في التزكيّة والمجاهدة -خاص بالوفاق
-عبد العزيز كحيل
إنّ الله تعالى يحبّ أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى، هذا ما يرتضيه من عباده، قال عزّ وجلّ:
- ’’وأطيعوا الله وأطيعوا الرّسول واحذروا ’’ - سورة المائدة 92.
- ’’قل إنّي أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم ’’- سورة الأنعام 15.
- ’’يا أيّها الّذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبّحوه بكرةً وأصيلا’’ - سورة الأحزاب 41-42.
- ’’ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكا ونحشره يوم القيّامة أعمى’’ - سورة طه 124 .
والمسلمون يعرفون هذا ويعملون على طاعته وذكره سبحانه وتعالى ، لكن الّذي يحول دونهم والاستمرار في هذا المقصد الأسنى هو الدّنيا حين تصبح هدفاً وغايةً، هنالك تبرز المعصيّة وتسيطر الغفلة، وذلك هو الخطر الدّاهم الّذي أبدأ القرآن في التنبيه عليه وأعاد، وربّى الرسول – صلّى الله عليه وسلّم- أصحابه على الحذر منه أشدّ الحذر، ولا يتمثّل الخطر في الاشتغال بالمآرب الدنيويّة فتلك وظيفة الإنسان في هذه الدّار وإنّما في الذوبان فيها إلى حدّ الانقطاع عن الله وعبادته وأداء حقوقه والاستعداد للقائه، قال تعالى: ’’إنّ الّذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدّنيا واطمأنّوا بها والّذين هم عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون’’ – سورة يونس 7-8.
إنّه – إذاً- رضا بالدنيا واطمئنان إليها وغفلة عن حقائق الدّين، فما المخرج؟ إنّ المؤمن الّذي تتبهرج له الدنيا ويحاول الشيطان إغراءه بوسائل شتّى يحتاج إلى حرارة الإخلاص لتهزّ كيانه فيخشع قلبه وتدمع مقلته وتصغر الدّنيا في عينه وتتجسّد أمامه صورة الآخرة لأنّه يكون قد ارتوى من حقائق قول الله تعالى: ’’اعلموا أنّما الحياة الدّنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرّا ثم يكون حطاما’’ – سورة الحديد 20.
آي الذكر الحكيم تذكّره بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والإقبال على الله تعالى بالهمّة والعزيمة، يلجأ إليه في كل أحواله ويعتصم بحبله ويبتهل إليه ويتضرّع بين يديه.
إنّ تزكيّة النفس هي الغاية والوسيلة، وحجر الزاوية فيها هو معاملة الله تعالى بالعبوديّة الصادقة الضّارعة، يدخل المؤمن على ربّه من باب الفاقة والذلّ ويشكو إليه حاله ويعتذر إليه بعجزه ويحدّثه عن حبّه للاستقامة وبغضه للعصيان مع وقوعه فيه، يظهر ضعفه أمام قوّة العزيز الجبّار، وفقره أمام أغنى الأغنياء، وجهله أمام العليم الّذي أحاط علمه بكلّ شيء، يمرّغ هامته على عتبه بابه متضرّعاً منيباً مخبتاً، كلّه عجز وذلّ وهوان، يستمطر القدرة والعزّة والتّمكين من ربّ السماوات والأرض، ويقول: يا ربّ لا تطردني من باب رحمتك الّتي وسعت كلّ شيء.
تقتضي تزكيّة النّفس أن يتعلّق المسلم بالله لا بالدّنيا، وحينذاك تأتيه الدّنيا راغمة، وقد ذكروا أن بعضهم قال للحسن البصري: ’’أنت الزاهد’’ فقال: ’’إنّما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا راغمةً فأعرض عنها’’، المؤمن عبد لله لا للدنيا لأنّه رآها تتلاعب بأبنائها بينما يعيش أبناء الآخرة شامخين أعزّةً ثم لهم المقام الرّفيع عند ربّهم في الآخرة.
ما بالنا نغترّ بالمناصب والأموال وأصحاب الجاه ونحن نعرف مصيرنا ومصيرهم وضعفنا وضعفهم؟ إن الاعتماد على هذه الأشياء أشبه باستنجاد غريق بغريق... لا، المسلم ينظر في قلبه ويدقّق النّظر ليرى أفيه حبّ الله أم حبّ الدنيا، ولا يمكن لهذا الحبّ وذاك أن يجتمعا في قلب واحد، لأن دنيا المسلم في يده وليست في قلبه ولو أوتي من كلّ شيء سبباً.
