الإصلاحيون الجدد: خطاب إسلامي ديمقراطي جديد في السعودية (*)
-سعود السرحان
أهمية أفكار الأحمري، تكمن أولاً في نجاحه في نقل موضوع السياسة من النقاش العقدي إلى النقاش الدنيوي، حيث وضع التحليل العقدي والمحلل العقدي (الشيخ) موضع النقد، كما ناقش مصداقية هذا التحليل. ليس هذا فقط، بل إنه استطاع أن يجر الإسلاميين للنقاش حول ’’جدوى الديمقراطية’’ بدلاً عن الاكتفاء بتحريمها أو تكفيرها؛ وهذا النقاش يتضمن اعترافهم بدنيويتها.. الأحمري استطاع إثارة النقاش بقوة داخل صفوف الإسلاميين في السعودية. وهو ما لم تثره أية كتابات أخرى..
ناقش الإسلاميون في العالم الإسلامي قضية الديمقراطية ومدى اتفاقها مع أحكام الشريعة، وقد تباينت آراؤهم بين تأييد ورفض لها، أو محاولة أسلمتها بمماهاتها بالشورى، المصطلح القرآني. ومع هذا الاختلاف والتباين حول الديمقراطية؛ إلا أنها لك تكن موضع اختلاف أبداً عند إسلاميي السعودية.
فالإسلاميون في السعودية، على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية والحزبية، نقلوا الديمقراطية من المجال السياسي الدنيوي إلى المجال الديني العقدي، وأدانوها باعتبارها ممارسة وثنية لا مجرد وسيلة سياسية وطريقة للحكم.
الديمقراطية وثنية، في وجهة نظرهم؛ لأنها قائمة على أن الحكم للشعب وليس لله، كما أنها من الحكم بغير ما أنزل الله؛ لذا فالبرلمانات عند هؤلاء الإسلاميين من الطواغيت وهي أماكن كفر وشرك لأنها أماكن لتشريع القوانين وسنها.
وفي أوائل التسعينيات، بدأ الإسلاميون في العالم العربي في المشاركة بكثرة في الانتخابات البرلمانية، في الجزائر والسودان والكويت، وطلبوا الفتاوى من علماء السعودية لتأييد موقفهم، لكن الفتاوى التي حصلوا عليها كانت مختلفة بل وأحياناً متناقضة.
فمع اتفاق رجال الدين في السعودية على أن التشريع حق حصري لله، وأن منازعته هذا الحق في البرلمانات كفر؛ إلا أن بعضهم (مثل ابن باز وابن عثيمين) أفتى الإسلاميين في الدول الأخرى بجواز المشاركة في البرلمانات بشروط. بينما بقي آخرون على موقفهم المحرم للدخول في البرلمانات.
المشايخ الذين أفتوا بجواز دخول الإسلاميين للبرلمانات اشترطوا أن تكون مشاركة هؤلاء الإسلاميين في الانتخابات براغماتية، مثل أن يكون هدف المشاركين في البرلمان تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، وأن يتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم، على ألا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية . أما القَسَم على احترام الدستور فلا يجوز، والمخرج في هذه الحالة أن ينوي بقلبه أنه حلف على احترام الدستور إن لم يخالف الشرع. والأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
وفي السعودية ومن داخل الصف الإسلامي، كانت هناك عدة محاولات لإعادة النظر في النظرية السياسية مع محاولة إعادة الاعتبار إلى الديمقراطية، وكونها لا تتعارض مع الشريعة. إلا أن المحاولة التي نجحت في إثارة النقاش داخل صفوف الإسلاميين كانت هي مجموعة مقالات كتبها الدكتور محمد حامد الأحمري، الذي كتب ـ ويكتب ـ الكثير بخصوص توضيح فكرته في أنه لا تعارض بين الديمقراطية وبين الإسلام، وأن النظام الديمقراطي هو أفضل الأنظمة السياسية اليوم، وإن كان لا يخلو من عيوب ونقائص لكنه قابل للتطوير والإصلاح.
فبعد الحرب بين حزب الله وإسرائيل في أغسطس 2006، كتب الأحمري مقالة انتقد فيها ما سماه ’’خدعة التحليل العقدي’’ للسياسة، حيث ينتقد الأحمري تدخل رجال العقيدة في تحليلهم للقضايا السياسية. شرح الأحمري أوجه القصور في تحليلات العقائديين للأحداث السياسية، ومع أنه لا ينفي إمكانية كون العامل العقدي عنصراً فاعلاً في الأحداث السياسية؛ إلا أنه يحذر وبكل تأكيد من اعتبار العامل العقدي مؤثراً وحيداً في الأحداث السياسية، كما يحذر أيضاً من جعله مدار التحليل والتفكير في الموقف السياسي.
