إبصار الكفيفات وعمى المبصرين
- زيد الشامي
-تضغط علينا الحياة بثقلها المادي والنفسي، نكاد نصاب بالاختناق، تنافس على حطام الدنيا وخلافات، أثرة تحجر واسعاً، وأنانية تحيل الدنيا كخرم إبرة!!
ومن بين ركام الإحباط، وعفن الحرص، وسواد التشاؤم يبحث المرء عن كوة يتنفس منها نسمة ندية، ويتلمس بصيص ضوء، ويتنسّم عبيراً يبعده عن الهم والكدر، فالحياة رغم لأوائها وتعبها ليست كلها ظلاماً!!
وهاأنذا أنقل القراء الكرام إلى أجواء ملائكية، حيث السمو والعيش في عالم الصفاء والنقاء وجمال الروح، فقد تلقيت دعوة من جمعية الأمان لرعاية الكفيفات لزيارة المقر الرئيس في حي التلفاز، وهناك تشعر أنك لست في الأرض، وإنما في السماء، كأنك لست في الدنيا التي يتكالب الناس على متاعها ومتعها، وإنما تدلف إلى حديقة غناء، يصطف فيها الخير، يزاحم البذل والعطاء، تتقدم التضحية، تصافح التجرد من حظوظ النفس، تناديك العظمة أن: هلمَّ لترى كيف يصنع الإيمان المعجزات، وتشاهد بأم عينيك كيف تتحول الكفيفة إلى رائدة تعلم المبصرين، هنا إرادة التحدي التي تقهر شبح الضعف واليأس، هنا يظهر الإنسان السوي الذي لم يمنعه فقدُ حاسة البصر أن يتلمس درب السلامة بثقة واقتدار، هنا ستفهم معنى قوله تعالى: (فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
الأستاذة القديرة فاطمة العاقل –ومعها ثُلّةٌ من المربيات الفاضلات، (كفيفات ومبصرات) يقفن على مشروعات كبيرة ولافتة، لا تملك وأنتَ ترى وتسمع إلا أنْ تخفضَ رأسَك مهابةً وإجلالاً وإعجاباً بتلك العزائم الفولاذية التي استطاعتْ أن تشقَّ الطريقَ الوعر، وتعبّد الصعبَ القافر لتحيلَه سهلاً جميلاً محفوفاً بالورود والأزهار.
أكثر من ثمانمائة كفيفةٍ في مختلف الأعمار ترعاهم هذه الجمعية المباركة، وعندما بدأت الفكرة لم يكن في اليمن كفيفةٌ واحدة تقرأ، واليوم نرى هؤلاء يجدْنَ العنايةَ والرعايةَ الاجتماعية والصحية والتعليمية، بعضهنَّ أكملنَ الدراسةَ الجامعية، تنقلهنَّ حافلاتُ الجمعية إلى أبوابِ المؤسسات التعليمية والصحية من أبواب منازلهنَّ والعكس، إضافة إلى اللائي يتمَّ كفالتهنَّ في المراكز التابعة للجمعية حيث يجدْنَ كاملَ الرعاية، حتى يتعلَّمْنَ ويتدربن ويصبحنَ عضوات فاعلات في المجتمع.
مبنى الجمعية كأنه لا يخصُّ كفيفاتِ النظر، إنّه أشبهُ بفندق خمسة نجوم، أو مبنى وزارة راقية، وهو حجةٌ على المبصرين الذين لا يحافظونَ على المباني العملاقة، إنه آيةٌ في الجمال والنظام والترتيب، حيثما يمَّمتَ وجهَك ستلاحظُ أثر الأيدي المتوضئة، التي تضعُ كلَّ شيء في مكانِه: المكاتب، الفصول الدراسية، القاعات المتعددة الأغراض، المطعم، السكن المرتب المناسب لحالة الكفيفات، كل شيء جميل ونظيف وله دلالة، حتى اللوحات المعلقة على الجدران تنبضُ بالحياة وكأنها علقتْ اليوم لم تتأثر بعوامل التعرية!!
والأجمل من هذا ذلك الإرشيف المنظّم الذي يقدِّم لك معلوماتٍ كاملة عن كل حالة، والأعجبُ قاعة الحاسوب المخصّصة لتعليم الكفيفات الطباعة والبرمجة، بينما ما يزال كثيرٌ من المبصرين ترتعشُ أيديهم عند اقترابهم من جهاز الحاسوب (الكمبيوتر).
