عبد العزيز كحيل
في مقالة متميّزة دبّجها يَراعُه البديع تحت عنوان ’’انتصار الرسول’’ رصد الشهيد سيّد قطب – رحمه الله – أربع محطات من السيرة النبويّة هي دلائل انتصار النبيّ – صلى الله عليه وسلّم – في تبليغ رسالة ربّه، وانطلاقاً من هذا أزعم في هذا المقال أنّ ثورة مصر الّتي تعيش الأمّة أجواءها وتستنشق فيها نسائم الحريّة تعلن هي الأخرى انتصار صاحب الظلال والمعالم – عليه رحمة الله –، فقد كانت معركته المعلنة بكلّ قوّة وحزم وحدّية– في هذين الكتابين بصفة خاصّة وفي جميع ما ألّف في المرحلة الأخيرة من حياته بوجه عام– ضدّ الاستبداد والطغيان والفرعونيّة المتألّهة الّتي تسلّطت على كثير من بلاد المسلمين وأعلنت الحرب بسفور على الأمّة وعقيدتها وشريعة ربّها وأحالتها إلى قطيع ذليل لا حريّة له ولا كرامة ولا رأي في تسيير شؤون حياته العامّة.
اتّخذ الداعية القدير الذي يتفاعل مع حقائق القرآن الكريم ومقتضياته ومع هموم الأمّة ، والذي آلمَتهُ حال الإسلام وأهله مواقفَ حديّة من الأنظمة الدكتاتوريّة، وصاغ الخلاف معها صوغاً عقديّاً يحتكم إلى القرآن والسنّة، فأصدر ضدّها أحكاماً صارمةً ترفضها جملةً وتفصيلاً وترفض أيّ تقارب أو مهادنة معها ومع أدبياتها ونسَقها مهما كانت الظروف، تحت طائلة صبغ الجميع بصبغة الجاهليّة... هكذا عاش الأعوام الاثني عشرة الأخيرة من حياته، متحديّاً الاستبداد الجاثم على صدر بلده، وهو يُشهر في وجهه سلاحا واحدا لا يملك سواه ولا يؤمن بغيره، هو قلمه، لكنّه قلمٌ كأنّه راجمات صواريخ وقنابل ثقيلة، فلم يهادن النظام القائم ولا حاشيته ولا الشهود على ظلمه وبطشه وطغيانه فضلا عن أعوانه المباشرين وغير المباشرين... وعندما حوكم للمرّة الثانيّة في سنة 1966 بعد إعادة اعتقاله بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم كان موضوع الاتّهام والمحاكمة هو كتابه ’’معالم في طريق’’ الّذي عرّى النظام الاستبدادي واتّهمه بالاستيلاء على خصائص الألوهية ومحاربة العقيدة، على أنّ الخطاب الذي تضمّنته ’’ المعالم ’’ لم يكن سياسياً موجّهًا رأسًا للحكّام وإنّما اتّخذ صبغة تحليل شامل عميق للمنظومة العقدية في الإسلام مع إجراء مقارنات مع الواقع والتنزيل عليه، وقد كانت كلمات الكاتب الكبير أقربَ إلى السياط اللاذعة على النظم والتشريعات الوضعيّة الّتي تزاحم دين الله وتذلّ عباده تحت شعارات إيديولوجيّة وسياسيّة تختلف في ظاهرها وحسب الظروف لكنّها متّحدة ومتوافقة في العدوان على شريعة الله وإنسانيّة الإنسان.
لقد ألّف سيد قطب – رحمه الله – آخر وأهمّ كتبه – مثل الخصائص العامة للإسلام، هذا الدين، الاسلام ومشكلات الحضارة، فضلا عن المعالم والطبعة الثانية المنقّحة من الظلال - وهو معتقل مدى الحياة منذ سنة 1954 ثمّ هو على عتبة المشنقة في سنة 1965، فلم تكن كتاباته خواطر سجين مظلوم ولا حتّى عرائض اتّهام ضدّ النظام الدكتاتوريّ إنّما هي أقرب إلى خلاصة تجربة حيّة في عالم الإيمان، فيها اعتزاز بالانتماء للإسلام كعقيدة وهويّة وجنسيّة، واستعلاءٌ عجيبٌ على الواقع الّذي صنعته ’’الجاهليّة الحديثة’’ ،وازدراءٌ له وسخريّةٌ منه باعتباره معياراً سخيفاً لا ينزل إلى مستواه أصحاب العقيدة الصحيحة والإيمان الحقّ، يقول – رحمه الله – في مقدّمة الظلال: ’’وعشت – في ظلال القرآن – أنظر من علوٍّ إلى الجاهليّة الّتي تموج بها الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهليّة بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصوّرات الأطفال، واهتمامات الأطفال.. كما كان ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال، ولثغة الأطفال.. وأعجب.. ما بال هذا الناس؟ ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة ولا يسمعون النداء العلويّ الجليل، النداء الّذي يرفع العمر ويباركه ويزكّيه؟’’.