أما المحلل العقدي فقد وصفه الأحمري بأنه: ’’ضيق الأفق، قريب المدى، محدود الأبعاد في التفسير، ويأنس لرؤيته وموقفه أولئك المحدودون الذين لا يتحملون تعدد مجالات الرؤية، وصحيح أن التفسير الأحادي المغلق، الذي لا يدع مجالا للتفكير ولا تعدد الأفهام، يصلح للقادة الغوغائيين، وقادة الجنود في الميدان، ولكنه لا يصلح لمستوى أعلى من الناس، ولا يصلح أن يسيطر على دولة لأنها ستصبح بهذا التفسير فاشلة، يسيرها رأي عقدي ضعيف ضيق، ومحدود الإطلاع وسيء التقدير للمصالح. لأن هذا التفسير يفقد الأسس المعرفية والعملية السياسية، مع أنه ناجح في إثارة الغوغاء’’.
وفي طرح آخر أثار الكثير من ردود الأفعال، كتب الأحمري مقالاً احتفائياً بمناسبة فوز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة، وكان عنوان المقال ’’انتصار الديمقراطية على الوثنية في الانتخابات الأمريكية’’. يرى الأحمري في هذه الانتخابات الأخيرة انتصاراً لديمقراطية ’’العدد (إرادة الأغلبية)، وديمقراطية الرأي (استمع الناس للرأي الآخر، فأخذوا به)، وديمقراطية المصلحة (فالمعارضة ضرورة لمعرفة الموقف الأصلح). انتصرت الديمقراطية على العرق (ففاز الأسود) وعلى الجنس (فكادت أن تفوز امرأة)، نعم لم تنتصر الديمقراطية على الدين، فلو كان مسلماً لما وصل، ولو كان عربياً ربما لما وصل، ولكن هذا حدث الآن وما يدرينا عن المستقبل، ولكن تذكروا أن ولاية نيوهامشير يتنافس عليها شخصيتان من أصل عربي’’.
كما رأى الأحمري في انتصار أوباما انتصاراً للأقليات، حيث أنه ينتمي إلى الأقلية السوداء، وفي هذا انتصار وتأكيد على قيمة الحرية في أمريكا، ويضيف الأحمري ملاحظة لاذعة للعالم العربي: ’’ومن حظ هذا العالم أن الحرية وتقديرها قيمة راسخة في الحكومة الأعلى علينا [أي حكومة الولايات المتحدة]، وفي هذا أمل بأن تتسرب الحرية لمجتمعات التخلف والعبودية. ومن حظ هذا العالم أننا نطمح أن نصنع حرية لنا، وأن نطالب المتحررين أن يعاملونا كبشر ويساعدونا على الخلاص من العبودية لأوثاننا والعبودية لهم كأوثان؟’’.
لقد تجاوز فوز أوباما في الانتخابات نصراً فردياً لشخص ليتحول إلى انتصار للمبدأ وللفكرة، وليتحول إلى نموذج للتحرر المطلوب من شعوب المنطقة العربية أن تحتذيه. لم تعد الديمقراطية وثنية، بل الوثنية هي النظم الديكتاتورية التي تحكم العالم الإسلامي والأيدولوجيات التي تحمي هذه النظم.
أثارت مقالات الأحمري ردود أفعال كثيرة، ويدل على ذلك إفراد صفحات كثيرة في الصحف ومواقع الإنترنت لمناقشة أفكاره، بالإضافة إلى حوارات تلفزيونية ومحاضرات في النوادي الأدبية والمنابر الثقافية. لقد كانت ردود الفعل كثيرة ومتنوعة، وكما هو متوقع فقد أثارت مقالاته أول ما أثارت مجموعة من السلفيين والعقائديين.
انشغلت غالب هذه الردود في قضايا جانبية طائفية وبلغة دوغمائية وعجزت عن تقديم مناقشة فعّالة لأفكار الأحمري، لكن المثير للنظر هو وجود خطاب سلفي آخر سعى إلى الرد على الأحمري ببيان أن الديمقراطية ليست الفردوس السياسي، كما أنها نظام سياسي مليء بالثغرات والعيوب. فنظام الانتخاب يساوي بين الرعاع وبين أهل الفكر، وهذا أمر لا يمكن القبول به. والديمقراطية هي الوجه الآخر للاستعمار.
