د عبدالله قاسم الوشلي
كان اليمن في العهد النبوي يحتل المكانة الثالثة في الاهتمام والعناية بعد المدينة، ومكه.
يدل على ذلك كثرة البعوث، والرسل، والولاة ،والمعلمين، الذين ابتعثهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى تجميع أنحاء اليمن، وكثرة الكتب، والرسائل التعليمية والدعوية التي كتبها الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل اليمن، وفرحه البالغ بمن وفد إليه منها، خاصة ملوكها، وأقيالها، وأذواؤها، وبعض قبائلها. ويشهد لذلك أيضا قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فى اليمنيين’’ أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وألين قلوباً ، الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية ’’ وفي رواية ’’ والفقه يمان’’
وفي العهد الراشدي: كان اليمن يحتل هذه المكانة نفسها، حيث أبقى الخليفة الأول أبو بكر ولاة رسول الله ، إلا من رغب في العودهوالخليفة الثاني عمر: أبقى عمال اليمن على حالهم، لم يغير على أحد منهم، غير يعلي بن أمية صاحب صنعاء، فإنه أشخصه من صنعاء مرتين، ووصل إلى المدينة لأسباب ثم عاد. وكذلك فعل عثمان فأبقى العمال على حالهم، خصوصا يعلي بن أبي أمية بمخلافي الجند، وصنعاء..
أما الخليفة الرابع علي :فكان قد اختار الصالحين، ثم اضطربت الأمور فيما بينه وبين معاويه.
كما أن الخلفاء : كانوا يعدون اليمنيين في اليمن الجيش الاحتياطي، الذي يطلب للنجدة والمدد ،حيث كانوا يستنجدون بهم في مواجهة من ارتد في الجزيرة العربيه، ويطلبون مددهم لفتح البلاد والأمصار في العراق، والشام، ومصر، وإفريقيا، وغيرها.
ولذلك لم يستقر في اليمن معظم الذين تفقهوا على أيدي أولئك الولاة من الصحابة الكرام المفقهين في العهد الراشدي، لمشاركتهم الجهاديه ابتداءً من حروب الردة، ومرورا بالفتوح الاسلامية في مختلف البقاع.
حيث أنه في اليمن انتقل الكثير منهم بفتنة المرتدين في بعض النواحي اليمنيه، والتفوا حول راية المهاجر بن أبي أميةعامل النبي صلى الله علية وسلم على كندة في إخماد الفتنة، التي أثارها بعض قبائل كندة بزعامةالأشعث بن قيس، وهي الارتداد عن الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله علية وسلم .
وفي خارج اليمن فما كاد كتاب أبي بكر يتلى على أهل اليمن مستنفراً لهم في حروب الردة، حتى نهض منهم مايزيد على عشرين ألف مقاتل، كثير منهم فقهاء وعلماء ،وصلوا إلى أبي بكر رضي الله عنه في يوم واحد بكامل عددهم وعتادهم، فاعتز بهم الإسلام وقويت بهم شوكته، وبعثهم أبوبكر بعد انتهاء حروب الردة إلى العراق، والشام، فجاهدوا أصدق جهاد، وأبلوا أعظم البلاء.
وفي عهد الخليفه عمر بن الخطاب تتابع اليمانيون إلى المدينه، -العاصمة الاسلاميه- للمشاركة في الغزو والفتح الاسلامي الذي نشط في عهده، خاصة في العراق، والشام ،وأخيراً في بلاد مصر. وكان اليمانيون أكثر العرب تمثيلا بقبائل كاملة من اليمن في هذه الفتوح ،وكان معظم الذين تفقهوا على أيدي ولاة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم باليمن هم المشاركون في هذا الجهاد المبارك.