ومهما قيل عن مبالغات في صوغه بعض آرائه في المسلمين وواقعهم وأنظمتهم السياسية والاجتماعيّة والدينيّة فإنّ ذلك لا يمكن أن يغطّي عن التجديد الفكريّ الّذي رفع لواءَه، وكان أبرزَ من تولاّه في الحركة الإسلاميّة منذ وفاة الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله ، وإذا كانت جماعات تكفيريّة قد خرجت من رحم الظلال والمعالم – وهي في الحقيقة نتاج السجون والمعتقلات والتعذيب الرهيب وسياسة الصدّ عن الدين في ظلّ الحكم الشمولي الذي تسلّط على مصر منذ سنة 1952 – فإنّ سيّد قطب قد ألهب العلماء والكتّاب والمربّين الإسلاميّين بالعاطفة الدينيّة الدافقة من جهة وباتّخاذ القرآن الكريم دليلاً عمليّاً للدعوة الإسلاميّة ومنازلة خصومها من جهة أخرى، ففتح لهم مجالات جديدة في البحث والكتابة حول المرجعيّة الإسلاميّة في العالم الحديث الّذي يمور بتناقضات جذريّة، باعتبار هذه المرجعيّة وحدها القادرة على تجاوز الأيديولوجيات الغربية والشرقية وما تنطوي عليه من تناقضات، وتنشئة الجيل الربّانيّ وتحقيق الانسجام النفسيّ والفكريّ والماديّ بين الإنسان ومحيطه الدينيّ والسياسيّ والاقتصاديّ والعلميّ بشكل يرسم للحياة البشريّة معنى ويحدّد لها أهدافاً ترفع مستوى الإنسان وتردم الهوّة بينه وبين الطريق الّذي رسمه له الإسلام.
عاش الرجل العظيم كصاحب رسالة واختار أن يُعلّق على أعواد المشنقة بسبب آرائه وحدها والتزامه بدينه وفداءً لجماعة الإخوان الّتي احتضنته واحتضنها، ورفض إلى آخر لحظة من حياته أن يساوم على مبادئه وأفكاره رغم الإغراء بعدم تنفيذ حكم الإعدام فيه إن صدر منه استعطاف لرئيس الدولة، لكنّ أمثال سيّد قطب أكبرُ من أن يحرصوا على حياة في ظلّ ’’بركات’’ طاغية متجبّر يَمنّ عليه بعفو يسلب به إرادته ودينه وأخلاقه وثباته، وقد حوّل الاستشهادُ – الذي نظنّ أنّ الله تعالى قد أكرمه به - المفكّر الكبير إلى واحد من أكبر معالم طريق الدعاة والمصلحين في بلاد العرب والمسلمين، ومع هذا ورغم شهرة سيد قطب وثراء أفكاره والجدل الواسع الذي أثارته في الساحة المصرية والعربية والاسلامية وما زالت تثيره إلى اليوم، ورغم بَصمته الواضحة في مرجعية جماعات وحركات إسلامية في أكثر من مكان لم تتمكّن مصر – مسقط رأسه – من إقامة احتفال يليق بمقام الرجل الشهيد ولا تأبينيّة تخلّد ذكراه، لأنّ النظام المستبدّ ما فتئ يعترض على مثل هذا النشاط لأنّه نظام يرفض أصحاب الآراء الحرّة ويقصيهم أحياءً وأمواتاً، لكنّ الأمر تغيّر هذه السنة بفضل الله تعالى الّذي حرّر مصر العظيمة من الحكم الفرعونيّ، فيمكن لجماعة الإخوان المسلمين – بل يجب عليها – أن تحيّي ذكرى استشهاد سيّد قطب في 29 أوت بتظاهرات فكريّة تعلن أنّ دمَه من الدماء الّتي أحيت الأمّة ووهبت لها الحياة، وأنّه قد انتصر على الطغيان والاستبداد بكتاباته وثباته