كيف تتعايش المذاهب الدينية في اليمن؟
عبد الله الصنعاني:
تعايش المذهبان الزيدي والشافعي في اليمن طيلة هذه القرون، وإن كانت ثمة حروب مذهبية -إن وجدت- فهي لم تكن إلا في إطار الاستثناء، لكن اليوم تغيّر الوضع وتفاقم الخطر، حيث دخلت مذاهب وطوائف دينية ليست من التكوينات اليمنية أصلا، ولاسيما بعد حرب الخليج وعودة المغتربين. كما كان للفضائيات أيضا دور كبير في تسرب بعض المشاريع المذهبية إلى اليمن، كل ذلك أنذر ببيئة خصبة لزرع الصراع والنزاع تحت هذا الغطاء، حقيقة كان أم ذريعة، وفي هذه الحالة يطرح سؤال: كيف تتعايش المذاهب الدينية في اليمن؟
صور من الأخبار لفعالية التعايش المذهبي الذي عقد في جامعة صنعاء الثلاثاء الماضي
يتحدث أستاذ فلسفة التربية، الدكتور أحمد الدغشي، في البداية حول سُبل التعايش والتقريب بين المذاهب، ويؤكد أن التعايش لا يعني الإدماج أو الإقصاء في إطار الطرف الآخر بل الاعتراف بأن تلك سُنة كونية لا مفر منها {ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} {إن سعيكم لشتى}، ولكن تظل هناك ضوابط للخلاف حتى لا يكون اختلافا سلبيا ممزِقا دافعا إلى الفرقة والشتات، وعندما تختلف الألسن والألوان تختلف الثقافات والأفكار، وهذه سُنة قدرية لا يمكن لأحد أن يقف أمامها على كافة المستويات.
أما عن معوِّقات الحوار بين المسلمين، فيقول: ’’المعوّق الأكبر للحوار بين المذاهب الإسلامية هو النية المبيتة لدى كل طرف تجاه الطرف الآخر، وهذا يقضي على فكرة الحوار والتقريب من أساسها’’.
ثم يؤكد: ’’إننا نريد أن نتعايش لا أن نندمج، وأن يلغي بعضنا بعضا؛ لأن لغة الإقصاء تأتي عبر حديث التقريب بهذا المعنى’’. مشيرا إلى رفض القول بجدة الخلاف وحداثته بل ’’لو عدنا إلى بعض المصادر التاريخية لوجدنا أحداثا وقعت في القرن الرابع والخامس والسادس -على وجه الخصوص- مؤسفة جدا بين السنة والشيعة، بل بين المذاهب السنية نفسها في بغداد على وجه الخصوص’’. مشددا على ضرورة استلهام الدروس والعبر مما سبق، محذِّرا ممن يسوغون مشكلات اليوم بخلاف الصحابة.
يجب مراعاتها
وعن التعايش بين المذاهب، يعدد الدكتور الدغشي أمورا يجب مراعاتها، حيث يبدأ بضرورة الوعي المعرفي بأهميّة الوحدة، وأنها ليست ترفا ولا نافلة بل دين ومنهج وعقيدة، وأن لذلك أسبابا وليست أمانيَ {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجزى به}، وأن من كان نهجه تجزيئيا تفريقيا تشرذميا فلا ينتظر أن يحصد الوحدة، أما من كان نهجه وحدويا جمعيا فإنه يمكن أن يصل إلى الوحدة {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} فالوحدة منجاة والفرقة هلاك. ويلفت إلى مأساة أمّة سابقة اختلفت على علم ’’فعند ما تكون النّخبة هي من يقود إلى الفرقة والشتات فإن المأساة مضاعفة {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم، وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم}،
أما الأمر الثاني فيتحدث عن ضرورة الاتفاق على المشروعية المتبادلة، وأن ليس هناك أحد ناطق باسم السماء بأنه الممثل الوحيد للإسلام لا في المذاهب أو الأشخاص ولا في الطوائف والجماعات، بل إننا جميعا نسعى لفهم الإسلام وفق الثوابت الدينية والوطنية لا أكثر ولا أقل، وهناك قواعد أصولية في هذا الموضوع، يقولون: ’’اجتماعهم حُجة واختلافهم رحمة’’، ويقولون: ’’لا إنكار في مختلف فيه، والاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله’’، وهذه القواعد كلها تؤكد أن المجتهد لا يُعدَم أجرين، إن أصاب له أجران، وإن أخطأ فله أجر، فأيّما إنسان رأى أن يختار هذا المذهب أو ذاك فليختار طالما أن الاختيار ليس نابعا عن هوى، وإنما حيث يعتقد أنه الأسلم.
