للحركات الوطنية في العصر الحديث بداية
د. توفيق الواعي
بداية الحركات الوطنية في العصر الحديث في البلاد الشرقية كان سببها أمرين: الأول: الاستعمار البغيض، والثاني: الظلم والاضطهاد الذي كان يصب على البلاد صبّاً بغية إذلالها وتركيعها وإجهاض نخوتها من أذناب الاستعمار اللعين. ولهذا تكونت الجمعيات الوطنية وتكونت معها الأجهزة القمعية التي كانت تمثل ذراع السلطة القوية، فهناك مثلاً الجمعية السرية التي اُتهم فيها سعد زغلول في أعقاب الثورة العرابية وهي «جمعية الانتقام»، وهناك جمعية «التضامن الأخوي» الذي ألفها الحزب الوطني في مصر، وكان الشاب الذي أطلق الرصاص على رئيس وزراء مصر، وهو إبراهيم الورداني عضواً في هذه الجمعية، وطبقاً لمذكرات حديثة أودعت خلال شهر نوفمبر 1947م في مركز وثائق تاريخ مصر، باسم اللواء عبدالعزيز علي أحد المؤسسين البارزين لتلك الجمعية في مصر، والذي أصبح وزيراً فيما بعد في أول وزارة مصرية بعد ثورة 23 يوليو 1952م، وكان يتكلم عن سبب قيام هذه الجمعية فيقول: أنشئت هذه الجمعية في أحضان الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل، وكان هذا نتيجة للعنف الذي كانت تمارسه سلطات الاحتلال والسراي ضد الوطنيين في أعقاب الثورة العرابية.. فإن تفكيراً تبلور لدى قيادة الحزب الوطني بعدم إمكانية الثورة الشاملة، وأن الاغتيال الفردي للعملاء ورموز الاستعمار هو السبيل الوحيد لإيجاد حركة ثورية، وللرد بعنف على عنف السلطة، وفي هذه الفترة من الاحتلال الإنجليزي ألفت جمعيات أخرى وطنية هدفها اغتيال العملاء، وكانت هذه الجمعيات تمثل شوكة في ظهر الاستعمار والعملاء، وقد أشار إلى هذا تقرير المعتمد البريطاني «ملن شيتام» إلى وزير خارجية بريطانيا «إدوار جراي»؛ حيث يدل هذا التقرير على تعدد الجمعيات وعدم وضوح الرؤية أمام المحتلين عن تلك الجمعيات فيقول: «إن أول جمعية سرية في مصر هي جمعية «التضامن الأخوي»، ثم ألفت جمعية ثانية باسم «جمعية التعاون الأخوي»، ثم ثالثة باسم «جمعية الرابطة الأخوية»، ثم يقول: وليس ثمة وضوح حول ما إذا كانت هذه الجمعيات تشكل تنظيماً واحداً أو عدة تنظيمات مستقلة، ولكنها تدار جميعاً بقيادة شباب لا يُعرفون لنا، والجمعية الأولى هي التي قبض على بعض أعضائها مع الورداني، وقيل: إنها توقفت عن العمل وأن بعض أعضائها مشتتون الآن في تركيا وأوروبا. وتقرير «ملن شيتام» وغيره يؤكد إلى حد بعيد أن تلك الجمعيات كانت جمعيات وطنية برزت من رحم الأمة للتحرر ومحاربة المستعمر وأعوانه ومحاربة الظلم والظالمين، ولا يعني وصف المستعمر لهذه الجمعيات بالإرهاب أنها كانت جمعيات لقطع الطرق وترويع الآمنين، ولكنها كانت عنيفة في وسائلها، وطنية في أهدافها وغاياتها، وكانت تتكون من خيرة شباب الأمة دراسة وعلماً، فقد كان إبراهيم الورداني الذي أطلق الرصاص على رئيس وزراء مصر بطرس غالي شاباًً مثقفاً تلقى دراسته في الصيدلة في سويسرا، ثم عاد إلى مصر وافتتح صيدلية في حي عابدين، وانضم إلى الحزب الوطني، ثم أراد هو ورفاقه من المثقفين أن يبدؤوا الكفاح لتحرير مصر، وكان الشعب المصري مثقفوه، وعماله، وفلاحوه قلوبهم مع هذا الشاب الذي كان يحمل راية الكفاح، ويضحي بنفسه في سبيل بلده. يُبَيِّن هذا جزء من التحقيق الذي أجرته المحكمة مع الورداني في تلك الحادثة، حيث سألته المحكمة عن الدافع إلى قتل بطرس غالي باشا رئيس وزراء مصر، فأجاب: لأنه خائن باع بلادي للمحتل، سألته المحكمة: وكيف؟ فقال: لأنه وقَّع اتفاقية السودان 1899م وتولى هو وآخرون رئاسة المحكمة المخصوصة في دنشواي التي شنقت الفلاحين، وأعاد قانون المطبوعات الصادر في نوفمبر 1881م، وأصدر قانون النفي الإداري للوطنيين، وأيد مشروع مد الامتيازات الأجنبية بشركة قناة السويس 40 سنة بحيث ينتهي سنة 2008 بدلاً من سنة 1986م، وظل يعدد الكثير من أفعال هذا الرجل، وفي 81 مايو 1910م أصدرت محكمة الجنايات التي يرأسها أحد رجال الاحتلال، وهو القاضي «دوليروجلي» حكمها بالإعدام على إبراهيم ناصف الورداني.. وفي ليلة تنفيذ الحكم أحست جماهير الشعب المصري بموعد تنفيذ الحكم، فسارت مظاهرات الشباب في المدارس الثانوية والعمال والفلاحين والنساء في كل أنحاء بلاد مصر، وهي تردد وتغني بحزن أليم تلك الأغنية التي ما برحت تُغنَّى للحين، ولا أحد أصبح يدري لماذا غنيت وهي: «قولوا لعين الشمس ماتحماشي أحسن غزال البر صابح ماشي». وفي الصباح شنق الورداني ومصر كلها توُدِّع البطل في نظرها والمدافع عن البلاد، وكأن كل قلب في مصر قد شنق، وكل نفس في الكنانة قد فارقتها الحياة وعاش ذلك في التاريخ، وفي ذكريات الناس، وفي سجل الكفاح والخلود الوطني. وما زال هذا يتكرر في وطننا العربي إذا وجدت أسبابه ولا نتعلم، وما زال هذا هو طبائع نفوس أبية وكان رموز الكفاح يرددون: كم على السيف مشيت كم بجمر الظلم والجور اكتويت كم تحملت القهر، وكم من ثقل البلوى حويت غير أني ما انحنيت كم هوى السوط على ظهري وكم حاولت أن أنكر صبري فأبيت وهوى ثم هوى ثم هوى وما هويت غير أني عندما طاوعني دمعي عصيت مذهبي أني كريم بدمائي وبخيل ببكائي وعلى صدري علّقت بقايا كبريائي ولعينيك يا بلدي انحنيت!! فهل يتعلم كثيرون في الأمة كيفية المحافظة على الطاقات بالعدالة والحرية والرحمة والاستقامة؟ فهذه كانت بداية الحركات الوطنية، فهل لها من نهاية؟!!
*المجتمع
د. توفيق الواعي
بداية الحركات الوطنية في العصر الحديث في البلاد الشرقية كان سببها أمرين: الأول: الاستعمار البغيض، والثاني: الظلم والاضطهاد الذي كان يصب على البلاد صبّاً بغية إذلالها وتركيعها وإجهاض نخوتها من أذناب الاستعمار اللعين. ولهذا تكونت الجمعيات الوطنية وتكونت معها الأجهزة القمعية التي كانت تمثل ذراع السلطة القوية، فهناك مثلاً الجمعية السرية التي اُتهم فيها سعد زغلول في أعقاب الثورة العرابية وهي «جمعية الانتقام»، وهناك جمعية «التضامن الأخوي» الذي ألفها الحزب الوطني في مصر، وكان الشاب الذي أطلق الرصاص على رئيس وزراء مصر، وهو إبراهيم الورداني عضواً في هذه الجمعية، وطبقاً لمذكرات حديثة أودعت خلال شهر نوفمبر 1947م في مركز وثائق تاريخ مصر، باسم اللواء عبدالعزيز علي أحد المؤسسين البارزين لتلك الجمعية في مصر، والذي أصبح وزيراً فيما بعد في أول وزارة مصرية بعد ثورة 23 يوليو 1952م، وكان يتكلم عن سبب قيام هذه الجمعية فيقول: أنشئت هذه الجمعية في أحضان الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل، وكان هذا نتيجة للعنف الذي كانت تمارسه سلطات الاحتلال والسراي ضد الوطنيين في أعقاب الثورة العرابية.. فإن تفكيراً تبلور لدى قيادة الحزب الوطني بعدم إمكانية الثورة الشاملة، وأن الاغتيال الفردي للعملاء ورموز الاستعمار هو السبيل الوحيد لإيجاد حركة ثورية، وللرد بعنف على عنف السلطة، وفي هذه الفترة من الاحتلال الإنجليزي ألفت جمعيات أخرى وطنية هدفها اغتيال العملاء، وكانت هذه الجمعيات تمثل شوكة في ظهر الاستعمار والعملاء، وقد أشار إلى هذا تقرير المعتمد البريطاني «ملن شيتام» إلى وزير خارجية بريطانيا «إدوار جراي»؛ حيث يدل هذا التقرير على