الرد الأهم على أفكار الأحمري أتى من الدكتور ناصر العمر الذي كتب منتقداً حالة الهوس التي أصابت بعض الكتاب بعد فوز باراك أوباما في الانتخابات الأمريكية، فمع اعتراف العمر بوجود حرية نسبية في الولايات المتحدة، إلا أن نظام الحكم فيها هو نظام ديكتاتوري. فالديمقراطية ليست مرادفة للحرية فالناخب خاضع لتأثير الآلة الإعلامية التي تتحكم في عقله، وهذه الآلة الإعلامية تحت سيطرة عصبة متحكمة .
أجاب الأحمري، وبلغة عنيفة، على كل منتقديه، ولعل أهم ما ورد في إجاباته هي النقطة التي أثارها عن دور الإعلام في التأثير على نتائج الانتخابات، حيث كشف الأحمري عن نفاق مشايخ الدين الذين وظفوا المال والإعلام في انتخاباتهم البلدية (في السعودية) والبرلمانية (في الكويت)، ثم ينتقدون الديمقراطية الأمريكية على توظيف المال والأعمال، ويقول: ’’من يلمز حول استخدام المال والدعاية، فأرجو أن يتذكر هؤلاء الصراع الإخواني السلفي في انتخاب البلديات في المملكة، وأن يروا صراع الإسلاميين في الكويت، فإن كانت هذه جرائم فإن القوائم الذهبية التي أصدرها الإسلاميون والدعايات والأكلات كانت من واجهة صراع الإسلاميين، وتبرعوا وأُنفقت أموال في مصارفها ولم يتساءلوا عن شرعيتها، ولم يعترض عليها هؤلاء فكيف يعترضون على غيرهم من غير المسلمين’’.
لقد دافع الأحمري عن آرائه بقوة، ورد على منتقديه بعنف. كما أن الإسلاميين ردوا عليه بكثرة بالغة، مما أثرى النقاش الإسلامي-السياسي، وكيف يفهم إسلاميو السعودية الديمقراطية والحرية. نعم، ولم يعدم الأحمري مدافعين عن أفكاره ومناضلين معه ، مما دعى خصومهم إلى أن يطلقوا عليهم لقب ’’الإصلاحيين الجدد’’. إن تفاصيل هذا الصراع يحتاج إلى مساحة أوسع ومعالجة أعمق، وهو ما سأفرد له دراسة موسعة قريباً إن شاء الله.
* الخاتمة:
إن أهمية أفكار الأحمري، في نظري، تكمن أولاً في نجاحه في نقل موضوع السياسة من النقاش العقدي إلى النقاش الدنيوي، حيث وضع التحليل العقدي والمحلل العقدي (الشيخ) موضع النقد، كما ناقش مصداقية هذا التحليل. ليس هذا فقط، بل إنه استطاع أن يجر الإسلاميين للنقاش حول ’’جدوى الديمقراطية’’ بدلاً عن الاكتفاء بتحريمها أو تكفيرها؛ وهذا النقاش يتضمن اعترافهم بدنيويتها.
ثانياً: أن الأحمري استطاع إثارة النقاش بقوة داخل صفوف الإسلاميين في السعودية. وهو ما لم تثره أية كتابات أخرى. وقد يكون السبب هو ’’ماضي’’ الأحمري، حيث كان أحد كبار منظري الصحوة الإسلامية، كما أن لغته القوية والحادة أحياناً كان لها دور في إثارة الآخرين. بالإضافة إلى نشاطه المستمر، سواءً بالكتابة أو الحوارات التلفازية أو الصحفية أو المحاضرات، التي استغلها لتوضيح رؤيته والرد على منتقديه. كما لا يجب تجاهل التغير الذي طرأ داخل إسلاميي السعودية من أبناء الصحوة أو الصحوات وخلخل كثيراً من مسلماتهم في فترة الثمانينيات والتسعينيات.
ثالثاً: نجح الأحمري في إعادة الاعتبار لقيم مثل الحرية والديمقراطية داخل صفوف بعض الإسلاميين على الأقل. يقود الأحمري تياراً إسلامياً إصلاحياً جديداً، يريد إعادة الاعتبار للحرية الفردية في مقابل الاستبدادين السياسي والديني. لكن مستقبل هذا التيار يبقى سؤالاً مفتوحاً.
