د. سعد بن مطر العتيبي
يَتَحَدَّثُ كثيرون عن وجود الخلاف الفقهي، وعن أسبابه، وكيفية تعامل الفقيه معه ترجيحا، والفقيه وغير الفقيه معه عملاً وتطبيقا.. غير أنَّ الحديث عن بعض حِكَمِ الخلاف السائغ قليل ، ومن هنا رأيت تدوين النقاط التالية .
الحقيقة أنَّنا نجد الخلاف في أحكام الإسلام يكاد ينحصر في غير المحكمات والثوابت التي يمكن التمثيل لها بما هو معلوم من الدين بالضرورة، وهو تلك المسائل التي يمكن التمثيل لها بكل ما ثبت بالنصوص الشرعية أو الإجماع الشرعي الوافر لا الكلامي النادر ، كأركان الإيمان وأصول الاعتقاد، وأركان الإسلام وأصول الفرائض العملية، وأصول الأخلاق ، ونحو ذلك .
ولهذا فمجال الخلاف الفقهي ينحصر فيما كان محل خلاف معتبر، أو اجتهاد سائغ؛ وهنا تتجلى عظمة الإسلام في حسم موضوع الثوابت وأصول الدين؛ فالخلاف فيها مذموم ، بل هو معدود في من الفرقة في الدين ، كما هو مدون في متون العقيدة عند أهل السنة والجماعة ؛ بخلاف الاجتهاد الفقهي والخلاف السائغ فالمجتهد فيه من أهل الاجتهاد، مأجور أخطأ في اجتهاده أو أصاب .
كما تتجلى عظمة الإسلام في جعلِ حيزٍ قابلٍ للخلاف ، بل هو مجال مشروع للخلاف المعتبر ممن كان أهلاً للفقه والفتيا ؛ فالتأهيل الشرعي شرط للرأي في الشرعيات، التي يسوغ فيها الخلاف أو الاجتهاد .
وتتجلى الحكمة الإلهية في مشروعية الخلاف المشروع في أمور منها:
أولاً : التعبد بالاجتهاد في أحكام المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد؛ فهو عبادة لا تقبل من كافر ولا منافق نفاقا اعتقاديا ، مهما ادّعى البحث والنظر ؛ كما لا تصح ممن لا تتوفر شروطها فيه ، كالجاهل أو من في حكمه كغير المتخصص .
والمتخصص هنا ليس كل من حمل شهادة من الورق إثر تخرّجه في كلية شرعية أو كلية دراسات إسلامية ، وإنما هو من كان حاملا للعلم الشرعي الذي يؤهله للحكم والفتيا ، وإن لم يتخرج في كلية أو يدرس في معهد ؛ وشروط حمل العلم وإجازة العلماء لتلاميذهم في التعليم والفتيا معروفة عند أهل العلم . ولذلك يمكن تقريب المتخصص المؤهّل بأنّه : المشهود له بالعلم والصلاح من بعض من شهدت لهم الأمة بالعلم والصلاح .
ثانياً : الابتلاء والامتحان ، للمنتسبين للعلم الشرعي ومكانة الكتاب وصحيح السنة من إيمانهم قولاً وعملاً ؛ ليتبين من يتّبعون الحق حين يثبت لهم بالأدلة مهما كان نوع الأحكام ، أو الانحراف عنه وتأويله حين لا يوافق رأيهم أو آراء شيوخهم أو سلاطينهم أو حتى جماهير الأتباع .
ثالثاً : كشف المبطلين وأهل الأهواء والمتعالمين للشهرة ، من المنتسبين للعلم الشرعي ، أو الدخلاء عليه ، ممن يتعلمون العلم ابتغاء الفتنة ، وابتغاء تأويل النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على غير مراد الشارع الحكيم .
وما أكثرهم في هذا العصر ، لا كثّرهم الله !
رابعاً : أنَّ مجال الخلاف الفقهي هو في حقيقته مجال علم متوارث ، ينمي ملكة الإبرام والنقض- كما يقول طاش كبرى زادة- وفق أصول الفقه وطرق الاستدلال ؛ ليبقى العلماءُ في دربة متوارثة ، تخدم عبادة الاجتهاد في المسائل السابقة، مع استعداد وجاهزية للنظر في المستجدات في عمل فردي أو مؤسسي حسب نوع المسائل والأحكام.
