مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
سيادة الشريعة: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة*
د.سعد بن مطر العتيبي

1- لعلّ من حكمة العليم الحكيم: أنَّ ثمة أخطاء ترتكب، أو شبهات تقذف في بحر الشريعة، فتكون سبباً في الانتباه إلى المبادئ والأصول كلّما ابتعد النّاس عنها، أو خفت ذكرها بينهم..

وكم من مسائل أثيرت على خلاف الأصول والمبادئ، كان أثرها ظاهرا في إشعال جذوة الأصول وتجديد قوة المبادئ في النفوس، وتحريك حالة التبلّد التي قد تصيب الحراك الفكري، الذي يُنتظر منه الإصلاح والتصحيح. وقد دونتُ أمثلة عصرية لذلك في موضع آخر.. نعم كان لها ضحايا.. لكنهم قلَّة في جانب ما يُحقِّقُه الانتباه للأصول وحمايتها من نجاة واسعة، وبقاء الحق متوارثا بصفاء، ولو خلى الزمان ممن يطبقه.

ولذلك لا أجدني قلقاً حين يثار شيءُ من هذا القبيل، لا حباً لإثارته – معاذ الله – ولكن طمعاً في نفع مآله فيما يحدثه من حراك نافع، إذا ما هبّت له القلوب الحيّة، فأحيته في النّاس على جميع المستويات.

يقول جوستاف لوبون: ’’إنَّ الأخطاء التي تُظنّ من الحقائق - تلعب في دفع عجلة التاريخ دوراً أكبر من الدور الذي تلعبه الحقائق ذاتها ’’(1).

ومن ذلك موضوعات تثار - عاطفة حيناً، ومناكفة أحياناً - دون تمحيص ودراسة، غاية ما توصف به أنَّها: أفكار وحديث نفس عارض، وقد يصحبه – في أحسن الأحوال- استدلال لا يخلو من سطحية، في سياق تقعّر – لا تعمّق - في الطرح، وتكلف في التقسيم؛ تسوق من ينساق لها بعيداً عن الأصول والثوابت، ومن ثمّ تقذف أمامه شبهة لتوهِمه أنَّها قدمت له شيئاً ذا بال!

والشبهات التي تنطلق ممن لديه ثقافة إسلامية، لا تكاد تخلو من تلبيس – قد لا يكون مقصودا - بذكر آية أو حديث أو أثر.. ومن هنا ينبغي التعامل معها بمنهج التعامل مع الشبهات، ومن أصول ذلك: الردّ إلى المحكمات، وهو ما لخصته في عنوان هذه المقالة المقتضبة..

وقبل بضعة عقود، طُرحت في العالم الإسلامي بضعة أفكار، ورميت في بحره الطهور الطاهر بضعة أحجار، كان من بينها: فكرة غربية غريبة يعبّر عنها بمبدأ أو نظرية (سيادة الأمَّة)؛ زُعِم أنَّها من الإسلام، وليست منه في شيءٍ!

وقد تصدَّى لتفنيد هذه الشبهة آنذاك وبعده، عددٌ من علماء الشريعة، وأهل السياسة من عربٍ وعجم، وشرق وغرب، وأساتذة قانون من أهل الإسلام؛ في عشرات المصادر، وما لا أحصي من المراجع، و المقالات.

وقد بيّن أستاذ أساتذتنا في القانون الدستوري الدكتور/عبد الحميد متولي رحمه الله وعفى عنه، أنَّ جرثومة تسلل تلك الأفكار تكمن في: نزعة ’’ التقليد لدول الغرب (ونحن إنما نعني بداهة بوجه خاص دوله الكبرى) وذلك فيما يتعلق بالمبادئ أو النظريات والمذاهب والأنظمة الدستورية ( أو السياسية) ’’(2)؛ وبيّن أنَّهم يقلّدون في الظواهر، دون أن يعرفوا الحقائق؛ كما سأشير إن شاء الله.

وهذه الجرثومة عينها، هي التي وصفها (شيخ الإسلام) مصطفى صبري -رحمه الله- بالتطفَّل للأمم، الذي يورث الوهن في العقيدة!

2- وإذا ما عدنا إلى أصل الموضوع، ابتغاء ردّ ومحاكمة مفهوم السيادة إلى الكتاب والسنّة؛ فإنَّ مما ينبغي بيانه بين يدي ذلك: التفريق بين مسألتين: الأولى: معنى السيادة. والثانية: نظريات السيادة. وفي كلِّ منها مؤلفات عديدة، ودراسات كثيرة. غير أنَّ الذي يعنينا منها هنا، هو الأول، أعني: معنى السيادة.

فما معنى السيادة ؟ وما الموقف الشرعي من معناها ؟

وقبل الجواب على هذا السؤال ينبغي –أيضاً- أن نفرق بين مصطلحين دارجين(3):

الأول: سيادة الدولة

والثاني: السيادة في الدولة.

فسيادة الدولة: صفة تنفرد بها السلطة السياسية في نشاطها الداخلي بحيث تكون آمرة على الأفراد والجماعات؛ والخارجي بحيث تدير علائقها الخارجية دون خضوع لإرادة دولة أخرى، وإن التزمت المواثيق الدولية فبالتزامها. وهذا ظاهر؛ فلكل دولة حرية في ممارسة سلطاتها وعلاقاتها. وليست هذه محل الحديث هنا.

وأمَّا السيادة في الدولة: فهي التي تعنينا، وهي محل الحديث في موضوعنا.

وأول من استخدم مصطلح السيادة هذه في الفكر السياسي الأجنبي المعاصر، هو المفكّر الفرنسي جان بودان Jean Bodin(4). فقد ألف كتاباً بعنوان: ’’ستة كتب عن الجمهورية’’ نشره عام1576م، عرّف فيه السيادة بأنَّها: ’’ سلطة عليا على المواطنين والرعايا لا يحدّها القانون ’’.

