د.سعد بن مطر العتيبي
قرأت مقالة الدكتور خالد الدخيل، الْمُعَنْونة بـ: ’’الفتوى بين مَنْطِق الدِّين ومنطق الدَّولة’’، المنشورة في صحيفة الحياة في 5/12/1431، ومع أنَّ في المقالة عددًا من النِّقاط تستحقُّ المناقشة، إلاَّ أنَّني وجدتُ نفسي مضطرًّا إلى التَّعليق على الجانب النِّظامي الشَّرعي منها فقط؛ لأهمِّية هذا الجانب وخطورته، مع قلَّة العناية به من ناحية، ولِحَاجته إلى المناقشة من جهة الواقع تطبيقًا، ومن جهة أصول الشريعة ومبادئ الأنظمة تنظيرًا، من ناحية أخرى، ولعَلِّي أُوجِز ذلك في ثلاث ملحوظات رئيسة:
الأُولى: أؤيِّد سعادة الدكتور خالد في أنَّ الموضوع يستحقُّ العناية به من الناحية الدُّستورية التي هي حكَمٌ في هذا الموضوع؛ وأظنُّ الآليَّة الأصلح لذلك تتمثَّل في ضرورة إيجاد آليَّة شرعيَّة صحيحة؛ لِتَحقيق الرقابة الدُّستورية السابقة على الأنظمة، وذلك في جانبها الشَّرعي الذي تلتزم به الدَّولة مِن خِلال التِزامها بالكتاب والسُّنة دستوريًّا، مع العناية بالرقابة اللاحِقة للواقع التطبيقي؛ لكي لا يقع تناقُضٌ بين النِّظام الأساسي للحكم وبين ما دُونَه منَ التنْظيمات والقرارات والتطبيقات الحكوميَّة.
وثَمَّة آليات لـ(الرقابة الدستورية السابقة) في بلاد أخرى، يُمْكن الإفادة منها - بوَصْفها تجارب أُمَمية ناجحة - بعد صبغها بالشريعة الإسلامية وَفْقَ أصولِها المعتبرة عند علمائها؛ ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ [البقرة: 138]، والإفادة من تجارب الأُمَم النَّاجحة على هذا النحو تُعَدُّ إِحْدى قواعد السياسة الشرعية التي طُبِّقَت في عهد الخلفاء الرَّاشدين.
الثانية: أظنُّ أن الدكتور خالدًا قد بيَّن القاعدة التي يجب أن تكونَ عليها جميعُ أنظِمَتِنا - لا التي هي كائنة بالضرورة - وذلك في قوله: ’’وهذه القوانين والأنظمة تستند إلى ’’النِّظام الأساسي للحُكْم’’، الذي تنصُّ مادَّته الأولى على أنَّ دستور المملكة يتمثَّل في القرآن والسُّنة النبويَّة’’.
لكن الدكتور حكم على اللَّجنة - بحسب فَهْمي، وهو غير متخصِّص في الشريعة - بـ: أنَّها لم تَرْجِع إلى أنظمة الدولة؛ إذْ قال: ’’ لكن اللجنة لم تفعل ذلك، والمفارقة أنَّها بذلك لم تُخالِفْ - كما أشَرْنا أعلاه - نصًّا دستوريًّا، لكنها خالفت تشريعًا واضحًا صادرًا عن الدَّولة الَّتِي تنتمي إليها’’، ومُقْتَضاه أنَّ اللَّجنة لَم تَلْتَزِم في فتواها دُستورَ الْمَملكة الذي هو الكتاب والسُّنة كما في المادَّة الأولى من النِّظام الأساسي للحُكْم، ولا مرجعيَّة الكتاب والسُّنة، كما هو نصُّ المادة السَّابعة من النظام الأساسي أيضًا، ومِن المعلوم أنَّ الكتاب والسنَّة لا بُدَّ لَهُما من مرجعيَّة في تفسيرهِما وفق الأصول المعتبرة شرعًا، وهو ما ليس له جهة رَسْميَّة في بلدنا الْمُسلم غير المؤسَّسة الشرعية الرَّسْمية.
وهنا يَرِدُ سؤالٌ مهمٌّ، وهو: أين جهة تفسير أنظمة الدَّولة وَفْقَ الكتاب والسُّنة، إن لَم تكن هي مؤسَّساتِها الشَّرعيةَ الرَّسْمية المعتبرة التي تَجْمع نُخْبة من المؤهَّلين شرعًا، المرضيِّين منهجًا، المعيَّنين باختيار وَلِيِّ الأمر لهم؟! وقد ذكَرْتُ في مقال سابق إقرارَ بعض المتخصِّصين من الأجانب غير المسلمين بأهمِّية الفَتْوى بصفتها مرجعًا للدَّولة السُّعودية.
