مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
تطييف الإسلام وخطر الحل العلماني!
تطييف الإسلام وخطر الحل العلماني!

راشد الغنوشي

... تبدو مثلا أن الأرواح التي تزهق فـي اليمن بين الحكومة والحوثيين وكأنها صراع بين السنة والشيعة الزيدية، وهو ما يحاول الطرفان التلويح به، بينما هو فـي جوهره صراع سياسي على السلطة والثروة، تعود جذوره إلى الاستبداد ونهب الثروات، يؤكد ذلك الحراك الجنوبي، وأيضا التحالف الواسع «اللقاء المشترك»، التجمع الذي يضم أوسع تكتل شعبي، يشترك فيه سنة وشيعة ناصريون واشتراكيون، مؤاخذاته للاستبداد لا تقل عن الحوثيين، إلا أنه يرفض الانجرار إلى حمأة العنف.
حديث كثير متصاعد عن الفتنة الطائفية التي باتت تهدد وحدة الأمة وعن خطر مزعوم يتربص بالعرب من خلال ما قيل إنه «هلال شيعي» في طور التشكل، فهل من بديل لتطييف الإسلام غير الدواء العلماني المر؟

مشكلات الأمة الداخلية كثيرة ولكن في طليعتها الاستبداد بالحكم، الاستبداد بالرأي، الاستبداد بالثروة. وليست الفتنة الطائفية غير فرع من فروع الاستبداد بالرأي، ادعاء لامتلاك الحقيقة الدينية، والانفراد بها وتكفير من لا يسلّم لك بذلك فستبيح حرماته. لقد كان لأمتنا نجاحات حضارية معتبرة، إلا أن حظنا كان متواضعا -بعد الراشدين- في باب الإدارة السلمية للاختلافات السياسية حول السلطة، فكان أول سيف سل في الإسلام كما يذكر الشهرستاني حول الخلافة.
وعادة تتبرقع خلافاتنا حول السلطة ببرقع الدين، باعتباره العنصر الأشد تأثيرا في شخصية المسلم، بما يجعل من العسير تجنيد فريق من المسلمين لمقاتلة فريق آخر من المسلمين دون الطعن في دينه وإسقاط حرمته الدينية. وهكذا ابتدأت كل الخلافات صراعا حول السلطة، ثم تولى كل حزب سياسي إلباس حزبه ثوبا من الدين، يحله المنزلة الرفيعة منه، سالبا من الحزب المعارض له كل اعتبار ديني، منزلا إياه منزلة الكافر أو الضال المتنكب عن نهج القرآن والسنة والسلف الصالح، فهو الخطر الأعظم على الإسلام وأمته الذي تجب منازلته ودرء خطره!!.
>>>
وهكذا ظلت خلافاتنا حول السلطة فيما بعد الراشدين تدار بالسيف، إذ عجز فكرنا عن تطوير آليات لإدارتها سلميا، بينما توفق إلى ذلك الفكر السياسي الغربي بعد قرون طويلة من التحارب الديني، ما اضطره إلى أن يقصي الدين جانبا، عازلا له في خصوصيات الناس، بما ضمن على أساس التساوي في حقوق المواطنة التعايش بين مختلف الطوائف الدينية والتوجهات السياسية والتكوينات العرقية، فتحقق التداول السلمي للسلطة وفق آليات الديمقراطية التي مثلت ترجمة جيدة لحكم الشورى، وبذلك وضعت دول الغرب حدا لتحاربها الأهلي، بما وفر لها شروط الإنتاج الحضاري والغلبة على بقية الأمم.
>>>
أما نحن فقد ظللنا مستهلكين في صراع على السلطة، وهو صراع مشروع، إلا أننا لم نتوفق إلى تنظيم هذا الصراع تنظيما دستوريا كفيلا باجتثاث شأفة الاستبداد، يحقق ما نادى إليه زعماء الاصلاح الإسلامي. يقول عبد الرحمن الكواكبي: لقد تأصّل في نفسي أن الاستبداد السياسي أصل كل داء في أمتنا وأن النظام الدستوري هو الدواء». لقد استمرت أنظمة الاستبداد قابضة على رقاب شعوبنا وبخاصة في منطقة القلب العربي مدعومة من الأنظمة الغربية، بما زادها ضعفا وهوانا وتخلفا. أما معارضوها فقد فشلوا في جمع صفوفهم في مواجهة عدوهم المستبد صفا واحدا، فرّقتهم الأيديولوجيات والمطامع، فقعدت بهم عن ترويض وحش الاستبداد وتأنيسه.