المسلم يشتغل بالدنيا ولا يتعلّق بها، يحبّ أن يكون منعّماً، يتمتّع بالمسكن الفسيح المؤثّث والسيّارة الفاخرة والثياب الّتي يحبّ، من غير أن يخرجه ذلك عن حدود العبوديّة بل يزيده النعيم قربا وذكراً، فإذا زال نعيمه لم تتغيّر علاقته بالله، فهو إمّا غني شاكر أو فقير صابر، وفي كلِّ خير.
لكن كيف يمكن بلوغ هذه الدّرجة الّتي تشبه الجمع بين مقتضيات متناقضة؟ إنّما – مرّة أخرى- التزكيّة ومجاهدة النّفس لترتفع من جاذبيّة الطين والحمإ المسنون إلى أفق ’’ونفخت فيه من روحي’’ - سورة الحجر 29... وصلب المجاهدة أن يعرف العبد دقائق آفات النفس ومفسدات الأعمال والإحاطة بحقارة الدّنيا واستيلاء الخوف على القلب.
بهذه المجاهدة يمتلك الدّنيا ولا تمتلكه، يتحرّر من قيود المادّة ويبسط يده عليها، يكتشف سنن الكون ويسخّر عناصره لبناء الحضارة الإسلاميّة الّتي تمزج الطين والروح والإنسانيّة والربّانيّة والدّنيا والآخرة، بذلك يكون قد عمر دار الممرّ ومهّد لحسن مقامه في دار المستقرّ.
فليست التزكيّة مرادفةً للرهبانيّة، وليست المجاهدة تنسّكاً سلبيّاً يفتح الباب للعطالة والعجز إنّما هي التربيّة الإيمانيّة المتكاملة الّتي تصقل القلب وتجعل الذّهن يتّقد ذكاءً ومعرفةً وتنفخ في السلوك روح الإيجابيّة والعمل للدنيا والآخرة، فمن زكّى نفسه أصلح علاقته بالله وكان عامل نفع وخير في الدّنيا.
وقد رأت السيّدة عائشة – رضي الله عنها- شباباً يمشون متماوتين مطأطئي الرّؤوس فسألت: من هؤلاء؟ قالوا: نسّاك. قالت: لقد كان عمر بن الخطاب إذا تكلّم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع، وكان هو الناسك حقّاً.
هكذا هو شأن المؤمن: رقيق القلب، دامع العين ، كثير التضرّع، لا يزيده ذلك إلاّ بذلاً وعطاءً في سبيل الله... و هكذا تؤتي التزكيّة ثمارها في الدّنيا، ويبقى الجزاء الأوفى في الآخرة.
-عبد العزيز كحيل
إنّ الله تعالى يحبّ أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى، هذا ما يرتضيه من عباده، قال عزّ وجلّ:
- ’’وأطيعوا الله وأطيعوا الرّسول واحذروا ’’ - سورة المائدة 92.
- ’’قل إنّي أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم ’’- سورة الأنعام 15.
- ’’يا أيّها الّذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبّحوه بكرةً وأصيلا’’ - سورة الأحزاب 41-42.
- ’’ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكا ونحشره يوم القيّامة أعمى’’ - سورة طه 124 .
والمسلمون يعرفون هذا ويعملون على طاعته وذكره سبحانه وتعالى ، لكن الّذي يحول دونهم والاستمرار في هذا المقصد الأسنى هو الدّنيا حين تصبح هدفاً وغايةً، هنالك تبرز المعصيّة وتسيطر الغفلة، وذلك هو الخطر الدّاهم الّذي أبدأ القرآن في التنبيه عليه وأعاد، وربّى الرسول – صلّى الله عليه وسلّم- أصحابه على الحذر منه أشدّ الحذر، ولا يتمثّل الخطر في الاشتغال بالمآرب الدنيويّة فتلك وظيفة الإنسان في هذه الدّار وإنّما في الذوبان فيها إلى حدّ الانقطاع عن الله وعبادته وأداء حقوقه والاستعداد للقائه، قال تعالى: ’’إنّ الّذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدّنيا واطمأنّوا بها والّذين هم عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون’’ – سورة يونس 7-8.
إنّه – إذاً- رضا بالدنيا واطمئنان إليها وغفلة عن حقائق الدّين، فما المخرج؟ إنّ المؤمن الّذي تتبهرج له الدنيا ويحاول الشيطان إغراءه بوسائل شتّى يحتاج إلى حرارة الإخلاص لتهزّ كيانه فيخشع قلبه وتدمع مقلته وتصغر الدّنيا في عينه وتتجسّد أمامه صورة الآخرة لأنّه يكون قد ارتوى من حقائق قول الله تعالى: ’’اعلموا أنّما الحياة الدّنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرّا ثم يكون حطاما’’ – سورة الحديد 20.
آي الذكر الحكيم تذكّره بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والإقبال على الله تعالى بالهمّة والعزيمة، يلجأ إليه في كل أحواله ويعتصم بحبله ويبتهل إليه ويتضرّع بين يديه.