ويتفرَّع عن السؤال السابق سؤالٌ آخَر، وهو: ما فائدة الأمر الملَكِيِّ بشأن تنظيم الفتوى إن لَم تكن لفتوى الجهات الرسمية قيمة في نظام الدَّولة الذي يقوم على الشريعة؟
الثالثة: قال الدكتور خالد: ’’والمفارقة أنَّها بذلك لم تُخالف - كما أشرنا أعلاه - نصًّا دستوريًّا، لكنها خالفت تشريعًا واضحًا صادرًا عن الدولة التي تنتمي إليها’’، وهو كلام صحيح شرعًا ونظامًا وقانونًا، إلاَّ قوله: ’’ لكنَّها خالفتْ تشريعًا واضحًا صادرًا عن الدولة التي تنتمي إليها’’؛ فالحقيقة الواقعيَّة أيضًا: أنَّها لم تُخالف تنظيمًا صحيحًا من الناحية الدستورية، وعليه فهي لم تخالف تنظيمًا مرعيًّا في واقع الأمر؛ فمِن المعلوم أنَّ أنظمة الدَّولة العليا تَحْكم الأنظمة العادية، فضلاً عن القرارات الوزاريَّة؛ وبالرُّجوع إليها نجد أنَّ الاختلاط قد نُصَّ على منْعِه في مَرْسوم ملَكِي لم يزَلْ نافذًا من النَّاحية النظاميَّة، وهو ما جاء النصُّ صريحًا في لُزوم تطبيقِه في قرارات تنفيذيَّة عديدة لاحقة، منها خطاب وزير الدَّاخلية التنفيذي ذي الرقم (1278/ق /ع)، الصادر في 1/12/ 1423هـ، فقرة (4)، الذي ينصُّ على أن تؤدِّيَ المرأة عملَها في مكان منفصل تمامًا عن الرِّجال؛ وهذا يعني أنَّ الاختلاط في مَجال العمل في المؤسَّسات الحكومية وغيرها ممنوع نظامًا؛ وهو ما يتَّفِق مع الفتوى الشرعية الرَّسْمية السابقة، وهو أيضًا ما أكَّدَتْه الفتوى اللاَّحقة الصادرة من اللجنة الدائمة للإفتاء بشأن توظيف الكاشيرات في مكان مُختلط في صورة مُخالفة للأنظمة المرعيَّة؛ وعليه فإنَّ وجود مُخالفات تطبيقيَّة، لا يعني صِحَّة التطبيق ولا نظاميَّتَه، وكذلك وجود تنظيمات أدْنَى لا يُسوِّغ مُخالفة الأنظمة العُلْيا؛ مراعاةً لمبدأ سُموِّ الدُّستور ومبدأ تدَرُّج الأنظمة، ومِن ثَمَّ تكون تلك التنظيمات مَعيبة بعدم الدُّستورية، وهذا ما تكشفه المادَّة السابعة من النظام الأساسي للحكم، التي تنصُّ على أنَّ الكتاب والسنَّة حاكمان على جَميع أنظمة الدولة بما فيها النِّظام الأساسي للحكم ذاته، والمادَّة السابعة هي نصُّ الشرعية الإسلاميَّة العليا في النِّظام الأساسي للحكم، الذي صاغَتْه مجموعةٌ من (أولِي الأمر من العلماء المُحقِّقين والأمراء الحاذقين)، كُلِّفَت بصياغته من ولِيِّ الأمر وصاحب الولاية العظمى، تلك المجموعة المعروفة بِمَجموعة العشرة، وهي مَجْموعة متميِّزة بِحَق، فقد كان من علمائها معالي الشيخ الجليل محمد بن إبراهيم بن جبير - رحمه الله - وهو من النَّوادر الذين جَمعوا بين علم الشريعة وعلم القانون، وكان من أمرائها صاحب السُّموِّ الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز؛ ولذلك فلا غرابة أن تكون صياغة النظام الأساسي على هذا النحو من الإحكام الشرعي، الذي يُعدُّ التعدي عليه تعدِّيًا على شرعيَّة الدَّولة بصفتها دولة إسلامية تَحْكم بشريعة الإسلام، والكتاب والسنة هُما هما اللَّذان أقسم خادِمُ الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - سلَّمَه الله - على أن يكونا دستورَه في الحكم، وذلك في قسَمِه المشهورِ عند توَلِّيه للمُلْك.
