عبدالعزيز كحيل
عملية التغيير على مستوى الأنفس والمجتمعات تقتضي تلازم الهدم والبناء لاستبعاد السلبيّات والمضارّ والعناصر المسبّبة للمرض والترهّل والموت في المرحلة الأولى من العملية، لإفساح المجال لتطعيم الكيانات المراد تغييرها بالجديد النافع الحامل لعوامل الصحّة والنشاط والتحفّز، وقد أُثرَ عن الصحابة رضي الله عنهم قولُهم : ’’ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُفرغُنا ثمّ يَملأُنا ’’ ، فالهدم ليس غاية مقصودة لذاتها إنّما إجراء يُلجأُ إليه عند الاقتضاء إذا كانت عملية التغيير لا تتمّ أولا تكتمل إلاّ به ،أمّا الهدف الذي ينشده الفرد والمجتمع ،ويمارسه العلماء والدعاة والمصلحون والمؤسسات المدنية والسياسية والتربوية وغيرها فهو البناء، بكلّ ما يحمل من معاني الإقامة المتينة التي تجدّد الدين والحياة النفسية والاجتماعية في جميع مظاهرها ومجالاتها، أي أنّ البناء غاية عامّة متواصلة متجدّدة، أمّا الهدم فوسيلة تُقدّر بقدرها ،ويُشترط فيها من المشروعية والنزاهة والسلامة ما يُشترط في الغاية نفسها، إلى جانب فقه كبير عميق بالأولويات والموازنات والإحاطة وبالسنن ممّا بسط فيه المختصّون القول.
كما يجب التنبيه إلى أنّ الإخلاص الذي ينبغي ان يصاحب عملية البناء كي تدخل نطاق الأعمال المرضية هو عنصر ضروري في عملية الهدم لتحريرها من نزوات العواطف وطيش الأهواء المتستّرة عادة بالدين والنية الطيّبة وخدمة الصالح العامّ .
كانت هذه التوطئة ضرورية لأنّ هناك أخطاءً منهجيةً تمادت فيها أطراف في الحركات التغييرية ، ومنها الاسلامية ،فنلاحظ سواء على المستوى التنظيري التجريدي أو التطبيقي العملي وجود من يركّز على الهدم كأنّه هو الغاية،ولا يكاد ييمّم وجهه شطر البناء إلاّ قليلا ، حتّى بلغ الأمر بهؤلاء درجة ربط الإصلاح والإفساد بعلاقة جدلية بحيث لا يتصوّرون القيام بعمل صالح إلا إذا سبقه بالضرورة إفساد – تحت ذريعة الهدم المشروع - كإراقة دماء أو إقصاء أو تلطيخ سمعة أو نسف بناء جيّد قائم أو اجتثاث جذور من أوصالها، فتراهم يعجّلون الهدم ويؤجّلون البناء،يرفضون المساهمة البسيطة في العمل التغييري سياسيا واجتماعيا وتربويا وإعلاميا واقتصاديا بدعوى أنّ ذلك ترقيع وهم لا يقبلون بأقلّ من إعمال معاول الهدم ماديا ومعنويا اليوم، وتقديم الوعود بإصلاح العمل غداً ... هكذا فعل إخوة يوسف- عليه السلام - :’’ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ’’،(سورة يوسف 9 )... متى يكونون صالحين إذًا ؟ بعد قتل يوسف أو الكيد له... فلا إصلاح قبل ذلك ، ولا بدّ من القتل والكيد ابتداء ،وكأنّ وجود الأخ الصغير عائق جذري وجوهري يستحيل معه أن يكونوا صالحين، لمَ كلّ هذا التفكير الغريب والمنطق غير السويّ ؟ إنّه الشيطان يضع أمام أصحاب الرؤى الضبابية و الهمم المنحطّة والنفوس المريضة عوائق تجعلهم لا يبطئون في السير فحسب وإنما يضلّون الطريق’’وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا’’ (سورة الكهف 104 ) ،وحتى لا يجدّوا في السير فإنّ الشيطان يختلق لهم موانع وعراقيل من داخل الصفّ فينشغلون بإزالتها ويتركون ساحات الدعوة والتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ويطول عليهم الأمد فينسون العدوّ الحقيقي في أنفسهم وفي محيطهم ويصبح دأبهم وديدنهم العدوّ الذي اصطنعته لهم شياطين الإنس والجنّ ، وقد يكون هذا العدوّ المصطنع واحدا من أبناء الصفّ المخلصين أو عنصرا من أصحاب السابقة أو له رأي مخالف في بعض الفروع أو عرَضا جزئيا زائلاً لا يستحقُ الالتفات الآن إلا بمقدار ضئيل.
