نقد الخطاب السلفي ... وغياب القيم (قراءة موضوعية))
سلطان العميري / مكة المكرمة
وكما هي العادة المطردة في الاحتجاجات التي لا تلتزم بالقيم العليا، فإنك لا تشهد معها إلا مزيدا من التشتت الفكري ومزيدا من ضياع البركة، ومزيدا من كثرة الصخب والضجيج في الحلبة المعرفية، ومزيدا من اكتساح الضبابية للمنطقة الوسط، ومزيدا من ضياع القصد الأصلي من الاحتجاج، وبدل أن يكون السجال سبيلا مؤديا إلى الخروج مما نحن فيه من أزمة، يغدو جزءا معضلا منها، يسهم في تكريسها..
من الظواهر الفكرية البينة في ساحتنا المعاصرة: التوجه إلى نقد الخطاب السلفي وتقويم تجربته في قيادة المجتمع، فقد توالت من هنا وهناك كتابات عديدة لفحص ذلك الخطاب وتحديد ما تلبس به من أخطاء معرفية ومنهجية في تصور الناقدين، حتى غدا الخطاب السلفي متهما بقائمة طويلة من التهم، يصعب على المرء متابعتها، فضلا عن البحث في تحديد قيمتها المعرفية والواقعية .
وقبل أن نلج في تفاصيل ما يتعلق بتلك الموجة الناقدة، لا بد لنا أن نعرف باختصار الخطاب السلفي، ونقصد به هنا الخطاب الذي يعتمد على الانطلاق من الكتاب والسنة، ويقوم على مركزية اعتبار فهم السلف الصالح في التعاطي مع القضايا الدينية، ويبني مواقفه على ما تقتضيه تلك المنطلقات، ويكون المقابل للخطاب السلفي بهذا التصور كل خطاب لا يجعل الكتاب والسنة وفهم السلف منطلقا أوليا له، كالخطاب الاعتزالي والأشعري والصوفي والشيعي والعصراني، فضلا عمن جعل العقلانية الغربية منطلقا له.
وقد اتسمت الانتقادات الموجهة إلى الخطاب السلفي بتنوع ظاهر في مسميات من تستهدفه بالاحتجاج عليه، فتارة يوجه النقد إلى الصحوة الإسلامية، وتارة يوجه إلى الخطاب السلفي مباشرة، وتارة يوسع التوجه فيكون شاملا للاتجاه الشرعي بجملته، ومحصل تلك المسميات راجع فيما يخص الحالة الداخلية إلى الخطاب السلفي؛ لأنه الخطاب الأصل، الذي قامت عليه الصحوة المعاصرة، وهو الذي يمثل الاتجاه الشرعي المتعمد فيها.
كما اتسمت بسمة أخرى، وهي تنوع الممارسين لها، فقد اشترك في توجيه التهم طوائف عديدة، مختلفة في اهتماماتها واجتهاداتها، من ثم مقاصدها.
فمن الحقائق الواقعية التي يجب علينا التسليم بها وعدم التنكر لها أو التعالي عليها: أن المنتقدين للخطاب السلفي ليسوا سواءً، بل هم متنوعون إلى درجة التنافر والتناقض أحيانا، ويمكن أن نصنفهم إلى صنفين:
الصنف الأول: من ينقد من الخارج، فلا شك أن عددا من المشاركين في الاحتجاج على الخطاب السلفي ليسوا من المتبنين إليه، وهؤلاء أيضا منقسمون، فمنهم من ينتمي إلى خطابات شرعية لها أصولها الدينية والعلمية المعروفة، ومنهم من ينتمي إلى خطابات مادية لها أصولها الفلسفية المعروفة.
الصنف الثاني: من ينقد من الداخل، بمعنى أنه مسلَم بصحة الأصول التي قامت عليها المدرسة السلفية ومتبن لها في الجملة، فمن البين أن عددا من أبناء الخطاب السلفي، ممن تربى في أحضانه، بدا له مواطن في خطابه تحتاج إلى مراجعة النظر فيها، وتستلزم التقويم والتصحيح، وهؤلاء ليسوا سواءً، فإذا شئنا أن توغل قليلا في فحصهم، فإنه يمكن لنا أن نقف في الواقع على تنوعات عديدة فيهم، فمنهم من يظهر في نقده، التسليم لضغوط الواقع وتغيراته، أو التأثر بأطروحات فكرية خارجية أو داخلية، ومنهم من لم يكن من هذا النوع ولا ذاك، وإنما ينطلق في نقده من محض البحث عن الحقيقة وضرورة التسليم بها، ووجوب النصح للمنهج والحرص على بلوغ النموذج الأمثل.