وهنا ينبغي التنبُّه إلى أنَّ الدكتور خالدًا خلط بين أعمال بعض الأجهزة الحكومية - بما فيها قراراتها التنفيذية - المخالِفة للأنظمة، وبين نظام الدَّولة؛ وأنا هنا أؤكِّد على بعض (الأجهزة الحكومية)، وليس على (الدولة)؛ فالدولة ملتزمة بنظامها الأساسي؛ إذْ لَم يظهر نصٌّ نظامي أعلى يتجاوز نصَّ الشرعية في النظام الأساسي للحكم، ويتَّضِح هذا الْخَلْط لدى الدُّكتور في عددٍ من العبارات، منها العبارة السابقة، وأيضًا قوله: ’’مِن هنا تكشف الفتوى الأخيرة عن أنَّ هناك تبايُنًا بين الدولة والمؤسَّسة الدِّينية’’، وهذا تعبيرٌ غير دقيق، لا من الناحية النِّظامية، ولا القانونيَّة؛ فالتبايُن لا يقع بين (المؤسَّسة الدِّينية الشرعية) وبين الدولة، ولا بين الدَّولة وبين نظامها الأساسي للحكم، وإنَّما يقع بين بعض ما يَصْدُر من الأجهزة الحكومية التنفيذية، وبين نظام الدَّولة.
الرابعة: طرح الدكتور خالد في آخِر مقاله سؤالاً هذا نَصُّه: ’’كيف يُمْكن تكييف الشريعة بحيث يُصار إلى تَقْنينها؛ لِتُصبح قابلة للتحوُّل إلى دستور لدولة وطنيَّة حديثة، يُمَثِّل المرجعيَّة لكلِّ سلطات الدَّولة، وكلِّ مؤسَّساتها؟’’.
والحقيقة الشرعية أنَّ الشريعة لا تُكَيَّف على ما يريد النَّاس حُكَّامًا كانوا أو مَحْكومين؛ إذِ الحُكَّام فيها محكومون بها، وحاكمون بأحكامها شرعًا - وهو ما يصرِّح به وُلاة أَمْرِنا فِي خطاباتهم ولقاءاتهم بِحَمد الله - وإنَّما تُكيَّف شؤون الحياة السياسية وغيرها؛ لِتَكون على مقتضى النظر الشرعي، كما يُقرِّر علماء الإسلام وعلماء السِّياسة الشَّرعية على وَجْه الخصوص، ومِمَّن نصَّ على ذلك صراحةً الفقيهُ القاضي الشهير، وأستاذُ علم الاجتماع الكبير: العلاَّمةُ ابن خلدون - رحمه الله - كما أنَّ الشريعة وفِقْهَها مُدَوَّن لا يحتاج إلى تقنين بقدْر ما يحتاج إلى تأهيلِ مَن يُمثِّلها؛ لِيَكون قادرًا على الاستنباط الصحيح منها، مسائلَ وقواعدَ، فكم مِن قانونِيٍّ ومُحامٍ وقاضٍ يَحْفظ الأنظمة ولا يُحْسن تطبيقها على الوقائع!
نعَم، كم نحن بحاجة إلى آليات متطوِّرة ومؤسَّسات عصريَّة مستحدثة، يتمُّ من خلالِها رصْدُ القضايا المعاصرة التي تتطلَّبها الحياة، بل واستِشْراف ما قد يُحتاج إليه منها، وبيان مدى حاجة الأُمَّة إليها، مع كشف مكانها مِن أولويات متطلَّبات المجتمع، والإسهام في وضع بدائلها مِن قِبَل الجهات المختصَّة في جميع المَجالات، ثم عَرْضها على جهة رقابيَّة شرعيَّة مُختصَّة، كهيئة كبار العلماء مثلاً؛ لتتَّضح أمامها الرُّؤية، وتقف بِكُلِّ شفافية على المفاسد والْمَصالِح، ومِن ثَمَّ يُمْكِنها أن تُعْمِل النَّظر فيها نظرًا علميًّا شرعيًّا أصيلاً متينًا، يُسْهِم في تطوُّر الأمَّة، ويَكْشف عن قدرتها على المبادرة في الحلول المتطوِّرة، بعيدًا عن الرُّكون إلى التَّبَعية المُجرَّدة، وهو ما سيكشف لكثيرٍ من غير المتخصِّصين أنَّ الشريعة أسْمَى من العصر؛ فهي لِمَن يفقهها حقَّ فقهها، تقرِّر ما لا يتعارض مع قواعدها فيما لا نصَّ فيه، فضلاً عما يتَّفِق مع نصوصها، وهو ما قرَّره شيرل أستاذ الحقوق النِّمساوي، وعميد كلية الحقوق بجامعة ’’فيينا’’ سابقًا، في مقولته الشهيرة: إنَّ شريعة محمَّد صالحة لِتَحكم أوربا ألفَيْ سنة قادمة!