بماذا نفسّر هتافات تجوب الأرجاء هنا هناك أو تُدبّج في كتب ومقالات ومنشورات تنادي- باسم الإسلام - أن لا راحة إلا بإزالة فلان من الدعاة أو العلماء أو المصلحين أو الهيئات الدعوية رغم توجّهه الاسلامي واشتهاره به، ورغم سابقته وتضحياته وعطائه الثرّ وجهاده المستمرّ ؟ماذا يعني التنادي بإنكار وجود هذه الجماعة أو تلك وأن لا وجود إلا لجماعتي وحدها والويل والثبور لغيرها ؟وكيف يُستعان عند المحنة بأولئك الذين كانوا منبوذين بالأمس؟ كما حدث تماما لإخوة يوسف الذين فعلوا فعلتهم الشنيعة زمن الفسحة والعافية ثم دارت الأيام دورتَها وسقطوا في الأزمة الغذائية الخانقة وحاصرتهم المسغبة فقصدوا – وهم لا يعرفون هوية المُنقذ الرجوّ – ذلك الذي تنادوا بإزالته إزالة عنيفة قد يكون فيها حتفُه، يقولون له ’’ يا أيّها العزيز مسّنا وأهلنا الضرّ وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا’’(سورة يوسف )..
إنّ بناء مجد إنسان أو تنظيم على الجماجم والجثث ليس من الإسلام ولا من المروءة في شيء ،وقد ظنّ ابن آدم الأوّل أنه بمجرّد قتل أخيه تكون له الحظوة لكن حدث العكس، فقد أحسّ بعد الجريمة النكراء المجانية بمستويين اثنين من العقوبة النفسية والمعنوية هما الخسران والندامة : ’’فقتلهفأصبح من الخاسرين ’’(سورة المائدة 30)...’’ قال يا ويلتي أعجزت ان أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين’’ (سورة المائدة 31 ).
إنّ العمل التغييري التربوي والدعوي و الاجتماعي يحتاج إلى مقادير وحجم و’’ تسعيرة’’ لكلّ خطوة، فإذا غاب التقدير الصحيح يمكن أن يؤدي التركيز على إزالة ما هو قائم بأيّ ثمن وكشرط مسبق للإنجاز القويم إلى تجذّر روح الهدم وحبّ الانتقام والتلذّذ بالتحطيم حتى إذا حان وقت البناء- كما كانوا يَعدُون - كانت السلبية والتآكل والاستمرار في الهدم و الانسحاب ، ويقع كل ذلك هذه المرة باسم الإسلام ..
ومن المعلوم أنّ سنة الله الماضية لا تحابي أحداً في النشاط العملي مهما كانت نيّته خالصة لأنّ الاخلاص لا يُجدي ابدا إلاّ إذا صاحبه الصواب :’’إن الله لا يصلح عمل المفسدين’’ (سورة يونس 81)، وهذه معادلة ما زالت – رغم بساطتها ووضوحها والتسليم بصوابها شرعا وعقلا – غائبة عن تصوّر كثير من الأطراف وسلوكها التغييري ،فوسّع ذلك نطاق الهدم وقلّص مساحات البناء إلى حدّ بعيد إلى درجة أن أغلب اللاحقين ينصبّ همّهم على إزالة آثار السابقين لاعتقادهم بفساد الماضي والماضين ،واقتناعهم أنّهم يملكون – وحدهم – وصفة البناء الناجح ، فيكون المصير مزيدا من التقهقر ،وهم يوهمون انفسهم بالحركة والنشاط ما داموا يهدمون !!!
