مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
تونس تلقّننا الدروس
عبد العزيز كحيل
نشرت في المدّة الأخيرة ثلاثة مقالات عن ’’ الفرعونيّة ’’، أوّلها عنوانه ’’ الفرعونيّة: صفاتها نهايتها ’’، انتهيت فيه بعد التحليل إلى أن الاستبداد في ربوع بلادنا العربية آيل إلى السقوط والاندثار، وهاهي تونس تؤكّد ذلك وتؤسّس لعهد الانعتاق من أنظمة القمع الشموليّة.

وكان المقال الثاني بعنوان ’’ الفرعونيّة والقابليّة للاستخفاف ’’ ، وفيه تحميل المسؤوليّة للشعوب الّتي تحمل الهزيمة في نفوسها فتجعل التربة مهيّئةً للأنظمة الطاغوتيّة، ولو تحلّت بالوعي والشجاعة لكانت هي الأقوى ولعصفت بالمتسلّطين عليها العابثين بمصيرها المنتفخين – كذباً وزوراً – انتفاخة الأسود ، بينما هم في الحقيقة مظنّة الجبن والخور، وهاهي انتفاضة أحرار تونس تنقل هذه الحقيقة من عالم التجريد إلى عالم الواقع.

أمّا المقال الثالث فكان ’’ الجهاد المدني في وجه الفرعونيّة ’’، وجاءت الثورة الجماهيرية التونسيّة تبصم على ما ذكرت فيه من وجوب الانخراط القويّ الفعّال في النشاط التغييريّ السلميّ بكلّ أشكاله بعيداً عن حمل السّلاح الّذي لن يؤدّيّ إلاّ إلى سفك المستبدّين للدّماء وطول بقائهم وإرهاق الأمّة بمزيد من الفتن والفساد والخراب.

وكتبت مقالاً منفصلاً ينضح غيرة على الأمّة المظلومة ويقطر دماً ممّا فعلت بها الفرعونيّة المعربدة ، لكنّه في نفس الوقت مفعم بالأمل المستند إلى سنن الله في الخلق، كان بعنوان ’’ يا مسلم، يا عربيّ، قل لا للاستبداد ’’، واليوم وقد فرّ طاغيّة تونس، قال لي أحد الإخوة العرب الّذين قرؤوه: ’’ يبدو أنّ التونسيّين هم الّذين قرؤوا مقالك ولسنا نحن ’’، فحمدا لله الّذي يملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته، والّذي ينصر المظلومين ولو بعد حين .

وأريد أن أشير في هذا المقام إلى بعض النّقاط الّتي أرى أنّها على جانب كبير من الأهميّة :

1.دور علماء الدين: عندما اشتدّ القمع البوليسيّ على المنتفضين وسقط الضحايا الأبرياء بالعشرات لم يجد مفتي الجمهوريّة في تونس ما يفتي به سوى تحريم صلاة الجنازة على محمّد البوعزيزي الّذي أحرق نفسه فأطلق بذلك شرارة الانتفاضة الشعبيّة، لم ير المفتي من المحرّمات والمنكرات سوى هذا الفعل البائس اليائس ، وغاب عنه ظلم الحكّام والفساد السياسيّ والماليّ والبطالة المنتشرة إلى جانب الثروات الضخمة المكتسبة من الحرام بالإضافة إلى التضييق الشديد على التديّن حيث اشتهر النظام التونسيّ بحظر الحجاب مهما كان شكله وملاحقة الشباب الملتزم بأداء الصلاة.

هذا المفتي نموذج لعالم السوء الّذي يقدّم مرضاة وليّ نعمته على مرضاة الله تعالى، ينحاز إلى الظلم ويركل المظلومين فيكون فتنةً للناس حتّى يكاد بعضهم أن يفقدوا الثقة – ليس فيه وحده – ولكن في الإسلام ذاته ، وهذا مع الأسف دأب فقهاء السلاطين الّذين ينحازون لهم بدل الانحياز لشعوبهم واحتضان قضاياهم وقيادة ركبهم نحو الحريّة والكرامة والعزّة ، كما كان شأن العلماء العاملين أمثال سعيد بن جبير الّذي واجه الحجّاج بن يوسف ، والعز بن عبد السلام الّذي أخضع أمراء المماليك لأحكام الشرع رغم أنوفهم، وابن تيميّة الّذي قاد الجهاد ضدّ التتار الغزاة في الشام حين خار حكّامها وفرّوا بأرواحهم وتركوا رعاياهم، وما أمر آية الله الخميني عنّا ببعيد.