المشاركه العملية اليمانية في الجوانب الفقهية :
وبما كان يتميز به اليمانيون من الفقه، كان الخلفاء يكلون إليهم في البلاد المفتوحه: القضاء، والإفتاء، وتعليم القرآن وشرائع الاسلام حيث بدأ الخليفه عمر في إرسال فقهاء يقومون بهذه المهمة ،وتوسعت أكثر في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وكان اليمانيون من أوائل المستجيبين لهذه الدعوة ،فتفرقوا في الأمصار مع شيوخهم من الصحابة، وقاموا بمهمة التعليم والتفقيه على أحسن مايرام، واستوطن كثير منهم تلك الأمصار.
ولعل هذا هو السبب الذي أوجد في كل مصر من أمصار بلاد الإسلام آن ذاك في العراق، والشام، ومصر، يمانيين أئمة فقه، وعلم، وعمل وتأسست بهم المدارس الفقهية، والحديثية، وقامت على مجهوداتهم المذاهب الفقهيه، وشغلوا كثيراً من المناصب الفقهية : كالإفتاء، والقضاء. ويؤيد هذا قول الذهبي رحمه الله عن اليمن وهو يعرّف آثارها العلمية ،فقال : ’’ دخل معاذ وأبو موسى الأشعري- أصله من تهامة اليمن – اليمن، وخرج منها أئمة التابعين، وتفرقوا في الأمصار’’
ولعل هذا هو السبب أيضا في قلة الفقهاء والأئمة ثم التابعين في داخل اليمن، -وبالأخص تهامته- في عهد الخلفاء الراشدين، والعهد الأول من عصر الأمويين. ولذا قال ابن حبان: ’’ وإنما وقع جلة أهل اليمن من التابعين بالشام، ومصر، فسكنوها ثم استوطنوها، حتى لقد نزل بحمص وحدها من سكسك، وسكاسك – قبيلتان من اليمن – زهاء ألف نفس، إلا أن أكثرهم اشتغلوا بالغزوات والعبادات. فلم يظهر كثير علم – يعني داخل اليمن – وهم أهل سلامة وخير، وكانوا لايشتغلون بما يؤدي إلى التفوق في العلم، وآثروا العبادة عليه’’
ومع ذلك فقد بقي عدد غير قليل من التابعين الفقهاء، والعلماء الجهابذة في اليمن، يقومون بالواجب، ويؤدون المهمة في نشر العلم ،وتفقيه الناس في الدين، ويزاولون الإفتاء، والقضاء، والاجتهاد.
وقد أبقى هذا الخير في اليمن الاتصال الوثيق بين اليمن وعاصمتي الإسلام في هذا العهد مكة، والمدينه. حيث كان اليمانون يترددون إلى هذاين البلدين لأداء فريضة الحج في مكة،والزيارة في المدينة ،فيلتقون بعلمائها، ويتعلمون على أيديهم. وكان جلهم من الصحابة أو كبار التابعين ،فيعودون من أداء الفريضة، والزيارة، وقد تزودوا فقهاً كبيراً، وعلما كثيرا، بل كان اليمانون يقصدون مكة والمدينة للعلم، والتفقه في الدين قصداً، يقول أبن سمرة: -
’’وأكثر من يتفقه به أهل اليمن في صدر الإسلام، وما بعده إلى وقت ظهور تصانيف الشافعية، بفقهاء مكة والمدينة
وفى العهد الأموي أصبح اليمانون يمثلون أعمدة في الفقه، والإفتاء، والقضاء، في كثير من البلاد التي اشتهرت بالعلم والفقه، مثل الحجاز- مكة والمدينة – واليمن والعراق – الكوفة والبصرة- والشام، ومصر، وغيرها.
كما أنهم كانوا من المؤسسين للمدارس الفقهية، وفي مقدمتها الحجاز، والعراق-أهل الرأي والحديث- وكان الكثير منهم ممن وضع نواة جمع المسائل الفقهية وتدوينها ،وكانوا من أهل الرواية : كالنخعيين، والأشعريين، والبجليين، والأزديين، والخولانيين، وغيرهم.
وفي العهد العباسي الأول، وبقية القرون المفضلة، حين بدأ ظهور المذاهب الفقهيه، وبرز الفقهاء المجتهدون المؤهلون لاستنباط مسائل الفقه وعلومه، كان اليمانيون في أكثر هذه البلدان من ذوي الصدارة والمقام الأول، والباع الطويل، وكذلك في بلدهم الأصل اليمن، بما فيه الجزء التهامي منه موضوع هذه الدراسه.
