مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الإسلام بين نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح
الإسلام بين نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح

عبد الله هداري
يجسد الباحث محمد الحداد في كتابه ’’الإسلام : نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح ’’ ذلك الاتجاه التأويلي المستثمر لإمكانات التأويل والتحليل المتعددة والمتجددة، إذ انصب جهده خلال مؤلفه هذا- وفي غيره من مؤلفاته - إلى الاعتناء بالتاريخ الثقافي للإصلاح والنهضة، قصد إخراجه من السردية التي حفته بالتقديس، وجعلته تاريخا أحاديا ثابتا وغير قابل لإعادة النظر، وقصد إخراجه كذلك من دائرة الاستثمار الأحادي في الشكل الذي قدم به من خلال سردياته التقديسية فقط، ولذلك يدعو الحداد إلى الاتجاه النقدي صوب المقولات الأصلية قصد تفكيكها، حتى نتمكن من الكشف عن المصادرات المعلنة والخفية، الممارسة من قبل بناءات هذا الخطاب الموهم واللامعرفي.

’’إن التاريخ الثقافي للإصلاح والنهضة، الذي نحاول تجديده وإخراجه من السردية إلى التحليل التأويلي، يكرر مصادرة أساسية ندعوها سردية الراعي النائم، الراعي الذي يغلبه النعاس عقودا ثم يستيقظ فيتدارك ما فات، وكأن الأشياء من حوله لم تتغير’’ ص23، فرغم مناقشات الباحث المختلفة داخل كتابه لأحداث تاريخية، تتعلق بالتاريخ الإسلامي البعيد، أو القريب من خلال رموز إصلاحه، أو فيمن أرخوا لذلك الإصلاح، فإنه يؤكد أن القضية في الكتاب تأويلية وليست تاريخية ولا انتروبولوجية، والتأويل حسب الباحث لا يقف عند حدود الأحداث، فهو وإن استند إلى التقنية التاريخية في إعادة البناء، إنما يدرس بينيا تلك التمثلات التي تقيمها الذاكرة الجمعية، وهو في كل ذلك، يقدم تلك الرغبة في وضع التأويل على منصة الدلالات العامة لا الدلالات المفردة والمجزأة، وتجاوز الأحكام المعيارية ما أمكن.

تتحرك آليات التحليل داخل الكتاب في إطار خطاطة-لاخطاطة تاريخية، وهو سلوك متعمد يبتغي من خلاله الباحث جعل سلسلة التأويل في ارتباطها بالأحداث واللامفكر فيه تتناغم لا بالتراتب، وإنما بما يقدم/يقرب الصورة في تركيبها المتزامن والمتداخل الأبعاد، ولذا انشغل ب’’ القوة ’’ كمفهوم- نموذج - وما الذي تشكله داخل نسق التفكير الجمعي، ليستنتج أن هذه الأخيرة تتخذ صيغ القوة في أشكالها السالبة، أو المنتهية مدة ورقعة صلاحية توظيفها في إطار ذلك الفهم، أي بعد العنف الذي التبست به، بدل أن تتصرف في أشكال العلم والتكنولوجيا و الاسترتيجيا، فتحولت بعد أن فقدت ذلك المجال القابل لتصريفها في أشكالها الحضارية الأولى، سواء جغرافيا أو مدنيا بتغير موازين قوة الحضارة اليوم، إلى عنف وحركة جامحة للمشاعر لا علاقة تربطها بأي شكل من أشكال التحرك الاستراتيجي، وإنما يبقى وهم التفوق الذي برعت الصناعة الفقهية في ترسيخه إلى جانب السرديات الثقافية السلطانية، مما كان شاغل صالونات القصور دون أن يتعداها، المؤطر والمحرك الأول والأخير. وقد برعت بالفعل هذه العوامل في نسف كل قابلية للانفتاح بنفس الفهم الراغب في التواصل والحوار وتقبل أرضية التشكل الحضاري الجديدة، ولذلك لم تكن سردية الراعي النائم، إلا وجه العملة الآخر، الذي يوازيه نموذج الطوفان، والذي تحول من الشكل الأسطوري إلى اللغة الدينية/السياسية، ثم انسحب إلى الايدولوجيا العلمانية، ليشكل ما يسمى في الميتولوجيا الجديدة-حسب الباحث- بالثورة، وللتحديد أكثر’’ الثورة الاشتراكية العربية ’’.