صورة أخرى من الانتصار على الجهل تتمثل في قسم الطباعة البارزة بطريقة (برايل) حيث يتمُّ طباعة جميعِ الكتب المدرسية لكل المراحل، بحيث تتسلَّم كل طالبة الكتبَ الدراسية كاملةً في المؤسسة التعليمية التي تدرس فيها لتتمكن من مواكبة زميلاتها المبصرات، ورغم الإمكانات المتواضعة إلا أن هذه الطابعة تعيد طباعة أي كتاب يتمُّ تعديله من قبل وزارة التربية والتعليم حتى تواكبَ الطالبةُ كلَّ جديد.
إن هؤلاء الفاضلات يقمن –نيابة عن الأمة- بهذا الفرض الكفائي، وهو عمل جبار وعظيم، ولعل الله يرفع غضبه العام عن الناس بمثل هذه الأعمال الطيبة لهؤلاء النسوة اللائي نذرن حياتهن لهذه المهمة الجليلة، والشكر لجميع المحسنين الذين لا يبخلون في الإنفاق والتسابق في هذا المضمار الرابح..
قلت: ليت العاجزين من المبصرين يقومون بزيارة هذه المؤسسة الرائدة ويتعرفون على الفروع والمراكز التي تتبعها، ليتعلموا كيف تتحول الإمكانات القليلة إلى أعمال كبيرة، وكيف تصنع الإرادة والعزيمة من الحصوات جبلاً، ومن ذرات الرمل بناءً شامخاً، ومن الكفيفة عالمة وخبيرة وكاتبة ومعلمة وقائدة..!!
حين تغادر المكان ستعيش حالة من الذهول، هل كنت في حلم أم هي الحقيقة.
هل يحدث هذا في اليمن؟ بل هو اليقين بأن مشكلاتنا ليست في قلة الإمكانات ومحدودية الموارد، وإنما في الإنسان الذي يقعد به العجز فيحوله كسيحاً وإن كان مفتولَ العضلات، والحل في حسن التدبير، والعزيمة التي لا تعرف المستحيل، إنها تربية عملية، ولحظات من التحليق في عالم الخير والفضل يحتاجها كثير من المبصرين!!
*الصحوة نت
- زيد الشامي
-تضغط علينا الحياة بثقلها المادي والنفسي، نكاد نصاب بالاختناق، تنافس على حطام الدنيا وخلافات، أثرة تحجر واسعاً، وأنانية تحيل الدنيا كخرم إبرة!!
ومن بين ركام الإحباط، وعفن الحرص، وسواد التشاؤم يبحث المرء عن كوة يتنفس منها نسمة ندية، ويتلمس بصيص ضوء، ويتنسّم عبيراً يبعده عن الهم والكدر، فالحياة رغم لأوائها وتعبها ليست كلها ظلاماً!!
وهاأنذا أنقل القراء الكرام إلى أجواء ملائكية، حيث السمو والعيش في عالم الصفاء والنقاء وجمال الروح، فقد تلقيت دعوة من جمعية الأمان لرعاية الكفيفات لزيارة المقر الرئيس في حي التلفاز، وهناك تشعر أنك لست في الأرض، وإنما في السماء، كأنك لست في الدنيا التي يتكالب الناس على متاعها ومتعها، وإنما تدلف إلى حديقة غناء، يصطف فيها الخير، يزاحم البذل والعطاء، تتقدم التضحية، تصافح التجرد من حظوظ النفس، تناديك العظمة أن: هلمَّ لترى كيف يصنع الإيمان المعجزات، وتشاهد بأم عينيك كيف تتحول الكفيفة إلى رائدة تعلم المبصرين، هنا إرادة التحدي التي تقهر شبح الضعف واليأس، هنا يظهر الإنسان السوي الذي لم يمنعه فقدُ حاسة البصر أن يتلمس درب السلامة بثقة واقتدار، هنا ستفهم معنى قوله تعالى: (فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
الأستاذة القديرة فاطمة العاقل –ومعها ثُلّةٌ من المربيات الفاضلات، (كفيفات ومبصرات) يقفن على مشروعات كبيرة ولافتة، لا تملك وأنتَ ترى وتسمع إلا أنْ تخفضَ رأسَك مهابةً وإجلالاً وإعجاباً بتلك العزائم الفولاذية التي استطاعتْ أن تشقَّ الطريقَ الوعر، وتعبّد الصعبَ القافر لتحيلَه سهلاً جميلاً محفوفاً بالورود والأزهار.