واعتلائه منصّة الشنق بعزة وشموخ، كما يجدر بالجماعة أن تعمل على أن يصبح لفكر سيّد قطب حضورٌ قويّ في التلفزيون والجرائد والمنتديات ومختلف الفضاءات الثقافية والفكرية والدعوية، لدفع باطل المبطلين وردّ الشبهات وتوضيح ما ينبغي توضيحه أو تصحيحه من أفكار وآراء، فهو بشر محكوم بظروف الزمان والمكان والحال، بالإضافة إلى الضعف الملازم للبشر، فكم تعرّض رحمه الله للهجوم والانتقاص – وهو في قبره – وكم أُلصقت به من تُهم وافتراءات، بل بلغ الأمر ببعض المنتسبين للعلم الشرعي حدّ رميه بكلّ نقيصة، واعتبروه من الخوارج، ولا غرابة في ذلك، فهو – رحمه الله – صاحب تصوّر للإسلام كلُه أصالة وشجاعة واعتزاز، يرفض أن يلبس الاسلام منطقة الخدم ويكون رهن إشارة حاكم أو ملك يوجّهه حيث شاء، يأتمر بأمره وينتهي عن نهيه، ويَعدّ هذا المسلك عبوديةً لغير الله تعالى، أمّا خصومه هؤلاء فقد فعلوا ما حذّر منه وارتدوا منطقة الخدم وداروا في فلك الحكّام بناءً على تأويلات سمجة مغرضة لأحكام الاسلام، فما لهم وللشجاعة الأدبية ومواقف الرجولة والأنفة التي تُمليها عقيدة التوحيد الحيّة التحرّرية ؟ وشتّان بين من ضحّى بروحه من أجل دينه، ومن يتقوّت من فُتات موائد الحكّام باسم الدين.
لقد آن أوان إحقاق الحقّ وتجلية الحقائق ودحض الأكاذيب، وانقضى – إن شاء الله – ذلك الزمن التعيس الذي استقوى فيه الفراعنة الجدد بالعلمانية الثقافية العدوانية، واستقوت هي بهم، وفرضوا على الناس طوقا من التعتيم والتشويه ومارسوا الارهاب الفكري على الاسلاميين، وخاضوا معارك ضارية ضدّ رموز الاسلام – ومنهم سيد قطب – وكانوا في كلّ ذلك هم الخصم والحَكم، وانبرى كثير منهم في مصر وغيرها من البلاد العربية لإدانة سيد قطب ووصفه بالإرهاب، ومنعوا كتبه من الطبع والتداول حينا من الدهر ،وبلغ الامر بأحد جلاّديه أن يُطلّ أكثر من مرّة على الفضائيات ليسخر منه ويذكره بسوء ويؤكّد أنّه كان يقود تنظيما تخريبيا سرّياً يعمل على قلب نظام الحكم !!!، وقد كان يعذّبه بيده في محنة 1965 كما صرّح بعض أقطاب الإخوان في ردّهم على ذلك الضابط المتغطرس.
يا الله.. دارت الايام دورتها، و’’ ذهب الطغيان وبقي الاخوان ’’ كما كتب سيّد نفسه في تأبينه للإمام الشهيد حسن البنا في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، وانتصر الشعب المصري على النظام المستبدّ واسترجع حريته في التفكير والتعبير والحركة، وهذا في حدّ ذاته انتصار لسيّد قطب الذي احترف التفكير والتعبير والحركة... فهل تنصفه الساحة المصرية بإعادة التعريف به وإزالة العوائق أمام تراثه وفسح المجال للاهتداء بالدليل العملي الذي وضعه للدعوة والدعاء من خلال تناوله الحيّ الحركي لكتاب الله تعالى ؟
مهما يكن، فإنّ سيد قطب يُعلن اليوم انتصاره...وهو انتصار له ما بعده للحركة الاسلامية إن شاء الله.
