الشعاع الباسم فـي الرد على دعابات العواصم والقواصم (1)
من مشعل ثورة إلى دليل إرجاء
من المسئول عن تحريف مسار «حديث عبادة بن الصامت»؟!
مجيب الحميدي
ابتدءاً بفقه عصر التنزيل ومروراً بفقه عصر التأويل ووصولاً إلى فقه عصر التبديل وانتهاءاً بفقه ذيل بغلة السلطان، كيف تمكن مشايخ الإرجاء السلفي من تحريف مضمون حديث عبادة بن الصامت بعد أن كان في عصر الصحابة من أهم أدلة مقارعة الظلم ومناهضة الاستبداد؟ فكيف اختطفه علماء الإرجاء وحولوه إلى دليل على الصبر على ولي الأمر وإن ظلم وجار؟ في ثنايا هذه التناولة محاولة لإجابة مفصلة تكشف أسرار وأبعاد هذا التحريف الخطير.
مع كل الردود والتوضيحات السلفية تبقى مشكلة العقل السلفي المستعصية هي عدم قدرته على التفكير خارج ثنائية الإرجاء والخروج. هذه الثنائية التي تُسقط خيار مدرسة السلفية الإصلاحية الوسطية من حساباتها، خيار الجهاد المدني ضد الظلم والاستبداد و»في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها» والمرجئة مشايخها، خيار مقارعة الاستبداد والأخذ على يد الظالم وأطره على الحق أطراً قبل أن يعمنا الله بعقاب لا يصيب الذين ظلموا منا خاصة.
وأنا هنا لست بصدد تفنيد كافة الردود، ولكني أود التنبيه إلى فرية خطيرة اتهمني بها الشيخ الفاضل أبو الحسن المأربي صراحة وضمنها الشيخ الدبعي من قبله، وهي الإدعاء بأني أقول بتضعيف حديث عبادة بن الصامت الخاص ببيعة العقبة على السمع والطاعة لرسول الله.
ومن المثير للغرابة أن يقع أحد مشايخ الحديث بل ورئيس أحد دور الحديث في هذا الخطأ العلمي الواضح، المتمثل بعدم القدرة على التفريق بين الحكم على الحديث بأنه موضوع، وبين الإشارة إلى وجود إدراج وزيادة ألفاظ في بعض روايات الحديث غير صحيحة بعد مقارنة سند الزيادة المشكوك فيها مع العشرات من روايات الحديث وبعد العودة إلى أسباب ورود الحديث وبعد الرجوع إلى صيغ بيعة العقبة وبيعتي النساء والرضوان في كافة مصادر السير والتاريخ الإسلامي.
وقد ورد هذا الحديث بدون زيادة «إلا أن تروا كفراً بواحاً» في أكثر من عشرين رواية صحيحة -حسب اطلاع الكاتب حتى الآن- في البخاري ومسلم وسنن النسائي ومسند أحمد وصحيح ابن حبان وغيرهما. منها رواية في صحيح البخاري لنفس راوي زيادة الكفر البواح (إسماعيل بن أويس) ولابن أويس رواية ثالثة للحديث أخرجها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء اقتصرت على رواية البيعة على الجهر بكلمة الحق. وهكذا تتعاضد عشرات الروايات الصحيحة التي تؤكد صحة وتواتر رواياته عن فارس الحرية السياسية في صدر الإسلام عبادة بن الصامت أول لاجئ سياسي في تاريخ الخلافة الإسلامية.
وقد سبق الإمام النسائي إلى رفض إدراج رواية الكفر البواح في سننه وأورد عدداً من روايات هذا الحديث الصحيحة اقتصرت على روايات البيعة على الجهر بكلمة الحق أينما كنا دون أن نخاف في الله لومة لائم وسمى أحد الأبواب بـ»باب البيعة على القول بالحق». وحكم النسائي على رواة الزيادة المشبوهة بالضعف ولم يرو لأحد منهم حديثاً واحداً في سننه، وقد سبق الإمام أحمد بن حنبل إلى التشكيك في هذه الزيادة فروى الحديث مجرداً من الزيادة ونقل عن سفيان أن هذه الزيادة أضافها بعض الناس ولم يحدد من هؤلاء الناس. جاء في مسند الإمام أحمد حدثنا عبدالله حدثني أبي حدثنا سفيان عن يحيى عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت سمعه من جده وقال سفيان مرة: عن جده عبادة قال سفيان: وعبادة نقيب وهو من السبعة-بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ولا ننازع الأمر أهله نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم قال سفيان: زاد بعض الناس ما لم تروا كفرا بواحا.