ومن هنا كانت آثار هذه الحكمة جلية و واضحة في أمور :
1) منها : جود ثروة هائلة من الفقه ، لا نظير لها في التراث القانوني وشروحه في العالم لحضارة من الحضارات؛ وما تضمنه من نضج وإبداع وتقعيد ونظريات .
2) ومنها : كشف الطرح الموضوعي لفقهاء الإسلام من غيره ، وانكشاف الأقوال الراجحة والرشيدة من المرجوحة وغير الرشيدة ، وذلك بحسب حظها من الأدلة ووجوه الاستدلال والتزام أصحابها بأصول الفقه وقواعد الاستنباط والثابت الصحيح من مقاصد التشريع .
3) ومنها : ظهور التعددية الفقهية الإيجابية التي تلتزم أخلاقيات العلم وآداب الخلاف ؛ فلا تُنكر على المخالف عن اجتهادٍ أو مقلدٍ لمجتهد يبتغي الحق مظانّه ، فمن سعة رحمة الله أنَّ الخلاف في مثل هذه الحال لا تجريم فيه ولا تأثيم ؛ ولو كان الشأن هنا كالشأن في المحكمات بالنصوص أو الإجماع الثابت ، لكان في ذلك مشقة على الأمّة .
4) ومنها : ظهور الروح العلمية التي كانت تدرس الخلاف بروح العبادة ، ومن ثم غياب الهوى في صفوف أهل العلم الذين يبقي تراثهم حياً متقبلاً في الأمَّة ؛ فالمجتهد يرجح ، ومن دونه يختار أقوى الأقوال التي بين يديه حجة وأقربها إلى الحق بحسب علمه ، والمحتسب يتبنى القول الذي يجري عليه العمل ، والمكلف يأخذ في خاصته بقول الأعلم الأتقى عنده إن لم يكن من أهل الترجيح ؛ فكل يعمل بما يلزمه شرعا بحسب هذه الأحوال ، والكل متعبد لله على وفق قواعد الشرع .
5) ومنها : تنافس العلماء في بيان الحق، من خلال إقامة عبادة الاستنباط من النصوص والاشتغال ببيانها ؛ فتنوَّعت كتب التفسير، وتعددت كتب شروح السنة ، وكثرت التقاسيم في مدونات الفقه ، والتطبيقات لعلوم لبقية علومه ، مع التزام جميعها بقواعد الاستنباط المتفق عليها .
6) ومنها : صار العلم بالخلاف مما لا بد منه لكل فقيه ، بوصفه وسيلة لمعرفة الحق لا أنّه حجة عليه ؛ ولذلك قال هشام الرازي : من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه . وصار العلم بالخلاف شرطا للفتيا . بل قد ورد عن السلف أجسر النّاس على الفتيا أقلّهم علماً باختلاف العلماء. والعلم بالخلاف ليس هو معرفة الأقوال ، وإنما هو معرفة الأقوال بأدلتها وطرق الترجيح بينها .
7) ومنها : حصر الاحتمالات الصحيحة عن غيرها ، فللاحتمالات عند أهل العلم بالفقه والأصول ما يضبطها ، ويُبين صحيحها من عليلها ، و معتبرها من موهومها ؛ إذ لا تخلو قضية من أمور الدين أو الدنيا من احتمال قريب أو بعيد . فالإنسان لو نظر للاحتمالات ، لما بنى داراً ولا شيّد مصنعاً ولا حرث أرضاً ، ولما تاجر ، ولا صدّر ولا استورد فكل باخرة محملة بالبضائع يحتمل أن تغرق ، وكل طائرة تقلع يحتمل أن تسقط ، وهكذا .
هذه خواطر رأيت تدوين إجابتها في تغريدات ، لما أرجوه فيها من نفع ، ثم أعدت كتابتها في هذه الورقة المختصرة جدا ، وقد أشرت في عباراتها إلى بعض أدلتها .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله .
وكتب / سعد بن مطر العتيبي
يَتَحَدَّثُ كثيرون عن وجود الخلاف الفقهي، وعن أسبابه، وكيفية تعامل الفقيه معه ترجيحا، والفقيه وغير الفقيه معه عملاً وتطبيقا.. غير أنَّ الحديث عن بعض حِكَمِ الخلاف السائغ قليل ، ومن هنا رأيت تدوين النقاط التالية .
الحقيقة أنَّنا نجد الخلاف في أحكام الإسلام يكاد ينحصر في غير المحكمات والثوابت التي يمكن التمثيل لها بما هو معلوم من الدين بالضرورة، وهو تلك المسائل التي يمكن التمثيل لها بكل ما ثبت بالنصوص الشرعية أو الإجماع الشرعي الوافر لا الكلامي النادر ، كأركان الإيمان وأصول الاعتقاد، وأركان الإسلام وأصول الفرائض العملية، وأصول الأخلاق ، ونحو ذلك .
ولهذا فمجال الخلاف الفقهي ينحصر فيما كان محل خلاف معتبر، أو اجتهاد سائغ؛ وهنا تتجلى عظمة الإسلام في حسم موضوع الثوابت وأصول الدين؛ فالخلاف فيها مذموم ، بل هو معدود في من الفرقة في الدين ، كما هو مدون في متون العقيدة عند أهل السنة والجماعة ؛ بخلاف الاجتهاد الفقهي والخلاف السائغ فالمجتهد فيه من أهل الاجتهاد، مأجور أخطأ في اجتهاده أو أصاب .
كما تتجلى عظمة الإسلام في جعلِ حيزٍ قابلٍ للخلاف ، بل هو مجال مشروع للخلاف المعتبر ممن كان أهلاً للفقه والفتيا ؛ فالتأهيل الشرعي شرط للرأي في الشرعيات، التي يسوغ فيها الخلاف أو الاجتهاد .
وتتجلى الحكمة الإلهية في مشروعية الخلاف المشروع في أمور منها:
أولاً : التعبد بالاجتهاد في أحكام المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد؛ فهو عبادة لا تقبل من كافر ولا منافق نفاقا اعتقاديا ، مهما ادّعى البحث والنظر ؛ كما لا تصح ممن لا تتوفر شروطها فيه ، كالجاهل أو من في حكمه كغير المتخصص .
والمتخصص هنا ليس كل من حمل شهادة من الورق إثر تخرّجه في كلية شرعية أو كلية دراسات إسلامية ، وإنما هو من كان حاملا للعلم الشرعي الذي يؤهله للحكم والفتيا ، وإن لم يتخرج في كلية أو يدرس في معهد ؛ وشروط حمل العلم وإجازة العلماء لتلاميذهم في التعليم والفتيا معروفة عند أهل العلم . ولذلك يمكن تقريب المتخصص المؤهّل بأنّه : المشهود له بالعلم والصلاح من بعض من شهدت لهم الأمة بالعلم والصلاح .
ثانياً : الابتلاء والامتحان ، للمنتسبين للعلم الشرعي ومكانة الكتاب وصحيح السنة من إيمانهم قولاً وعملاً ؛ ليتبين من يتّبعون الحق حين يثبت لهم بالأدلة مهما كان نوع الأحكام ، أو الانحراف عنه وتأويله حين لا يوافق رأيهم أو آراء شيوخهم أو سلاطينهم أو حتى جماهير الأتباع .
ثالثاً : كشف المبطلين وأهل الأهواء والمتعالمين للشهرة ، من المنتسبين للعلم الشرعي ، أو الدخلاء عليه ، ممن يتعلمون العلم ابتغاء الفتنة ، وابتغاء تأويل النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على غير مراد الشارع الحكيم .
وما أكثرهم في هذا العصر ، لا كثّرهم الله !
رابعاً : أنَّ مجال الخلاف الفقهي هو في حقيقته مجال علم متوارث ، ينمي ملكة الإبرام والنقض- كما يقول طاش كبرى زادة- وفق أصول الفقه وطرق الاستدلال ؛ ليبقى العلماءُ في دربة متوارثة ، تخدم عبادة الاجتهاد في المسائل السابقة، مع استعداد وجاهزية للنظر في المستجدات في عمل فردي أو مؤسسي حسب نوع المسائل والأحكام.
