مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
نقد الخطاب السلفي ..وغياب القيم(2)
نقد الخطاب السلفي ..وغياب القيم(2)
المظهر الثاني: غياب استصحاب ’’الموازنة الشعورية’’
ليس خافيا أن من الأصول الكبيرة التي يقوم عليها النقد العادل لأفكار الناس وأحوالهم، استصحاب الناقد للموازنات بين الأمور المؤثرة في تحديد قيمة الأقوال والمشاريع.
وهذا أصل عظيم استعمله القرآن في مواطن عديدة، كمثل قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤديه إليك .... )، وكقوله تعالى: (ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ...) .
وليس المقصود بهذا الأصل وجوب التلازم الذكري بين المحاسن والمساوئ في كل سياق، فليس المراد منه أن يلتزم المرء بذكر إنجازات من ينقده في كل نقد يوجه إليه، فهذا المعنى ليس مرادا، وليس هو طريقة القرآن، فالقرآن كثيرا ما يوجه النقد إلى المخالفين من غير أن يشير إلى شيء من محاسنهم.
وإنما المراد بذلك الأصل، الاستصحاب الشعوري الذي يستوجب اعتبار حال المنقود وعدم الغفلة عما قدمه من إنجازات واتصف به من صفات حميدة وما بذله من جهود صالحة، فهذا الشعور يجب أن يستصحبه المسلم في كل ممارسة نقدية لكل أحد.
فهناك إذن فرق بين التلازم الذكري بين المحاسن والمساوئ واستشعار ذلك التلازم، فالأول لا يجب في كل حال، وإنما هو خاضع للمصالح والمفاسد، وأما الثاني فإنه يجب في كل حال ومع كل أحد.
وإذا عاش الناقد ذلك الشعور في نقده، فإنه لا محالة سيؤثر في لغته التي يعبر بها عما يراه خطأ وفي طريقته لبيان نقده وفي كيفية إظهاره، وفي مستوى تفعليه له، وفي مقدار الحكم الذي يصدره على من ينقده وفي حفظه لحقوقه ومنزلته.
وقد بدت لغة الموازنة في عديد من الكتابات الناقدة للخطاب السلفي بوضوح، فترى بعضها يعترف ابتداء بأنه قدم للأمة الشيء الكثير من المنجزات، ولكن الناظر في قدر آخر من الممارسات النقدية الموجه إلى الخطاب السلفي، يلحظ فيها غياب ذلك الاستشعار للموازنات، فيخيل إليه حين يطالع النقد الموجه إلى الخطاب السلفي، أنه لم يعمل خيرا قط، وكأنه لم يقدم أي إنجاز للأمة في المجال الفكري أو العلمي أو السياسي أو الاقتصادي أو الإعلامي أو التربوي أو السلوكي، ويخيل إليه أيضا أن الخطاب السلفي هو الخطاب المتخلف، وأنه هو الذي يعاني من الخلل الفكري، وكأن الخطابات الأخرى المتدافعة معه لا تعاني مما يعاني منه أو أكثر، وكأنها استطاعت أن تقدم للأمة حلولا تخرجها من الأزمة التي تعاني منها!
والمراقب العادل إذا أراد أن يتماشى مع المنهج القرآني في الموازنة، فإنه سيتجلى أمام ناظريه أن إنجازات الخطاب السلفي أكبر ـ من حيث عمقها في المجتمع وتنوعها وأثرها ـ بكثير مما ينتقد عليه، ويدرك بوضوح أن هذا الخطاب يمتلك مواصفات واقعية تؤهله ـ إن أحسن استثمارها ـ للخروج من الأزمة الخانقة بنجاح، ومن أدلة ذلك : قوة المستند وحيوية الأصول التي يقوم عليها، وسعة الانتشار والتنوع المعرفي الذي يتمتع به، والاندراج في العمل المؤسسي ومراكز البحث بصورة مكثفة، وما غدا يتمتع به من توسع في دوائر الاتصال بالمجتمع على اختلاف طبقاته، وما يمارسه من تفاعل مع مجريات الواقع وتطوراته ومستجداتها ـ الإعلامية خاصة ـ وباحترافية في عدد من المجالات.
ـ المظهر الثالث: عدم مراعاة عمق الأزمة
لم تتفق آراء الباحثين العرب على شيء اتفاقها على أن الواقع العربي والإسلامي يعاني من أزمة حادة مستعصية على الحلول، وهذه الأزمة مكتسحة لكل المجالات تقريبا، وهي بطيعة الحال تختلف في الحدة من بلد إلى آخر.