وبعد المقارنة بين جميع روايات الحديث تبين لي أن هذه الزيادة «إلا أن تروا كفراً بواحاً» التي أضافها بعض الناس حسب تعبير سفيان بن عيينة، انفرد بها بعض الكذابين المتهمين بوضع الحديث ومنهم من اعترف بأنه كان يضع الحديث كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: إسماعيل ابن أبي أويس، ونعيم ابن حماد المتهم بوضع الحديث في أهل الرأي، وأحمد بن عبد الرحمن، وحتى لو ثبتت هذه الزيادة بأسانيد أخرى لم يطلع عليها الكاتب بعد، فالأصل تأويلها بالمعصية والإثم البواح حسب روايات أخرى رجالها رجال الصحيحين وحسب تفسير الإمام النووي ونظراً لاعتبارات كثيرة، سأذكرها لاحقاً.
وقبل ذلك ثمة ملحوظة مهمة أود أضعها أمام القارئ لكشف التحريف الخطير الذي مارسه مشايخ الإرجاء السلفي لمضمون هذا الحديث. فقد كان هذا الحديث من أدلة مقارعة الظلم في عصر الصحابة، فكيف اختطفه علماء الإرجاء وحولوه إلى دليل على الصبر على ولي الأمر وإن ظلم وجار حسب تعبير الشيخ المأربي؟!
وأرجو من القارئ أن يتأمل كيفية فهم الصحابة للحديث، قبل أن يتدخل الإرجاء السياسي لتفريغه من مضمونه الجهادي ويدرج فيه زيادة تقتل فاعليته في التحريض ضد الظلم وتحوله إلى وسيلة لتخدير المظلومين.
وأنا هنا أناشد كل صاحب ضمير حي من أتباع السلفية الإرجائية أن يقبل معي الاحتكام إلى راوي الحديث الصحابي الجليل عبادة بن الصامت، وكيفية فهمه للحديث؟ ومقارنة فهمه للحديث بفهم مشايخ الإرجاء السلفي، ولهم بعد ذلك مطلق الحرية في الاختيار بين فهم الصحابة للحديث وعلى رأسهم راويه الصحابي الجليل عبادة بن الصامت. أو فهم مشايخهم.
فلنذهب معاً إلى سير أعلام النبلاء لنعرف سبب ورود هذا الحديث وكيف كان يفهمه ويطبقه راوي الحديث الصحابي الجليل فارس الحرية السياسية عبادة بن الصامت الذي وصفه عمر بن الخطاب بأنه رجل بألف رجل:..جاء في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي في سيرة عبادة بن الصامت عن يحيى بن سُلَيم، عن ابنِ خُثَيم، عن إسماعيل بنِ عُبـيد بنِ رِفاعةَ، عن أبـيه أن معاوية أرسل إلى أبـي هريرة، فقال: أَلا تُمسك عنا أخاك عُبادةَ، أَمَّا بالغَدَوَاتِ، فيغدو إلى السوق يُفسِد على أهل الذمةِ متاجرهم، وأَمَّا بالعشيِّ، فَيَقعد في المسجد ليس له عَملٌ إلا شتم أعراضنا وعيبنا قال: فأتاه أبو هريرةَ، فقال: يا عُبادة، ما لك ولمعاويةَ؟ ذَرْهُ وما حُمِّل. فقال: لم تكن مَعَنا إذْ بايعْنا على السمع والطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألاَّ تَأخُذَنا في الله لومةُ لائم. فسكتَ أبو هريرة، وكتبَ معاوية إلى عثمان: إنَّ عُبَادةَ قد أفسد عليَّ الشام. هكذا فهم عبادة مقارعة السلطان في السوق وفي المسجد وأقره أبو هريرة على فهمه. وتعرض عبادة بن الصامت بسبب هذا الحديث التحريضي للإقصاء السياسي كما تؤكد الرواية الصحيحة الآتية التي رواها صاحب سير أعلام النبلاء، عن إسماعيلُ بنُ عَيَّاش: عن ابن خُثَيْم، حدثنا إسماعيلُ بنُ عُبـيد بنِ رِفاعة، قال: كتب مُعاويةُ إلى عثمان: إنَّ عُبادَة بنَ الصامت قد أفسد عليَّ الشامَ وأهلَه، فإِمَّا أَنْ تكُفَّه إليك، وإِمَّا أَنْ أُخلِّيَ بـينه وبـين الشام. فكتب إليه: أَنْ رَحِّل عبادَةَ حتى تَرجِعَهُ إلى داره بالمدينة. قال: فدخل عَلَى عُثمانَ، فلم يَفجأْهُ إِلاَّ به وهو معه في الدار، فالتفتَ إليه، فقال: يا عبادة ما لنا ولك؟ فقام عُبادةُ بـين ظهراني الناس، فقال: سمعتُ رسولَ اللّهِ يقول: «سَيَلي أُمُورَكُم بَعْدِي رِجَالٌ يُعرِّفُونَكُم مَا تُنْكِرُون، وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُم مَا تَعْرِفُون، فَلاَ طَاعَةَ لِمَنْ عَصىَ، وَلاَ تَضِلُّوا بِرَبِّكُمْ» هكذا يبرر عبادة موقفه السياسي «لا طاعة لمن عصى» لتبرير مقارعته لمعاوية فهل يعقل أن يروي هو أيضاً «إلا أن تروا كفراً بواحا» بقليل من العقل يا أعداء العقلانية فهل كان عبادة من القائلين بتكفير معاوية؟!
وجاء في أعلام النبلاء وفي السير عن عبادة بن الوليد، قال: كان عُبادة بن الصامت مع معاوية، فأذَّنَ يوماً، فقام خطيبٌ يمدح معاوية، ويُثني عليه، فقام عُبَادةُ بتراب في يده، فحثاه في فم الخطيب، فغضب معاويةُ، فقال له عُبادة: إنك لم تكن معنا حين بايعْنا رسولَ الله بالعقبة، على السَّمعِ والطَّاعة في مَنْشَطِنَا ومَكْرهِنَا ومَكْسَلِنَا، وأَثَرَة عَلَيْنَا، وألاَّ نُنازِعَ الأمر أهلَه، وأن نقومَ بالحقِّ حيثُ كنا، لا نخافُ في الله لومةَ لائم. وقال رسولُ الله: «إِذَا رَأَيْتُم المَدَّاحِينَ، فاحْثُوا في أفواهِهِم التُّرَابَ» والغريب أن في سند هذه الرواية ابن أبي أويس وليس فيها الزيادة الإرجائية.
وجاء في السير عن بُرد بنُ سنان: عن إِسحاقَ بنِ قَبـيصةَ بنِ ذُؤيب، عن أبـيه: أَنَّ عبادة أنكر على معاويةَ شيئاً، فقالَ: لا أُساكِنُك بأرض، فرحل إلى المدينة، قال له عمر: ما أقدَمَك؟ فأخبره (بفعل معاوية). فقال (له): ارحلْ إلى مكانك، فقبَّح الله أرضاً لستَ فيها وأمثالُك، فلا إِمرةَ لَهُ عليك.
وقد أكد ابن حجر هذا الروايات فقال في فتح الباري في شرح صحيح البخاري «ولعبادة قصص متعددة مع معاوية وإنكاره عليه أشياء وفي بعضها رجوع معاوية له وفي بعضها شكواه إلى عثمان منه تدل على قوته في دين الله وقيامه في الأمر بالمعروف»، وقال ابن حجر في سياق آخر «أصح من ذلك في هذا المراد ما أخرجه أحمد والطبراني من وجه آخر عن عبادة أنه جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية بالشام «فقال: يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة قي النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول بالحق ولا نخاف في الله لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا، ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -التي بايعناه عليها».
اعتبارات أخرى تؤكد تهافت زيادة «الكفر البواح»
1- جمهور أهل السنة وكافة المعتزلة والخوارج وكافة طوائف المسلمين باستثناء المرجئة يعتقدون بوجوب الخروج على الحاكم الظالم المسلم في حال اعتقاد القدرة وفي هذا الإجماع تعارض واضح مع الاستثناء الذي أفادته زيادة «إلا أن تروا كفراً بواحا».