أما الأمر الثالث الذي يجب مراعاته -كما يقول الدكتور الدغشي- فهو ’’التركيز على قيم الاشتراك والثوابت والتي هي أكثر من أن تحصى لاسيّما في بلادنا، والخلاف ليس بكثير إذا سلم التسييس’’. ويضيف: ’’يكفي أن ندرك أننا اليوم في أحوج ما نكون إلى أن نجتمع، فثمة تصوير بأننا أفغانستان أخرى، أو باكستان بدرجة مهذبة، وكأنه يراد لنا أن نعيد ذلك السيناريو، ومع ذلك يأبى بعضنا إلا أن يحترب مع أخيه، ومع ابن مذهبه أو دينه’’.
في النقطة الرابعة يؤكد على ضرورة ’’الاتفاق على إخراج لغة التكفير من قاموسنا في التعامل البيني، فإذا ظل بعضنا يكفّر البعض على نحو من الإنحاء، أو يخونه أو يلمزه أو ينبزه، فإن ذلك مؤذن بفساد ذات البين التي هي الحالقة التي تحلق الدين كما قال عليه الصلاة والسلام’’.
أما في النقطة الخامسة، فيذهب ’’تحرير النزاع الذي يجري بين أئمة المذاهب في يسمى بالعقيدة، فالعقيدة ليست شيئا واحدا، بل هي أصول كلنا متفقون عليها ولا خلاف (الإيمان بالله والرسل والملائكة على نحو مجمل) أما الفروع والتفاصيل، إذا دخلنا فيها فإن هناك خلافا حتى داخل المذهب الواحد، ويؤكد ’’لا بُد علينا -نحن أهل القبلة جميعا- أن ندرك أننا متعبدون بالإسلام بمعناه العام فـ’’من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل من ذبيحتنا فهو المسلم الذي له ذمة الله’’، استوعب كل المسلمين، والمقصود من هذا هو أننا يمكن أن نتّحد، وأن تكوّن قواسم الاشتراك بيننا كثيرة، وأن المحاذير تصل إلى الوقوع فيما حرم الله ورسوله’’.
الأمر السادس يتمثل في ’’إيقاف تصدير الأفكار’’ يقول: ’’في اليمن مذهبان زيدي وشافعي، وأنا من دعاة التحرير، وأن تتلاقح الأفكار، وليس بوسع أحد أن يأخذ ضد من يأخذ برأي أو مذهب من خارج البيئة، ولكن المشكلة هي عند ما يشرعن ذلك، ويكون رسميا، ويقال: إن من حق المذهب القادم من وراء الحدود أن تكون له مدارس وجامعات هذا المعنى هو الذي يفتت، فإذا كُنا على مستوى مذهبين، ونحن مختلفون، فكيف إذا أتينا بمذهب من الخارج ذي إيديولوجيا مختلفة اختلافا كُليا؛ بدعوى أن من حق الناس أن يفعلوا، ونحن هنا لا نصادر حق أي أحد، كما أنه ليس بوسع أي سلطة أو عالم أن يقف ضد، أي يفكر من يأتي من اتجاه، لكن عند ما يُشرعن رسميا هنا تكمن المشكلة، وعند ما يسمح لهذا المذهب لا بُد أن يسمح لرابع وخامس، وهنا ستكون فتنة أكبر من مما هي عليه.
سابعا البُعد عن تسييس القضايا الدينية، لكن أن يلوى عنق النص ليوافق هوى مذهب أو شخص ما ليخدم مصالح أناس لهم حساباتهم. السياسيون ينبغي أن ينحوا عن حديثنا الديني، هنا ما يصوّر في لبنان مثلا بأنه مذهبي أو العراق وحتى أفغانستان لا علاقة لأي من السنة والشيعة في ذلك، إنما هو تسييس لذلك الموضوع.
وأعتقد ’’أن على السياسيين أن يتنحوا عن الحديث عن المذاهب، وأن يتركوا العلماء والقادة الدينيين دون أن يتدخلوا’’.