ولعل أسبابها ما يلي:
ـ التخلف السابق، فالعالم الإسلامي عاش في القرنين الماضيين أنواعا من التخلفات، وقد كان لها تأثيرها العميق على واقعنا المعاصر، فالأمة الإسلامية لم تتعاف من ذلك التخلف بعد، وهي تحتاج إلى عقود لتتخلص من رواسبه.
ـ التغير المذهل في مجريات الواقع، فواقعنا المعاصر فاجأ العالم بالتغيرات المذهلة التي طرأت عليه، فقد تغيرت القوى المؤثرة في القرار، وتغيرت تبعا ذلك مناطق الضغط السياسي والاقتصادي، واتسم كذلك بضخامة الاكتشافات العلمية التي غيرت من وجه الأرض، وأحدثت معها إشكاليات دينية ومعرفية وفكرية كثيرة، وازداد واقعنا تركيبا وتعقيدا وازداد سرعة في التغير.
وقد تجاوزت آثار تلك الأزمة إلى مجالات عديدة متعلقة بحياة الإنسان، كالمجال السياسي والمجال الاقتصادي والمجال الفكري والشرعي، ويتجلى أبرز آثارها على القضايا الفكرية والشرعية في الأمور التالية:
*غياب التأصيل الشرعي والفكري الكافي عن عدد من نوازل العصر، فبناءً على التتابع السريع بين مجريات الواقع، وكثرة الترابطات بين الأحداث، غدا من الصعب جدا تتبع كل جزئيات المسائل بالبحث المؤصل، وغدا من الصعب أيضا على كثير من المفكرين وطلبة العلم أن يحوز على الملكة العلمية التي تؤهله لخوص البحث في تلك النوازل، بحيث يخرج فيها بصورة ناضجة، وهذا ما يفسر لنا الإحجام عن الإقدام على بحث تلك المسائل، فنتج بذلك بلا شك فقدان التأصيل الواضح لبعض تلك النوازل أو ضعفه في بعضها .
ولما لم يراع عدد من الممارسين لنقد الخطاب السلفي طبيعة الأزمة وما أحدثته تداعياتها، أخذ ينتقده بأنه أهمل مسائل كثيرة من البحث المؤصل الكافي والخروج فيها برؤية ناضجة، وهذا في حقيقة الأمر غفلة، بل تعالٍ على طبيعة الأزمة التي يعيشها العالم الإسلامي بكل أطيافه، فالأزمة لم تدع مجالا لمتابعة ما يضخه العالم الحديث من إشكالياته المتنوعة.
* كثرة الخلافات والانقسامات، فالمتابع لقدر من الإشكاليات التي ارتبطت بهذا العصر، يلحظ أنها اتسمت بالاشتباه والتعقيد والغموض، وهذه الأوصاف تؤدي عادة متى ما توفرت في قضية ما إلى حدوث الخلاف بين الخائضين في حلها.
ولما لم يراع بعض الممارسين لنقد الخطاب السلفي طبيعة الأزمة، أخذ يحكم على الخطاب السلفي بأنه يعاني من التشرذم والانشقاق نتيجة اختلاف مواقفه في قدر من نوازل العصر، وهذا في الحقيقة غفلة عن طبيعة القضايا التي أحدثها عصرنا الحاضر، فليس من المستغرب أن يختلف السلفيون في المسائل الغامضة والشائكة؛ فهم مختلفون بالضرورة في مقدار استيعابهم وقوتهم العلمية والإدراكية.
*التنوع في المواقف؛ ففي عالم سريع التغير والتبدل في مظاهر منتجاته الحضارية وأشكالها، فإنه لا محالة ستنصهر فيه المواقف الثابتة، وهو بلا شك ما تقتضيه الحكمة والعقل، فضلا عن الشرع، فليس صحيحا أن يبقى المرء على رأي من منتج حضاري ما، وينغلق عليه، مع أن هذا المنتج قد اعترته عوامل مؤثرة وتشكلات مغايرة لعما كان عليه في صورته الأولى.