في مقالة متميّزة دبّجها يَراعُه البديع تحت عنوان ’’انتصار الرسول’’ رصد الشهيد سيّد قطب – رحمه الله – أربع محطات من السيرة النبويّة هي دلائل انتصار النبيّ – صلى الله عليه وسلّم – في تبليغ رسالة ربّه، وانطلاقاً من هذا أزعم في هذا المقال أنّ ثورة مصر الّتي تعيش الأمّة أجواءها وتستنشق فيها نسائم الحريّة تعلن هي الأخرى انتصار صاحب الظلال والمعالم – عليه رحمة الله –، فقد كانت معركته المعلنة بكلّ قوّة وحزم وحدّية– في هذين الكتابين بصفة خاصّة وفي جميع ما ألّف في المرحلة الأخيرة من حياته بوجه عام– ضدّ الاستبداد والطغيان والفرعونيّة المتألّهة الّتي تسلّطت على كثير من بلاد المسلمين وأعلنت الحرب بسفور على الأمّة وعقيدتها وشريعة ربّها وأحالتها إلى قطيع ذليل لا حريّة له ولا كرامة ولا رأي في تسيير شؤون حياته العامّة.
اتّخذ الداعية القدير الذي يتفاعل مع حقائق القرآن الكريم ومقتضياته ومع هموم الأمّة ، والذي آلمَتهُ حال الإسلام وأهله مواقفَ حديّة من الأنظمة الدكتاتوريّة، وصاغ الخلاف معها صوغاً عقديّاً يحتكم إلى القرآن والسنّة، فأصدر ضدّها أحكاماً صارمةً ترفضها جملةً وتفصيلاً وترفض أيّ تقارب أو مهادنة معها ومع أدبياتها ونسَقها مهما كانت الظروف، تحت طائلة صبغ الجميع بصبغة الجاهليّة... هكذا عاش الأعوام الاثني عشرة الأخيرة من حياته، متحديّاً الاستبداد الجاثم على صدر بلده، وهو يُشهر في وجهه سلاحا واحدا لا يملك سواه ولا يؤمن بغيره، هو قلمه، لكنّه قلمٌ كأنّه راجمات صواريخ وقنابل ثقيلة، فلم يهادن النظام القائم ولا حاشيته ولا الشهود على ظلمه وبطشه وطغيانه فضلا عن أعوانه المباشرين وغير المباشرين... وعندما حوكم للمرّة الثانيّة في سنة 1966 بعد إعادة اعتقاله بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم كان موضوع الاتّهام والمحاكمة هو كتابه ’’معالم في طريق’’ الّذي عرّى النظام الاستبدادي واتّهمه بالاستيلاء على خصائص الألوهية ومحاربة العقيدة، على أنّ الخطاب الذي تضمّنته ’’ المعالم ’’ لم يكن سياسياً موجّهًا رأسًا للحكّام وإنّما اتّخذ صبغة تحليل شامل عميق للمنظومة العقدية في الإسلام مع إجراء مقارنات مع الواقع والتنزيل عليه، وقد كانت كلمات الكاتب الكبير أقربَ إلى السياط اللاذعة على النظم والتشريعات الوضعيّة الّتي تزاحم دين الله وتذلّ عباده تحت شعارات إيديولوجيّة وسياسيّة تختلف في ظاهرها وحسب الظروف لكنّها متّحدة ومتوافقة في العدوان على شريعة الله وإنسانيّة الإنسان.
لقد ألّف سيد قطب – رحمه الله – آخر وأهمّ كتبه – مثل الخصائص العامة للإسلام، هذا الدين، الاسلام ومشكلات الحضارة، فضلا عن المعالم والطبعة الثانية المنقّحة من الظلال - وهو معتقل مدى الحياة منذ سنة 1954 ثمّ هو على عتبة المشنقة في سنة 1965، فلم تكن كتاباته خواطر سجين مظلوم ولا حتّى عرائض اتّهام ضدّ النظام الدكتاتوريّ إنّما هي أقرب إلى خلاصة تجربة حيّة في عالم الإيمان، فيها اعتزاز بالانتماء للإسلام كعقيدة وهويّة وجنسيّة، واستعلاءٌ عجيبٌ على الواقع الّذي صنعته ’’الجاهليّة الحديثة’’ ،وازدراءٌ له وسخريّةٌ منه باعتباره معياراً سخيفاً لا ينزل إلى مستواه أصحاب العقيدة الصحيحة والإيمان الحقّ، يقول – رحمه الله – في مقدّمة الظلال: ’’وعشت – في ظلال القرآن – أنظر من علوٍّ إلى الجاهليّة الّتي تموج بها الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهليّة بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصوّرات الأطفال، واهتمامات الأطفال.. كما كان ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال، ولثغة الأطفال.. وأعجب.. ما بال هذا الناس؟ ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة ولا يسمعون النداء العلويّ الجليل، النداء الّذي يرفع العمر ويباركه ويزكّيه؟’’.