*العصر
-سعود السرحان
أهمية أفكار الأحمري، تكمن أولاً في نجاحه في نقل موضوع السياسة من النقاش العقدي إلى النقاش الدنيوي، حيث وضع التحليل العقدي والمحلل العقدي (الشيخ) موضع النقد، كما ناقش مصداقية هذا التحليل. ليس هذا فقط، بل إنه استطاع أن يجر الإسلاميين للنقاش حول ’’جدوى الديمقراطية’’ بدلاً عن الاكتفاء بتحريمها أو تكفيرها؛ وهذا النقاش يتضمن اعترافهم بدنيويتها.. الأحمري استطاع إثارة النقاش بقوة داخل صفوف الإسلاميين في السعودية. وهو ما لم تثره أية كتابات أخرى..
ناقش الإسلاميون في العالم الإسلامي قضية الديمقراطية ومدى اتفاقها مع أحكام الشريعة، وقد تباينت آراؤهم بين تأييد ورفض لها، أو محاولة أسلمتها بمماهاتها بالشورى، المصطلح القرآني. ومع هذا الاختلاف والتباين حول الديمقراطية؛ إلا أنها لك تكن موضع اختلاف أبداً عند إسلاميي السعودية.
فالإسلاميون في السعودية، على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية والحزبية، نقلوا الديمقراطية من المجال السياسي الدنيوي إلى المجال الديني العقدي، وأدانوها باعتبارها ممارسة وثنية لا مجرد وسيلة سياسية وطريقة للحكم.
الديمقراطية وثنية، في وجهة نظرهم؛ لأنها قائمة على أن الحكم للشعب وليس لله، كما أنها من الحكم بغير ما أنزل الله؛ لذا فالبرلمانات عند هؤلاء الإسلاميين من الطواغيت وهي أماكن كفر وشرك لأنها أماكن لتشريع القوانين وسنها.
وفي أوائل التسعينيات، بدأ الإسلاميون في العالم العربي في المشاركة بكثرة في الانتخابات البرلمانية، في الجزائر والسودان والكويت، وطلبوا الفتاوى من علماء السعودية لتأييد موقفهم، لكن الفتاوى التي حصلوا عليها كانت مختلفة بل وأحياناً متناقضة.
فمع اتفاق رجال الدين في السعودية على أن التشريع حق حصري لله، وأن منازعته هذا الحق في البرلمانات كفر؛ إلا أن بعضهم (مثل ابن باز وابن عثيمين) أفتى الإسلاميين في الدول الأخرى بجواز المشاركة في البرلمانات بشروط. بينما بقي آخرون على موقفهم المحرم للدخول في البرلمانات.
المشايخ الذين أفتوا بجواز دخول الإسلاميين للبرلمانات اشترطوا أن تكون مشاركة هؤلاء الإسلاميين في الانتخابات براغماتية، مثل أن يكون هدف المشاركين في البرلمان تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، وأن يتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم، على ألا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية . أما القَسَم على احترام الدستور فلا يجوز، والمخرج في هذه الحالة أن ينوي بقلبه أنه حلف على احترام الدستور إن لم يخالف الشرع. والأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
وفي السعودية ومن داخل الصف الإسلامي، كانت هناك عدة محاولات لإعادة النظر في النظرية السياسية مع محاولة إعادة الاعتبار إلى الديمقراطية، وكونها لا تتعارض مع الشريعة. إلا أن المحاولة التي نجحت في إثارة النقاش داخل صفوف الإسلاميين كانت هي مجموعة مقالات كتبها الدكتور محمد حامد الأحمري، الذي كتب ـ ويكتب ـ الكثير بخصوص توضيح فكرته في أنه لا تعارض بين الديمقراطية وبين الإسلام، وأن النظام الديمقراطي هو أفضل الأنظمة السياسية اليوم، وإن كان لا يخلو من عيوب ونقائص لكنه قابل للتطوير والإصلاح.
فبعد الحرب بين حزب الله وإسرائيل في أغسطس 2006، كتب الأحمري مقالة انتقد فيها ما سماه ’’خدعة التحليل العقدي’’ للسياسة، حيث ينتقد الأحمري تدخل رجال العقيدة في تحليلهم للقضايا السياسية. شرح الأحمري أوجه القصور في تحليلات العقائديين للأحداث السياسية، ومع أنه لا ينفي إمكانية كون العامل العقدي عنصراً فاعلاً في الأحداث السياسية؛ إلا أنه يحذر وبكل تأكيد من اعتبار العامل العقدي مؤثراً وحيداً في الأحداث السياسية، كما يحذر أيضاً من جعله مدار التحليل والتفكير في الموقف السياسي.