وهذه العنايه، وذلك الاهتمام، وهذا المجهود، أوجد ثروة فقهية، وثمرة علمية راسخة لاحدود لها ،كانت معينا للفقهاء على مدار العصور إلى عصرنا هذا، وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وفي هذا الباب سأتناول متابعة هذه الثمرة الفقهية من أيامها الأولى، كيف نشأت، ونمت، وازدهرت، وتطورت، حتى أصبحت علما مستقلا له أصوله، وقواعده، ومسائله، من خلال الأدوار التي مربها، والمراحل التي تنقل فيها كما سأذكر رجال كل دور من اليمانيين الذين كان لهم مجهود واضح في تأسيس هذا العلم، وتدوين مسائله، وتصنيف علومه ،حتى ظهور المذاهب الفقهية وانتشارها خلال القرون المفضلة، وسأبين مجهود اليمانيين في تأسيسها، واثراء مادتها، والقيام بنشرها في المجتمع اليمني، وفي غيره من بلاد الاسلام.
ادوار الفقه الاسلامي والمشاركة اليمانية في ذلك:
والفقه الإسلامي مرّ بأدوار قسمها العلماء حسب مراحل التاريخ الإسلامي في عصوره، وحصرت في ستة أدوار. هي:-
عصر النبوه، وعصر الخلافة الراشده ،وعصر الدولة الأموية ،وعصر الدولة العباسية الأولى -المتبقي من القرون المفضله- وعصر الدولة العباسية الثاني حتى سقوط بغداد ،وعصر مابعد سقوط بغداد حتى عصرنا هذا. وكان لكل دور من هذه الادوار في هذه العصور طابعه الخاص في توسيع دائره الفقه، وطرق التلقي له، وكيفية الالتزام به ممارسة في واقع الحياة ومستجداتها.
واشتهر مع كل دور رجال كانوا رواده وحاملي مشعله، وكان اليمانيون من أوائل هؤلاء الرجال ومقدميهم، وعلى وجه الخصوص المنتمون إلى الجزء التهامي منه، حيث كانوا من ذوي الشأن فيه.
كما أنه برزت مدن يمانية في جبال اليمن وتهامته: اشتهرت بالمدارس الفقهية، وتنافس رجال مذاهبه من المجتهدين والتابعين، ومن أبرز هذه المدن واشهرها:- صنعاء،والجند، وعدن، وزبيد.
واليمانيون الذين عُرفوا بالفقه، واشتهروا به طيلة هذه الادوار على اصناف:-
(1) صنف من قبائل يمانية: انتقل آباؤهم من اليمن بعد دخولهم في الإسلام، وتفقههم فيه، فانساحوا في الأمصار واستوطنوها، مع احتفاظهم بالانتساب إلى اليمن وقبائلهم اليمانية، في مكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وبغداد، وبلاد الشام: دمشق، وحمص، وبيت المقدس، ومصر، وبلاد الأندلس، وغيرها. فاهتموا بتحصيل العلم واشتهروا بالفقه، والرسوخ في العلم. وكانوا من المقدمين في الفقه، والقضاء، والفتيا.
(2) صنف رجل من اليمن لأخذ العلم، والفقه في الدين، إلى مكة، والمدينة، وغيرها، ثم عاد إلى اليمن لنشر العلم، وتفقيه اليمانيين، فكانو أعلاما عالمية في أرض اليمن ومساجدها.