>>>
أهل الدين بتياراتهم المختلفة هم أنفسهم لم يسلموا -قديما وحديثا- من الصراع على السلطة، -لا سيما والسياسة جزء من الإسلام- إلا أن الأطراف المتصارعة كثيرا ما تنكرت في أثواب دينية، ساحبا كل منهم المقدس إلى صفه، مجرّدا منه خصمه. ولم يخل صفهم -تبعا لذلك- من متجهّم في وجه آليات الديمقراطية، راميا لها بالكفر باعتبارها حكم الشعب، دافعا في وجهها بحكم الله، وكأن الإسلام إنما جاء لمصادرة حريات الشعوب واختياراتها، بينما ينطق كتابه بأنه جاء حربا على الفراعين والقوارين منتصرا للمستضعفين، وتحميل الإنسان مسؤولية مصيره «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى»، بما يجعل المقابل لحكم الشعب ليس حكم الله وإنما حكم الاستبداد، حكم الفرعون، العدو الألد للإسلام ولحقوق الشعوب. قال تعالى: «ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون» (4 و5 القصص).
>>>
ونحن اليوم أمام خيارين، إما الاعتراف الصريح بالتعدد الديني، ليس خارج الإسلام وحسب، فقد اعترفنا بذلك منذ زمن بعيد، وإنما داخله أيضا، ليس مجرد اعتراف فكري مذهبي، فقد تم ذلك قديما، مع ظهور نكوص عنه في زمننا البائس، وإنما الاعتراف أيضا بالتعددية السياسية الإسلامية، بمعنى الاعتراف بتعدد برامج الحكم التي يمكن أن تنبثق من الإسلام، وبحقها كاملا في التنافس على السلطة بمنأى من كل ضرب من ضروب الاحتكار للإسلام وادعاء النطق باسمه، وذلك في غياب كنيسة أو أي سلطة دينية تحتكر النطق الرسمي والوحيد باسم الإسلام، بما يحقق التعايش بين مختلف الطوائف، على أساس المساواة في المواطنة، ويحقق السلم الأهلي ويدرأ الحروب والفتن الطائفية التي لا يتحقق معها نهوض ولا نصر على عدو.
>>>
ورغم أنه قد يظهر لبادئ الرأي أن الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة في العراق وباكستان واليمن هي الفتنة الوحيدة، فتبدو مثلا كأن الأرواح التي تزهق في اليمن بين الحكومة والحوثيين وكأنها صراع بين السنة والشيعة الزيدية، وهو ما يحاول الطرفان التلويح به، بينما هو في جوهره صراع سياسي على السلطة والثروة، تعود جذوره إلى الاستبداد ونهب الثروات، يؤكد ذلك الحراك الجنوبي، وأيضا التحالف الواسع «اللقاء المشترك»، التجمع الذي يضم أوسع تكتل شعبي، يشترك فيه سنة وشيعة ناصريون واشتراكيون، مؤاخذاته للاستبداد لا تقل عن الحوثيين، إلا أنه يرفض الانجرار إلى حمأة العنف، كما تورط طائفيو الشيعة وطائفيو السلف القاعديون.
رغم ذلك، فإن فتنة الصراع الطائفي بين السنة والشيعة ليست سوى وجه من أوجه الصراع السياسي الذي لا يرغب أطرافه في الاعتراف بطبيعته السياسية. وأسوأ من ذلك أن المتغلب منهما أو كليهما يرفض الاعتراف بحق الآخر في الفهم والتفسير للنصوص الدينية وإقامة شعائره وفق ذلك، وتمتيعه بكل حقوق المواطنة على أساس المساواة دون تمييز.
>>>
ليست هذه الفتنة العامل الوحيد في تمزيق صفوف الأمة واضطراب بوصلتها لدرجة العجز عن تمييز الصديق من العدو، فتبدو إسرائيل لدى بعض الطائفيين السلفيين أو أي قوة محتلة أخرى أقرب إلينا من المنتسب إلى طائفة أخرى من طوائف ملتنا، فهناك فتن أخرى لا تقل عن ذلك خطرا على وحدة الأمة وضرورات التضامن بين مختلف مكونات الأمة، منها فتنة الصراع بين السلفيين والصوفيين، مع أن الأولين هم أبدا في الأمة قلة بالقياس للأخيرين الذين لا يزالون يمثلون جمهورها الأوسع، مقابل أتباع الحركة الإصلاحية ذات التوجه السلفي على اختلاف تلويناتها.
>>>
إن التجربة تثبت -وبصرف النظر عن أي قصد للدفاع عن مذهب بعينه- أن الذي يبدأ اليوم بتكفير أتباع المذهب الآخر كالتشيع مثلا -بناء على محمولاته من البدع، كالنيل من معظم الأصحاب رضوان الله عنهم، وهو ضلال منكر، غير أنه لا يخرج صاحبه من الملة جملة- من يبدأ بذلك لن يقف عنده بل سيمضي منطقه الإقصائي الضيق قدما، سيكفر غدا الصوفيين -وهم معظم الأمة على ما يخالطهم من بدع-، وفي اليوم التالي سيكفر السني الآخر المخالف للمذهب.