ولا بد لنا أن نفرق بوضوح بين تلك التنوعات، فمن اللازم أن نفرق بين الناقد من الداخل والناقد من الخارج، وبين الناقد المناوئ وبين الناقد المحب الصادق ولو كان من الخارج، وبين الناقد الباحث عن الحقيقة والناقد الهاوي التابع للموضة، فليس كل من نقد الخاطب السلفي يلزم بالضرورة أن يكون مناوئا أو معاديا أو حاسدا أو عميلا أو خارجا عن الخطاب أو متأثرا بالمعادي أو مستسلما لضغوط الواقع أو قليل الديانة، أو له مقاصد ومآرب خفية، فهذه المعاني ليست ملازمة لكل نقد موجه إلى الخطاب السلفي.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه ليس عدلا ولا حقا أن نأتي إلى كل من مارس النقد للخطاب السلفي ونجمعهم في سلة واحدة ونحشرهم في خندق واحد، ونصدر عليهم أحكاما متحدة أو حتى متقاربة.
وحين نقرر هذا الكلام، لا نريد أن نصل إلى نفي أن يكون في قائمة النقاد من هو حاقد على الخطاب السلفي أو مناوئ له أو من يريد تصفية حسابات سابقة، ولا نريد أن ننفي وجود من لديه مشكلة مع النص الشرعي نفسه، ولكن غاية ما نربو إليه الوصول إلى رؤية واضحة في التفريق بين أصناف المحتجين على الخطاب السلفي.
ومن السمات التي اتسمت بها ظاهرة النقد للخطاب السلفي: التنوع في مجالات النقد والتعدد في موضوعات الاحتجاج، فقد توسعت ساحة النقد حتى شملت قطاعات واسعة من الأفكار التي يتبناها الخطاب السلفي، فاندرج في قائمة التهم مسائل عقدية وفقهية وأصولية وسلوكية وتربوية وسياسية واجتماعية وغيرها.
وقد أثارت تلك الموجة الناقدة حراكا فكريا عارما في الساحة الداخلية، أدت إلى إعادة ترتيب الصفوف وتجميع المشجعين وحدوث معارك صاخبة، لا تسمع فيها إلا الضجيج، حتى إن بعض المتابعين من الخارج وصف تلك الحالة بـ’’المراهقة الفكرية’’، وتناولت أقلام عديدة تلك الظاهرة بالتحليل والتفكيك، وخاضت فيها من زوايا متنوعة: من جهة البحث في أسبابها وعللها، ومن جهة تحديد أصناف الممارسين لذلك النقد وتحديد هويتهم، ومن جهة الموقف من تَقَبّل ما وجه من احتجاج وبيان قيمته المعرفية، ومن جهة استشراف مآلات وأبعاد ذلك النقد.
** ** **
والمراقب المنصف يدرك بوضوح أن قدرا كبيرا من تلك الخطابات الناقدة تعاني من غياب الانطلاق من القيم المنهجية التي تبنى عليها الاحتجاجات البناءة، فالمطالع يدرك أنه غاب عنها البحث في الأسئلة المركزية التي تسهم في بيان القيم التي يجب مراعاتها في تقييم المشاريع المعرفية والعلمية والسلوكية، وتسهم في الوصول إلى الحالة الفكرية المشرقة، فلم يعد للأسس المنهجية التي يقوم عليها النقد الموضوعي تأثيرها في تلك الموجة النقدية، فهي بالتالي تعاني من فقدان البنية التحتية التي تقام عليها المنهجيات النقدية البناءة.
وحين نقرر أن الخطابات الناقدة تعاني من أزمة غياب القيم، لا يعني هذا تبرئة ساحة الخطاب السلفي من التلبس بالآفة، فلا شك أن أصواتا عديدة من تلك المعبرة عن الخطاب السلفي والمدافعة عنه، تعاني بالفعل من أزمة غياب القيم، فقد اشتركت تلك الأصوات مع الخطابات الأخرى في جريمة التعدي على قيم الحوار والنقاش، ومع هذا فالبحث لا يقصد إلى الموازنة بين تلك الخطابات المتعددة، وإنما يقصد إلى رفع الظلم عن الخطاب السلفي بالخصوص وتسليط الأضواء على مواطن الخلل في الخطابات المحتجة عليه، وهو ـ في تصوري ـ حق مشروع تقر به منهجية كتابة البحوث والمقالات.
*** *** ***
العدل بوصفه القيمة الأم:
القيمة الكبرى التي تقوم عليها منهجيات البحث والمناظرة والتعاطي مع مقالات الناس وتصرفاتهم ـ تقويما ووصفا ومدحا وقدحا ـ ترجع إلى قيمة العدل، فهذه القيمة معتبرة في كل شيء، فالعدل نظام كل حدث في هذا الوجود، وهي قيمة أصيلة في الشرع المطهر، فالكتاب والعدل متلازمان، وقد كرر ربنا سبحانه وتعالى الأمر بها والتأكيد عليها كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ...)، وقد بلغ من تجذر هذه القيمة في الشريعة أن جاء الأمر بها حتى مع المخالفين لنا في أصل الدين كما قال تعالى: (يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)، فالمسلم مأمور بالعدل في كل شيء ومع كل أحد، وكلما ازداد المسلم امتثالا لهذه القيمة الشرعية ازداد عبادة لله تعالى وقربا منه سبحانه، وكلما انتقص منها افتقد عبادة من أشرف العبادات، وكم في النصوص الشرعية من تأكيد على هذه القيمة، وكم لعلماء الإسلام من بيان لفضلها وشرف منزلتها، فالله سبحانه يحب الاتصاف بها، وهي من أفضل الحُلل التي يتحلى به المسلم، خصوصا إذا نصب نفسه حاكما على مقالات الناس وأديانهم وأفكارهم، فإن الحكم بين الناس في مقالاتهم أعظم من الحكم بينكم في شؤون دنياهم.