(3) صنف استقر باليمن، فتلقى علومه وفقهه من الصحابة ومن تبعهم ممن تفقه على ولاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،وولاة الخلفاء الراشدين، والعلماء الوافدين اليها ،وكان هذان الصنفان ممن اشتهر بالاجتهاد، والاستنباط للأحكام والمسائل الفقهية، خلال القرون المفضلة، وكانوا ممن رُحل إليهم لأخذ العلم، والفقه. منهم:
(4) صنف وفد إلى اليمن من شتى بلاد الإسلام لأمر ما، واتخذها وطنا أو مكث بها زمنا طويلا حتى نسب إلى اليمن، وعدّه كُتاب علم الرجال، والتراجم، والطبقات: من اليمن، وشملته بركة دعائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث :’’ الفقه يمان’’
وكل هؤلاء الفقهاء –سواء الذين كانوا خارج اليمن أو داخلها- فقهاء مجتهدون، بما كانوا عليه من الرسوخ في العلم، وبما اشتهروا به من الاستنباط والفقه في الدين، خصوصا في القرنين الاولين.
وكان أهل اليمن في هذين القرنين لم يلتزموا مذهبا من المذاهب التي ظهرت وبدأت في الإنتشار في منتصف القرن الثاني، والقرن الثالث، وإنما كان فقهاؤهم : أصحاب مدرسة فقهية، استنبطوا فقهها من مصادر التشريع مباشرة، أو تلقوه من مشائخهم من الصحابه والتابعين، كما أنهم كانوا يستفيدون من كل رأي مدعوم بالدليل والبرهان من آراء المجتهدين، الذين اشتهروا بتأسيس المذاهب فيما بعد في ضوء منهج واضح، استقوه من توجيه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لولاته وقضاته باليمن، واستفادوه من رسوخهم في العلم، وتفقههم في الدين.
بل المتتبع لتاريخ الفقه الأسلامي يلاحظ: أن كثيرا من فقهاء التابعين، وتابعيهم، الذين اشتهروا بتأسيس مدارس ومذاهب فقهية في غير اليمن، كانوا من أصل يماني، وينتسبون إلى قبائل يمانية، وبلدان تهامية.
وهذا المجهود الفقهي الذي أشرنا إليه في هذه الخطوط العريضه التي ضمناها هذا المدخل هو الذي سنبرز حقائقه من خلال التفصيل في هذا الباب، والذي يليه. ومن الله استمد العون والتوفيق.
*الإصلاح نت
كان اليمن في العهد النبوي يحتل المكانة الثالثة في الاهتمام والعناية بعد المدينة، ومكه.
يدل على ذلك كثرة البعوث، والرسل، والولاة ،والمعلمين، الذين ابتعثهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى تجميع أنحاء اليمن، وكثرة الكتب، والرسائل التعليمية والدعوية التي كتبها الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل اليمن، وفرحه البالغ بمن وفد إليه منها، خاصة ملوكها، وأقيالها، وأذواؤها، وبعض قبائلها. ويشهد لذلك أيضا قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فى اليمنيين’’ أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وألين قلوباً ، الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية ’’ وفي رواية ’’ والفقه يمان’’
وفي العهد الراشدي: كان اليمن يحتل هذه المكانة نفسها، حيث أبقى الخليفة الأول أبو بكر ولاة رسول الله ، إلا من رغب في العودهوالخليفة الثاني عمر: أبقى عمال اليمن على حالهم، لم يغير على أحد منهم، غير يعلي بن أمية صاحب صنعاء، فإنه أشخصه من صنعاء مرتين، ووصل إلى المدينة لأسباب ثم عاد. وكذلك فعل عثمان فأبقى العمال على حالهم، خصوصا يعلي بن أبي أمية بمخلافي الجند، وصنعاء..
أما الخليفة الرابع علي :فكان قد اختار الصالحين، ثم اضطربت الأمور فيما بينه وبين معاويه.
كما أن الخلفاء : كانوا يعدون اليمنيين في اليمن الجيش الاحتياطي، الذي يطلب للنجدة والمدد ،حيث كانوا يستنجدون بهم في مواجهة من ارتد في الجزيرة العربيه، ويطلبون مددهم لفتح البلاد والأمصار في العراق، والشام، ومصر، وإفريقيا، وغيرها.
ولذلك لم يستقر في اليمن معظم الذين تفقهوا على أيدي أولئك الولاة من الصحابة الكرام المفقهين في العهد الراشدي، لمشاركتهم الجهاديه ابتداءً من حروب الردة، ومرورا بالفتوح الاسلامية في مختلف البقاع.