وفي توضيحه لمعنى السيادة، فرّق بودان بين السيد (صاحب السيادة) وبين الحاكم؛ ’’ فالسيد أو صاحب السيادة، هو من كانت سلطته دائمة. أمَّا الحاكم فسلطته مؤقتة؛ ولذلك فلا يمكن وصفه بأنَّه صاحب السيادة؛ وإنَّما هو مجرد أمين عليها’’(5).

ومن خصائص السيادة لديه: أنَّها مطلقة، لا تخضع للقانون. وأنَّها تُمكِّن سلطة التقنين من وضع القوانين، دون موافقة الرعايا(6).

ومن خصائصها: أنَّه لا يمكن أن يفرض عليها أيّ إرادة من قبل إرادة أخرى(7).

وممن تحدث عن حقيقة معنى السيادة العميد دوجي Duguit فيما عُرف بالقانون الأعلى وسيادة القاعدة القانونية الأعلى. حيث بيّن أنَّها سلطة حاكمة للسلطات. وقد أفاد منه د. عبد الحميد حيث أشار إلى أنَّ السيادة هي: ’’ السلطة العليا التي لا نعرف فيما تنظّم من علاقات سلطة عليا أخرى إلى جانبها ’’(8).

وممن بيّن مفهوم السيادة هوبز، إذ وضح أنَّها: ’’ سلطة عليا متميزة وسامية، ليست في القمة بل فوق القمة، فوق كل الشعب وتحكم من مكانها ذاك المجتمع السياسي كلّه؛ ولهذا السبب فإنَّ هذه السلطة تكون مطلقة، وبالتالي غير محدودة لا في مداها ولا في مدتها، وبدون مسؤولية أمام أي إنسان على الأرض ’’(9).

ومع أنَّ بودان بيّن فكرة السيادة، لكن بيانه لها قد خلا من بيان أساس لهذه السيادة، ولاسيما مع استبعاده للتأسيس على نظرية التفويض الإلهي في المفهوم الكنسي، وهو ما جعل فكرة السيادة لديه لا ترقى إلى مستوى النظرية؛ مما فتح المجال لتدخل غيره في استكمال بناء نظرية السيادة وفق الفلسفة الوضعية(10)؛ ثم شاع هذا المصطلح في الفكر الديمقراطي بعد كتاب ’’ العقد الاجتماعي’’ للفيلسوف الفرنسي جان جاك رسو، حين شارك في استكمال النظرية وفق فلسفته؛ فطبق معنى السيادة الوضعي من خلال نظريتي: سيادة الأمّة، وسيادة الشعب.

والذي يهمنا هنا كما أسلفت، هو معنى السيادة وحقيقته المؤثرة في الحكم المتعلق بديننا ونظامنا الإسلامي، لا بغيره؛ إذْ هو المعيار والحكم على غيره لا العكس؛ لأنَّ الشرعي حين يُبيِّن حكم مصطلح ما، من المصطلحات المحدثة أو الوافدة، فإنَّه يبحث عن معنى المصطلح وحقيقته، سواء وجد في الواقع أو لم يوجد، وهو لا يرهن الحكم باللفظ والنشأة على حساب المعنى، ولا برؤية من حاول تطبيقه وفق فلسفته.

وبعبارة أخرى: أن يفرق بين البحث في نشأة المصطلح بوصفه مصطلحا بلفظه ومعناه، فهنا في الأمر سعة. وبين البحث في حقيقة المصطلح ومعناه بغض النظر عن لفظه ونشأته وتاريخه، وهنا لابد من بيان الحكم الشرعي فيه.

وعليه فخلاصة القول هنا: أنَّ السيادة في نظرية الدولة ونظام الحكم، تعني في أصل فكرتها: السلطة العليا المطلقة التي تقيٍّد سلطة الأمّة، وسلطة الحكومة بسلطاتها، ومن ثمّ تقيد تبعاً لذلك القواعد القانونية التي يتشكل منها الدستور، والذي تقوم بوضعه سلطة عليا تمثل المجتمع.

وممن عرفها بلغة الشرعيين، الدكتور صلاح الصاوي، إذ قال: ’’ السيادة هي: السلطة العليا المطلقة التي تفرّدت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال ’’(11).

3- وبناء على هذا البيان لحقيقة السيادة الذي خلاصته وجود سلطة عليا مطلقة لا تحكمها سلطة أخرى لا بجانبها ولا أعلى منها؛ فإنَّنا نستطيع أن نقول بكل ثقة ووضوح: تلك حقيقة لا توجد في غير نظام الإسلام، وهي ظاهرة في نظام الحكم الإسلامي على وجه الخصوص؛ فإنَّه محكوم باتفاق المسلمين بسلطة عليا مطلقة حقا، تتمثل في: كتاب الله تعالى وسنة رسوله.

يوضح ذلك الدكتور فتحي عبد الكريم في رسالته العلمية (الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة) حين يبين ذلك من خلال ثلاثة محاور رئيسة:

الأول: أنَّ السيادة ونظريات السيادة، لم تستطع تقديم أساسٍ قانونيٍ أعلى للسلطة، سوء كان ذلك في الفكرة الأولى للسيادة، أو بعد انتقالها إلى الأمَّة أو الشعب؛ وهذا ما دفع بعض كبار أساتذة القانون الفرنسيين (دوجي) إلى أن يقرِّر أنَّ فكرة السيادة بمفهومها الحقيقي، ’’ غير قابلة لأي حلّ بشري ! لأنَّه لا يمكن لأحدٍ أن يُفسِّر من الناحية الإنسانية – أن إرادة إنسانية يمكن أن تسمو أو تعلو على إرادة إنسانية أخرى ’’(12).

ولهذا يقرّر أستاذ آخر هو (لافاريير) أنَّه: ’’ إذا كانت النية تتجه إلى تقديم السيادة على أنَّها حق في الأمر، فإنَّه لا يوجد سوى نظرية واحدة منطقية ومقبولة، وهي: النظرية الدينية، تلك التي تُقرِّر أنَّ السلطة السياسية ترجع في مصدرها إلى الله؛ وفي هذه الحالة إذا ما وجد في السيادة عنصر إلهي، فإنَّ الإرادات البشرية سوف تخضع لقرارات صاحب السيادة؛ لأنَّ هذه السيادة سوف تكون إعلاناً عن سلطة تعلو سلطة البشر ’’(13).