في نهاية حديثه، يؤكد أستاذ فلسفة التربية بالقول: ’’أعتقد أنه لا بُد من معالجة تربوية، وتتمثل في نقاط ثلاث: أولا دور الأسرة في التنشئة، فإذا كُنت إقصائيا إلغائيا لا أريد أحدا، فإنني أربِّي أبنائي وبناتي على ذلك، وأتهم من اختلف معي، وبالتالي أجرِّعهم العداء والتنافر مع حليب الأم، فلا بُد من إفشاء التسامح بين أفراد الأسرة.
الثانية: دور المدرسة عبر مناهجها ومدرسيها وإدارتها، وعبر الأنشطة المصاحبة لها من بث هذه الروح. وقد سمعت أن هناك مدارس خاصة تبث أنشطة تبث على الكراهية والحقد، ثم يقولون كيف وقعنا في الشرذمة والتخلّف.
الثالثة: دور وسائل الإعلام في عملية التنشئة، كذلك المواقع الإلكترونية، ونجد أن الحروب المذهبية بدؤها وشرارتها من وسائل الإعلام’’.
مشددا على ضرورة ’’إعادة النظر في المناهج الحالية على مستوى التعليم الرسمي والتعليم الخاص، لاسيما المراكز الخاصة، فثمة مراكز بأسماء وعناوين مختلفة، وبعضها يقول ألاّ علاقة له بالسياسة، وفيها ما فيها من زرع الأحقاد والضغائن’’.
مأساة الـ’’أنا’’
من جهة ثانية، يرى أستاذ التاريخ المعاصر الدكتور عبد الله الشماحي: ’’أن المذهبية ليست هويّة، إنما هي تعبير عن حراك علمي، هذا الحراك يتغيّر من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، وبالتالي لا يمكن أن نعتبر المذهبية هويّة الارتداد عنها خيانة وطنية أو دينا الارتداد عنه جريمة تنزل بصاحبها عقوبة الردة’’. ويؤكد أن تحول المذهبية إلى هويّة هو مظهر من مظاهر التخلّف في الأمّة.
ويضيف ’’الـأنا إذا اشتغلت في الأمّة قضت على الخيرات والمواهب؛ لأن صاحب الـأنا لا يؤمن بالآخر. ومشكلتنا تبدأ في الأسرة، فنجد الـأنا تتجلى في الأب نحو زوجه، ومن الأكبر نحو الأصغر، ومن الذكر نحو الأنثى. فإذا ما انتقل الفرد من اللبنة الصغيرة إلى لبنة أكبر في المجتمع نجدها تتجلى عوراتها أكثر انفضاحا، وأشد ما تكون عند ما تتجلى في المنصب الأعلى، فيكون هناك دمار ووبال على الأمّة’’. ويؤكد أن الحضارة الإسلامية ما قامت -على مر التاريخ- إلا حينما تغيب الـأنا، وأن مجتمع الإسلام لا يعرف الـأنا بأي شكل أتت’’. ولذا فإن الدكتور الشماحي يرى أنه ’’ليست المشكلة مع المذهبية، إنما المشكلة مع الـأنا؛ لأنها حينما تفتح تتحطم المدنية والنهضة، فيصبح الجميع يصارع الجميع، ويكافح الجميع، وينتحر انتحارا جماعيا، لأن كل واحد من هؤلاء يخدم أناته’’، ويشير إلى ’’أن الأندلس لم تسقط بسبب ضعف المسلمين بل كانت الـأنا هي التي أسقطتها’’.
ويؤكد: ’’أن المذاهب الإسلامية إنما هي عملية حراك علمية، فاليوم هناك مذهب، وغدا هناك مذهب آخر’’. مبينا: ’’أن المذهب هو عملية حراك علمي لإنزال أحكام الدِّين على الواقع المُعاش، والواقع المُعاش متغيّر، فلا يمكن لمتغيِّر أن يبقى ثابتا، فلا يمكن لمعالجة فكرية واجتهاد فكري نزل على زمان معيّن قبل ألف سنة أن يكون هو نفس الفكر ونفس المنهاج بعد ألف سنة، ولا يمكن لظروف عاشها الناس قبل ألف سنة أن تكون هي نفس الظروف والعوامل والمسببات بعد ألف سنة، ولذا عند ما نرى إلى المذهبية في فترة العطاء الإسلامية، نجد أنها كانت تذهب وتأتي. فالشافعي -رحمة الله- على سبيل المثال، كان له مذهبان، مذهب قبل دخول مصر، وآخر بعد خروجه منها، ولذا كان يقال مذهب الشافعي القديم ومذهب الشافعي الجديد، كان ذلك، وهو في فترات القوة والازدهار، فكان يغيِّر بسبب تغيِّر المكان، أما نحن، ونحن في فترات الضعف والتخلّف والتحجّر، نعتبر أن المذهب هويّة، ولا يمكن التحوّل عنه؛ لأن ذلك ارتداد ونقص، ليس هذا’’.