أما المحلل العقدي فقد وصفه الأحمري بأنه: ’’ضيق الأفق، قريب المدى، محدود الأبعاد في التفسير، ويأنس لرؤيته وموقفه أولئك المحدودون الذين لا يتحملون تعدد مجالات الرؤية، وصحيح أن التفسير الأحادي المغلق، الذي لا يدع مجالا للتفكير ولا تعدد الأفهام، يصلح للقادة الغوغائيين، وقادة الجنود في الميدان، ولكنه لا يصلح لمستوى أعلى من الناس، ولا يصلح أن يسيطر على دولة لأنها ستصبح بهذا التفسير فاشلة، يسيرها رأي عقدي ضعيف ضيق، ومحدود الإطلاع وسيء التقدير للمصالح. لأن هذا التفسير يفقد الأسس المعرفية والعملية السياسية، مع أنه ناجح في إثارة الغوغاء’’.
وفي طرح آخر أثار الكثير من ردود الأفعال، كتب الأحمري مقالاً احتفائياً بمناسبة فوز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة، وكان عنوان المقال ’’انتصار الديمقراطية على الوثنية في الانتخابات الأمريكية’’. يرى الأحمري في هذه الانتخابات الأخيرة انتصاراً لديمقراطية ’’العدد (إرادة الأغلبية)، وديمقراطية الرأي (استمع الناس للرأي الآخر، فأخذوا به)، وديمقراطية المصلحة (فالمعارضة ضرورة لمعرفة الموقف الأصلح). انتصرت الديمقراطية على العرق (ففاز الأسود) وعلى الجنس (فكادت أن تفوز امرأة)، نعم لم تنتصر الديمقراطية على الدين، فلو كان مسلماً لما وصل، ولو كان عربياً ربما لما وصل، ولكن هذا حدث الآن وما يدرينا عن المستقبل، ولكن تذكروا أن ولاية نيوهامشير يتنافس عليها شخصيتان من أصل عربي’’.
كما رأى الأحمري في انتصار أوباما انتصاراً للأقليات، حيث أنه ينتمي إلى الأقلية السوداء، وفي هذا انتصار وتأكيد على قيمة الحرية في أمريكا، ويضيف الأحمري ملاحظة لاذعة للعالم العربي: ’’ومن حظ هذا العالم أن الحرية وتقديرها قيمة راسخة في الحكومة الأعلى علينا [أي حكومة الولايات المتحدة]، وفي هذا أمل بأن تتسرب الحرية لمجتمعات التخلف والعبودية. ومن حظ هذا العالم أننا نطمح أن نصنع حرية لنا، وأن نطالب المتحررين أن يعاملونا كبشر ويساعدونا على الخلاص من العبودية لأوثاننا والعبودية لهم كأوثان؟’’.
لقد تجاوز فوز أوباما في الانتخابات نصراً فردياً لشخص ليتحول إلى انتصار للمبدأ وللفكرة، وليتحول إلى نموذج للتحرر المطلوب من شعوب المنطقة العربية أن تحتذيه. لم تعد الديمقراطية وثنية، بل الوثنية هي النظم الديكتاتورية التي تحكم العالم الإسلامي والأيدولوجيات التي تحمي هذه النظم.
أثارت مقالات الأحمري ردود أفعال كثيرة، ويدل على ذلك إفراد صفحات كثيرة في الصحف ومواقع الإنترنت لمناقشة أفكاره، بالإضافة إلى حوارات تلفزيونية ومحاضرات في النوادي الأدبية والمنابر الثقافية. لقد كانت ردود الفعل كثيرة ومتنوعة، وكما هو متوقع فقد أثارت مقالاته أول ما أثارت مجموعة من السلفيين والعقائديين.
انشغلت غالب هذه الردود في قضايا جانبية طائفية وبلغة دوغمائية وعجزت عن تقديم مناقشة فعّالة لأفكار الأحمري، لكن المثير للنظر هو وجود خطاب سلفي آخر سعى إلى الرد على الأحمري ببيان أن الديمقراطية ليست الفردوس السياسي، كما أنها نظام سياسي مليء بالثغرات والعيوب. فنظام الانتخاب يساوي بين الرعاع وبين أهل الفكر، وهذا أمر لا يمكن القبول به. والديمقراطية هي الوجه الآخر للاستعمار.