إنّ تزكيّة النفس هي الغاية والوسيلة، وحجر الزاوية فيها هو معاملة الله تعالى بالعبوديّة الصادقة الضّارعة، يدخل المؤمن على ربّه من باب الفاقة والذلّ ويشكو إليه حاله ويعتذر إليه بعجزه ويحدّثه عن حبّه للاستقامة وبغضه للعصيان مع وقوعه فيه، يظهر ضعفه أمام قوّة العزيز الجبّار، وفقره أمام أغنى الأغنياء، وجهله أمام العليم الّذي أحاط علمه بكلّ شيء، يمرّغ هامته على عتبه بابه متضرّعاً منيباً مخبتاً، كلّه عجز وذلّ وهوان، يستمطر القدرة والعزّة والتّمكين من ربّ السماوات والأرض، ويقول: يا ربّ لا تطردني من باب رحمتك الّتي وسعت كلّ شيء.
تقتضي تزكيّة النّفس أن يتعلّق المسلم بالله لا بالدّنيا، وحينذاك تأتيه الدّنيا راغمة، وقد ذكروا أن بعضهم قال للحسن البصري: ’’أنت الزاهد’’ فقال: ’’إنّما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا راغمةً فأعرض عنها’’، المؤمن عبد لله لا للدنيا لأنّه رآها تتلاعب بأبنائها بينما يعيش أبناء الآخرة شامخين أعزّةً ثم لهم المقام الرّفيع عند ربّهم في الآخرة.
ما بالنا نغترّ بالمناصب والأموال وأصحاب الجاه ونحن نعرف مصيرنا ومصيرهم وضعفنا وضعفهم؟ إن الاعتماد على هذه الأشياء أشبه باستنجاد غريق بغريق... لا، المسلم ينظر في قلبه ويدقّق النّظر ليرى أفيه حبّ الله أم حبّ الدنيا، ولا يمكن لهذا الحبّ وذاك أن يجتمعا في قلب واحد، لأن دنيا المسلم في يده وليست في قلبه ولو أوتي من كلّ شيء سبباً.
المسلم يشتغل بالدنيا ولا يتعلّق بها، يحبّ أن يكون منعّماً، يتمتّع بالمسكن الفسيح المؤثّث والسيّارة الفاخرة والثياب الّتي يحبّ، من غير أن يخرجه ذلك عن حدود العبوديّة بل يزيده النعيم قربا وذكراً، فإذا زال نعيمه لم تتغيّر علاقته بالله، فهو إمّا غني شاكر أو فقير صابر، وفي كلِّ خير.
لكن كيف يمكن بلوغ هذه الدّرجة الّتي تشبه الجمع بين مقتضيات متناقضة؟ إنّما – مرّة أخرى- التزكيّة ومجاهدة النّفس لترتفع من جاذبيّة الطين والحمإ المسنون إلى أفق ’’ونفخت فيه من روحي’’ - سورة الحجر 29... وصلب المجاهدة أن يعرف العبد دقائق آفات النفس ومفسدات الأعمال والإحاطة بحقارة الدّنيا واستيلاء الخوف على القلب.
بهذه المجاهدة يمتلك الدّنيا ولا تمتلكه، يتحرّر من قيود المادّة ويبسط يده عليها، يكتشف سنن الكون ويسخّر عناصره لبناء الحضارة الإسلاميّة الّتي تمزج الطين والروح والإنسانيّة والربّانيّة والدّنيا والآخرة، بذلك يكون قد عمر دار الممرّ ومهّد لحسن مقامه في دار المستقرّ.
فليست التزكيّة مرادفةً للرهبانيّة، وليست المجاهدة تنسّكاً سلبيّاً يفتح الباب للعطالة والعجز إنّما هي التربيّة الإيمانيّة المتكاملة الّتي تصقل القلب وتجعل الذّهن يتّقد ذكاءً ومعرفةً وتنفخ في السلوك روح الإيجابيّة والعمل للدنيا والآخرة، فمن زكّى نفسه أصلح علاقته بالله وكان عامل نفع وخير في الدّنيا.
وقد رأت السيّدة عائشة – رضي الله عنها- شباباً يمشون متماوتين مطأطئي الرّؤوس فسألت: من هؤلاء؟ قالوا: نسّاك. قالت: لقد كان عمر بن الخطاب إذا تكلّم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع، وكان هو الناسك حقّاً.
هكذا هو شأن المؤمن: رقيق القلب، دامع العين ، كثير التضرّع، لا يزيده ذلك إلاّ بذلاً وعطاءً في سبيل الله... و هكذا تؤتي التزكيّة ثمارها في الدّنيا، ويبقى الجزاء الأوفى في الآخرة.