وصدق ابن عطاء الله السكندري : ’’ لا تكن كحمار الرحى يسير ، والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه ’’
عملية التغيير على مستوى الأنفس والمجتمعات تقتضي تلازم الهدم والبناء لاستبعاد السلبيّات والمضارّ والعناصر المسبّبة للمرض والترهّل والموت في المرحلة الأولى من العملية، لإفساح المجال لتطعيم الكيانات المراد تغييرها بالجديد النافع الحامل لعوامل الصحّة والنشاط والتحفّز، وقد أُثرَ عن الصحابة رضي الله عنهم قولُهم : ’’ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُفرغُنا ثمّ يَملأُنا ’’ ، فالهدم ليس غاية مقصودة لذاتها إنّما إجراء يُلجأُ إليه عند الاقتضاء إذا كانت عملية التغيير لا تتمّ أولا تكتمل إلاّ به ،أمّا الهدف الذي ينشده الفرد والمجتمع ،ويمارسه العلماء والدعاة والمصلحون والمؤسسات المدنية والسياسية والتربوية وغيرها فهو البناء، بكلّ ما يحمل من معاني الإقامة المتينة التي تجدّد الدين والحياة النفسية والاجتماعية في جميع مظاهرها ومجالاتها، أي أنّ البناء غاية عامّة متواصلة متجدّدة، أمّا الهدم فوسيلة تُقدّر بقدرها ،ويُشترط فيها من المشروعية والنزاهة والسلامة ما يُشترط في الغاية نفسها، إلى جانب فقه كبير عميق بالأولويات والموازنات والإحاطة وبالسنن ممّا بسط فيه المختصّون القول.
كما يجب التنبيه إلى أنّ الإخلاص الذي ينبغي ان يصاحب عملية البناء كي تدخل نطاق الأعمال المرضية هو عنصر ضروري في عملية الهدم لتحريرها من نزوات العواطف وطيش الأهواء المتستّرة عادة بالدين والنية الطيّبة وخدمة الصالح العامّ .
كانت هذه التوطئة ضرورية لأنّ هناك أخطاءً منهجيةً تمادت فيها أطراف في الحركات التغييرية ، ومنها الاسلامية ،فنلاحظ سواء على المستوى التنظيري التجريدي أو التطبيقي العملي وجود من يركّز على الهدم كأنّه هو الغاية،ولا يكاد ييمّم وجهه شطر البناء إلاّ قليلا ، حتّى بلغ الأمر بهؤلاء درجة ربط الإصلاح والإفساد بعلاقة جدلية بحيث لا يتصوّرون القيام بعمل صالح إلا إذا سبقه بالضرورة إفساد – تحت ذريعة الهدم المشروع - كإراقة دماء أو إقصاء أو تلطيخ سمعة أو نسف بناء جيّد قائم أو اجتثاث جذور من أوصالها، فتراهم يعجّلون الهدم ويؤجّلون البناء،يرفضون المساهمة البسيطة في العمل التغييري سياسيا واجتماعيا وتربويا وإعلاميا واقتصاديا بدعوى أنّ ذلك ترقيع وهم لا يقبلون بأقلّ من إعمال معاول الهدم ماديا ومعنويا اليوم، وتقديم الوعود بإصلاح العمل غداً ... هكذا فعل إخوة يوسف- عليه السلام - :’’ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ’’،(سورة يوسف 9 )... متى يكونون صالحين إذًا ؟ بعد قتل يوسف أو الكيد له... فلا إصلاح قبل ذلك ، ولا بدّ من القتل والكيد ابتداء ،وكأنّ وجود الأخ الصغير عائق جذري وجوهري يستحيل معه أن يكونوا صالحين، لمَ كلّ هذا التفكير الغريب والمنطق غير السويّ ؟ إنّه الشيطان يضع أمام أصحاب الرؤى الضبابية و الهمم المنحطّة والنفوس المريضة عوائق تجعلهم لا يبطئون في السير فحسب وإنما يضلّون الطريق’’وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا’’ (سورة الكهف 104 ) ،وحتى لا يجدّوا في السير فإنّ الشيطان يختلق لهم موانع وعراقيل من داخل الصفّ فينشغلون بإزالتها ويتركون ساحات الدعوة والتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ويطول عليهم الأمد فينسون العدوّ الحقيقي في أنفسهم وفي محيطهم ويصبح دأبهم وديدنهم العدوّ الذي اصطنعته لهم شياطين الإنس والجنّ ، وقد يكون هذا العدوّ المصطنع واحدا من أبناء الصفّ المخلصين أو عنصرا من أصحاب السابقة أو له رأي مخالف في بعض الفروع أو عرَضا جزئيا زائلاً لا يستحقُ الالتفات الآن إلا بمقدار ضئيل.