ويواصل الدكتور الشماحي: ’’فأئمة الزيدية من أولها إلى آخرها لم يعرفوا هذا الفهم، فنجدهم حنفية في مناطق الأحناف، وشافعية في مناطق الشافعية، ومالكية في مناطق المالكية، فما للمتأخرين في عصر الجمود يظنون هذا الفكر فكرا جامدا لا يمكن التخلّي عنه، أو التحرك منه، أو التجديد فيه، إنه التخلّف والجمود’’.
ثم قال: ’’علينا أن نعود إلى أصولنا الإبداعية عصر الإبداع الإنساني، الذي أنتج حضارة عالمية، حضارة أخرجت أوربا القرون الوسطى من ظلماتها إلى عالم متحضر، لم تقم على فكر جامد أو تقوقع في الفكر، إنما قامت على أساس مجتمع العدل’’.
ويضيف: ’’ومما أكد الـأنا في واقعنا ومجتمعنا عقيدة الحق الإلهي، تلك العقيدة الفارسية - الهندية التي غزت المجتمعات البشرية، وحصل الصراع عند ما غزت الحراك الفكري المتجدد، الذي يعبر عن دماء متجددة متحركة، وحين ادعى أناس أو سلالة حقهم في السيادة على البشر كانت الطامة الكبرى؛ كون ذلك المعتقد يرى أن الخالق أوجد سلالة هم مراجع الأمّة في دينها وعلمها، وما على الناس إلا السمع والطاعة’’.
مشيرا إلى أن مثل هذه الأفكار قد غزت أوربا وعانت منها الويلات في القرون الوسطى حين أدعى رجال الكنيسة الحق الإلهي، وما عليها إلا السمع والطاعة، وانتقل ذلك الحق إلى الأباطرة والملوك، وحكموا شعوبهم من خلال هذا الحق، وكانوا يتجاوزن البرلمانات، فثارت أوربا وانتقضت’’. ولفت إلى ’’أن ذلك لم يؤثر في تاريخنا الإسلامي، ولم تؤثر هذه العقيدة في المجتمع، وذلك لأن أمر الدِّين لدينا مربوط بالنص الإلهي، وليس بمن يدّعي الحق الإلهي من الناس’’.
مؤكدا على ضرورة الاتفاق على أن الناس سواسية، وأن الحق للجميع مكفول، وألاّ أحد يدعي الحق على غيره، إن الحق الإلهي عقيدة مرفوضة ولكل حريّة اختيار المذهب الذي يريده، فذلك شأنه، وأن حضارة الإسلام عاشت وتعايشت فيها كل الاختلافات.
الأمر عادي
من جهة ثالثة، يتحدث عن عدد من مظاهر التآلف بين المذاهب في اليمن، فيشير أن مشايخ المذاهب تلقوا من بعضهم البعض، يقول: ’’بيت المزجاجي في زبيد جاءوا إلى صنعاء فتلقى عنهم علماء الزيدية، وتلقوا عن علماء الزيدية وغيرهم، صالح النمازي، وهو شافعي جاء في عهد الإمام شرف الدِّين وعاش في كنفه واختصر الإمام شرف الدين كتاب ’’الأزهار’’ فقام الإمام النمازي بشرحه، وكانوا يتبادلون الإجازات العلمية. وعند ما تتطلع على إجازاتهم العلمية تجد علماء من المذاهب الأخرى، ومن غير المعقول أن تذهب إلى من يجيزك، إلا إذا كنت تحترمه وتحبه، أما إذا كُنت متعادا معه، فلن تذهب إليه ليجيزك، ولن يأتي إليك ليأخذ عنك. وكذلك تدريس كُتب كل مذهب في موطن المذهب الآخر، فقد درست كُتب الزيدية في مناطق الشافعية، ودرست كُتب الشافعية في مناطق الزيدية، بل وكُتب غيره من المذاهب، وهناك مؤلفات وشروح لعلماء الشافعية عن كتاب ’’الأزهار’’، وعن كُتب الزيدية، وكما أن هناك اهتماما من الزيدية عن كُتب الشافعية أيضا.