أكثر من ثمانمائة كفيفةٍ في مختلف الأعمار ترعاهم هذه الجمعية المباركة، وعندما بدأت الفكرة لم يكن في اليمن كفيفةٌ واحدة تقرأ، واليوم نرى هؤلاء يجدْنَ العنايةَ والرعايةَ الاجتماعية والصحية والتعليمية، بعضهنَّ أكملنَ الدراسةَ الجامعية، تنقلهنَّ حافلاتُ الجمعية إلى أبوابِ المؤسسات التعليمية والصحية من أبواب منازلهنَّ والعكس، إضافة إلى اللائي يتمَّ كفالتهنَّ في المراكز التابعة للجمعية حيث يجدْنَ كاملَ الرعاية، حتى يتعلَّمْنَ ويتدربن ويصبحنَ عضوات فاعلات في المجتمع.
مبنى الجمعية كأنه لا يخصُّ كفيفاتِ النظر، إنّه أشبهُ بفندق خمسة نجوم، أو مبنى وزارة راقية، وهو حجةٌ على المبصرين الذين لا يحافظونَ على المباني العملاقة، إنه آيةٌ في الجمال والنظام والترتيب، حيثما يمَّمتَ وجهَك ستلاحظُ أثر الأيدي المتوضئة، التي تضعُ كلَّ شيء في مكانِه: المكاتب، الفصول الدراسية، القاعات المتعددة الأغراض، المطعم، السكن المرتب المناسب لحالة الكفيفات، كل شيء جميل ونظيف وله دلالة، حتى اللوحات المعلقة على الجدران تنبضُ بالحياة وكأنها علقتْ اليوم لم تتأثر بعوامل التعرية!!
والأجمل من هذا ذلك الإرشيف المنظّم الذي يقدِّم لك معلوماتٍ كاملة عن كل حالة، والأعجبُ قاعة الحاسوب المخصّصة لتعليم الكفيفات الطباعة والبرمجة، بينما ما يزال كثيرٌ من المبصرين ترتعشُ أيديهم عند اقترابهم من جهاز الحاسوب (الكمبيوتر).
صورة أخرى من الانتصار على الجهل تتمثل في قسم الطباعة البارزة بطريقة (برايل) حيث يتمُّ طباعة جميعِ الكتب المدرسية لكل المراحل، بحيث تتسلَّم كل طالبة الكتبَ الدراسية كاملةً في المؤسسة التعليمية التي تدرس فيها لتتمكن من مواكبة زميلاتها المبصرات، ورغم الإمكانات المتواضعة إلا أن هذه الطابعة تعيد طباعة أي كتاب يتمُّ تعديله من قبل وزارة التربية والتعليم حتى تواكبَ الطالبةُ كلَّ جديد.
إن هؤلاء الفاضلات يقمن –نيابة عن الأمة- بهذا الفرض الكفائي، وهو عمل جبار وعظيم، ولعل الله يرفع غضبه العام عن الناس بمثل هذه الأعمال الطيبة لهؤلاء النسوة اللائي نذرن حياتهن لهذه المهمة الجليلة، والشكر لجميع المحسنين الذين لا يبخلون في الإنفاق والتسابق في هذا المضمار الرابح..
قلت: ليت العاجزين من المبصرين يقومون بزيارة هذه المؤسسة الرائدة ويتعرفون على الفروع والمراكز التي تتبعها، ليتعلموا كيف تتحول الإمكانات القليلة إلى أعمال كبيرة، وكيف تصنع الإرادة والعزيمة من الحصوات جبلاً، ومن ذرات الرمل بناءً شامخاً، ومن الكفيفة عالمة وخبيرة وكاتبة ومعلمة وقائدة..!!
حين تغادر المكان ستعيش حالة من الذهول، هل كنت في حلم أم هي الحقيقة.
هل يحدث هذا في اليمن؟ بل هو اليقين بأن مشكلاتنا ليست في قلة الإمكانات ومحدودية الموارد، وإنما في الإنسان الذي يقعد به العجز فيحوله كسيحاً وإن كان مفتولَ العضلات، والحل في حسن التدبير، والعزيمة التي لا تعرف المستحيل، إنها تربية عملية، ولحظات من التحليق في عالم الخير والفضل يحتاجها كثير من المبصرين!!
*الصحوة نت