الرد الأهم على أفكار الأحمري أتى من الدكتور ناصر العمر الذي كتب منتقداً حالة الهوس التي أصابت بعض الكتاب بعد فوز باراك أوباما في الانتخابات الأمريكية، فمع اعتراف العمر بوجود حرية نسبية في الولايات المتحدة، إلا أن نظام الحكم فيها هو نظام ديكتاتوري. فالديمقراطية ليست مرادفة للحرية فالناخب خاضع لتأثير الآلة الإعلامية التي تتحكم في عقله، وهذه الآلة الإعلامية تحت سيطرة عصبة متحكمة .
أجاب الأحمري، وبلغة عنيفة، على كل منتقديه، ولعل أهم ما ورد في إجاباته هي النقطة التي أثارها عن دور الإعلام في التأثير على نتائج الانتخابات، حيث كشف الأحمري عن نفاق مشايخ الدين الذين وظفوا المال والإعلام في انتخاباتهم البلدية (في السعودية) والبرلمانية (في الكويت)، ثم ينتقدون الديمقراطية الأمريكية على توظيف المال والأعمال، ويقول: ’’من يلمز حول استخدام المال والدعاية، فأرجو أن يتذكر هؤلاء الصراع الإخواني السلفي في انتخاب البلديات في المملكة، وأن يروا صراع الإسلاميين في الكويت، فإن كانت هذه جرائم فإن القوائم الذهبية التي أصدرها الإسلاميون والدعايات والأكلات كانت من واجهة صراع الإسلاميين، وتبرعوا وأُنفقت أموال في مصارفها ولم يتساءلوا عن شرعيتها، ولم يعترض عليها هؤلاء فكيف يعترضون على غيرهم من غير المسلمين’’.
لقد دافع الأحمري عن آرائه بقوة، ورد على منتقديه بعنف. كما أن الإسلاميين ردوا عليه بكثرة بالغة، مما أثرى النقاش الإسلامي-السياسي، وكيف يفهم إسلاميو السعودية الديمقراطية والحرية. نعم، ولم يعدم الأحمري مدافعين عن أفكاره ومناضلين معه ، مما دعى خصومهم إلى أن يطلقوا عليهم لقب ’’الإصلاحيين الجدد’’. إن تفاصيل هذا الصراع يحتاج إلى مساحة أوسع ومعالجة أعمق، وهو ما سأفرد له دراسة موسعة قريباً إن شاء الله.
* الخاتمة:
إن أهمية أفكار الأحمري، في نظري، تكمن أولاً في نجاحه في نقل موضوع السياسة من النقاش العقدي إلى النقاش الدنيوي، حيث وضع التحليل العقدي والمحلل العقدي (الشيخ) موضع النقد، كما ناقش مصداقية هذا التحليل. ليس هذا فقط، بل إنه استطاع أن يجر الإسلاميين للنقاش حول ’’جدوى الديمقراطية’’ بدلاً عن الاكتفاء بتحريمها أو تكفيرها؛ وهذا النقاش يتضمن اعترافهم بدنيويتها.
ثانياً: أن الأحمري استطاع إثارة النقاش بقوة داخل صفوف الإسلاميين في السعودية. وهو ما لم تثره أية كتابات أخرى. وقد يكون السبب هو ’’ماضي’’ الأحمري، حيث كان أحد كبار منظري الصحوة الإسلامية، كما أن لغته القوية والحادة أحياناً كان لها دور في إثارة الآخرين. بالإضافة إلى نشاطه المستمر، سواءً بالكتابة أو الحوارات التلفازية أو الصحفية أو المحاضرات، التي استغلها لتوضيح رؤيته والرد على منتقديه. كما لا يجب تجاهل التغير الذي طرأ داخل إسلاميي السعودية من أبناء الصحوة أو الصحوات وخلخل كثيراً من مسلماتهم في فترة الثمانينيات والتسعينيات.
ثالثاً: نجح الأحمري في إعادة الاعتبار لقيم مثل الحرية والديمقراطية داخل صفوف بعض الإسلاميين على الأقل. يقود الأحمري تياراً إسلامياً إصلاحياً جديداً، يريد إعادة الاعتبار للحرية الفردية في مقابل الاستبدادين السياسي والديني. لكن مستقبل هذا التيار يبقى سؤالاً مفتوحاً.
*العصر