2- ذهب الشيخ عبد العزيز الدبعي إلى ترجيح القول بطاعة الحاكم الظالم ولو كان كافراً في حال عدم القدرة والأخذ بهذا الترجيح يسقط أهمية الاحتجاج بهذه الزيادة المشكوك فيها.
3- أن راوي الحديث استخدمه في تبرير مقاومته لمعاوية وتحريضه لأهل الشام على معاوية وهذا يؤكد أن الزيادة أدرجت بعد ذلك في عصور الإرجاء لتفريغ الحديث من قوته التحريضية لأن معاوية لم يكن كافراً، حتى نقبل هذه الزيادة.
4- تعارض هذه الزيادة مع راويات صحيحة تتسق مع سياق الحديث ومناسبة وروده منها ما رواه أحمد والطبراني «لا طاعة لمن عصى، فلا تعتلوا بربكم» «إلا أن تروا معصية بواحا «إلا أن تروا إثماً بواحا».
5- إن الإمام البخاري روى في صحيحه رواية أخرى لأبن أبي أويس نفسه لم تتضمن هذه الزيادة وتضمنت البيعة على الجهر بكلمة الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم وعند مقارنة هذه الرواية لابن أبي أويس مع روايته الأخرى وسائر الروايات الصحيحة يتأكد لنا أن عبارة «إلا أن تروا كفراً بواحاً» أدرجها بعض الناس كما أكد الإمام سفيان بن عيينة للأسباب التي شرحناها آنفاً.
6- خروج الحسن وابن الزبير وأهل مدينة رسول الله وأعداد غفيرة من التابعين والصدر الأول على الحجاج ابن يوسف يؤكد عدم إيمانهم بهذه الزيادة التي أضافها بعض الناس!.
7- من المعلوم أن الإمامين البخاري ومسلم لم يدرجا في صحيحيهما إلا الصحيح وإذا أخرجا لأحد المتهمين حديثاً فإن ذلك يعود إلى اعتقادهم بثبوت صحة هذا الحديث بطرق أخرى ولكن هذا لا يعني قبول أي زيادات أو إدراجات انفرد بها الضعفاء ولو جاءت في الصحيحين مع تسليمنا بصحة الحديث إجمالاً.
8- مئات الروايات الصحيحة التي أوردت نص بيعتي العقبة وبيعة الرضوان ومنها أكثر من عشر روايات في صحيح البخاري ومثلها في صحيح مسلم أوردت هذا النص خالياً من زيادة الكفر البواح وكافة هذه الروايات أو أغلبها عن سعد بن عبادة.
9- تتعارض هذه الزيادة مع عموم قوله تعالى «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون» وعموم قوله «ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل*إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم».
10- أن البيعة في الأساس لا تلزم إلا من بايع وليس في نص بيعة عبادة إلزام لسائر الأمة إلا إذا عرفت إلزاميته بأدلة مستقلة وهذا ما فهمه عبادة حين لم يلزم أبا هريرة بما التزم به لكونه لم يبايع.
11- ولأن البيعة كانت لرسول الله وأمرائه الذين يعينهم هو فيستحيل عقلاً أن تضاف إليها هذه الزيادة لأن الكفر ممتنع عنه والعياذ بالله وهذا هو الظن بأصحابه.
وختاماً وبعد أن تعرفنا على كيفية فهم راوي الحديث الصحابي الجليل عبادة بن الصامت لهذا الحديث وكيفية تطبيقه العملي وبعد أن رأينا في الروايات كيف أمتثل الصحابة لهذا الفهم ومنهم أبو هريرة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان. فهل حان الوقت لنكون من أهل الأتباع ونلتزم بالمنهج الذي كان عليه الرسول وأصحابه؟ هل حان الوقت لنلتزم بفقه عصر التنزيل قبل عصور التأويل والتبديل والإرجاء؟! وبعد أن اتضح للجميع أن السلفية الإرجائية وقعت على هذا الحديث كما يقع الذباب على العسل، بعد ذلك هل يغيب عن القارئ المبصر أن يدرك لمن القول الفصل؟ للصحابي راوي الحديث عبادة بن الصامت؟ أم لتحوير فقهاء الإرجاء؟ اللهم أني قد بلغت.. اللهم فاشهد و لا نامت أعين الجبناء؟!
*الأهالي نت
من مشعل ثورة إلى دليل إرجاء
من المسئول عن تحريف مسار «حديث عبادة بن الصامت»؟!
