عليها والاستفادة من حلوله المتقنة للتعامل مع النفوس وفق سنن الله سبحانه وتعالى ومنها
قوله تعالى في وصف لحالة من الحالات التي مرت ببني إسرائيل
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251 (البقرة
إشراقات كونية عظيمة بين طيات الآيات السابقة تنبئي عن عوالم فسيحة للنص ، مقدمة جيدة لبداية مفتوحة عليتها محذوفة ونهاية جاء فيها التنوير النهائي للقصة في اللمسة الأخيرة التي كشفت عن تجمهر للقيم النفسية والسياسية والاجتماعية مما يشعر بأننا أمام جو فني متكامل وعمل حي لا خرافة فيه ولا أسطورة يعتمد الحقيقة الإنسانية البحتة في تجرد تام من الخيال
يسوق سبحانه وتعالى المتواليات في تنظيم تتابعي لتحقيق أغراض سردية دلالية بشمول وأصالة وتنقل بين الصور والمعاني وتوالي الفكر وتركيزها بشكل فني مبهر وقدرة مكنت المتلقي من الإحاطة بأحداث النص بانسيابية متميزة فأقبل قوله سبحانه وتعالى ببيان وبرهان خلاق أودع المتلقي حلقة التسليم للصورة الحقيقية الواردة في النص الكريم
يعتمد رسم الحقيقة في الآيات على محور انعكاس سنن بشرية متغالبة ، حق النبوة والصلاح في مدافعة باطل الطغيان والكفر
وينطلق المشهد الأول من نقطة نفسية تعمقت لدى بني إسرائيل هي حال الاستضعاف والذلة والمهانة بتسلط عدوهم عليهم وسلبه أموالهم وديارهم (وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا )
فدفعهم إلى التحدي للتغلب على التناقضات الحاصلة والواقع الذليل للشعوب المغلوبة على أمرها والذي لن يتغير إلا بقوة العقيدة الصحيحة المصاحبة في عنفوان جبار لرغبة التغيير (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله)
وهنا تظهر قيمة اجتماعية ( الرغبة في تغيير حال الاستضعاف ) والدافعة إلى قيمة سياسية وهي العزة والحرية ليتحقق التمكين بشرط معية الإيمان بالله وأن القتال لابد أن يكون في سبيله وهو مكمن فلسفة المؤمن وتصوره للحياة مما يستوجب معه سنة مدافعة العدو بمفهوم رسالي من الإله (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا )
وعلى هذا فان من يحكم سياسياً حسب قانون المدافعة هو الأصلح فلا هيمنة ولا استبداد للكافر ولابد من مدافعته بالمؤمن فكيف ينصب ميزان القائد الرباني الذي طالب به بنو إسرائيل وعلى أي قيمة سيرتكز قانون الانتخاب ؟
التقدير السليم بوحي سماوي للمواهب القتالية المادية منها والقيمية المتوفرة في طالوت ، بسطة الجسم ممتعاً بالقوة البدنية الضاربة للعدو ببأس واقتدار ، وبسطة العلم الإلهي الموروث عن النبوة تصحبه الهيبة والجلال والوقار( إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ) إذن لاضرورة لأن يعاضد المُلك نسب ولا مال في تقدير خاطئ للمعترضين ، لاعموم ولا قياس حسب هذا التقدير المتناقض العجيب مع لنقاتل في سبيل الله ! إن انعكاسات سلبية نفسية لديهم تجمعت في اللاوعي المتبدي في ونحن أحق بالملك منه ! وحول هذا التردد القولي والفعلي يدور المشهد الثاني
تعقب هذا المشهد مشاهد أخرى تدخل ضمن التحليل النفسي للجيش المنطلق وهم مشهد الشرب من النهر المنهي عنه باتصال سماوي للقائد الرباني المجلل بهيبة حكمة النبوة وخروج الشاربين من الجيش تصفية أولية للفئة القادرة على الصمود إلى مشهد استضعاف آخر يدل على خبيئة اعتادت الفزع يغلف هوانها فتعاظمت العدو الجبار هابها مشهده ونسيت ( وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تصفية ثانية تذكر بخروج المنافقين من جيش بدر !