الخامسة: إنَّ مِمَّا سرَّنِي - وكم أتمنَّى أن يصحَّ ويدوم سروري به - ما قد يُفهم من تبنِّي الدكتور خالد من خلال هذا المقال: ما أجْمَع عليه علماءُ الإسلام من مرجعيَّة الكتاب والسُّنة للدولة المُسْلمة، إذْ يَظْهر من مقاله هذا عُدولُه - ولو جزئيًّا - عن فكرة (فَصْل الدِّين عن الدَّولة)، فبحسب عِلْمي أنَّ الدكتور خالدًا كان يتبنَّى هذه الفكرة مِن قَبْلُ في عدد من المقالات واللقاءات التلفزيونية في بعض القنوات، وإن كنت أرجو أن يكون فَهْمي لتبنِّيه لَها خاطئًا؛ لأنَّها خلاف ما أجْمَع عليه المسلمون قديمًا، وما عليه عامَّةُ أهل العلم حديثًا، وهو ما تمَّ تأكيده بقرارات المجمع الفقهي في بيانه لحكم العلمانية؛ وذلك أنَّه معدود في مسائل العقيدة، ومتفرع عن قضايا التوحيد.
وبه يُعلم أنَّ تأثر بعض المسلمين عربًا وعجمًا بفِكْرة (فَصْل الدِّين عن الدولة) - وَهُم من غير المتخصصين في الشريعة، أو من غير الراسخين في العلم على أعظم تقدير - أمْرٌ حادث؛ ففكرة (فصل الدين عن الدولة) فكرة غربيَّة وُجِدَت كحلٍّ لتخلُّف أوربا في عصورها المظلمة الوُسْطى؛ نتيجةَ استبداد الحُكْم الكنَسِيِّ المُحرَّف في أوربا آنذاك، وهو استبداد لا يُقِرُّه الإسلام بِجَميع أنواعه، سواء كان في الجانب الاجتماعي أو السياسي أو محاربة العلم التجريبِيِّ؛ ومِن ثَمَّ فلا مسوِّغ لتلك الفكرة في دين الإسلام عقيدةً وشريعة، إلاَّ عند مَن يَجْهل حقيقة الإسلام، أو يبتغي غيره منهجًا للحياة.
والحديثُ عن تأثُّر بعض المسلمين عربًا وعجمًا بفكرة (فصل الدين عن الدولة) يَطُول، وقد انتقَدَه أهل العلم والمعرفة، من علماء الشَّريعة، وكبار علماء القانون، بل وعدد غير قليل من الْمُنْصِفين من المستشرقين من غير المسلمين، وقد تحدَّث مجموع هؤلاء عن هذه الفكرة، فبيَّنوا براءة الإسلام منها، وفنَّدوا شبهات مَن ينادون بها مِمَّن لا يُدْرِكون خطورتها ولا يقصدون مآلاتها، وكذلك عند المتبنِّين لها مِن خصوم الإسلام الذين يقصدون إقصاء الإسلام عن الحياة قصْدًا.
وقد ورَد الردُّ على هذه الفكرة في القرآن الكريم قبل أربعةَ عشرَ قرنًا، في أوجز عبارة، جَمَعت الحُكْم والحجَّة المنطقية معًا لِمَن يفقه: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، فسُبْحان اللهِ مَن خلق وشرَّع، ومن أحقُّ بالتشريع منه وهو مَن خلق؟! ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]؟!
هذه خواطِرُ جالَتْ في الذِّهن بعد قراءة مقالة الدكتور؛ فرأيت تدوينها على سبيل التَّوضيح والبيان الموجَز.
وصلِّ اللهم وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمَّد، خاتم رسُلِك، ومُبَلِّغ رسالتك، وإمام أُمَّتك وقدوتها، عابِدًا وحاكِمًا، وقاضيًا وقائدًا، وعلى آله وصحبه.