مجيب الحميدي
ابتدءاً بفقه عصر التنزيل ومروراً بفقه عصر التأويل ووصولاً إلى فقه عصر التبديل وانتهاءاً بفقه ذيل بغلة السلطان، كيف تمكن مشايخ الإرجاء السلفي من تحريف مضمون حديث عبادة بن الصامت بعد أن كان في عصر الصحابة من أهم أدلة مقارعة الظلم ومناهضة الاستبداد؟ فكيف اختطفه علماء الإرجاء وحولوه إلى دليل على الصبر على ولي الأمر وإن ظلم وجار؟ في ثنايا هذه التناولة محاولة لإجابة مفصلة تكشف أسرار وأبعاد هذا التحريف الخطير.
مع كل الردود والتوضيحات السلفية تبقى مشكلة العقل السلفي المستعصية هي عدم قدرته على التفكير خارج ثنائية الإرجاء والخروج. هذه الثنائية التي تُسقط خيار مدرسة السلفية الإصلاحية الوسطية من حساباتها، خيار الجهاد المدني ضد الظلم والاستبداد و»في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها» والمرجئة مشايخها، خيار مقارعة الاستبداد والأخذ على يد الظالم وأطره على الحق أطراً قبل أن يعمنا الله بعقاب لا يصيب الذين ظلموا منا خاصة.
وأنا هنا لست بصدد تفنيد كافة الردود، ولكني أود التنبيه إلى فرية خطيرة اتهمني بها الشيخ الفاضل أبو الحسن المأربي صراحة وضمنها الشيخ الدبعي من قبله، وهي الإدعاء بأني أقول بتضعيف حديث عبادة بن الصامت الخاص ببيعة العقبة على السمع والطاعة لرسول الله.
ومن المثير للغرابة أن يقع أحد مشايخ الحديث بل ورئيس أحد دور الحديث في هذا الخطأ العلمي الواضح، المتمثل بعدم القدرة على التفريق بين الحكم على الحديث بأنه موضوع، وبين الإشارة إلى وجود إدراج وزيادة ألفاظ في بعض روايات الحديث غير صحيحة بعد مقارنة سند الزيادة المشكوك فيها مع العشرات من روايات الحديث وبعد العودة إلى أسباب ورود الحديث وبعد الرجوع إلى صيغ بيعة العقبة وبيعتي النساء والرضوان في كافة مصادر السير والتاريخ الإسلامي.
وقد ورد هذا الحديث بدون زيادة «إلا أن تروا كفراً بواحاً» في أكثر من عشرين رواية صحيحة -حسب اطلاع الكاتب حتى الآن- في البخاري ومسلم وسنن النسائي ومسند أحمد وصحيح ابن حبان وغيرهما. منها رواية في صحيح البخاري لنفس راوي زيادة الكفر البواح (إسماعيل بن أويس) ولابن أويس رواية ثالثة للحديث أخرجها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء اقتصرت على رواية البيعة على الجهر بكلمة الحق. وهكذا تتعاضد عشرات الروايات الصحيحة التي تؤكد صحة وتواتر رواياته عن فارس الحرية السياسية في صدر الإسلام عبادة بن الصامت أول لاجئ سياسي في تاريخ الخلافة الإسلامية.
وقد سبق الإمام النسائي إلى رفض إدراج رواية الكفر البواح في سننه وأورد عدداً من روايات هذا الحديث الصحيحة اقتصرت على روايات البيعة على الجهر بكلمة الحق أينما كنا دون أن نخاف في الله لومة لائم وسمى أحد الأبواب بـ»باب البيعة على القول بالحق». وحكم النسائي على رواة الزيادة المشبوهة بالضعف ولم يرو لأحد منهم حديثاً واحداً في سننه، وقد سبق الإمام أحمد بن حنبل إلى التشكيك في هذه الزيادة فروى الحديث مجرداً من الزيادة ونقل عن سفيان أن هذه الزيادة أضافها بعض الناس ولم يحدد من هؤلاء الناس. جاء في مسند الإمام أحمد حدثنا عبدالله حدثني أبي حدثنا سفيان عن يحيى عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت سمعه من جده وقال سفيان مرة: عن جده عبادة قال سفيان: وعبادة نقيب وهو من السبعة-بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ولا ننازع الأمر أهله نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم قال سفيان: زاد بعض الناس ما لم تروا كفرا بواحا.