*السياسية
عبد الله الصنعاني:
تعايش المذهبان الزيدي والشافعي في اليمن طيلة هذه القرون، وإن كانت ثمة حروب مذهبية -إن وجدت- فهي لم تكن إلا في إطار الاستثناء، لكن اليوم تغيّر الوضع وتفاقم الخطر، حيث دخلت مذاهب وطوائف دينية ليست من التكوينات اليمنية أصلا، ولاسيما بعد حرب الخليج وعودة المغتربين. كما كان للفضائيات أيضا دور كبير في تسرب بعض المشاريع المذهبية إلى اليمن، كل ذلك أنذر ببيئة خصبة لزرع الصراع والنزاع تحت هذا الغطاء، حقيقة كان أم ذريعة، وفي هذه الحالة يطرح سؤال: كيف تتعايش المذاهب الدينية في اليمن؟
صور من الأخبار لفعالية التعايش المذهبي الذي عقد في جامعة صنعاء الثلاثاء الماضي
يتحدث أستاذ فلسفة التربية، الدكتور أحمد الدغشي، في البداية حول سُبل التعايش والتقريب بين المذاهب، ويؤكد أن التعايش لا يعني الإدماج أو الإقصاء في إطار الطرف الآخر بل الاعتراف بأن تلك سُنة كونية لا مفر منها {ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} {إن سعيكم لشتى}، ولكن تظل هناك ضوابط للخلاف حتى لا يكون اختلافا سلبيا ممزِقا دافعا إلى الفرقة والشتات، وعندما تختلف الألسن والألوان تختلف الثقافات والأفكار، وهذه سُنة قدرية لا يمكن لأحد أن يقف أمامها على كافة المستويات.
أما عن معوِّقات الحوار بين المسلمين، فيقول: ’’المعوّق الأكبر للحوار بين المذاهب الإسلامية هو النية المبيتة لدى كل طرف تجاه الطرف الآخر، وهذا يقضي على فكرة الحوار والتقريب من أساسها’’.
ثم يؤكد: ’’إننا نريد أن نتعايش لا أن نندمج، وأن يلغي بعضنا بعضا؛ لأن لغة الإقصاء تأتي عبر حديث التقريب بهذا المعنى’’. مشيرا إلى رفض القول بجدة الخلاف وحداثته بل ’’لو عدنا إلى بعض المصادر التاريخية لوجدنا أحداثا وقعت في القرن الرابع والخامس والسادس -على وجه الخصوص- مؤسفة جدا بين السنة والشيعة، بل بين المذاهب السنية نفسها في بغداد على وجه الخصوص’’. مشددا على ضرورة استلهام الدروس والعبر مما سبق، محذِّرا ممن يسوغون مشكلات اليوم بخلاف الصحابة.
يجب مراعاتها
وعن التعايش بين المذاهب، يعدد الدكتور الدغشي أمورا يجب مراعاتها، حيث يبدأ بضرورة الوعي المعرفي بأهميّة الوحدة، وأنها ليست ترفا ولا نافلة بل دين ومنهج وعقيدة، وأن لذلك أسبابا وليست أمانيَ {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجزى به}، وأن من كان نهجه تجزيئيا تفريقيا تشرذميا فلا ينتظر أن يحصد الوحدة، أما من كان نهجه وحدويا جمعيا فإنه يمكن أن يصل إلى الوحدة {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} فالوحدة منجاة والفرقة هلاك. ويلفت إلى مأساة أمّة سابقة اختلفت على علم ’’فعند ما تكون النّخبة هي من يقود إلى الفرقة والشتات فإن المأساة مضاعفة {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم، وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم}،
أما الأمر الثاني فيتحدث عن ضرورة الاتفاق على المشروعية المتبادلة، وأن ليس هناك أحد ناطق باسم السماء بأنه الممثل الوحيد للإسلام لا في المذاهب أو الأشخاص ولا في الطوائف والجماعات، بل إننا جميعا نسعى لفهم الإسلام وفق الثوابت الدينية والوطنية لا أكثر ولا أقل، وهناك قواعد أصولية في هذا الموضوع، يقولون: ’’اجتماعهم حُجة واختلافهم رحمة’’، ويقولون: ’’لا إنكار في مختلف فيه، والاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله’’، وهذه القواعد كلها تؤكد أن المجتهد لا يُعدَم أجرين، إن أصاب له أجران، وإن أخطأ فله أجر، فأيّما إنسان رأى أن يختار هذا المذهب أو ذاك فليختار طالما أن الاختيار ليس نابعا عن هوى، وإنما حيث يعتقد أنه الأسلم.