حيث أنه في اليمن انتقل الكثير منهم بفتنة المرتدين في بعض النواحي اليمنيه، والتفوا حول راية المهاجر بن أبي أميةعامل النبي صلى الله علية وسلم على كندة في إخماد الفتنة، التي أثارها بعض قبائل كندة بزعامةالأشعث بن قيس، وهي الارتداد عن الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله علية وسلم .
وفي خارج اليمن فما كاد كتاب أبي بكر يتلى على أهل اليمن مستنفراً لهم في حروب الردة، حتى نهض منهم مايزيد على عشرين ألف مقاتل، كثير منهم فقهاء وعلماء ،وصلوا إلى أبي بكر رضي الله عنه في يوم واحد بكامل عددهم وعتادهم، فاعتز بهم الإسلام وقويت بهم شوكته، وبعثهم أبوبكر بعد انتهاء حروب الردة إلى العراق، والشام، فجاهدوا أصدق جهاد، وأبلوا أعظم البلاء.
وفي عهد الخليفه عمر بن الخطاب تتابع اليمانيون إلى المدينه، -العاصمة الاسلاميه- للمشاركة في الغزو والفتح الاسلامي الذي نشط في عهده، خاصة في العراق، والشام ،وأخيراً في بلاد مصر. وكان اليمانيون أكثر العرب تمثيلا بقبائل كاملة من اليمن في هذه الفتوح ،وكان معظم الذين تفقهوا على أيدي ولاة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم باليمن هم المشاركون في هذا الجهاد المبارك.
المشاركه العملية اليمانية في الجوانب الفقهية :
وبما كان يتميز به اليمانيون من الفقه، كان الخلفاء يكلون إليهم في البلاد المفتوحه: القضاء، والإفتاء، وتعليم القرآن وشرائع الاسلام حيث بدأ الخليفه عمر في إرسال فقهاء يقومون بهذه المهمة ،وتوسعت أكثر في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وكان اليمانيون من أوائل المستجيبين لهذه الدعوة ،فتفرقوا في الأمصار مع شيوخهم من الصحابة، وقاموا بمهمة التعليم والتفقيه على أحسن مايرام، واستوطن كثير منهم تلك الأمصار.
ولعل هذا هو السبب الذي أوجد في كل مصر من أمصار بلاد الإسلام آن ذاك في العراق، والشام، ومصر، يمانيين أئمة فقه، وعلم، وعمل وتأسست بهم المدارس الفقهية، والحديثية، وقامت على مجهوداتهم المذاهب الفقهيه، وشغلوا كثيراً من المناصب الفقهية : كالإفتاء، والقضاء. ويؤيد هذا قول الذهبي رحمه الله عن اليمن وهو يعرّف آثارها العلمية ،فقال : ’’ دخل معاذ وأبو موسى الأشعري- أصله من تهامة اليمن – اليمن، وخرج منها أئمة التابعين، وتفرقوا في الأمصار’’
ولعل هذا هو السبب أيضا في قلة الفقهاء والأئمة ثم التابعين في داخل اليمن، -وبالأخص تهامته- في عهد الخلفاء الراشدين، والعهد الأول من عصر الأمويين. ولذا قال ابن حبان: ’’ وإنما وقع جلة أهل اليمن من التابعين بالشام، ومصر، فسكنوها ثم استوطنوها، حتى لقد نزل بحمص وحدها من سكسك، وسكاسك – قبيلتان من اليمن – زهاء ألف نفس، إلا أن أكثرهم اشتغلوا بالغزوات والعبادات. فلم يظهر كثير علم – يعني داخل اليمن – وهم أهل سلامة وخير، وكانوا لايشتغلون بما يؤدي إلى التفوق في العلم، وآثروا العبادة عليه’’
ومع ذلك فقد بقي عدد غير قليل من التابعين الفقهاء، والعلماء الجهابذة في اليمن، يقومون بالواجب، ويؤدون المهمة في نشر العلم ،وتفقيه الناس في الدين، ويزاولون الإفتاء، والقضاء، والاجتهاد.