ولكن بعض نقاد الخطاب السلفي يأبى اعتبار هذه الحقيقة، ويأخذ في التشغيب بأن الخطاب السلفي تناقضت مواقفه في عدد من المنتجات الحضارية، والمثال الذي يمكن أن يكوّن صورة مقاربة لما نحن فيه، الموقف من (الدش)، فبعد أن كانوا يحرمون الدش ويصدرون الفتاوى في التحذير منه، غدا رواد الخطاب السلفي يتهافتون على اقتنائه، أو صاروا مسالمين له على الأقل، وهذا في الحقيقة تعالٍ على الواقع وتغافل عن التطورات التي حدثت في موضوع البحث، فالموضوع الذي وقع فيه التنوع في المواقف لم يعد في صورته كما كان عليه في أول خروجه، وإنما حصلت فيه تغيرات كبيرة أدت بالضرورة إلى أن يغير بعض الخطاب السلفي موقفه منه، ولكن بدل أن يكون هذا تفاعلا ممدوحا مع الواقع وتفهما له، أضحى تناقضا ودليلا على ضبابية المواقف في بعض النقاد!!.
المظهر الرابع: عدم مراعاة التنوعات المؤثرة
لا شك أن كل خطاب معرفي أو سلوكي لا بد أن يرضخ تحت وطأة التنوعات التي تؤثر في تحديد المواقف المتخذَة من قبل أتباعه، وكلما ازداد الخطاب اتساعا وشيوعا في المجتمع، ازدادت تلك التنوعات تأثيرا في تحديد مساره.
والتنوعات المؤثرة في الخطابات عديدة، من أعمقها:
التنوع المعرفي، فأتباع الخطاب الواحد ليسوا سواءً في وعيهم بالأصول التي يبنى عليها خطابهم، ولا بمدى مستلزمات تلك الأصول ولا بمقدار تفهمها وتمثلها في الواقع، بل هم مختلفون فيها اختلافات واسعة.
ومنها: التنوع النفسي، فأتباع الخطاب الواحد ليسوا سواءً في أمزجتهم النفسية، فهم بلا شك متفاوتون فيها، بين الحاد جدا وبين الأقل حدة وبين الهين اللين، ولا شك أن المزاج الشخصي له تأثير ظاهر في طبيعة القرارات الدينية او الدنيوية التي يتخذها في حياته.
ومنها: التنوع الاجتماعي، فأتباع الخطاب الواحد ليسوا سواءً في أحوالهم اليومية التي يتلبسون بها، فهم يختلفون فيها كثيرا، وهذه الأحوال لها آثار بارزة فيما يتخذه الأشخاص من مواقف.
والمطلوب من الناقد الذي يهمه إصابة الحق والاتصاف بالموضوعية والعدل في نقده، أن يراعي تلك التنوعات فيما يوجهه من نقد، ومتى ما خلا النقد من مراعاتها فلا بد أن يقع في الآفات المضرة.
ولا شك أن الخطاب السلفي يعد من أكثر الخطابات شيوعا وتجذرا في المجتمع، وهذا يعني أن تأثير التنوعات فيه سيكون أكثر من غيره.
ومن أظهر الممارسات التي تنافي اعتبار واقعية التنوعات: تعميم الأحكام، وإطلاق الأوصاف العامة الشاملة لكل أفراد الخطاب المعين من غير مراعاة لما يشهده من تنوع علمي أو نفسي أو اجتماعي.
والمتابع لقدر من الاحتجاجات الموجهة إلى الخطاب السلفي يجد أنها تلبست بتلك الآفة، فما إن يرى بعض النقاد قولا قرره طيف من الخطاب السلفي أو فرد من أفراده أو مفت بارز فيه، إلا ويبادر مباشرة إلى توجيه الحكم إلى كل الخطاب، ولا يحاول أن يتعب نفسه قليلا ويجيب على سؤال ملح في النقد، وهو هل هذا المقالة التي ينقدها يقول بها كل الخطاب السلفي أم أكثره أم أقله، ولكنه ـ للأسف ـ يعمد مباشرة إلى الخطاب السلفي برمته، وينصبه على خشبته المائلة، ويأخذ في سرد ملاحظاته التي رآها من بعض الأفراد الذين يعيش معهم في مدينته أو إقليمه، أو قرأ لهم في بعض المجلات والمواقع الإلكترونية، أو سمع عنهم من بعض أصدقائه أو تناظر معهم في بعض حواراته أو استمع له وهو يفتي في بعض القنوات.
ونحن حين نؤكد على ضرورة مراعاة التنوعات ونحذر من التعميم، لا نقصد بالضرورة أن نمنع استعمال صيغ العموم على كل حال، أو نحكم على كل تعميم بالخطأ، ولكن غاية ما نريده أن نحرر المقياس الحقيقي الذي ينضبط به استعمال صيغة التعميم، بحيث لا يكون مستعملها خارجا عن الموضوعية والعدل، ثم نسعى بعد تحديده إلى ممارسته فعليا على الواقع.