أما الأمر الثالث الذي يجب مراعاته -كما يقول الدكتور الدغشي- فهو ’’التركيز على قيم الاشتراك والثوابت والتي هي أكثر من أن تحصى لاسيّما في بلادنا، والخلاف ليس بكثير إذا سلم التسييس’’. ويضيف: ’’يكفي أن ندرك أننا اليوم في أحوج ما نكون إلى أن نجتمع، فثمة تصوير بأننا أفغانستان أخرى، أو باكستان بدرجة مهذبة، وكأنه يراد لنا أن نعيد ذلك السيناريو، ومع ذلك يأبى بعضنا إلا أن يحترب مع أخيه، ومع ابن مذهبه أو دينه’’.
في النقطة الرابعة يؤكد على ضرورة ’’الاتفاق على إخراج لغة التكفير من قاموسنا في التعامل البيني، فإذا ظل بعضنا يكفّر البعض على نحو من الإنحاء، أو يخونه أو يلمزه أو ينبزه، فإن ذلك مؤذن بفساد ذات البين التي هي الحالقة التي تحلق الدين كما قال عليه الصلاة والسلام’’.
أما في النقطة الخامسة، فيذهب ’’تحرير النزاع الذي يجري بين أئمة المذاهب في يسمى بالعقيدة، فالعقيدة ليست شيئا واحدا، بل هي أصول كلنا متفقون عليها ولا خلاف (الإيمان بالله والرسل والملائكة على نحو مجمل) أما الفروع والتفاصيل، إذا دخلنا فيها فإن هناك خلافا حتى داخل المذهب الواحد، ويؤكد ’’لا بُد علينا -نحن أهل القبلة جميعا- أن ندرك أننا متعبدون بالإسلام بمعناه العام فـ’’من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل من ذبيحتنا فهو المسلم الذي له ذمة الله’’، استوعب كل المسلمين، والمقصود من هذا هو أننا يمكن أن نتّحد، وأن تكوّن قواسم الاشتراك بيننا كثيرة، وأن المحاذير تصل إلى الوقوع فيما حرم الله ورسوله’’.
الأمر السادس يتمثل في ’’إيقاف تصدير الأفكار’’ يقول: ’’في اليمن مذهبان زيدي وشافعي، وأنا من دعاة التحرير، وأن تتلاقح الأفكار، وليس بوسع أحد أن يأخذ ضد من يأخذ برأي أو مذهب من خارج البيئة، ولكن المشكلة هي عند ما يشرعن ذلك، ويكون رسميا، ويقال: إن من حق المذهب القادم من وراء الحدود أن تكون له مدارس وجامعات هذا المعنى هو الذي يفتت، فإذا كُنا على مستوى مذهبين، ونحن مختلفون، فكيف إذا أتينا بمذهب من الخارج ذي إيديولوجيا مختلفة اختلافا كُليا؛ بدعوى أن من حق الناس أن يفعلوا، ونحن هنا لا نصادر حق أي أحد، كما أنه ليس بوسع أي سلطة أو عالم أن يقف ضد، أي يفكر من يأتي من اتجاه، لكن عند ما يُشرعن رسميا هنا تكمن المشكلة، وعند ما يسمح لهذا المذهب لا بُد أن يسمح لرابع وخامس، وهنا ستكون فتنة أكبر من مما هي عليه.
سابعا البُعد عن تسييس القضايا الدينية، لكن أن يلوى عنق النص ليوافق هوى مذهب أو شخص ما ليخدم مصالح أناس لهم حساباتهم. السياسيون ينبغي أن ينحوا عن حديثنا الديني، هنا ما يصوّر في لبنان مثلا بأنه مذهبي أو العراق وحتى أفغانستان لا علاقة لأي من السنة والشيعة في ذلك، إنما هو تسييس لذلك الموضوع.
وأعتقد ’’أن على السياسيين أن يتنحوا عن الحديث عن المذاهب، وأن يتركوا العلماء والقادة الدينيين دون أن يتدخلوا’’.