الثاني: أنَّ سلطة السيادة مطلقة؛ وهذا يعني أنَّه لا يصح أن ترد عليها قيود؛ لأنَّ ورود القيود عليها يخالف جوهر النظرية، ولا تتفق مع طبيعتها كما يقول د. فتحي عبدالكريم، الذي يقول ’’ ولهذا السبب وجدنا أحد كبار المفكرين (جورج سل) يقرر بحق أنّ نظرية السيادة غير مفهومة في ظل شخصية الدولة القانونية التي تحيا في ظل نظام قانوني؛ لأنَّ السيادة تعني قدرة العمل الإرادي المطلق في حين أنَّ الدولة كشخصية قانونية– تعني قدرة العمل الإرادي المحدّد وفق النظام القانوني،ويرى سل أنَّ فكرة السيادة تؤدي إلى هدم فكرة الدولة القانونية ومبدأ سيادة القانون.

أمَّا طبقاً للنظرية الإسلامية، فإنَّ السلطة مقيدة بأحكام القرآن والسنة، والتي تُشكِّل نوعاً سامياً من القانون الدستوري الذي يعلو على القانون الدستوري الوضعي؛ لأنَّ الأمَّة كلّها لو اجتمعت لا تملك أن تغيّر أو تعدّل فيه. وبذلك كانت دولة الإسلام أول دولة قانونية في التاريخ، يَخضع فيها الحكّام للقانون ويمارسون سلطانهم وفقاً لقواعد عليا تُقيدهم ولا يستطيعون الخروج عليها’’.

الثالث: من حيث ضمانات تقييد السلطة بالسيادة؛ فإنَّ ’’ نظرية السيادة حسب مفهومها الأصلي الصحيح، تأبى أي تقييد للسلطة، ولا تعرفه، وأنَّ السلطة فيها مطلقة من أيّ قيود؛ لذلك فإنَّه يكون من المنطقي أن لا تعرف هذه النظرية فكرة الضمانات اللازمة لتقييد السلطة؛ وبالتالي فلا يمكن القول بوجود أيّة ضمانات لهذا التقييد.

أمَّا بالنسبة للنظرية الإسلامية، فإنَّ الوضع مختلف، ذلك أنَّ رسالة الإسلام لم تكتف بوضع نظام الحكم المقيد؛ وإنَّما عنيت أيضاً بوضع ضمانات لهذا التقييد... ولقد رأينا من من دراسة النظرية الإسلامية أنَّ هذه الضمانات على نوعين: يتمثل أولهما في الشورى، وما تمثله من ضرورة رجوع الحكّام إلى الأمَّة في الأمور الهامّة. ويتمثل الثاني في رقابة الأمّة نفسها على تصرفات الحكّام، وحقّها في عزلهم إن صدر منهم ما يُبرِّر ذلك ’’(14) قلت كما ورد في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه؛ فكان فيما أخذ علينا، أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله. قال ((إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان )) (رواه الشيخان).

ومن له معرفة بالنظام الإسلامي، لن يجد معاناة في تحديد حقيقة السيادة العليا في النظام الإسلامي كلِّه بما فيه النظام السياسي، فما هي إلا تلك التي يعبّر عنها العلماء والمفكرون المسلمون المعاصرون بتعبيرات من مثل:

مبدأ المشروعية العليا، و الحاكمية، و الشرعية العليا، والحكم بما أنزل الله؛ ونحوها من التعبيرات المألوفة لدى الشرعيين والمتخصصين، بل ولدى عموم المسلمين.

4- ومن هنا فلا غرابة في اتفاق العلماء والباحثين المعاصرين - ولا سيما من لهم عناية بالسياسة الشرعية - على أنَّ السيادة العليا في الإسلام للشريعة ممثلة في نصوص القرآن والسنة؛ لأنَّ هذه الحقيقة مما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة؛ فلا سيادة تعلو سيادة الكتاب والسنة وهيمنتهما على غيرهما من الكتب والشرائع السابقة {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة : 48] فضلاً عن آراء عموم الناس وأقوالهم ونظرياتهم البشرية.

والحقيقة أنَّك عندما تضطر لتوضيح الواضحات، ستجد معاناة تشبه معاناتك عندما تحاول إثبات أنّ الشمس هي الشمس لمن لا يمكنه التعرف عليها ! وهكذا الشأن عندما يتحدث المسلم عن قضية قطعية؛ ولذلك فمن المنهج العلمي العملي معرفة موقع الحقيقة المتفق عليها من عقيدة أهل الإسلام، وليس بالضرورة تعداد أدلتها النصية وغيرها لكثرتها(15)، ولكون الاشتغال بها قد يوحي بأنَّ في المسألة خلافا مع أنَّه لا خلاف فيها.

وهنا أكتفي بعبارات كافية شافية - لمريد الحق دون مكابرة - في تأكيد حقيقة أنَّ سيادة الشريعة من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة؛ بعضها للمتقدمين، وبعضها للمعاصرين.

فمن عبارات المتقدمين الممزوجة بالاستدلال: قول أبي العباس ابن تيمية -رحمه الله- منبها إلى دليل الإجماع هنا في أقوى صوره: ’’ قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع النّاس: عربهم وعجمهم، ملوكهم وزهادهم، وعلمائهم وعامتهم؛ بل عامّة إلى الثقلين الجنّ والإنس. وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، وأنَّه ليس لأحدٍ من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين، وما سنّه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات؛ بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته وطاعته.. بل ثبت أنَّ المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء يكون متبعا لشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم... فكيف بمن دونهم، بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام: أنَّه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى؛ فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة غيره، فكيف بالخروج عنه وعن الرسل ؟!’’(16).

ومنها قول ابن القيم رحمه الله: ’’ والصحيح أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم؛ فإنَّه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا مع اعترافه بأنَّه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر.