تعدد الجمعيات وعدم وضوح الرؤية أمام المحتلين عن تلك الجمعيات فيقول: «إن أول جمعية سرية في مصر هي جمعية «التضامن الأخوي»، ثم ألفت جمعية ثانية باسم «جمعية التعاون الأخوي»، ثم ثالثة باسم «جمعية الرابطة الأخوية»، ثم يقول: وليس ثمة وضوح حول ما إذا كانت هذه الجمعيات تشكل تنظيماً واحداً أو عدة تنظيمات مستقلة، ولكنها تدار جميعاً بقيادة شباب لا يُعرفون لنا، والجمعية الأولى هي التي قبض على بعض أعضائها مع الورداني، وقيل: إنها توقفت عن العمل وأن بعض أعضائها مشتتون الآن في تركيا وأوروبا. وتقرير «ملن شيتام» وغيره يؤكد إلى حد بعيد أن تلك الجمعيات كانت جمعيات وطنية برزت من رحم الأمة للتحرر ومحاربة المستعمر وأعوانه ومحاربة الظلم والظالمين، ولا يعني وصف المستعمر لهذه الجمعيات بالإرهاب أنها كانت جمعيات لقطع الطرق وترويع الآمنين، ولكنها كانت عنيفة في وسائلها، وطنية في أهدافها وغاياتها، وكانت تتكون من خيرة شباب الأمة دراسة وعلماً، فقد كان إبراهيم الورداني الذي أطلق الرصاص على رئيس وزراء مصر بطرس غالي شاباًً مثقفاً تلقى دراسته في الصيدلة في سويسرا، ثم عاد إلى مصر وافتتح صيدلية في حي عابدين، وانضم إلى الحزب الوطني، ثم أراد هو ورفاقه من المثقفين أن يبدؤوا الكفاح لتحرير مصر، وكان الشعب المصري مثقفوه، وعماله، وفلاحوه قلوبهم مع هذا الشاب الذي كان يحمل راية الكفاح، ويضحي بنفسه في سبيل بلده. يُبَيِّن هذا جزء من التحقيق الذي أجرته المحكمة مع الورداني في تلك الحادثة، حيث سألته المحكمة عن الدافع إلى قتل بطرس غالي باشا رئيس وزراء مصر، فأجاب: لأنه خائن باع بلادي للمحتل، سألته المحكمة: وكيف؟ فقال: لأنه وقَّع اتفاقية السودان 1899م وتولى هو وآخرون رئاسة المحكمة المخصوصة في دنشواي التي شنقت الفلاحين، وأعاد قانون المطبوعات الصادر في نوفمبر 1881م، وأصدر قانون النفي الإداري للوطنيين، وأيد مشروع مد الامتيازات الأجنبية بشركة قناة السويس 40 سنة بحيث ينتهي سنة 2008 بدلاً من سنة 1986م، وظل يعدد الكثير من أفعال هذا الرجل، وفي 81 مايو 1910م أصدرت محكمة الجنايات التي يرأسها أحد رجال الاحتلال، وهو القاضي «دوليروجلي» حكمها بالإعدام على إبراهيم ناصف الورداني.. وفي ليلة تنفيذ الحكم أحست جماهير الشعب المصري بموعد تنفيذ الحكم، فسارت مظاهرات الشباب في المدارس الثانوية والعمال والفلاحين والنساء في كل أنحاء بلاد مصر، وهي تردد وتغني بحزن أليم تلك الأغنية التي ما برحت تُغنَّى للحين، ولا أحد أصبح يدري لماذا غنيت وهي: «قولوا لعين الشمس ماتحماشي أحسن غزال البر صابح ماشي». وفي الصباح شنق الورداني ومصر كلها توُدِّع البطل في نظرها والمدافع عن البلاد، وكأن كل قلب في مصر قد شنق، وكل نفس في الكنانة قد فارقتها الحياة وعاش ذلك في التاريخ، وفي ذكريات الناس، وفي سجل الكفاح والخلود الوطني. وما زال هذا يتكرر في وطننا العربي إذا وجدت أسبابه ولا نتعلم، وما زال هذا هو طبائع نفوس أبية وكان رموز الكفاح يرددون: كم على السيف مشيت كم بجمر الظلم والجور اكتويت كم تحملت القهر، وكم من ثقل البلوى حويت غير أني ما انحنيت كم هوى السوط على ظهري وكم حاولت أن أنكر صبري فأبيت وهوى ثم هوى ثم هوى وما هويت غير أني عندما طاوعني دمعي عصيت مذهبي أني كريم بدمائي وبخيل ببكائي وعلى صدري علّقت بقايا كبريائي ولعينيك يا بلدي انحنيت!! فهل يتعلم كثيرون في الأمة كيفية المحافظة على الطاقات بالعدالة والحرية والرحمة والاستقامة؟ فهذه كانت بداية الحركات الوطنية، فهل لها من نهاية؟!!
*المجتمع