في نهاية حديثه، يؤكد أستاذ فلسفة التربية بالقول: ’’أعتقد أنه لا بُد من معالجة تربوية، وتتمثل في نقاط ثلاث: أولا دور الأسرة في التنشئة، فإذا كُنت إقصائيا إلغائيا لا أريد أحدا، فإنني أربِّي أبنائي وبناتي على ذلك، وأتهم من اختلف معي، وبالتالي أجرِّعهم العداء والتنافر مع حليب الأم، فلا بُد من إفشاء التسامح بين أفراد الأسرة.
الثانية: دور المدرسة عبر مناهجها ومدرسيها وإدارتها، وعبر الأنشطة المصاحبة لها من بث هذه الروح. وقد سمعت أن هناك مدارس خاصة تبث أنشطة تبث على الكراهية والحقد، ثم يقولون كيف وقعنا في الشرذمة والتخلّف.
الثالثة: دور وسائل الإعلام في عملية التنشئة، كذلك المواقع الإلكترونية، ونجد أن الحروب المذهبية بدؤها وشرارتها من وسائل الإعلام’’.
مشددا على ضرورة ’’إعادة النظر في المناهج الحالية على مستوى التعليم الرسمي والتعليم الخاص، لاسيما المراكز الخاصة، فثمة مراكز بأسماء وعناوين مختلفة، وبعضها يقول ألاّ علاقة له بالسياسة، وفيها ما فيها من زرع الأحقاد والضغائن’’.
مأساة الـ’’أنا’’
من جهة ثانية، يرى أستاذ التاريخ المعاصر الدكتور عبد الله الشماحي: ’’أن المذهبية ليست هويّة، إنما هي تعبير عن حراك علمي، هذا الحراك يتغيّر من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، وبالتالي لا يمكن أن نعتبر المذهبية هويّة الارتداد عنها خيانة وطنية أو دينا الارتداد عنه جريمة تنزل بصاحبها عقوبة الردة’’. ويؤكد أن تحول المذهبية إلى هويّة هو مظهر من مظاهر التخلّف في الأمّة.
ويضيف ’’الـأنا إذا اشتغلت في الأمّة قضت على الخيرات والمواهب؛ لأن صاحب الـأنا لا يؤمن بالآخر. ومشكلتنا تبدأ في الأسرة، فنجد الـأنا تتجلى في الأب نحو زوجه، ومن الأكبر نحو الأصغر، ومن الذكر نحو الأنثى. فإذا ما انتقل الفرد من اللبنة الصغيرة إلى لبنة أكبر في المجتمع نجدها تتجلى عوراتها أكثر انفضاحا، وأشد ما تكون عند ما تتجلى في المنصب الأعلى، فيكون هناك دمار ووبال على الأمّة’’. ويؤكد أن الحضارة الإسلامية ما قامت -على مر التاريخ- إلا حينما تغيب الـأنا، وأن مجتمع الإسلام لا يعرف الـأنا بأي شكل أتت’’. ولذا فإن الدكتور الشماحي يرى أنه ’’ليست المشكلة مع المذهبية، إنما المشكلة مع الـأنا؛ لأنها حينما تفتح تتحطم المدنية والنهضة، فيصبح الجميع يصارع الجميع، ويكافح الجميع، وينتحر انتحارا جماعيا، لأن كل واحد من هؤلاء يخدم أناته’’، ويشير إلى ’’أن الأندلس لم تسقط بسبب ضعف المسلمين بل كانت الـأنا هي التي أسقطتها’’.
ويؤكد: ’’أن المذاهب الإسلامية إنما هي عملية حراك علمية، فاليوم هناك مذهب، وغدا هناك مذهب آخر’’. مبينا: ’’أن المذهب هو عملية حراك علمي لإنزال أحكام الدِّين على الواقع المُعاش، والواقع المُعاش متغيّر، فلا يمكن لمتغيِّر أن يبقى ثابتا، فلا يمكن لمعالجة فكرية واجتهاد فكري نزل على زمان معيّن قبل ألف سنة أن يكون هو نفس الفكر ونفس المنهاج بعد ألف سنة، ولا يمكن لظروف عاشها الناس قبل ألف سنة أن تكون هي نفس الظروف والعوامل والمسببات بعد ألف سنة، ولذا عند ما نرى إلى المذهبية في فترة العطاء الإسلامية، نجد أنها كانت تذهب وتأتي. فالشافعي -رحمة الله- على سبيل المثال، كان له مذهبان، مذهب قبل دخول مصر، وآخر بعد خروجه منها، ولذا كان يقال مذهب الشافعي القديم ومذهب الشافعي الجديد، كان ذلك، وهو في فترات القوة والازدهار، فكان يغيِّر بسبب تغيِّر المكان، أما نحن، ونحن في فترات الضعف والتخلّف والتحجّر، نعتبر أن المذهب هويّة، ولا يمكن التحوّل عنه؛ لأن ذلك ارتداد ونقص، ليس هذا’’.