وفي وسط هذا التخذيل تظهر الفئة المؤمنة مؤكدة أن الجيوش إنما تكثر بالثبات وتقل بالخذلان لتؤكد أدب المؤمن عند الشدائد وقيمة التمحيص والابتلاء ميزان آخر تنصبه القيم كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله الذي يهب معيته للصابرين المتكئين على الدعاء بقلوب حلق بها اليقين ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) سكب الصبر في القلب يملؤه عزيمة وثبات يكلله نصر فينكسر العدو الطاغي الكثير أمام القليل المكفول بمعية الله فالإيمان رجح الكفة فمن قتل جالوت الباغي من زاده الله بسطة في العلم والجسم ؟ طالوت ؟ لا ، بل داوود موهبة قتالية فذة أظهرها القتال بمقلاع وحجر أداة صيد أم سلاح جندي أم تدبير محكم برمية إله ؟ ! وانعكاس آخر للمعتاد فالمخبوء صغير السن الذي لا يقع تحت الضوء يخرج إلى دائرتها بشدة وبأس صانع الحديد شجاع القلب يتأجج قلبه بالإيمان ليحمل شدة المُلك وهيبة الحكمة وجلال النبوة وعذوبة الترتيل
نقطة الانعكاس ذات الأبعاد عادت بنا كما يقول الرياضيون ( مع التحفظ ) إلى أن
القيام بانعكاس مرتين على نفس المحور يعود بنا إلى الشكل الأصلي.
قائد رباني تميزه بسطة العلم والجسم وجيش قوي مهاب بطاغية باغي أمام جيش أصغر انهزم جزء كبير منه نفسياً فصفي من القتال وثالث نقطة فتى بمقلاع وحجر وقلب ذو بأس شديد يمثل جيلاً تربى في التيه فصلب عوده فكيف قلب سبحانه وتعالى الأمور بين جواهر الانتصار من أسباب مادية إلى معنوية بحتة بالاعتماد عليه إلى العودة لقوة اليد المادية الضاربة بيد الإله تعالى اسمه ( العقيدة الصحيحة ) لتفرغ قوتها في مقلاع الفتى المهيأ للنبوة بملك رشيد كما أفرغت الصبر انسكاباً في قلوب طالبيه ؟ !
إن التحول ورغبة التغيير من الحياة الذليلة إلى العزة والحرية باعتماد على العقيدة الصحيحة المُتكئ الأصلي للأسباب الإلهية المؤدية إلى النصر مع اعتماد قوة القائد الرباني المادية وإعداد جيش نقي ملتزم بأوامر السماء موصولاً بها بالتزام دقيق ودعاء يؤجج القوة الغالبة في نفس الجنود يعود بالتمكين للأمة الصالحة
فماذا لو لم يكن هناك شعور بالغبن تبعه تحد بعقيدة صحيحة فانطلاق أكان داود قتل جالوت ؟
إن احتقاناً تعانيه أمة الإسلام يملئ رأسها أبخرة في دلالة قاطعة على تهيج لأغشية السلامة لديها يبشر بعاصفة عطسية متواصلة يُطلقها أنفها المزكوم لطرد ما علق بداخله من مثيرات !
وفي كتاب الله الكريم نماذج لأوضاع متشابهة يمكن إسقاط واقع الأمة عليها والاستفادة من حلوله المتقنة للتعامل مع النفوس وفق سنن الله سبحانه وتعالى ومنها
قوله تعالى في وصف لحالة من الحالات التي مرت ببني إسرائيل
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251 (البقرة
إشراقات كونية عظيمة بين طيات الآيات السابقة تنبئي عن عوالم فسيحة للنص ، مقدمة جيدة لبداية مفتوحة عليتها محذوفة ونهاية جاء فيها التنوير النهائي للقصة في اللمسة الأخيرة التي كشفت عن تجمهر للقيم النفسية والسياسية والاجتماعية مما يشعر بأننا أمام جو فني متكامل وعمل حي لا خرافة فيه ولا أسطورة يعتمد الحقيقة الإنسانية البحتة في تجرد تام من الخيال
يسوق سبحانه وتعالى المتواليات في تنظيم تتابعي لتحقيق أغراض سردية دلالية بشمول وأصالة وتنقل بين الصور والمعاني وتوالي الفكر وتركيزها بشكل فني مبهر وقدرة مكنت المتلقي من الإحاطة بأحداث النص بانسيابية متميزة فأقبل قوله سبحانه وتعالى ببيان وبرهان خلاق أودع المتلقي حلقة التسليم للصورة الحقيقية الواردة في النص الكريم
يعتمد رسم الحقيقة في الآيات على محور انعكاس سنن بشرية متغالبة ، حق النبوة والصلاح في مدافعة باطل الطغيان والكفر
وينطلق المشهد الأول من نقطة نفسية تعمقت لدى بني إسرائيل هي حال الاستضعاف والذلة والمهانة بتسلط عدوهم عليهم وسلبه أموالهم وديارهم (وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا )
فدفعهم إلى التحدي للتغلب على التناقضات الحاصلة والواقع الذليل للشعوب المغلوبة على أمرها والذي لن يتغير إلا بقوة العقيدة الصحيحة المصاحبة في عنفوان جبار لرغبة التغيير (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله)