وهكذا يستمر سرطان الإقصاء والاستبداد بالفكر والرأي عاملا ليل نهار على تحطيم جسم الأمة حتى يأتي عليه جميعا، فيكون بأسها بينها، بما لا يبقى معه فضل طاقة لمواجهة العدو الحقيقي. إنه مسار خاطئ مدمر متخلف، مصادم لسنة الله في التعدد والتنوع والاختلاف. قال تعالى «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم» (117 و118 هود).
إذا استمر هذا المنزع المتخلف في تطييف الإسلام أي تحويله إلى طوائف يكفر بعضها بعضا فلن يكون هناك معنى لشعار «الإسلام هو الحل» بل ستكون العلمانية كما في الغرب هي الحل، مع ما جرّته معها على المدنية المعاصرة من كوارث على الأسرة والأخلاق والطبيعة والعلاقات الدولية، ولكنها كانت البديل الوحيد عن التحارب الديني، وذلك ما ظهر في العراق عندما اشتغلت بالسياسة أحزاب إسلامية بخلفيات طائفية، فتقاتل السنة والشيعة، ثم تقاتل السنة وتقاتل الشيعة، وفرض الاحتلال بمساعدة الطائفية نظام المحاصصة المتخلف الذي مزق نسيجا وطنيا عريقا، مؤسسا للتقاتل على الهوية الطائفية.
وكثيرا ما غدت القوات الأميركية هي ملجأ الضعيف المضطهد من قبل طائفة أخرى متغولة، وعجز الفكر الإسلامي الطائفي الذي يحكم بمختلف توجهاته الشيعية والسنية أن ينتج حزبا وطنيا يجمع شتات العراق سنة وشيعة عربا وأكرادا كما فعل حزب البعث العلماني للأسف، وإن في صيغة مستبدة.
>>>
إلا أن الانتخابات العراقية الأخيرة قد كشفت عن بدايات مهمة لتوجه وطني واضح، وبخاصة في وسط السنة العرب الذين صنعوا المفاجأة من خلال انضوائهم بشكل عارم ضمن القائمة العراقية الوطنية المتجاوزة للطوائف، فكان متزعمها علمانيا شيعيا، وكان ذلك ضمن توجه عام في البلد لتجاوز المنطق الطائفي المدمر. ومع أنه ظهر في كل الطوائف، تفككا في النسيج الطائفي، عودا إلى الملاط الوطني الجامع، فقد كان محتشما لدى الشيعة والأكراد بينما كان سافرا عارما في الوسط السني العربي، الذي ظل يحتضن على امتداد تاريخ العراق حضارته الزاهرة وتنوعه الخصيب. بينما الآخرون حديثو عهد باحتضان التعدد وإدارته.
>>>
ومما يعنيه ذلك أن فكرنا السياسي الإسلامي سيظل متخلفا عن العلمانية حتى ننجح في تطوير فكر إسلامي سياسي يقوم على منظور رحب، قادر على أن تتأسس عليه تجمعات سياسية ونقابية يلتقي فيها كل أبناء الوطن على اختلاف اتجاهاتهم الدينية والمذهبية والعرقية.
في الأربعينيات كان الحزب الإسلامي في العراق يضم سنة وشيعة عربا وأكرادا، فلم يعجز اليوم؟ في الأربعينيات كان من المقربين إلى البنا ومستشاريه أقباط، فلم لا يحدث ذلك اليوم؟ وراء الفتن الطائفية ضيق في الفكر واستبداد في السياسة، لا يمكن أن يؤسسا إلا لفتن وحروب أهلية بعناوين شتى، فلا اجتماع حضاريا إلا بالاعتراف بالتعدد والتنوع وحق الاختلاف وتنظيم إدارته.
هذا إذا أردنا لمجتمعاتنا أن تتوحد مجددا على أرضية الإسلام ويستأنف بها مجددا مسار الحضارة المعطل بالاستبداد والتجزئة، ويعبئ طاقاتها لمواجهة استحقاقات التصدي لمشاريع الهيمنة الصهيونية والإمبريالية ومخططاتها في توريط الأمة في المزيد من التمزيق لصفوفها.
ولن يكون البديل عن الحل العلماني الذي يقصي الإسلام عن المجال العام سيرا على سنن التجربة الغربية وما تمخضت عنه من كوارث، غير منظور إسلامي رحب يتسع لكل طوائف مذاهب الأمة وأقلياتها الدينية والعرقية على غرار ما يحصل في صعيد «عرفات» حيث تلتقي كل طوائف الأمة، تلبي نداء ربها، في أخوة، تحتضن كل أمة الموحّدين، دون إقصاء ولا تفتيش. قال تعالى «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا».

* المصدر: الجزيرة نت
أضافة تعليق