*الألوكة
قرأت مقالة الدكتور خالد الدخيل، الْمُعَنْونة بـ: ’’الفتوى بين مَنْطِق الدِّين ومنطق الدَّولة’’، المنشورة في صحيفة الحياة في 5/12/1431، ومع أنَّ في المقالة عددًا من النِّقاط تستحقُّ المناقشة، إلاَّ أنَّني وجدتُ نفسي مضطرًّا إلى التَّعليق على الجانب النِّظامي الشَّرعي منها فقط؛ لأهمِّية هذا الجانب وخطورته، مع قلَّة العناية به من ناحية، ولِحَاجته إلى المناقشة من جهة الواقع تطبيقًا، ومن جهة أصول الشريعة ومبادئ الأنظمة تنظيرًا، من ناحية أخرى، ولعَلِّي أُوجِز ذلك في ثلاث ملحوظات رئيسة:
الأُولى: أؤيِّد سعادة الدكتور خالد في أنَّ الموضوع يستحقُّ العناية به من الناحية الدُّستورية التي هي حكَمٌ في هذا الموضوع؛ وأظنُّ الآليَّة الأصلح لذلك تتمثَّل في ضرورة إيجاد آليَّة شرعيَّة صحيحة؛ لِتَحقيق الرقابة الدُّستورية السابقة على الأنظمة، وذلك في جانبها الشَّرعي الذي تلتزم به الدَّولة مِن خِلال التِزامها بالكتاب والسُّنة دستوريًّا، مع العناية بالرقابة اللاحِقة للواقع التطبيقي؛ لكي لا يقع تناقُضٌ بين النِّظام الأساسي للحكم وبين ما دُونَه منَ التنْظيمات والقرارات والتطبيقات الحكوميَّة.
وثَمَّة آليات لـ(الرقابة الدستورية السابقة) في بلاد أخرى، يُمْكن الإفادة منها - بوَصْفها تجارب أُمَمية ناجحة - بعد صبغها بالشريعة الإسلامية وَفْقَ أصولِها المعتبرة عند علمائها؛ ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ [البقرة: 138]، والإفادة من تجارب الأُمَم النَّاجحة على هذا النحو تُعَدُّ إِحْدى قواعد السياسة الشرعية التي طُبِّقَت في عهد الخلفاء الرَّاشدين.
الثانية: أظنُّ أن الدكتور خالدًا قد بيَّن القاعدة التي يجب أن تكونَ عليها جميعُ أنظِمَتِنا - لا التي هي كائنة بالضرورة - وذلك في قوله: ’’وهذه القوانين والأنظمة تستند إلى ’’النِّظام الأساسي للحُكْم’’، الذي تنصُّ مادَّته الأولى على أنَّ دستور المملكة يتمثَّل في القرآن والسُّنة النبويَّة’’.
لكن الدكتور حكم على اللَّجنة - بحسب فَهْمي، وهو غير متخصِّص في الشريعة - بـ: أنَّها لم تَرْجِع إلى أنظمة الدولة؛ إذْ قال: ’’ لكن اللجنة لم تفعل ذلك، والمفارقة أنَّها بذلك لم تُخالِفْ - كما أشَرْنا أعلاه - نصًّا دستوريًّا، لكنها خالفت تشريعًا واضحًا صادرًا عن الدَّولة الَّتِي تنتمي إليها’’، ومُقْتَضاه أنَّ اللَّجنة لَم تَلْتَزِم في فتواها دُستورَ الْمَملكة الذي هو الكتاب والسُّنة كما في المادَّة الأولى من النِّظام الأساسي للحُكْم، ولا مرجعيَّة الكتاب والسُّنة، كما هو نصُّ المادة السَّابعة من النظام الأساسي أيضًا، ومِن المعلوم أنَّ الكتاب والسنَّة لا بُدَّ لَهُما من مرجعيَّة في تفسيرهِما وفق الأصول المعتبرة شرعًا، وهو ما ليس له جهة رَسْميَّة في بلدنا الْمُسلم غير المؤسَّسة الشرعية الرَّسْمية.
وهنا يَرِدُ سؤالٌ مهمٌّ، وهو: أين جهة تفسير أنظمة الدَّولة وَفْقَ الكتاب والسُّنة، إن لَم تكن هي مؤسَّساتِها الشَّرعيةَ الرَّسْمية المعتبرة التي تَجْمع نُخْبة من المؤهَّلين شرعًا، المرضيِّين منهجًا، المعيَّنين باختيار وَلِيِّ الأمر لهم؟! وقد ذكَرْتُ في مقال سابق إقرارَ بعض المتخصِّصين من الأجانب غير المسلمين بأهمِّية الفَتْوى بصفتها مرجعًا للدَّولة السُّعودية.