وقد أبقى هذا الخير في اليمن الاتصال الوثيق بين اليمن وعاصمتي الإسلام في هذا العهد مكة، والمدينه. حيث كان اليمانون يترددون إلى هذاين البلدين لأداء فريضة الحج في مكة،والزيارة في المدينة ،فيلتقون بعلمائها، ويتعلمون على أيديهم. وكان جلهم من الصحابة أو كبار التابعين ،فيعودون من أداء الفريضة، والزيارة، وقد تزودوا فقهاً كبيراً، وعلما كثيرا، بل كان اليمانون يقصدون مكة والمدينة للعلم، والتفقه في الدين قصداً، يقول أبن سمرة: -
’’وأكثر من يتفقه به أهل اليمن في صدر الإسلام، وما بعده إلى وقت ظهور تصانيف الشافعية، بفقهاء مكة والمدينة
وفى العهد الأموي أصبح اليمانون يمثلون أعمدة في الفقه، والإفتاء، والقضاء، في كثير من البلاد التي اشتهرت بالعلم والفقه، مثل الحجاز- مكة والمدينة – واليمن والعراق – الكوفة والبصرة- والشام، ومصر، وغيرها.
كما أنهم كانوا من المؤسسين للمدارس الفقهية، وفي مقدمتها الحجاز، والعراق-أهل الرأي والحديث- وكان الكثير منهم ممن وضع نواة جمع المسائل الفقهية وتدوينها ،وكانوا من أهل الرواية : كالنخعيين، والأشعريين، والبجليين، والأزديين، والخولانيين، وغيرهم.
وفي العهد العباسي الأول، وبقية القرون المفضلة، حين بدأ ظهور المذاهب الفقهيه، وبرز الفقهاء المجتهدون المؤهلون لاستنباط مسائل الفقه وعلومه، كان اليمانيون في أكثر هذه البلدان من ذوي الصدارة والمقام الأول، والباع الطويل، وكذلك في بلدهم الأصل اليمن، بما فيه الجزء التهامي منه موضوع هذه الدراسه.
وهذه العنايه، وذلك الاهتمام، وهذا المجهود، أوجد ثروة فقهية، وثمرة علمية راسخة لاحدود لها ،كانت معينا للفقهاء على مدار العصور إلى عصرنا هذا، وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وفي هذا الباب سأتناول متابعة هذه الثمرة الفقهية من أيامها الأولى، كيف نشأت، ونمت، وازدهرت، وتطورت، حتى أصبحت علما مستقلا له أصوله، وقواعده، ومسائله، من خلال الأدوار التي مربها، والمراحل التي تنقل فيها كما سأذكر رجال كل دور من اليمانيين الذين كان لهم مجهود واضح في تأسيس هذا العلم، وتدوين مسائله، وتصنيف علومه ،حتى ظهور المذاهب الفقهية وانتشارها خلال القرون المفضلة، وسأبين مجهود اليمانيين في تأسيسها، واثراء مادتها، والقيام بنشرها في المجتمع اليمني، وفي غيره من بلاد الاسلام.
ادوار الفقه الاسلامي والمشاركة اليمانية في ذلك:
والفقه الإسلامي مرّ بأدوار قسمها العلماء حسب مراحل التاريخ الإسلامي في عصوره، وحصرت في ستة أدوار. هي:-
عصر النبوه، وعصر الخلافة الراشده ،وعصر الدولة الأموية ،وعصر الدولة العباسية الأولى -المتبقي من القرون المفضله- وعصر الدولة العباسية الثاني حتى سقوط بغداد ،وعصر مابعد سقوط بغداد حتى عصرنا هذا. وكان لكل دور من هذه الادوار في هذه العصور طابعه الخاص في توسيع دائره الفقه، وطرق التلقي له، وكيفية الالتزام به ممارسة في واقع الحياة ومستجداتها.