وإن اعتقد أنَّه غير واجب، وأنَّه مخيّر فيه مع تيقنه أنَّه حكم الله، فهذا كفر أكبر. وإن جهله و أخطأه، فهذا مخطئ، له حكم المخطئين ’’(17).

وقال ابن أبي العز الحنفي: ’’... إن اعتقد أنّ الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنَّه مخير فيه، أو استهان به بعد تيقنه أنَّه حكم الله، فهذا كفر أكبر ’’(18).

ولاحظ التصريح بنفي التخيير في العبارات السابقة.

ومن عبارات المعاصرين الممزوجة بالاستدلال: قول الشيخ محمد شلتوت -رحمه الله-: ’’العقيدة في الوضع الإسلامي هي الأصل الذي تبنى عليه الشريعة، والشريعة أثر تستتبعه العقيدة، ومن ثم فلا وجود للشريعة في الإسلام إلا بوجود العقيدة، كما لا ازدهار للشريعة إلا في ظل العقيدة؛ ذلك أن الشريعة بدون العقيدة عُلُوٌ ليس له أساس، فهي لا تستند إلى تلك القوة المعنوية، والتي توحي باحترام الشريعة، ومراعاة قوانينها، والعمل بموجبها دون حاجة إلى معونة أي قوة من خارج النفس.

وإذاً فالإسلام يحتم تعانق الشريعة والعقيدة، بحيث لا تنفرد إحداهما عن الأخرى، على أن تكون العقيدة أصلا يدفع إلى الشريعة، والشريعة تلبية لانفعال القلب بالعقيدة، وقد كان هذا التعلق طريق النجاة والفوز بما أعد الله للمؤمنين.

وعليه فمن آمن بالعقيدة، وألغى الشريعة، أو أخذ بالشريعة وأهدر العقيدة، لا يكون مسلماً عند الله، ولا سالكا في حكم الإسلام سبيل النجاة ’’(19).

ومن العبارات الأكثر دقة في وصف الواقع بحكم المعاصرة، قول الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله: ’’هناك أشياء أطلق عليها علماء أمتنا الكبار اسم (المعلوم من الدين بالضرورة)، ويقصدون بها الأمور التي يستوي في العلم بها الخاص والعام، ولا تحتاج إلى نظر واستدلال عليها، لشيوع المعرفة بها بين أجيال الأمة وثبوتها بالتواتر واليقين التاريخي.

وهذه الأشياء تمثل الركائز أو (الثوابت) التي تجسّد إجماع الأمَّة، ووحدتها الفكرية والشعورية والعلمية.

ولهذا لا تخضع للنقاش والحوار أساساً بين المسلمين، إلا إذا راجعوا أصل الإسلام ذاته!

وأعتقد أنَّ من هذه الأمور: أنَّ الله تعالى لم ينزل أحكامه في كتابه، وعلى لسان رسوله، للتبرك بها، أو لقراءتها على الموتى ! أو لتعليقها لافتات تزيّن بها الجدران؛ وإنَّما أنزلها لتُتَّبع وتنفّذ، وتحكم علاقات الناس، وتضبط مسيرة الحياة وفق أمر الله ونهيه، وحكمه وشرعه.

وكان يكفي هذا القدر عند من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً، وبالقرآن منهاجا؛ لأن يقول أمام حكم الله ورسوله: سمعنا وأطعنا، دون حاجة إلى بحث عن دليل جزئي من النصوص المحكمة والقواعد الثابتة ’’(20)؛ ثم سرد جملة من الأدلة التي جعلت لزومية الحكم بما أنزل من الأحكام المعلومة بالضرورة من دين الإسلام تحت عنوان تالٍ: ’’ كثرة الأدلة على فرضية الحكم بما أنزل الله’’.

والعجيب أن من يتأمّل أصول أدلة هذا الأصل العظيم يجدها مشبَّعة بمعاني اللزومية! فمن يتدبر قول الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة : 49 ، 50] -على سبيل المثال- يجد ذلك فيه ظاهراً؛ فمن يتدبر هذه الآية كما يقول شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله: ’’ يتبين له أن الأمر بالتحاكم إلى ما أنزل الله أُكِّد بمؤكدات ثمانية:

الأوّل: الأمر به في قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة : 49].

الثاني: أن لا تكون أهواء الناس ورغباتهم مانعة من الحكم به بأي حال من الأحوال [ قلت: لا في صورة انتخابات ولا استفتاء وتخيير ولا غيره]؛ وذلك في قوله: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}.

الثالث: التحذير من عدم تحكيم شرع الله في القليل والكثير، والصغير والكبير، يقول سبحانه: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة : 49]. (قلت: فكيف بمن يقبل – فضلاً عن أن يروّج - الفتنة عن لزوم حكم الشريعة كلها؟!).

الرابع: إنَّ التولي عن حكم الله وعدم قبول شيءٍ منه، ذنب عظيم موجب للعقاب الأليم؛ قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة : 49].

الخامس: التحذير من الاغترار بكثرة المعرضين عن حكم الله؛ فإنَّ الشكور من عباد الله قليل، يقول الله تعالى {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة : 49]

السادس: وصف الحكم بغير ما أنزل الله بأنَّه حكم الجاهلية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة : 50]؟!

السابع: تقرير معنى عظيم بأن حكم الله أحسن الأحكام وأعدلها يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة : 50].

الثامن: إنَّ مقتضى اليقين هو العلم بأن حكم الله هو خير الأحكام وأكملها وأتمها وأعدلها؛ وأنَّ الواجب الانقياد له مع الرضا والتسليم، يقول سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة : 50].

وهذه المعاني موجودة في آيات كثيرة من القرآن، وتدل عليها أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله ’’(21).

وهذا أصل من الأصول التي لا تقبل الاستثناء مع القدرة، بل هي لازمة التطبيق، لا خيار لأحدٍ في تطبيقها؛ وفي هذا يقول الشيخ محمد مصطفى الزحيلي: ’’ إنَّ المسلمين عامّة، وحكّام المسلمين خاصّة ليس لهم الخيار في تطبيق الشريعة أو عدم تطبيقها؛ بل هي إلزامية من الله تعالى الذي تفرد وحده بالخلق، وتفرد وحده بالأمر والتشريع، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف : 54] ، وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام : 57] وقال تعالى: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام : 62].