ويتفرَّع عن السؤال السابق سؤالٌ آخَر، وهو: ما فائدة الأمر الملَكِيِّ بشأن تنظيم الفتوى إن لَم تكن لفتوى الجهات الرسمية قيمة في نظام الدَّولة الذي يقوم على الشريعة؟
الثالثة: قال الدكتور خالد: ’’والمفارقة أنَّها بذلك لم تُخالف - كما أشرنا أعلاه - نصًّا دستوريًّا، لكنها خالفت تشريعًا واضحًا صادرًا عن الدولة التي تنتمي إليها’’، وهو كلام صحيح شرعًا ونظامًا وقانونًا، إلاَّ قوله: ’’ لكنَّها خالفتْ تشريعًا واضحًا صادرًا عن الدولة التي تنتمي إليها’’؛ فالحقيقة الواقعيَّة أيضًا: أنَّها لم تُخالف تنظيمًا صحيحًا من الناحية الدستورية، وعليه فهي لم تخالف تنظيمًا مرعيًّا في واقع الأمر؛ فمِن المعلوم أنَّ أنظمة الدَّولة العليا تَحْكم الأنظمة العادية، فضلاً عن القرارات الوزاريَّة؛ وبالرُّجوع إليها نجد أنَّ الاختلاط قد نُصَّ على منْعِه في مَرْسوم ملَكِي لم يزَلْ نافذًا من النَّاحية النظاميَّة، وهو ما جاء النصُّ صريحًا في لُزوم تطبيقِه في قرارات تنفيذيَّة عديدة لاحقة، منها خطاب وزير الدَّاخلية التنفيذي ذي الرقم (1278/ق /ع)، الصادر في 1/12/ 1423هـ، فقرة (4)، الذي ينصُّ على أن تؤدِّيَ المرأة عملَها في مكان منفصل تمامًا عن الرِّجال؛ وهذا يعني أنَّ الاختلاط في مَجال العمل في المؤسَّسات الحكومية وغيرها ممنوع نظامًا؛ وهو ما يتَّفِق مع الفتوى الشرعية الرَّسْمية السابقة، وهو أيضًا ما أكَّدَتْه الفتوى اللاَّحقة الصادرة من اللجنة الدائمة للإفتاء بشأن توظيف الكاشيرات في مكان مُختلط في صورة مُخالفة للأنظمة المرعيَّة؛ وعليه فإنَّ وجود مُخالفات تطبيقيَّة، لا يعني صِحَّة التطبيق ولا نظاميَّتَه، وكذلك وجود تنظيمات أدْنَى لا يُسوِّغ مُخالفة الأنظمة العُلْيا؛ مراعاةً لمبدأ سُموِّ الدُّستور ومبدأ تدَرُّج الأنظمة، ومِن ثَمَّ تكون تلك التنظيمات مَعيبة بعدم الدُّستورية، وهذا ما تكشفه المادَّة السابعة من النظام الأساسي للحكم، التي تنصُّ على أنَّ الكتاب والسنَّة حاكمان على جَميع أنظمة الدولة بما فيها النِّظام الأساسي للحكم ذاته، والمادَّة السابعة هي نصُّ الشرعية الإسلاميَّة العليا في النِّظام الأساسي للحكم، الذي صاغَتْه مجموعةٌ من (أولِي الأمر من العلماء المُحقِّقين والأمراء الحاذقين)، كُلِّفَت بصياغته من ولِيِّ الأمر وصاحب الولاية العظمى، تلك المجموعة المعروفة بِمَجموعة العشرة، وهي مَجْموعة متميِّزة بِحَق، فقد كان من علمائها معالي الشيخ الجليل محمد بن إبراهيم بن جبير - رحمه الله - وهو من النَّوادر الذين جَمعوا بين علم الشريعة وعلم القانون، وكان من أمرائها صاحب السُّموِّ الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز؛ ولذلك فلا غرابة أن تكون صياغة النظام الأساسي على هذا النحو من الإحكام الشرعي، الذي يُعدُّ التعدي عليه تعدِّيًا على شرعيَّة الدَّولة بصفتها دولة إسلامية تَحْكم بشريعة الإسلام، والكتاب والسنة هُما هما اللَّذان أقسم خادِمُ الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - سلَّمَه الله - على أن يكونا دستورَه في الحكم، وذلك في قسَمِه المشهورِ عند توَلِّيه للمُلْك.
