مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الطريق إلى غزة
د. عدنان حسن باحارث
لجينيات ـ الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، في الأرض ولا في السماء ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد : ففي كلُّ يوم نُصبح فيه ثم نمسي ، ونمسي ثم نصبح ، ولا شيءَ جديدٌ في حياتنا ، نتقلب بين أيامنا وليالينا في أحزان لا تكاد تنقطع ، وهمومٍ لا تكاد تنجلي ، مصائبُ تتلاحق ، ونكباتٌ تتتابع ، كلَّما أبصرنا بصيصاً من نور الخلاص : أعقبه ظلام بهيم لا يبشر بخير ، ولا ينبئ بفرج : (... ظلماتٌ بعضُها فوق بعض ، إذا أخرج يدَه لم يكد يراها ...) ، حتى دَخَلنا اليأس ، وغشَانا القنوط ، من شروق صباح جديد ، نستنشق منه عبيرَ الحق ، ونشتمُّ منه نسائم النصر ، في عصر تداعت فيه الأمم على المستضعفين ، وتنادت فيه الشعوب على المساكين ، ينتزعون اللقمة من أفواههم ، ويحرمونهم الشَّربة من أرضهم ، حصارٌ فوق الأرض ، وحصارٌ تحت الأرض ، جُدرانٌ من البارود والفولاذ ، وأكوامٌ من الحديد والنيران ، أين تراهم يذهبون من قصف النهار ، وخوف الليل ؛ فالسماء تمطر لهباً ، والأرض تتفجر حُمماً ، ولا مغيثَ ولا معينَ إلا اللهُ ، الذي يعلم ظلم الأقربين ، ويعرف بطش الكافرين ، ولا يخفى عليه كيدُ المنافقين .

لقد انبرى للحصار الظالم : أفرادٌ أحرارٌ شرفاء ، من أنحاء العالم البائس التعيس ، يدفعون بأنفسهم عن المحاصرين ، ويذكِّرون العالم بالجائعين ، ويُنبِّهون المسلمين الغافلين، قد تركوا وراءَهم في بلدانهم أهلاً وأقارب ، وأولادَ ومعارف ، ثم جاءوا هنا إلى ديارنا ؛ ليعلمونا واجباتنا الشرعية ، ويدرِّسونا مبادئ الإخاء الإسلامية ، ويدربونا على معاني الإيثار الأخلاقية ، لا يجمعهم دين ولا عرق، ولا يضمُهم وطن ولا أرض، وإنما يجمعُهم نسب الإنسانية ، وشرف العدل والحرية .

لقد خرجوا من بلدانهم بمهجهم يضعونها على سفن الموت ، وحملوا أرواحهم على مراكب الهلاك ، يخوضون بأنفسهم بحر الظلام ، لا يخافون من أهوال ما أمامَهم ، بل يقدُمون عليها مقبلين ، بصدور مشروحة ، ونفوس مطمئنة ، وكأنما يُزفُّون في أعراسهم مبتهجين ، لا يترددون ولا يختلفون ولا يتنازعون ، قد جمعَهُم المقصدُ السامي، ووحَّدهم الهدفُ النبيل ، إنهم يريدون غزة العزيزة ، مدينةَ الأشراف ، وقلعةَ الأبطال ، يحدوهم في ذلك أملُ كسر الحصار الظالم ، وغسلِ العار الشنيع، الذي أحاط بالعالم المعاصر ، في ظل سيطرة الصهاينة والمتصيهنين .

حتى إذا توسَّطت مواكب الحرية البحر ، فخاضت الماء في أمان ، وانفردت عن العالم أجمع ، فكانت قاب قوسين من غايتها : خرج عليها قراصنة الأرض المحتلة، ذئابٌ في أشكال البشر ، يُحيطون بالشرفاء من كل مكان ، من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، يقذفونهم بالنار والغاز ، وصواعق الكهرباء ، يقتلون ويجرَحون ، ويبطِشون ويأسرون ، فتعطل الركب الكريم في عُرض البحر ، لا يتقدم ولا يتأخر ، قد ضاقت به السبل ، وانقطع به المسير ، وسيق الشرفاء إلى حرب ضروس ما أعدَّوا لها إلا نفساً أبية ، وهمماً عالية قوية ، لا تهاب الموت ، ولا تخاف الإرهاب .

وانبرى شرفاء السفن الجريحة – الرجال والنساء - يدافعون عن أنفسهم ، ويردوا على الرَّصاص القاتل ، والغاز الحارق : بعلب الحليب ، وأكياس الدقيق ، وكراتين الدواء ، يختِمون بها وشمَ العار على الوجوه اليهودية الكالحة، لتبقى علامةً على خزيهم إلى آخر الزمان ، ولعنةً تلاحقُهم إلى آخر الدهر .