ومن ترك حكم الله تعالى وهو قادر على تطبيقه، أو قصّر في تنفيذه بدون عذر ولا ضرورة، فإنَّه مؤاخذ ومسؤول أشدّ المسؤولية أمام الله تعالى.

وهذا ما سبق بيانه في وجوب تحكيم الشريعة، والانضواء تحت لوائها، والتقيد بأحكامها، وعدم الخروج عنها، أو الخيرة في تطبيقها ’’(22).

وقال الشيخ يوسف القرضاوي تحت عنوان: الثوابت لا يتدخل فيها التصويت: ’’ إنَّ هناك أموراً لا تدخل مجال التصويت، ولا تُعرض لأخذ الأصوات عليها؛ لأنَّها من الثوابت التي لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته ولم يعد مسلماً.

فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع، وأساسيات الدين، وما عُلِم منه بالضرورة ’’(23).

وقال الدكتور عبد العزيز عزت الخياط: ’’ والسيادة للشرع موضع إجماع المسلمين قاطبة، لا يشذّ عن ذلك واحد... فأهل السنة يرون أنَّ الإمام يستمد سلطته من الأمّة، سواء أكان المختارون له هم أهل الحل والعقد، أو من الأمّة بمجموعها إذا تيسر ذلك، وسلطته تستمد من الشعب، وإن كانت السيادة للشرع.

وهذا فرق آخر بين الديمقراطية والإسلام؛ فالسيادة والسلطة في الحكم الديمقراطي هي للشعب، بينما السيادة في الإسلام للشرع، والسلطان للأمّة ’’(24).

فالسيادة في دين الإسلام لشريعة الإسلام باتفاق أهل الإسلام؛ وما يذكره بعضهم من وجود خلاف، فهو خلاف لفظي ليس إلا. إذ هناك من يقول: السيادة للأمّة، ولكنه في حقيقة الأمر يعني أنَّ السلطة في تحقيق السيادة للأمّة؛ لأنَّه يعود ليؤكد أنَّ الأمّة محكومة بالشريعة الإسلامية ممثلة في الكتاب والسنّة.

وسبب هذا الفهم: الخلط بين مصطلح السيادة والسلطة؛ ولهذا فرَّق أهل الشأن بينهما.

وفي هذا يقول الدكتور عبد الجليل محمد علي: ’’بالنظرة المتعمِّقة في النظريات السالفة للوقوف على ما اختلفت فيه وما اتفقت عليه، نجد أنَّ الخلاف ما هو إلا خلاف في الصياغة دون المضمون؛ وآية ذلك: أنّ النظريات قد اتفقت فيما بينها على أنَّ السيادة للأحكام الإلهية الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية؛ وهذا ليس محل جدال أو نقاش مع أصحاب نظرية السيادة الإلهية.

أمَّا أصحاب النظرية الثانية فإنَّهم بعد أن ذكروا لنا أنَّ السيادة للأمَّة، عادوا فقالوا: إن هذه الأخيرة – وأقصد الأمَّة – يجب أن لا تبرم أمراً بموجب ما لها من سيادة، يخالف نصاً وارداً في أحكام التشريع الإلهي؛ وبذلك تكون سيادة الأمَّة مقيدة بهذا التشريع الإلهي، فإذا تجاوزته فقدت مشروعيتها.

وفي التحليل النهائي فإنَّنا نجد أنفسنا أمام سيادة للأمّة الإسلامية مقيدة لصالح سيادة أسمى وأعلى منها مرتبة، وهي: سيادة التشريع المنزّل من عند الله،... وبذلك لا يكون هناك خلاف في الحقيقة بين هذه النظريات المختلفة ’’(25).

وواضح أنَّ تقييد سيادة الشعب يخرجها عن معنى السيادة الأصلي الذي يعني: السلطة العليا المطلقة التي لا يقيدها شيء أو التي لا توجد سلطة أخرى إلى جانبها كما يقول دوجي.

وجاء في كتاب: السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية: ’’الإسلام جاء بقواعد تبيّن السيادة للشرع، وأنَّ حقّ السلطان للأمّة؛ وأنَّ الإمام نائب عن الأمّة في ممارسة ومباشرة هذا السلطان. ولقد خفي هذا المعنى على كثير ممن نسب السيادة أو بعضها للأمّة، حيث اختلط عليهم ممارسة السلطان ومباشرة الحكم مع واقع السيادة، فجعلوها أمراً واحداً! مع اختلافهما شرعاً وعقلاً ’’(26).

وجاء فيه: ’’ وما جعله الله عز وجل من سلطان للأمّة بالاستخلاف وللإمام بالبيعة، ليس تفويضاً ولا منحاً للسيادة بحال من الأحوال، بل هو تكليف وابتلاء للقيام بواجبات الدين وأحكامه ’’(27).

وهذه السيادة لا يخرمها ظلم ظالم، ولا استبداد أحدٍ باسم الشريعة؛ فالشريعة ما شرع الله، لا ما نسبه أهل الأهواء والظلم إلى شريعة الله؛ ولذلك جاءت النصوص الصريحة في تجريم الجور، وتحريم الظلم، ومن ذلك الوعيد لبعض القضاة من أهل الإسلام بالنار، لتجاوزهم سيادة الشريعة، وحكمهم بالجهل فضلاً عن تعمد الظلم. حيث تقاس شرعية أعمال الدولة بمدى التزامها بسيادة الشريعة. ولا تكون أخطاء الدولة العارضة فضلاً عن جورها المتعمد، حكماً على الإسلام وسيادة شريعته.