وهنا ينبغي التنبُّه إلى أنَّ الدكتور خالدًا خلط بين أعمال بعض الأجهزة الحكومية - بما فيها قراراتها التنفيذية - المخالِفة للأنظمة، وبين نظام الدَّولة؛ وأنا هنا أؤكِّد على بعض (الأجهزة الحكومية)، وليس على (الدولة)؛ فالدولة ملتزمة بنظامها الأساسي؛ إذْ لَم يظهر نصٌّ نظامي أعلى يتجاوز نصَّ الشرعية في النظام الأساسي للحكم، ويتَّضِح هذا الْخَلْط لدى الدُّكتور في عددٍ من العبارات، منها العبارة السابقة، وأيضًا قوله: ’’مِن هنا تكشف الفتوى الأخيرة عن أنَّ هناك تبايُنًا بين الدولة والمؤسَّسة الدِّينية’’، وهذا تعبيرٌ غير دقيق، لا من الناحية النِّظامية، ولا القانونيَّة؛ فالتبايُن لا يقع بين (المؤسَّسة الدِّينية الشرعية) وبين الدولة، ولا بين الدَّولة وبين نظامها الأساسي للحكم، وإنَّما يقع بين بعض ما يَصْدُر من الأجهزة الحكومية التنفيذية، وبين نظام الدَّولة.
الرابعة: طرح الدكتور خالد في آخِر مقاله سؤالاً هذا نَصُّه: ’’كيف يُمْكن تكييف الشريعة بحيث يُصار إلى تَقْنينها؛ لِتُصبح قابلة للتحوُّل إلى دستور لدولة وطنيَّة حديثة، يُمَثِّل المرجعيَّة لكلِّ سلطات الدَّولة، وكلِّ مؤسَّساتها؟’’.
والحقيقة الشرعية أنَّ الشريعة لا تُكَيَّف على ما يريد النَّاس حُكَّامًا كانوا أو مَحْكومين؛ إذِ الحُكَّام فيها محكومون بها، وحاكمون بأحكامها شرعًا - وهو ما يصرِّح به وُلاة أَمْرِنا فِي خطاباتهم ولقاءاتهم بِحَمد الله - وإنَّما تُكيَّف شؤون الحياة السياسية وغيرها؛ لِتَكون على مقتضى النظر الشرعي، كما يُقرِّر علماء الإسلام وعلماء السِّياسة الشَّرعية على وَجْه الخصوص، ومِمَّن نصَّ على ذلك صراحةً الفقيهُ القاضي الشهير، وأستاذُ علم الاجتماع الكبير: العلاَّمةُ ابن خلدون - رحمه الله - كما أنَّ الشريعة وفِقْهَها مُدَوَّن لا يحتاج إلى تقنين بقدْر ما يحتاج إلى تأهيلِ مَن يُمثِّلها؛ لِيَكون قادرًا على الاستنباط الصحيح منها، مسائلَ وقواعدَ، فكم مِن قانونِيٍّ ومُحامٍ وقاضٍ يَحْفظ الأنظمة ولا يُحْسن تطبيقها على الوقائع!
نعَم، كم نحن بحاجة إلى آليات متطوِّرة ومؤسَّسات عصريَّة مستحدثة، يتمُّ من خلالِها رصْدُ القضايا المعاصرة التي تتطلَّبها الحياة، بل واستِشْراف ما قد يُحتاج إليه منها، وبيان مدى حاجة الأُمَّة إليها، مع كشف مكانها مِن أولويات متطلَّبات المجتمع، والإسهام في وضع بدائلها مِن قِبَل الجهات المختصَّة في جميع المَجالات، ثم عَرْضها على جهة رقابيَّة شرعيَّة مُختصَّة، كهيئة كبار العلماء مثلاً؛ لتتَّضح أمامها الرُّؤية، وتقف بِكُلِّ شفافية على المفاسد والْمَصالِح، ومِن ثَمَّ يُمْكِنها أن تُعْمِل النَّظر فيها نظرًا علميًّا شرعيًّا أصيلاً متينًا، يُسْهِم في تطوُّر الأمَّة، ويَكْشف عن قدرتها على المبادرة في الحلول المتطوِّرة، بعيدًا عن الرُّكون إلى التَّبَعية المُجرَّدة، وهو ما سيكشف لكثيرٍ من غير المتخصِّصين أنَّ الشريعة أسْمَى من العصر؛ فهي لِمَن يفقهها حقَّ فقهها، تقرِّر ما لا يتعارض مع قواعدها فيما لا نصَّ فيه، فضلاً عما يتَّفِق مع نصوصها، وهو ما قرَّره شيرل أستاذ الحقوق النِّمساوي، وعميد كلية الحقوق بجامعة ’’فيينا’’ سابقًا، في مقولته الشهيرة: إنَّ شريعة محمَّد صالحة لِتَحكم أوربا ألفَيْ سنة قادمة!