واشتهر مع كل دور رجال كانوا رواده وحاملي مشعله، وكان اليمانيون من أوائل هؤلاء الرجال ومقدميهم، وعلى وجه الخصوص المنتمون إلى الجزء التهامي منه، حيث كانوا من ذوي الشأن فيه.
كما أنه برزت مدن يمانية في جبال اليمن وتهامته: اشتهرت بالمدارس الفقهية، وتنافس رجال مذاهبه من المجتهدين والتابعين، ومن أبرز هذه المدن واشهرها:- صنعاء،والجند، وعدن، وزبيد.
واليمانيون الذين عُرفوا بالفقه، واشتهروا به طيلة هذه الادوار على اصناف:-
(1) صنف من قبائل يمانية: انتقل آباؤهم من اليمن بعد دخولهم في الإسلام، وتفقههم فيه، فانساحوا في الأمصار واستوطنوها، مع احتفاظهم بالانتساب إلى اليمن وقبائلهم اليمانية، في مكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وبغداد، وبلاد الشام: دمشق، وحمص، وبيت المقدس، ومصر، وبلاد الأندلس، وغيرها. فاهتموا بتحصيل العلم واشتهروا بالفقه، والرسوخ في العلم. وكانوا من المقدمين في الفقه، والقضاء، والفتيا.
(2) صنف رجل من اليمن لأخذ العلم، والفقه في الدين، إلى مكة، والمدينة، وغيرها، ثم عاد إلى اليمن لنشر العلم، وتفقيه اليمانيين، فكانو أعلاما عالمية في أرض اليمن ومساجدها.
(3) صنف استقر باليمن، فتلقى علومه وفقهه من الصحابة ومن تبعهم ممن تفقه على ولاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،وولاة الخلفاء الراشدين، والعلماء الوافدين اليها ،وكان هذان الصنفان ممن اشتهر بالاجتهاد، والاستنباط للأحكام والمسائل الفقهية، خلال القرون المفضلة، وكانوا ممن رُحل إليهم لأخذ العلم، والفقه. منهم:
(4) صنف وفد إلى اليمن من شتى بلاد الإسلام لأمر ما، واتخذها وطنا أو مكث بها زمنا طويلا حتى نسب إلى اليمن، وعدّه كُتاب علم الرجال، والتراجم، والطبقات: من اليمن، وشملته بركة دعائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث :’’ الفقه يمان’’
وكل هؤلاء الفقهاء –سواء الذين كانوا خارج اليمن أو داخلها- فقهاء مجتهدون، بما كانوا عليه من الرسوخ في العلم، وبما اشتهروا به من الاستنباط والفقه في الدين، خصوصا في القرنين الاولين.
وكان أهل اليمن في هذين القرنين لم يلتزموا مذهبا من المذاهب التي ظهرت وبدأت في الإنتشار في منتصف القرن الثاني، والقرن الثالث، وإنما كان فقهاؤهم : أصحاب مدرسة فقهية، استنبطوا فقهها من مصادر التشريع مباشرة، أو تلقوه من مشائخهم من الصحابه والتابعين، كما أنهم كانوا يستفيدون من كل رأي مدعوم بالدليل والبرهان من آراء المجتهدين، الذين اشتهروا بتأسيس المذاهب فيما بعد في ضوء منهج واضح، استقوه من توجيه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لولاته وقضاته باليمن، واستفادوه من رسوخهم في العلم، وتفقههم في الدين.
بل المتتبع لتاريخ الفقه الأسلامي يلاحظ: أن كثيرا من فقهاء التابعين، وتابعيهم، الذين اشتهروا بتأسيس مدارس ومذاهب فقهية في غير اليمن، كانوا من أصل يماني، وينتسبون إلى قبائل يمانية، وبلدان تهامية.
وهذا المجهود الفقهي الذي أشرنا إليه في هذه الخطوط العريضه التي ضمناها هذا المدخل هو الذي سنبرز حقائقه من خلال التفصيل في هذا الباب، والذي يليه. ومن الله استمد العون والتوفيق.
*الإصلاح نت