5- ولمَّا كانت طريقة أهل الإسلام في نظر المسائل المحدثات تنطلق من منهج الإسلام ذاته؛ وذلك من خلال: ردّ ومحاكمة كل مسألةٍ، إلى الكتاب والسنة وفق أصول الاستنباط الصحيح؛ فما لم يتنازع المسلمون في حكمه قبولاً أو ردّاً، فهو الإجماع الشرعي المعتبر؛ وما تنازع المؤهّلون للاجتهاد في حكمه فهي التعددية الفقهية السائغة، تكون محلّ مناقشة وتدارس بين أهل العلم لا محل تجريم؛ وما كان محلّ تفصيل فصّلوا فيه.

لمّا كان ذلك كذلك، تمت محاكمة الديمقراطيات الحديثة، المتفرعة عن نظرية سيادة الأمّة ثم نظرية سيادة الشعب؛ إذ اتفق المؤهّلون من أهل العلم بالشريعة على رفض فلسفتها وأيديولوجيتها المخالفة للشريعة؛ ورأى جمهورهم التفصيل في آلياتها، لإمكان الفصل بين الأمرين.

وبناء على رأي جمهور فقهاء العصر في مشروعية التدرج في تطبيق العدل الإسلامي (الشريعة الإسلامية)، تمت مشاركة الحركات الإسلامية بالدول العلمانية في العمل السياسي ببلادهم، مفيدين من آليات الديمقراطية فيها؛ إذ لا خيار مستطاعٍ لهم فيها إلا سلوك هذه الطريق، التي تساهم في تخفيف منكر الحكم بغير ما أنزل الله شيئاً فشيئاً بالأدوات السلمية الممكنة.

وللأسف أن ثمة من عكس العملية في عالمنا العربي والإسلامي؛ فعمل على ما يؤدي إلى استخدام آليات الديمقراطية في ترسيخ فلسفتها المتفق على بطلانها شرعا. وهذا ظاهر في تقديم فلسفة الديمقراطية المناقضة للإسلام، على الإسلام ذاته، من خلال عزل الشريعة عن العقيدة، وتجاوز تلازمهما المتقرِّر شرعاً بادعاء عدم لزوم الحكم بها في حالةٍ ما، والتعامل مع الشريعة كما لو كانت قوانين بشرية مدنية تقبل الاستفتاء عليها بنعم أو لا ؟!

وقد بيّن الشيخ مصطفى صبري رحمه الله أنَّ ادعاء عدم لزوم الشريعة فرع عن القول بمبدأ (فصل الدين عن السياسة) العلماني، إذ قال رحمه الله: ’’القول بفصل الدين عن السياسة معناه: ادِّعاء عدم لزوم الدين للحكومة... ومعنى عدم لزومه للحكومة: ألا يكون له - أي للدين – سلطة عليها، ورقابة على أعمالها كما كانت للحكومة سلطة على الأمّة، ورقابة على أعمالها ’’(28).

بل وصفها في الحالة الإسلامية: ’’ إعلان استقلال من الحكومة التي كانت تابعة في أحكامها لأحكام الإسلام ضدّ متبوعها، وهو لا يقلّ في المعنى عن إعلان الحرب؛ لتمرّدها على متبوعها وخروجها عن طاعته ’’(29).

6- وقبل ختام هذه المقالة أذكر ما دوّنه بحرقة أحد شهود الحقبة التي أثيرت فيها شبهة سيادة الأمّة، وهو أستاذ أساتذتنا في القانون الدستوري الدكتور/عبد الحميد متولي رحمه الله، إذ يقول، منتقداً من ينسبون (مبدأ سيادة الأمَّة) إلى الإسلام:

’’ما درى أولئك أنَّ هذا المبدأ هو في حقيقته نظرية فرنسية – شأنه شأن مبدأ السيادة – استنبطه الفقهاء [يعني شراح القانون] الفرنسيون قبيل عصر الثورة الفرنسية، لظروف خاصّة بفرنسا في ذلك الحين، وأنَّ هذه النظرية إنَّما كانت بمثابة سلاح من أسلحة الكفاح ضد مبدأ(سيادة المَلِك) الذي كان سائداً في ذلك الزمان، وكان يستند إلى نظرية (الحق الإلهي)[يعني المفهوم الكنسي] التي لم يعد لها في زماننا هذا مكان، اللهم إلا في متحف آثار تاريخ المذاهب والنظريات السياسية.

وما دروا أنَّ مبدأ سيادة الأمَّة – كما قررته الثورة الفرنسية في دساتير الديمقراطيات الغربية – لم تعد بنا حاجة إليه في هذا العصر؛ لأنَّه لم يعد هناك وجود لمبدأ سيادة الملك ونظرية الحق الإلهي اللذين من أجل محاربتهما استنبط الفقهاء الفرنسيون مبدأ سيادة الأمَّة.

وفضلاً عن ذلك فإنَّ هذا المبدأ – كما أثبتت حوادث التاريخ حتى في البلد التي أنشأته (وهي فرنسا)– كان خطراً على الحريات، وأقوى سناد للاستبداد ’’(30).

ولارتباط فكرة التقليد في (سيادة الأمَّة) عند أولئك بالتقليد في (نظام الاقتراع العام)، علق رحمه الله وعفى عنه على ذلك بقوله: ’’ ليس هناك فيما أعتقد كارثة نكبتنا بها نزعة التقليد الأعمى والأعرج للأنظمة الغربية أفدح من تلك التي نكبتنا بها حين قلدنا الغرب ونقلنا عنه نظام الانتخاب (أو الاقتراع) العام.

لقد وصفتُ هذا التقليد في هذا المقام (بالأعمى والأعرج)؛ لأنّنا أخذنا بهذا النظام في بداية عهدنا بالنظام النيابي البرلماني – طبقا لدستور عام 1923م- حين كانت نسبة الأميّة لدينا في مصر تبلغ نحو 80% من عدد السكان، بينما كانت انجلترا التي تعدّ مهد النظام النيابي البرلماني وموطنه الأول، والتي سبقتنا في الأخذ به بعدة قرون، لم يتقرر فيها نظام الانتخاب العام إلا عام 1918م، أي قبل أن نأخذ به بخمسين سنة!(31).