وهنا تظهر قيمة اجتماعية ( الرغبة في تغيير حال الاستضعاف ) والدافعة إلى قيمة سياسية وهي العزة والحرية ليتحقق التمكين بشرط معية الإيمان بالله وأن القتال لابد أن يكون في سبيله وهو مكمن فلسفة المؤمن وتصوره للحياة مما يستوجب معه سنة مدافعة العدو بمفهوم رسالي من الإله (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا )
وعلى هذا فان من يحكم سياسياً حسب قانون المدافعة هو الأصلح فلا هيمنة ولا استبداد للكافر ولابد من مدافعته بالمؤمن فكيف ينصب ميزان القائد الرباني الذي طالب به بنو إسرائيل وعلى أي قيمة سيرتكز قانون الانتخاب ؟
التقدير السليم بوحي سماوي للمواهب القتالية المادية منها والقيمية المتوفرة في طالوت ، بسطة الجسم ممتعاً بالقوة البدنية الضاربة للعدو ببأس واقتدار ، وبسطة العلم الإلهي الموروث عن النبوة تصحبه الهيبة والجلال والوقار( إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ) إذن لاضرورة لأن يعاضد المُلك نسب ولا مال في تقدير خاطئ للمعترضين ، لاعموم ولا قياس حسب هذا التقدير المتناقض العجيب مع لنقاتل في سبيل الله ! إن انعكاسات سلبية نفسية لديهم تجمعت في اللاوعي المتبدي في ونحن أحق بالملك منه ! وحول هذا التردد القولي والفعلي يدور المشهد الثاني
تعقب هذا المشهد مشاهد أخرى تدخل ضمن التحليل النفسي للجيش المنطلق وهم مشهد الشرب من النهر المنهي عنه باتصال سماوي للقائد الرباني المجلل بهيبة حكمة النبوة وخروج الشاربين من الجيش تصفية أولية للفئة القادرة على الصمود إلى مشهد استضعاف آخر يدل على خبيئة اعتادت الفزع يغلف هوانها فتعاظمت العدو الجبار هابها مشهده ونسيت ( وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تصفية ثانية تذكر بخروج المنافقين من جيش بدر !
وفي وسط هذا التخذيل تظهر الفئة المؤمنة مؤكدة أن الجيوش إنما تكثر بالثبات وتقل بالخذلان لتؤكد أدب المؤمن عند الشدائد وقيمة التمحيص والابتلاء ميزان آخر تنصبه القيم كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله الذي يهب معيته للصابرين المتكئين على الدعاء بقلوب حلق بها اليقين ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) سكب الصبر في القلب يملؤه عزيمة وثبات يكلله نصر فينكسر العدو الطاغي الكثير أمام القليل المكفول بمعية الله فالإيمان رجح الكفة فمن قتل جالوت الباغي من زاده الله بسطة في العلم والجسم ؟ طالوت ؟ لا ، بل داوود موهبة قتالية فذة أظهرها القتال بمقلاع وحجر أداة صيد أم سلاح جندي أم تدبير محكم برمية إله ؟ ! وانعكاس آخر للمعتاد فالمخبوء صغير السن الذي لا يقع تحت الضوء يخرج إلى دائرتها بشدة وبأس صانع الحديد شجاع القلب يتأجج قلبه بالإيمان ليحمل شدة المُلك وهيبة الحكمة وجلال النبوة وعذوبة الترتيل
نقطة الانعكاس ذات الأبعاد عادت بنا كما يقول الرياضيون ( مع التحفظ ) إلى أن
القيام بانعكاس مرتين على نفس المحور يعود بنا إلى الشكل الأصلي.
قائد رباني تميزه بسطة العلم والجسم وجيش قوي مهاب بطاغية باغي أمام جيش أصغر انهزم جزء كبير منه نفسياً فصفي من القتال وثالث نقطة فتى بمقلاع وحجر وقلب ذو بأس شديد يمثل جيلاً تربى في التيه فصلب عوده فكيف قلب سبحانه وتعالى الأمور بين جواهر الانتصار من أسباب مادية إلى معنوية بحتة بالاعتماد عليه إلى العودة لقوة اليد المادية الضاربة بيد الإله تعالى اسمه ( العقيدة الصحيحة ) لتفرغ قوتها في مقلاع الفتى المهيأ للنبوة بملك رشيد كما أفرغت الصبر انسكاباً في قلوب طالبيه ؟ !
إن التحول ورغبة التغيير من الحياة الذليلة إلى العزة والحرية باعتماد على العقيدة الصحيحة المُتكئ الأصلي للأسباب الإلهية المؤدية إلى النصر مع اعتماد قوة القائد الرباني المادية وإعداد جيش نقي ملتزم بأوامر السماء موصولاً بها بالتزام دقيق ودعاء يؤجج القوة الغالبة في نفس الجنود يعود بالتمكين للأمة الصالحة
فماذا لو لم يكن هناك شعور بالغبن تبعه تحد بعقيدة صحيحة فانطلاق أكان داود قتل جالوت ؟