الخامسة: إنَّ مِمَّا سرَّنِي - وكم أتمنَّى أن يصحَّ ويدوم سروري به - ما قد يُفهم من تبنِّي الدكتور خالد من خلال هذا المقال: ما أجْمَع عليه علماءُ الإسلام من مرجعيَّة الكتاب والسُّنة للدولة المُسْلمة، إذْ يَظْهر من مقاله هذا عُدولُه - ولو جزئيًّا - عن فكرة (فَصْل الدِّين عن الدَّولة)، فبحسب عِلْمي أنَّ الدكتور خالدًا كان يتبنَّى هذه الفكرة مِن قَبْلُ في عدد من المقالات واللقاءات التلفزيونية في بعض القنوات، وإن كنت أرجو أن يكون فَهْمي لتبنِّيه لَها خاطئًا؛ لأنَّها خلاف ما أجْمَع عليه المسلمون قديمًا، وما عليه عامَّةُ أهل العلم حديثًا، وهو ما تمَّ تأكيده بقرارات المجمع الفقهي في بيانه لحكم العلمانية؛ وذلك أنَّه معدود في مسائل العقيدة، ومتفرع عن قضايا التوحيد.
وبه يُعلم أنَّ تأثر بعض المسلمين عربًا وعجمًا بفِكْرة (فَصْل الدِّين عن الدولة) - وَهُم من غير المتخصصين في الشريعة، أو من غير الراسخين في العلم على أعظم تقدير - أمْرٌ حادث؛ ففكرة (فصل الدين عن الدولة) فكرة غربيَّة وُجِدَت كحلٍّ لتخلُّف أوربا في عصورها المظلمة الوُسْطى؛ نتيجةَ استبداد الحُكْم الكنَسِيِّ المُحرَّف في أوربا آنذاك، وهو استبداد لا يُقِرُّه الإسلام بِجَميع أنواعه، سواء كان في الجانب الاجتماعي أو السياسي أو محاربة العلم التجريبِيِّ؛ ومِن ثَمَّ فلا مسوِّغ لتلك الفكرة في دين الإسلام عقيدةً وشريعة، إلاَّ عند مَن يَجْهل حقيقة الإسلام، أو يبتغي غيره منهجًا للحياة.
والحديثُ عن تأثُّر بعض المسلمين عربًا وعجمًا بفكرة (فصل الدين عن الدولة) يَطُول، وقد انتقَدَه أهل العلم والمعرفة، من علماء الشَّريعة، وكبار علماء القانون، بل وعدد غير قليل من الْمُنْصِفين من المستشرقين من غير المسلمين، وقد تحدَّث مجموع هؤلاء عن هذه الفكرة، فبيَّنوا براءة الإسلام منها، وفنَّدوا شبهات مَن ينادون بها مِمَّن لا يُدْرِكون خطورتها ولا يقصدون مآلاتها، وكذلك عند المتبنِّين لها مِن خصوم الإسلام الذين يقصدون إقصاء الإسلام عن الحياة قصْدًا.
وقد ورَد الردُّ على هذه الفكرة في القرآن الكريم قبل أربعةَ عشرَ قرنًا، في أوجز عبارة، جَمَعت الحُكْم والحجَّة المنطقية معًا لِمَن يفقه: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، فسُبْحان اللهِ مَن خلق وشرَّع، ومن أحقُّ بالتشريع منه وهو مَن خلق؟! ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]؟!
هذه خواطِرُ جالَتْ في الذِّهن بعد قراءة مقالة الدكتور؛ فرأيت تدوينها على سبيل التَّوضيح والبيان الموجَز.
وصلِّ اللهم وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمَّد، خاتم رسُلِك، ومُبَلِّغ رسالتك، وإمام أُمَّتك وقدوتها، عابِدًا وحاكِمًا، وقاضيًا وقائدًا، وعلى آله وصحبه.
*الألوكة