لكنّ الفراعنة يحيطون أنفسهم دائماً ببطانة من رجال الدّين المأجورين الضعاف المهازيل بغرض إضفاء الشرعيّة على سيّاستهم الظالمة وقهرهم للناس، فقد برّأ سيّد طنطاوي – مثلاً – النّظام المصريّ من أيّ مسؤوليّة عن غرق السفينة وانزلاق التربة اللّذين أوذيا بحياة خلق كثير وقال إنّ ذلك قضاء وقدر، بينما كان تقصير الدولة صارخاً، أمّا في الجزائر فقد ألقى خطباء التيار السلفيّ خطبةً موحّدةً أثناء الأحداث الأخيرة التي ثار فيها الشباب وأحرقوا وخرّبوا بسبب ارتفاع الأسعار – من بين أسباب أخرى - قالوا فيها إن غلاء الأسعار ليس وراءه سيّاسة الحكومة بل ذّنوب المواطنين ومعاصيهم ، أي أنّ هؤلاء ’’ العلماء ’’ لا يكتفون بالسكوت وإنّما ينطقون بالباطل ، بناء على ثقافة متأصلّة كلّها خضوع للحكّام واستسلام وجبرية ، تستصحب اتّهام الشعوب المسلمة وتكفيرها لأدنى ذنب مع تبرئة جانب الجلاّدين والتماس الأعذار لهم ، فلا بدّ أن تأخذ الأمّة هذا المعطى بعين الاعتبار وهي تتحسّس التغيير الجذري حتى لا يغدر بجهادها المدني ونضالها السلمي باسم الإسلام .

وفي هذا الإطار أؤيّد فكرة الدكتور خالص جلبي حين نادى – منذ أيام – فضيلة الشيخ القرضاوي ليتولّى قيادة الجماهير لما يتمتّع به من مصداقية وشخصية مؤثّرة وسيرة نظيفة تجعل كلمته مسموعة لدى الأمّة بقدر ما يبغضه أكثر الحكّام .

2.استثمار أحداث تونس شعبيا : يجب إبلاغ النظام الرسمي العربي رسائل واضحة قويّة تنبّهه على الحقائق التّى يغمض عينيه عنها منذ أحقاب من الزمن ، وقد رأى أنّ الحماية الخارجية لم تغن بن علي شيئا ، فقد تخلّت عنه فرنسا وأمريكا رغم خدماته الجليلة لهما ، وحتّى مخبؤه السعودي لن يجيره من المحاسبة ، وبمجرّد استعادة تونس للاستقرار سوف تبادر إلى استرجاعه ومقاضاته وطنيا أو دوليّا ، وقد أصبحت العولمة تتيح ذلك بسهولة.

ولا بدّ أن يفهم هذا النظام والكيانات السياسية والثقافية والإعلامية الدائرة في فلكه أن لا مجال بعد الآن للتحليلات السياسية أو أنصاف الحلول وأن تخفيض الأسعار بعد رفعها ، فالجماهير تغيّر وجهتها تماما ولا تقبل بنضال البيانات الصحفية ولا ترضى بالتحرّك في إطار القواعد التي وضعها النظام نفسه با تريد الإنتفاض عليها لتغييرها جذريا وبعث حياة سياسية حقيقية ، كما يجب أن تفهم المعارضات بكلّ أطيافها أن التنديد بالاستبداد تجاوزه الزمن وحان وقت إزالة الاستبداد شعبيا وسلميا ولكن نهائيا ، فهو لم يعد أهلا لأن يعطي اعتمادا لحزب أو إذنا بمسيرة فضلا عن يلبّي رغبات الشعوب في أيّ مجال وبأيّ شكل.

3.المستقبل المشرق: أمّا التخويف من الفراغ الذي ستعاني منه تونس بعد فرار الطاغية والفوضى التي ستعمّها فهي دعاية استخباراتية فاشلة لأن بلداننا تعاني من الفراغ والفوضى من قديم وبسببهما تثور الجماهير، أجل ستمرّ تونس بمخاض عسير ومراحل صعبة لكنّها بالتأكيد تجاوزت الأصعب عندما أطاحت بالطاغية وستتعافى من غير شكّ وتتلمّس طريقها نحو العدل والأمن والرخاء والاستقرار حين تقضي على أركان النظام البائد وتحتضن رموزها الإسلامية والوطنية النزيهة وتنطلق في عملية بناء الدولة والمجتمع على أسس توافقية ، والبلد يملك نخبا ذات مستوى رفيع ستظهر كفاءتها في أجواء الحرية التي نتمنّها لتونس الشقيقة.

وقد مرّت بلاد كثير بمثل ما تعيشه تونس هذه الأيام وتعافت منه ، حدث هذا عندما فرّ

شاه ايران وعند الإطاحة بطاغية اندونيسيا – سوهارتو – ولمّا أرغم تشاوشيسكو على الفرار ، بل أكثر من ذلك كله هناك مثال الإتحاد السوفييتي الذي انهار من غير سابق إنذار واستطاعت الشعوب هناك أن تتجاوز المرحلة وتتعافى .

الأمل معقود على تونس التي لقنّتنا دروسا بليغة لتثبت لأنظمة الحكم أنها ضعيفة وللشعوب العربية والإسلامية أنّ الأمر بيدها والله معها ، وعسى بلاد الزيتونة أن ترجع سريعا إلى عمقها العربي الإسلامي بعد التغريب الذي شوّه صورتها ، وأن تصبح قبلة للأحرار بعد أن حوّلها الطاغية إلى مرتع للصهاينة وماخور للعربدة والرذيلة.


أضافة تعليق