ومهما قيل عن مبالغات في صوغه بعض آرائه في المسلمين وواقعهم وأنظمتهم السياسية والاجتماعيّة والدينيّة فإنّ ذلك لا يمكن أن يغطّي عن التجديد الفكريّ الّذي رفع لواءَه، وكان أبرزَ من تولاّه في الحركة الإسلاميّة منذ وفاة الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله ، وإذا كانت جماعات تكفيريّة قد خرجت من رحم الظلال والمعالم – وهي في الحقيقة نتاج السجون والمعتقلات والتعذيب الرهيب وسياسة الصدّ عن الدين في ظلّ الحكم الشمولي الذي تسلّط على مصر منذ سنة 1952 – فإنّ سيّد قطب قد ألهب العلماء والكتّاب والمربّين الإسلاميّين بالعاطفة الدينيّة الدافقة من جهة وباتّخاذ القرآن الكريم دليلاً عمليّاً للدعوة الإسلاميّة ومنازلة خصومها من جهة أخرى، ففتح لهم مجالات جديدة في البحث والكتابة حول المرجعيّة الإسلاميّة في العالم الحديث الّذي يمور بتناقضات جذريّة، باعتبار هذه المرجعيّة وحدها القادرة على تجاوز الأيديولوجيات الغربية والشرقية وما تنطوي عليه من تناقضات، وتنشئة الجيل الربّانيّ وتحقيق الانسجام النفسيّ والفكريّ والماديّ بين الإنسان ومحيطه الدينيّ والسياسيّ والاقتصاديّ والعلميّ بشكل يرسم للحياة البشريّة معنى ويحدّد لها أهدافاً ترفع مستوى الإنسان وتردم الهوّة بينه وبين الطريق الّذي رسمه له الإسلام.
عاش الرجل العظيم كصاحب رسالة واختار أن يُعلّق على أعواد المشنقة بسبب آرائه وحدها والتزامه بدينه وفداءً لجماعة الإخوان الّتي احتضنته واحتضنها، ورفض إلى آخر لحظة من حياته أن يساوم على مبادئه وأفكاره رغم الإغراء بعدم تنفيذ حكم الإعدام فيه إن صدر منه استعطاف لرئيس الدولة، لكنّ أمثال سيّد قطب أكبرُ من أن يحرصوا على حياة في ظلّ ’’بركات’’ طاغية متجبّر يَمنّ عليه بعفو يسلب به إرادته ودينه وأخلاقه وثباته، وقد حوّل الاستشهادُ – الذي نظنّ أنّ الله تعالى قد أكرمه به - المفكّر الكبير إلى واحد من أكبر معالم طريق الدعاة والمصلحين في بلاد العرب والمسلمين، ومع هذا ورغم شهرة سيد قطب وثراء أفكاره والجدل الواسع الذي أثارته في الساحة المصرية والعربية والاسلامية وما زالت تثيره إلى اليوم، ورغم بَصمته الواضحة في مرجعية جماعات وحركات إسلامية في أكثر من مكان لم تتمكّن مصر – مسقط رأسه – من إقامة احتفال يليق بمقام الرجل الشهيد ولا تأبينيّة تخلّد ذكراه، لأنّ النظام المستبدّ ما فتئ يعترض على مثل هذا النشاط لأنّه نظام يرفض أصحاب الآراء الحرّة ويقصيهم أحياءً وأمواتاً، لكنّ الأمر تغيّر هذه السنة بفضل الله تعالى الّذي حرّر مصر العظيمة من الحكم الفرعونيّ، فيمكن لجماعة الإخوان المسلمين – بل يجب عليها – أن تحيّي ذكرى استشهاد سيّد قطب في 29 أوت بتظاهرات فكريّة تعلن أنّ دمَه من الدماء الّتي أحيت الأمّة ووهبت لها الحياة، وأنّه قد انتصر على الطغيان والاستبداد بكتاباته وثباته