يدعونا الباحث لتقبل بعض التقليبات الفرضية، ولو مؤقتا، علنا نفتح بذلك آفاقا تأويلية جديدة، فمثلا مقولة ’’الانحطاط’’، لنضع ما نعرفه عنها من سرديات جانبا- مؤقتا- ولنقرر بأنه لم يكن هنالك انحطاط، وإنما القضية توهم مغلوط، تم تبرير طرحه في إطار المقارنة بالآخر، وفي إطار مركزية ’’المركز الحضاري’’ واقتصاره كمركز على النموذج العربي، لكن إن تحدثنا بمنطق الوعي الداخلي وبنية العناصر الذاتية لمسارات الأحداث من جهة، واعتمدنا منطلق لامركزية المركز الحضاري، سنخلص لتأويل يحضى بأوجه مقبولية محترمة، فتكون بذلك الحضارة الإسلامية، لا أمام انحطاط قد أصابها بالشلل التام والانكفاء عن التاريخ، وإنما أمام تحول لهذه الأخيرة في كل مرة من مركز إسلامي لآخر، عباسي، أندلسي، عثماني، هندي، مغاربي ...، ’’ فليست القضية إذن قضية انحطاط، بل نموذج حضاري تكرر إلى أن بلغ حدوده القصوى، واختيارات استراتيجيه لم تتبين نتائجها إلا على الأمد البعيد..’’ص12.

ويرجع الباحث استمرارية سردية الراعي النائم ورواجها، إلى ثلاثة عوامل، تتمثل في سطوة الاستشراق الفرنسي أولا، وشهرته ثانيا، وذلك لما يحققه هذا الأخير بالمقابل من رواج لمقولات البداية النهضوية الأوروبية فرنسيا، لا فيما كان قبلها كما هو واقع الحال، أما العنصر الثالث فهو إرضاء هذه السردية لكبرياء النفس الإسلامية المكلومة. وهي مقولات-حسب الباحث- من تأليف الخطاب ’’القومسلامي/القوميساري’’ العربي، والذي قفز على تاريخ إسلامي كبير، من التاريخ القريب إلى البعيد، سواء لفصل بعض المركزيات الحضارية الإسلامية عن العرب، والتنقيص اللامعرفي- في السياق القومي- من أهمية دورها التاريخي، كما هو الوضع مع الهند والعثمانيين، أو لأن ذلك التاريخ البعيد أقرب عند ’’القومسلاميين’’ للتطويع والتشكيل حسب المتطلبات الإيديولوجية للحاضر، فسيج التاريخ تبعا لهذه الرؤية بقراءات موهمة بالانحطاط، والمركز الحضاري الثابت والواحد، والقوة المفرغة من كل معاني القوة الثقافية والإستراتيجية والعلمية، لتملأ في المقابل بالعنف وعنفوان الوثوقية بالعقلية المتفوقة في كل شيء، عقلية فقهية - سلبية لا تبدع وإنما تكتفي بمحاكمة ما يبدع، وليتحمل الأتراك أيضا مسؤولية الانحطاط، للتأميل في فكرة العودة العربية الجديدة إلى قيادة التاريخ، في تقديم سطحي مبسط يدفع للاعتقاد بأن كل مشاريع الإصلاح ينبغي أن لا تتجاوز بضع سنوات قليلة على الأكثر. ص119.

فالقوة إذن، حسب الباحث، إسم اتخذ لدينا معنى تتخفى تحت مسماه، أوجه شرعية الحقيقة المستبطنة لعنف رمزي- مادي. فكل سرديات ’’ أدب السير’’ التي طغت على الفهم التاريخي لدينا، شكلت دوافع ذلك التفكير الذي وإن فكر في النهضة، فإنما باستبطانه لفكرة ورغبة إزالة العنصر الحضاري المقابل، وقرب زواله، في تغييب تام لذلك البعد الاستراتيجي لحضارة اليوم في اتجاهاتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، وفي ظل المدينة والمدنية. فأوربا استثمرت إستراتيجية الحرب، مثلا، لتجعل منها استراتيجية ثقافة، ولتجعل الاستراتيجية ثقافة بدورها. لذلك، فبدل أن نفهم في تاريخنا القريب ما أسميناه ’’ النكسة ’’، في كونها برهانا واقعيا-حسب الباحث-على سوء التقدير وخطأ التوقع وطوباوية الخطاب، قدمناها في صورة ’’ نكسة ’’ أي تراجع عن واقع ما، في الأصل هي لم تكنه، في صورة تعني التهرب من إعادة التقدير وعقلنة التوقع وواقعية الخطاب، وهي ’’ وسيلة للامتناع عن مراجعة السائد ومسائلة الوعي ذاته، لذلك تتكرر النكسات دونما نهاية، لأن موجهات الفعل ظلت واحدة ومستقرة ’’ ص116.

يحاول الحداد إجمالا فيما يقدمه من كتابات، تقعيد مسار معرفي شديد الحساسية تجاه كل أشكال التسطيح المدعو وهما أنه ’’ معرفة ’’، ولذلك تعمد في غالب ما كتب التنقيب عن أصول ما يود الاشتغال عليه، فكان أن قدمت لنا حفرياته، ودون مبالغة، مراجعات فكرية تحمل بصماته في التفكير داخل دائرة المكتوب العربي/الإسلامي، وبالأخص في مجال التاريخ الثقافي للإصلاح، وأعتقد أن دراساته في هذا المجال، تبقى أسئلة لابد من التفكير فيها مليا وبجدية تامة قبل أي خطوة كتابة في هذا التخصص.
*الملتقى الفكري
أضافة تعليق