فهذه المعاني تستوجب على الناقد المسلم أن يبذل جهده الواسع في الاستمساك بقيمة العدل وعدم الخروج عنها؛ لأنه بذلك يتعبد الله تعالى بعبادة هي من أجل العبادات، وهو بذلك يحقق أصلا كبيرا من الأصول التي تقوم عليها المنهجيات الفكرية البناءة، التي توصل إلى الغد المشرق، الذي يحقق للناس استقرارهم الفكري والديني والعملي.
ومن مستلزمات الاستمساك بهذه القيمة، ما نسمعه صباح مساء من الخطابات المتنوعة المهتمة بنقد الخطاب السلفي في تبرير نقدهم: أن المستوى المعرفي للناس لم يعد كما كان من قبل، وأن إدراكهم للأمور ارتقى بمراحل عما كان عليه، فهذا الوعي والارتقاء لدى الناس يستلزمان أيضا الإتقان العلمي والانضباط المعرفي والاتساق المنهجي في سجالاتنا الفكرية، ويوجب علينا احترام منهجيات النقد وأصول الحوار الصحيح، وإلا غدونا في محرقة التناقض الفكري، التي لا نتكسب منها إلا الاختناقات والضبابية.
والحريص على الالتزام بالقيم المنهجية التي جاءت الشريعة بالدعوة إليها وتأكيد منزلتها، والحريص أيضا على أن يبدو بمظهر الملتزم بأصول المنهج الراقي، ليعتريه الحزن على ما يشهده من خفوت الالتزام بمستلزمات قيمة العدل، بل واختفاؤها أحيانا كثيرة في قدر من الخطابات المحتجة على الخطاب السلفي.
وهذا الغياب له مظاهر عديدة من أهمها:
ـ المظهر الأول: انعدام المطابقة
فالعدل يستلزم بالضرورة ألا ينسب المرء شيئا إلى من يحتج عليه إلا إذا كان متأكدا من مطابقة ما ينتقده لحال المنقود، وإلا وقع في الخلل المنهجي فضلا عن وقوعه في مستنقعات الظلم المحرم، وقد عانى الخطاب السلفي من هذا الظلم كثيرا، فكم نسبت إليه من مقالة بصورة ليست على الصورة التي يقولها، وكم أضيف إليه من قول ليس موافقا لقوله..
فإنك تجد في قائمة التهم، أن الخطاب السلفي يُشرع الاستبداد السياسي ويدافع عنه، وتكتشف أن هذا القول ليس على ما صُور، وتقف فيها على أن الخطاب السلفي يجرم دراسة العلوم الخارجة عن دائرة العلوم الشرعية، وتكتشف غير ذلك، وتجد فيها أن الشغل الشاغل للخطاب السلفي هو مسائل الصفات وبدع القبور والموالد، وتكتشف أن الأمر ليس كذلك، وتقف فيها على أن الخطاب السلفي منشغل بالجزئيات التاريخية على حساب القضايا الواقعية التي تهم الأمة، وتكتشف غير ذلك، ويبرز لناظريك أن الخطاب السلفي محارب للعقل ومعاد للتجديد، وتكتشف غير ذلك، وتجد فيها أن الخطاب السلفي معادِ لطائفة من العلماء ممن ليس داخلا في نطاقه، وتكتشف غير ذلك، وتجد فيها أن الخطاب السلفي يحرم كل نوع من الاختلاط، وتكتشف أن تحريمهم متعلق بأنواع مخصوصة، والقائمة التي من هذا النوع طويلة جدا.
والعدل يستلزم كذلك الاعتدال في مقدار الحكم الذي يُوجه إلى المنقود، بحيث تكون صورة الحكم مطابقة لمقدار ما يراه خطأ، فلا يزيد عليه ولا ينقص، ولكننا نفاجأ بأن الأحكام الموجهة إلى الخطاب السلفي أكبر بكثير مما يذكر من خلل، فتجد أحدهم يسرد ما يراه خللا في الخطاب السلفي ثم يصدر حكمه الجائر، فيقول: إنه هو الذي أضاع الأمة، أو أنه هو الذي كرس المشروع الأمريكي في المنطقة، أو أنه سيؤدي لا محالة إلى نتائج كارثية، أو أنه هو الذي عرقل تطور الأمة وكان حجر عثرة في طريق تقدمها، أو أنه هو الذي ضيع حقوق الناس وساعد على تكريس الظلم، أو أنه هو الذي تنكر للحوار مع الآخر ولم يحترم قوله، أو أنه هو الذي أحدث التأزم في المجمع، وإذا ما طالعت ما اعتمد عليه في أحكامه تلك تجده لا يخرج عن دائرة المبالغة في التوصيف والتعدي في الحكم!
*العصر