ويواصل الدكتور الشماحي: ’’فأئمة الزيدية من أولها إلى آخرها لم يعرفوا هذا الفهم، فنجدهم حنفية في مناطق الأحناف، وشافعية في مناطق الشافعية، ومالكية في مناطق المالكية، فما للمتأخرين في عصر الجمود يظنون هذا الفكر فكرا جامدا لا يمكن التخلّي عنه، أو التحرك منه، أو التجديد فيه، إنه التخلّف والجمود’’.
ثم قال: ’’علينا أن نعود إلى أصولنا الإبداعية عصر الإبداع الإنساني، الذي أنتج حضارة عالمية، حضارة أخرجت أوربا القرون الوسطى من ظلماتها إلى عالم متحضر، لم تقم على فكر جامد أو تقوقع في الفكر، إنما قامت على أساس مجتمع العدل’’.
ويضيف: ’’ومما أكد الـأنا في واقعنا ومجتمعنا عقيدة الحق الإلهي، تلك العقيدة الفارسية - الهندية التي غزت المجتمعات البشرية، وحصل الصراع عند ما غزت الحراك الفكري المتجدد، الذي يعبر عن دماء متجددة متحركة، وحين ادعى أناس أو سلالة حقهم في السيادة على البشر كانت الطامة الكبرى؛ كون ذلك المعتقد يرى أن الخالق أوجد سلالة هم مراجع الأمّة في دينها وعلمها، وما على الناس إلا السمع والطاعة’’.
مشيرا إلى أن مثل هذه الأفكار قد غزت أوربا وعانت منها الويلات في القرون الوسطى حين أدعى رجال الكنيسة الحق الإلهي، وما عليها إلا السمع والطاعة، وانتقل ذلك الحق إلى الأباطرة والملوك، وحكموا شعوبهم من خلال هذا الحق، وكانوا يتجاوزن البرلمانات، فثارت أوربا وانتقضت’’. ولفت إلى ’’أن ذلك لم يؤثر في تاريخنا الإسلامي، ولم تؤثر هذه العقيدة في المجتمع، وذلك لأن أمر الدِّين لدينا مربوط بالنص الإلهي، وليس بمن يدّعي الحق الإلهي من الناس’’.
مؤكدا على ضرورة الاتفاق على أن الناس سواسية، وأن الحق للجميع مكفول، وألاّ أحد يدعي الحق على غيره، إن الحق الإلهي عقيدة مرفوضة ولكل حريّة اختيار المذهب الذي يريده، فذلك شأنه، وأن حضارة الإسلام عاشت وتعايشت فيها كل الاختلافات.
الأمر عادي
من جهة ثالثة، يتحدث عن عدد من مظاهر التآلف بين المذاهب في اليمن، فيشير أن مشايخ المذاهب تلقوا من بعضهم البعض، يقول: ’’بيت المزجاجي في زبيد جاءوا إلى صنعاء فتلقى عنهم علماء الزيدية، وتلقوا عن علماء الزيدية وغيرهم، صالح النمازي، وهو شافعي جاء في عهد الإمام شرف الدِّين وعاش في كنفه واختصر الإمام شرف الدين كتاب ’’الأزهار’’ فقام الإمام النمازي بشرحه، وكانوا يتبادلون الإجازات العلمية. وعند ما تتطلع على إجازاتهم العلمية تجد علماء من المذاهب الأخرى، ومن غير المعقول أن تذهب إلى من يجيزك، إلا إذا كنت تحترمه وتحبه، أما إذا كُنت متعادا معه، فلن تذهب إليه ليجيزك، ولن يأتي إليك ليأخذ عنك. وكذلك تدريس كُتب كل مذهب في موطن المذهب الآخر، فقد درست كُتب الزيدية في مناطق الشافعية، ودرست كُتب الشافعية في مناطق الزيدية، بل وكُتب غيره من المذاهب، وهناك مؤلفات وشروح لعلماء الشافعية عن كتاب ’’الأزهار’’، وعن كُتب الزيدية، وكما أن هناك اهتماما من الزيدية عن كُتب الشافعية أيضا.
*السياسية