واعتلائه منصّة الشنق بعزة وشموخ، كما يجدر بالجماعة أن تعمل على أن يصبح لفكر سيّد قطب حضورٌ قويّ في التلفزيون والجرائد والمنتديات ومختلف الفضاءات الثقافية والفكرية والدعوية، لدفع باطل المبطلين وردّ الشبهات وتوضيح ما ينبغي توضيحه أو تصحيحه من أفكار وآراء، فهو بشر محكوم بظروف الزمان والمكان والحال، بالإضافة إلى الضعف الملازم للبشر، فكم تعرّض رحمه الله للهجوم والانتقاص – وهو في قبره – وكم أُلصقت به من تُهم وافتراءات، بل بلغ الأمر ببعض المنتسبين للعلم الشرعي حدّ رميه بكلّ نقيصة، واعتبروه من الخوارج، ولا غرابة في ذلك، فهو – رحمه الله – صاحب تصوّر للإسلام كلُه أصالة وشجاعة واعتزاز، يرفض أن يلبس الاسلام منطقة الخدم ويكون رهن إشارة حاكم أو ملك يوجّهه حيث شاء، يأتمر بأمره وينتهي عن نهيه، ويَعدّ هذا المسلك عبوديةً لغير الله تعالى، أمّا خصومه هؤلاء فقد فعلوا ما حذّر منه وارتدوا منطقة الخدم وداروا في فلك الحكّام بناءً على تأويلات سمجة مغرضة لأحكام الاسلام، فما لهم وللشجاعة الأدبية ومواقف الرجولة والأنفة التي تُمليها عقيدة التوحيد الحيّة التحرّرية ؟ وشتّان بين من ضحّى بروحه من أجل دينه، ومن يتقوّت من فُتات موائد الحكّام باسم الدين.
لقد آن أوان إحقاق الحقّ وتجلية الحقائق ودحض الأكاذيب، وانقضى – إن شاء الله – ذلك الزمن التعيس الذي استقوى فيه الفراعنة الجدد بالعلمانية الثقافية العدوانية، واستقوت هي بهم، وفرضوا على الناس طوقا من التعتيم والتشويه ومارسوا الارهاب الفكري على الاسلاميين، وخاضوا معارك ضارية ضدّ رموز الاسلام – ومنهم سيد قطب – وكانوا في كلّ ذلك هم الخصم والحَكم، وانبرى كثير منهم في مصر وغيرها من البلاد العربية لإدانة سيد قطب ووصفه بالإرهاب، ومنعوا كتبه من الطبع والتداول حينا من الدهر ،وبلغ الامر بأحد جلاّديه أن يُطلّ أكثر من مرّة على الفضائيات ليسخر منه ويذكره بسوء ويؤكّد أنّه كان يقود تنظيما تخريبيا سرّياً يعمل على قلب نظام الحكم !!!، وقد كان يعذّبه بيده في محنة 1965 كما صرّح بعض أقطاب الإخوان في ردّهم على ذلك الضابط المتغطرس.
يا الله.. دارت الايام دورتها، و’’ ذهب الطغيان وبقي الاخوان ’’ كما كتب سيّد نفسه في تأبينه للإمام الشهيد حسن البنا في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، وانتصر الشعب المصري على النظام المستبدّ واسترجع حريته في التفكير والتعبير والحركة، وهذا في حدّ ذاته انتصار لسيّد قطب الذي احترف التفكير والتعبير والحركة... فهل تنصفه الساحة المصرية بإعادة التعريف به وإزالة العوائق أمام تراثه وفسح المجال للاهتداء بالدليل العملي الذي وضعه للدعوة والدعاء من خلال تناوله الحيّ الحركي لكتاب الله تعالى ؟
مهما يكن، فإنّ سيد قطب يُعلن اليوم انتصاره...وهو انتصار له ما بعده للحركة الاسلامية إن شاء الله.