وبذلك أغفلنا السُنَّة السليمة القويمة التي يجب أن تسير عليها أنظمة الحكم في طريق تطورها، وهي: سنّة التدرج.

كما أغفلنا النظر إلى النتائج العملية للأخذ بذلك النظام الانتخابي في البلاد التي سبقت لها تجربته، وإلى آراء رجال الفكر السياسي بصدده، واقتصرنا على النظر إلى النصوص الدستورية دون التفات إلى النتائج العملية، وفي ذلك خطأ مبين فاحش مألوف لدى كثير من المقلدين ’’(32).

ثم أورد شاهداً تاريخياً إذْ قال: ’’حين تقرّر في فرنسا لأوّل مرّة نظام الانتخاب العامّ، سنة 1848م عدّ ذلك كما يقول الأستاذ بارتملي -: خطئاً كبيراً، إذ أدّى ذلك الخطأ إلى سقوط الجمهورية، وقيام نظام الامبراطورية (ذي الصبغة الدكتاتورية)؛ فمن الخطر (كما يقول ذلك العالم الفرنسي الكبير) أن ندعو عامّة الشعب إلى الاشتراك في الشؤون العامّة، إذا كان أفراده لم يحرزوا بعد قسطاً من النضوج السياسي ومن روح الجماعة le sens collectif ’’(33).

قلت: كل هذا في من زعم أنَّ لمبدأ سيادة الأمَّة صلة بالإسلام !

وفي هذا المعنى يقول فرانك بيلي: ’’ قد يبدو لأوّل وهلة أنَّ التصويت ثم قبول قرار الأكثرية شيء منطقي... لكن المسألة ليست بهذه البساطة ! لأنَّه كثيراً ما يكون هناك أكثر من خيارين يتعين انتقاء واحد منهما، وعلاوة على ذلك فإنَّه لا يتبع أن يضع كل مقترع عدداً من الخيارات بالترتيب نفسه الذي يفضله. لنفترض أنَّه توجد ثلاثة خيارات أ و ب و ج، فقد لا توجد أكثرية 50بالمائة + 1 لأي منها؛ وإذ طلب إلينا ترتيبها فقد تكون احتمالات الترتيب كما يلي: أ،ب،ج، - أ،ج،ب – ب،أ،ج – ب،ج،أ –ج،أ،ب – ج،ب،أ – ومع ذلك قد لا تظهر أكثرية واضحة في الترتيب.

ومن البديهي أنَّ الأمر يزداد صعوبة حين تكون لدينا أربعة خيارات للحصول على أكثرية واضحة لخيار ما؛ ولذلك قد يتم استنباط قواعد غير قاعدة 50 بالمائة +1 ’’(34).

ومع إشكاليات محددات الأغلبية ومن ثم محددات الأقلية - يقول أستاذنا الشيخ الدكتور منير البياتي حفظه الله: ’’ في النظام الديمقراطي لا توجد ضمانات ضد طغيان الأغلبية في البرلمان، وهي تمتلك حق التشريع، من أن تعصف بحقوق الأقلية، وتستبيح لنفسها تدميرها متبجحة بأنَّها منتخبة من قبل الشعب، وأنَّها تمثله ! وأنَّ إرادتها مطلقة؛ لأنَّها تمثل إرادة الأمَّة صاحبة السيادة!؛ والنتيجة الطبيعية لذلك، هي الاستبداد والطغيان ’’(35)؛ وقد استشهد بأقوال لعدد من الأساتذة الغربيين وغيرهم في باب مهم بعنوان: تطبيق النظام الديمقراطي، من أطروحته القيمة: (النظام السياسي الإسلامي مقارنا بالدولة القانونية – دراسة دستورية شرعية وقانونية مقارنة)، والذي أمضى في تأليفها ما يقارب عقداً من الزمن.

7- وأخيراً فإنَّ حالات الضرورة الاستثنائية، لا تخرم مبدأ سيادة الشريعة بحال؛ وإنّما قد ترفع الإثم عن التأخر الاضطراري في إعلان تحكيم الشريعة أو التدرج في تطبيقها؛ وهذه مسألة خارجة عن محل الإشكال، ومع ذلك فإنَّ العاجز عن تطبيق الشريعة يجب عليه وجوباً: التزام ما يمكنه تطبيقه منها في نفسه ومن حوله ومن تحت ولايته مع اعتقاد لزوم تحكيمها فيما يتطلب سلطانا، عند الاستطاعة على ذلك، دون أن يكون لأحدٍ في ذلك خيرة.

وقد نبَّهت – وغيري - إلى قاعدة الاستثناء للضرورة في بدايات ما يُعرف بالربيع العربي، إثر سقوط رأس النظام التونسي السابق، وذلك في خاطرة بعنوان: نحو وعي فقهي سياسي خاطرة من وحي الثورة التونسية، ومما جاء فيها: ’’ولعل من أهم وظائف العلماء في مثل هذه الحال في هذه العصر: أن يبادروا إلى درء الفتن، وبناء الوحدة الوطنية الأصلح في تحقيق المصالح ودرء المفاسد منطلقين من أصول الإسلام ومبادئه وموازنته الشرعية. وعليه؛ ففي مجتمعات تعمقت فيها الأحزاب غير الإسلامية فكرا، ينبغي أن يتم التعاون في المشترك الوطني الذي حفظ للأمة كيانها، ويُعملوا قواعد التدرج في بناء دولة تدرأ المفاسد، و تحقق ما أمكن من المصالح.

وليس من المناسب طرح ما تقتضي السياسة الشرعية التأني في طرحه. ففرق بين تقرير الأحكام الشرعية الثابتة والمتغيرة، الذي يجب أن يستمر وتتوارثه الأجيال، وخاصة ما كان من قبيل ( فقه المُنْسَأ أي: المؤخر لحينه)، وبين ظروف تطبيق ذلك وآليات تنزيله في الواقع، التي تحكمها ظروف المرحلة وفق أسس شرعية معروفة عند علماء الشريعة ’’(36).