بماذا نفسّر هتافات تجوب الأرجاء هنا هناك أو تُدبّج في كتب ومقالات ومنشورات تنادي- باسم الإسلام - أن لا راحة إلا بإزالة فلان من الدعاة أو العلماء أو المصلحين أو الهيئات الدعوية رغم توجّهه الاسلامي واشتهاره به، ورغم سابقته وتضحياته وعطائه الثرّ وجهاده المستمرّ ؟ماذا يعني التنادي بإنكار وجود هذه الجماعة أو تلك وأن لا وجود إلا لجماعتي وحدها والويل والثبور لغيرها ؟وكيف يُستعان عند المحنة بأولئك الذين كانوا منبوذين بالأمس؟ كما حدث تماما لإخوة يوسف الذين فعلوا فعلتهم الشنيعة زمن الفسحة والعافية ثم دارت الأيام دورتَها وسقطوا في الأزمة الغذائية الخانقة وحاصرتهم المسغبة فقصدوا – وهم لا يعرفون هوية المُنقذ الرجوّ – ذلك الذي تنادوا بإزالته إزالة عنيفة قد يكون فيها حتفُه، يقولون له ’’ يا أيّها العزيز مسّنا وأهلنا الضرّ وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا’’(سورة يوسف )..
إنّ بناء مجد إنسان أو تنظيم على الجماجم والجثث ليس من الإسلام ولا من المروءة في شيء ،وقد ظنّ ابن آدم الأوّل أنه بمجرّد قتل أخيه تكون له الحظوة لكن حدث العكس، فقد أحسّ بعد الجريمة النكراء المجانية بمستويين اثنين من العقوبة النفسية والمعنوية هما الخسران والندامة : ’’فقتلهفأصبح من الخاسرين ’’(سورة المائدة 30)...’’ قال يا ويلتي أعجزت ان أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين’’ (سورة المائدة 31 ).
إنّ العمل التغييري التربوي والدعوي و الاجتماعي يحتاج إلى مقادير وحجم و’’ تسعيرة’’ لكلّ خطوة، فإذا غاب التقدير الصحيح يمكن أن يؤدي التركيز على إزالة ما هو قائم بأيّ ثمن وكشرط مسبق للإنجاز القويم إلى تجذّر روح الهدم وحبّ الانتقام والتلذّذ بالتحطيم حتى إذا حان وقت البناء- كما كانوا يَعدُون - كانت السلبية والتآكل والاستمرار في الهدم و الانسحاب ، ويقع كل ذلك هذه المرة باسم الإسلام ..
ومن المعلوم أنّ سنة الله الماضية لا تحابي أحداً في النشاط العملي مهما كانت نيّته خالصة لأنّ الاخلاص لا يُجدي ابدا إلاّ إذا صاحبه الصواب :’’إن الله لا يصلح عمل المفسدين’’ (سورة يونس 81)، وهذه معادلة ما زالت – رغم بساطتها ووضوحها والتسليم بصوابها شرعا وعقلا – غائبة عن تصوّر كثير من الأطراف وسلوكها التغييري ،فوسّع ذلك نطاق الهدم وقلّص مساحات البناء إلى حدّ بعيد إلى درجة أن أغلب اللاحقين ينصبّ همّهم على إزالة آثار السابقين لاعتقادهم بفساد الماضي والماضين ،واقتناعهم أنّهم يملكون – وحدهم – وصفة البناء الناجح ، فيكون المصير مزيدا من التقهقر ،وهم يوهمون انفسهم بالحركة والنشاط ما داموا يهدمون !!!
وصدق ابن عطاء الله السكندري : ’’ لا تكن كحمار الرحى يسير ، والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه ’’