ومن هنا كانت آثار هذه الحكمة جلية و واضحة في أمور :
1) منها : جود ثروة هائلة من الفقه ، لا نظير لها في التراث القانوني وشروحه في العالم لحضارة من الحضارات؛ وما تضمنه من نضج وإبداع وتقعيد ونظريات .
2) ومنها : كشف الطرح الموضوعي لفقهاء الإسلام من غيره ، وانكشاف الأقوال الراجحة والرشيدة من المرجوحة وغير الرشيدة ، وذلك بحسب حظها من الأدلة ووجوه الاستدلال والتزام أصحابها بأصول الفقه وقواعد الاستنباط والثابت الصحيح من مقاصد التشريع .
3) ومنها : ظهور التعددية الفقهية الإيجابية التي تلتزم أخلاقيات العلم وآداب الخلاف ؛ فلا تُنكر على المخالف عن اجتهادٍ أو مقلدٍ لمجتهد يبتغي الحق مظانّه ، فمن سعة رحمة الله أنَّ الخلاف في مثل هذه الحال لا تجريم فيه ولا تأثيم ؛ ولو كان الشأن هنا كالشأن في المحكمات بالنصوص أو الإجماع الثابت ، لكان في ذلك مشقة على الأمّة .
4) ومنها : ظهور الروح العلمية التي كانت تدرس الخلاف بروح العبادة ، ومن ثم غياب الهوى في صفوف أهل العلم الذين يبقي تراثهم حياً متقبلاً في الأمَّة ؛ فالمجتهد يرجح ، ومن دونه يختار أقوى الأقوال التي بين يديه حجة وأقربها إلى الحق بحسب علمه ، والمحتسب يتبنى القول الذي يجري عليه العمل ، والمكلف يأخذ في خاصته بقول الأعلم الأتقى عنده إن لم يكن من أهل الترجيح ؛ فكل يعمل بما يلزمه شرعا بحسب هذه الأحوال ، والكل متعبد لله على وفق قواعد الشرع .
5) ومنها : تنافس العلماء في بيان الحق، من خلال إقامة عبادة الاستنباط من النصوص والاشتغال ببيانها ؛ فتنوَّعت كتب التفسير، وتعددت كتب شروح السنة ، وكثرت التقاسيم في مدونات الفقه ، والتطبيقات لعلوم لبقية علومه ، مع التزام جميعها بقواعد الاستنباط المتفق عليها .
6) ومنها : صار العلم بالخلاف مما لا بد منه لكل فقيه ، بوصفه وسيلة لمعرفة الحق لا أنّه حجة عليه ؛ ولذلك قال هشام الرازي : من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه . وصار العلم بالخلاف شرطا للفتيا . بل قد ورد عن السلف أجسر النّاس على الفتيا أقلّهم علماً باختلاف العلماء. والعلم بالخلاف ليس هو معرفة الأقوال ، وإنما هو معرفة الأقوال بأدلتها وطرق الترجيح بينها .
7) ومنها : حصر الاحتمالات الصحيحة عن غيرها ، فللاحتمالات عند أهل العلم بالفقه والأصول ما يضبطها ، ويُبين صحيحها من عليلها ، و معتبرها من موهومها ؛ إذ لا تخلو قضية من أمور الدين أو الدنيا من احتمال قريب أو بعيد . فالإنسان لو نظر للاحتمالات ، لما بنى داراً ولا شيّد مصنعاً ولا حرث أرضاً ، ولما تاجر ، ولا صدّر ولا استورد فكل باخرة محملة بالبضائع يحتمل أن تغرق ، وكل طائرة تقلع يحتمل أن تسقط ، وهكذا .
هذه خواطر رأيت تدوين إجابتها في تغريدات ، لما أرجوه فيها من نفع ، ثم أعدت كتابتها في هذه الورقة المختصرة جدا ، وقد أشرت في عباراتها إلى بعض أدلتها .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله .
وكتب / سعد بن مطر العتيبي