وبقيَ العالم كلُّه يتابع مأساة هؤلاء الأحرار ، ويرى ويسمع صنيع الفجار بالأغيار ، وفعل الخنازير بالأخيار ، لا يقدم ولا يؤخر ، كلُّهم يخشى بطش اليهود وصولتَهم ، إلا قليلٌ من شرفاء العالم ، ممن بقي معه شيء من الإباء والكرامة الإنسانية، فأخذوا بصدق ينددون بالمجزرة ، ويرفعون أصواتهم المبحوحةَ في وجه الصهاينة وأعوانِهم ، عازمين بقوة على تكرار التجربة المأساوية من جديد ، بعزم أقوى ، وروح أصلب ، ويقين آكد ، لبلوغ الهدف ، وكسر الحصار ، لا يبالون بما قد يُصيبُهم من الأذى ، في سبيل إحقاق الحق ، ودفع الظلم .

وأما نحن العربُ والمسلمون فخارجَ اللُّعبة الدولية ، نحيا على هامش الحياة السياسية ، يقضي في شأننا غيرُنا ، ويحكم فينا عدونا ، أعداد بلا معنى ، وأرقام بلا حقيقة ، غثاء كغثاء السيل ، يعلو ويطيش ، ثم لا تجد بعد ذلك شيئاً .

مليارٌ ونصفُ المليار من المسلمين ما استطاعوا أن يصنعوا شيئاً ذا بالٍ لإخوانهم المحاصرين في غزة ، تخاذلوا عن النصرة الشرعية الواجبة ، وتقاعسوا عن الفريضة الجهادية المحكمة ، قعدوا فأقعدهم الله في ذيل الركب ، وتأخروا فأخرهم الله عند المؤخرة ، يعاينون أدبار الناس ، ويعالجون فضلاتهم .

ثم تأتي عجوز نصرانية شمطاء ، من بطن أوروبا ، ومن عمق المدن الحضارية ، لتدخل التاريخ دوننا ، تركب غمار البحر ، نحو المصير المجهول ، تنادي بقضيتنا نيابة عنا، وتصيح في عدونا بدلاً منا ، وتُقدِّم نحرها دون نحورنا ، تتعرض للموت في كل لحظة ، ونحن قابعون في قعر بيوتنا ، فوا سوأتاه ، أي عار لحقنا ، وأي خزي أحاط بنا ؟ لقد وجد هؤلاء الشرفاءُ شيئاً يفعلونه من أجلنا ، في حين لم نجد نحن شيئاً نفعلُه لأنفسنا.

لقد أذهبوا بمبادرتهم الكريمة ، وفدائهم واستبسالهم وإصرارهم ما تبقىَ من ماء وجوهنا ، حتى خَجلَ منا الخجل ، واستحيى منا الحياء ، حتى لم يعد لنا شيء نستر به سوأتَنا .

لقد صَفَعَنا اليهودُ الصهاينةُ على وجوهنا وأدبارنا ، حتى ما عاد الناس يميزون لنا وجهاً ولا دبراً ، قد استوى كل ذلك عندنا ، وأخذ شرفاء العالم المتحضر يتساءلون : هل العرب بصمتهم هذا : حكماءُ أم عملاء ؟

لقد كشفت هذه المأساةُ البحرية للعُميان ، ولمن بآذانهم صممٌ : أن الإرادة الصادقة أقوى وأمضى من كل سلاح ، فهي وسيلة المستضعفين ، وعُدة المظلومين ، ووقود المحرومين نحو الخلاص والحرية ، وأن الأمة الإسلامية ليس لها عون بعد الله تعالى إلا إرادتُها الصادقة ، وعزمُها الأكيد .

كما كشفت لنا هذه المأساة : أن المد الإسلامي ضاربٌ أطنابه في عمق الأمة ، يخبو تارة ، ويصحو تارة أخرى ، وها هو المد الإسلامي القوي يأتي من تركيا ، من دولة الخلافة الإسلامية العريقة ، تُذكِّر بنفسها التوَّاقة ، وتعرف بتاريخها المجيد ، بعد عقود طويلة من الركود والضعف والإبعاد .

وأما الدولة العبرية البغيضة ، فإنها بعد هذه المأساة لم يبقَ لها شيء من قبائحها تستره عن العالم ، فإنها ترصد عدَّها التنازلي ، لزوال كيانِها الشاذ اللئيم .

إن التاريخ لا يرحم أحداً ، ومشرحتُه سوف تطال الجميع ، فهو ذاكرة مفتوحة ، ترصد وتسجل ، ولن يبقَ شيء من الأحداث والمواقف المعاصرة في طي الكتمان ، بل كل ذلك سوف يظهر للعَيان ، فهنيئاً للشرفاءِ الصادقين ، وويلٌ للأدعياءِ الكاذبين .

ولئن كان صمودُ هؤلاء الأشرافِ على سفن الحرية عجبٌ من العجب ، فإن أعجبَ منه وأغربَ : صمودُ أهل غزة بعد الحرب والحصار ، قد حُرموا من كل شيء ، وما زالوا صامدين صابرين ، وأعداؤهم ماضين متعجرفين ، ونحن قاعدين متخاذلين ، فما أعجبَ المفارقات ، والنبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا ويقول : ( ما من امرئ يخذلُ مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه ، وتُنتهك فيه حرمتُه : إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته ...) .

د.عدنان حسن باحارث
www.bahareth.org
*لجينيات
أضافة تعليق