مع أن الطريقة الأكمل من ذلك كله هو أن تتوجه احتجاجاتنا إلى المقالات نفسها ـ سواء في الخطاب السلفي أو في غيره ـ وتدور الحوارات في نطاقها، ويتركز النقد والتقويم والحكم عليها ابتداء، ولا نخرج عنها إلا في حالات معينة وظروف خاصة، ولكن مشهدنا السجالي انقلبت فيه المنهجية رأسا على عقب، فغدت نقطة الارتكاز فيه على صاحب المقالة لا المقالة نفسها مما اضطرنا إلى التلبس بآفة التعميم والتشرب بآثارها.
المظهر الخامس: الرضوخ للاختزال
ومن المظاهر المؤلمة التي يشهدها المراقب لاحتجاجاتنا الفكرية، إصابة أكثرها بلوثة الاختزال، فيخيل للقارئ حين يقرأ بعضها أن حل مشاكل الأمة كلها مرتبط بحبل سري مع مشكلة واحدة بعينها، متى ما حُلت فإن مشاكلنا الأخرى ستنحل تلقائيا، وهذه النظرة في تقويم الأمور هي في الحقيقة نظرة ضيقة وقعت فيه خطابات عديدة، فالخطاب الإصلاحي السياسي يصرخ بأصواته المرتفعة في نوادينا ويُظهر لنا في خطابه أن الحل السحري للتخلص مما نحن فيه من تخلف، يكمن في إصلاح الحكومات المستبدة التي لا تطبق الديمقراطية! ولا يحفظ فيها المال العام ولا توزع فيها الحقوق بالتساوي، ويختزل حلول الأزمات الأخرى فيا اقتنع به، وخطاب الإصلاح الفكري يُظهر لنا أن الحل السحري للتخلص مما نحن فيه، يكمن في متابعة الأفكار الغربية الوافدة وتتبعها نقدا وتقييما، وهكذا دواليك في عدد من الخطابات.
والقدر المشترك بين تلك الاختزالات يكمن في افتراض التزاحم بين مجالات الإصلاح، واستحالة السير في خطوط متوازية في سبيل الخروج من الأزمة، ويكفي هذا تبيانا لخطأ تلك النظرة وإظهارا لمخالفتها للتاريخ والواقع.
ونتيجة لتلك النظرة الضيقة، تحامل عديد من النقاد على الخطاب السلفي، وراح يصوره على أنه يغرد خارج السرب، وأنه يعمل في منطقة ’’الربع الخالي’’ التي لا ينتفع بها أحد، وأوهم أنه ينازع في أهمية المجالات الأخرى التي تم اختزال أزمات الأمة فيها.
والمتابع الفطن يدرك أن الواقع مختلف عن ذلك، فتلك الخطابات لا ينازعها الخطاب السلفي في أهمية الإصلاح السياسي مثلا أو الإصلاح الفكري أو نحوه، فالكل متفق على أن تلك المجالات وغيرها تعاني من أزمة حادة وكلها ثغور تحتاج إلى أن تنفر طائفة من المؤمنين لإصلاحه وترميمه، ونزاعهم يدور في دوائر أخرى أضيق من دائرة أصل الأهمية والضرورة، وحاصلها يرجع إلى كيفية تناول الإصلاح في تلك المجالات وفي تحديد الأولويات فيها، وهذه الدوائر لا تخرج عادة عن ساحة الاجتهاد والموازنة بين المصالح والمفاسد، وهي غالبا تتلبس بالغموض والدقة، وهذا ما يفسر لنا كثرة الخلاف فيها في الفكر الإسلامي منذ قرن من الزمن تقريبا، فليس غريبا بعد ذلك أن تختلف فيها المواقف بين المعاصرين.
*** *** ***
هذه المظاهر الخمس ـ في نظري ـ هي أهم الآفات التي تلبست بها الموجه النقادة للخطاب السلفي في واقعنا المعاصر، وتسبب في بروز أعراض مرضية عديدة أنهكت السجالات الفكرية وأودت بها إلى المهالك..
وكما هي العادة المطردة في الاحتجاجات التي لا تلتزم بالقيم العليا، فإنك لا تشهد معها إلا مزيدا من التشتت الفكري ومزيدا من ضياع البركة، ومزيدا من كثرة الصخب والضجيج في الحلبة المعرفية، ومزيدا من اكتساح الضبابية للمنطقة الوسط، ومزيدا من ضياع القصد الأصلي من الاحتجاج، وبدل أن يكون السجال سبيلا مؤديا إلى الخروج مما نحن فيه من أزمة، يغدو جزءا معضلا منها، يسهم في تكريسها.
*العصر
أضافة تعليق