هذا ما تيسر تدوينه عرضاً، في بيان قضية مهمّة، قد تخفى على بعض أهل الإسلام تفاصيلها لارتباطها بمصطلح أجنبي النشأة؛ ولكثرة ترويج الديمقراطية من خصوم الإسلام وغيرهم، دون وعيٍّ للفروق الجوهرية في النظر إلى الديمقراطية بين فلسفتها المناقضة للإسلام في جعلها السيادة للبشر أمة أو شعبا أو برلمانا، وبين آلياتها التي يمكن الإفادة منها بعد إخضاعها للسيادة الإسلامية وضبطها بضوابط النظام الإسلامي.

أسأل الله تعالى أن يوفق أهل الإسلام للحكم بشريعته في كل بلادهم، حتى يذوق النّاس طعم العدالة الإسلامية ورحمة الله في أرضه، دون تدخل طاغية مستبدّ متجاوز لحدود الله، فرداً كان أو جماعة.

وصلى اللهم على خاتم الأنبياء، وقدوة الحكّام الأوفياء، نبينا محمد وآله.


(*) وضعت هذه المقالة بناء على اقتراح عدد من الإخوة والأخوات؛ قصد كشف موقف العلماء الشرعيين ممن لهم عناية بالفقه السياسي والسياسة الشرعية، وغيرهم من أهل الشأن - من إشكالية أجنبية مستوردة ألصقت بالإسلام! وهي إشكالية وشبهة ليست بجديدة؛ بل وجدت منذ عقود فأسقطت في حينها، لكنها تجدد على نحو ما، أحيانا تلبيسا ومناكفة من خصوم الشريعة، وأحيانا التباساً من بعض مريديها، والنتيجة واحدة.

(1) الأسس العلمية لفلسفة التاريخ،لجوستاف لوبون:17-18(بواسطة:أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث،د.عبد الحميد متولي:248).

(2) أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث، د. عبد الحميد متولي:248. وفصَّل القول في ذلك بالمثال في ص: 198 وما بعدها.

(3) السيادة في الإسلام – بحث مقارن، د. عارف أبو عيد:25-26.

(4) ينظر: نظرية الدولة، د. محمد كامل عبيد:292، بواسطة: مبادئ نظام الحكم في الإسلام، د. فؤاد محمد النادي:25؛ وأصول نظام الحكم في الإسلام، لأستاذنا د. فؤاد عبد المنعم أحمد: 108.

(5) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، د.فتحي عبد الكريم:85؛ و أصول نظام الحكم في الإسلام، لأستاذنا د. فؤاد عبد المنعم أحمد: 108.

(6) المرجع السابق.

(7) ينظر: السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية:، د.محمد مفتي و د. سامي صالح الوكيل:13.

(8) المرجع السابق، نقلاً عن: القانون الدستوري والأنظمة السياسية، لمتولي:29.

(9) فكرة السيادة لجاك ماريتان، المجلة الدولية للتاريخ السياسي الدستوري:13، بواسطة: الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، د.فتحي عبد الكريم:85؛ وينظر: السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية:، د.محمد مفتي و د. سامي صالح الوكيل:16.

(10) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، د.فتحي عبد الكريم:88-89.

(11) نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية، له:14.

(12) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، د.فتحي عبد الكريم:463.

(13) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، د.فتحي عبد الكريم:463.

(14) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، د.فتحي عبد الكريم:464-465.

(15) ويمكن أن يراجع فيها – إضافة إلى كتب العقيدة والتفسير والأصول والرسائل والفتاوى لكبار علماء الأمة ومفكريها المؤصلين من السابقين والمعاصرين- بعض الأطروحات العلمية المتخصصة، ومن أجمعها: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي،، للشيخ عبدالعزيز مصطفى كامل، وهو يقع في مجلدين، من مطبوعات دار طيبة عام 1415.

(16) مجموع الفتاوى:11/424.

(17) مدارج السالكين:1/365.

(18) شرح العقيدة الطحاوي، لابن أبي العز الحنفي،تحقيق الشيخ أحمد شاكر ص:304 ط 1418.

(19) الإسلام عقيد وشريعة:11.

(20) من فقه الدولة في الإسلام: 102.

(21) وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه، لسماحة مفتي عام المملكة السابق الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:35. مع رسالة: تحكيم القوانين لمفتي الديار السعودية الأسبق الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله.

(22) التدرج في التشريع والتطبيق في الشريعة الإسلامية:103.

(23) من فقه الدّولة في الإسلام:142.

(24) النظام السياسي في الإسلام – النظرية السياسية –نظام الحكم:73-74.

(25) مبدأ المشروعية في النظام الإسلامي والأنظمة القانونية المعاصرة، دراسة مقارنة (النظام الإنجليزي-النظام الفرنسي- النظام السوفييتي):223-224؛ وينظر أيضاً: دراسة في منهاج الإسلام السياسي، لسعدي أبو جيب:73-74.

(26) د. محمد مفتي، ود. سامي الوكيل:38.

(27) المصدر السابق: 46.

(28) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعبادة المرسلين، له: 4/281.

(29) المصدر السابق:4/283.

(30) أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث، د. عبد الحميد متولي:248-249. وقد فصّل ذلك بالأمثلة في كتابه: مبادئ نظام الحكم في الإسلام مع المقارنة بالمبادئ الدستورية الحديثة: 177.

(31) وقال في الحاشية تعليقا: ’’ يلاحظ أنَّه حتى عام 1918م كانت انجلترا تأخذ بنظام الانتخاب المقيد (وهو عكس نظام الانتخاب العام) أي أنّه يشترط في الناخب شرط نصاب مالي أو كفاءة ’’.

(32) المصدر السابق: 263.

(33) المصدر السابق:264.

(34) معجم بلاكويل للعلوم السياسية:393.

(35) النظام السياسي الإسلامي مقارنا بالدولة القانونية – دراسة دستورية شرعية وقانونية مقارنة:319.

(36) نشر في عدد من المواقع ومنها موقع الاتحاد العالمي الإسلامي، وهي موجودة على موقعي:

http://smotaibi.com/dim/articles.php?action=show&id=219


أضافة تعليق