وبعد المقارنة بين جميع روايات الحديث تبين لي أن هذه الزيادة «إلا أن تروا كفراً بواحاً» التي أضافها بعض الناس حسب تعبير سفيان بن عيينة، انفرد بها بعض الكذابين المتهمين بوضع الحديث ومنهم من اعترف بأنه كان يضع الحديث كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: إسماعيل ابن أبي أويس، ونعيم ابن حماد المتهم بوضع الحديث في أهل الرأي، وأحمد بن عبد الرحمن، وحتى لو ثبتت هذه الزيادة بأسانيد أخرى لم يطلع عليها الكاتب بعد، فالأصل تأويلها بالمعصية والإثم البواح حسب روايات أخرى رجالها رجال الصحيحين وحسب تفسير الإمام النووي ونظراً لاعتبارات كثيرة، سأذكرها لاحقاً.
وقبل ذلك ثمة ملحوظة مهمة أود أضعها أمام القارئ لكشف التحريف الخطير الذي مارسه مشايخ الإرجاء السلفي لمضمون هذا الحديث. فقد كان هذا الحديث من أدلة مقارعة الظلم في عصر الصحابة، فكيف اختطفه علماء الإرجاء وحولوه إلى دليل على الصبر على ولي الأمر وإن ظلم وجار حسب تعبير الشيخ المأربي؟!
وأرجو من القارئ أن يتأمل كيفية فهم الصحابة للحديث، قبل أن يتدخل الإرجاء السياسي لتفريغه من مضمونه الجهادي ويدرج فيه زيادة تقتل فاعليته في التحريض ضد الظلم وتحوله إلى وسيلة لتخدير المظلومين.
وأنا هنا أناشد كل صاحب ضمير حي من أتباع السلفية الإرجائية أن يقبل معي الاحتكام إلى راوي الحديث الصحابي الجليل عبادة بن الصامت، وكيفية فهمه للحديث؟ ومقارنة فهمه للحديث بفهم مشايخ الإرجاء السلفي، ولهم بعد ذلك مطلق الحرية في الاختيار بين فهم الصحابة للحديث وعلى رأسهم راويه الصحابي الجليل عبادة بن الصامت. أو فهم مشايخهم.
فلنذهب معاً إلى سير أعلام النبلاء لنعرف سبب ورود هذا الحديث وكيف كان يفهمه ويطبقه راوي الحديث الصحابي الجليل فارس الحرية السياسية عبادة بن الصامت الذي وصفه عمر بن الخطاب بأنه رجل بألف رجل:..جاء في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي في سيرة عبادة بن الصامت عن يحيى بن سُلَيم، عن ابنِ خُثَيم، عن إسماعيل بنِ عُبـيد بنِ رِفاعةَ، عن أبـيه أن معاوية أرسل إلى أبـي هريرة، فقال: أَلا تُمسك عنا أخاك عُبادةَ، أَمَّا بالغَدَوَاتِ، فيغدو إلى السوق يُفسِد على أهل الذمةِ متاجرهم، وأَمَّا بالعشيِّ، فَيَقعد في المسجد ليس له عَملٌ إلا شتم أعراضنا وعيبنا قال: فأتاه أبو هريرةَ، فقال: يا عُبادة، ما لك ولمعاويةَ؟ ذَرْهُ وما حُمِّل. فقال: لم تكن مَعَنا إذْ بايعْنا على السمع والطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألاَّ تَأخُذَنا في الله لومةُ لائم. فسكتَ أبو هريرة، وكتبَ معاوية إلى عثمان: إنَّ عُبَادةَ قد أفسد عليَّ الشام. هكذا فهم عبادة مقارعة السلطان في السوق وفي المسجد وأقره أبو هريرة على فهمه. وتعرض عبادة بن الصامت بسبب هذا الحديث التحريضي للإقصاء السياسي كما تؤكد الرواية الصحيحة الآتية التي رواها صاحب سير أعلام النبلاء، عن إسماعيلُ بنُ عَيَّاش: عن ابن خُثَيْم، حدثنا إسماعيلُ بنُ عُبـيد بنِ رِفاعة، قال: كتب مُعاويةُ إلى عثمان: إنَّ عُبادَة بنَ الصامت قد أفسد عليَّ الشامَ وأهلَه، فإِمَّا أَنْ تكُفَّه إليك، وإِمَّا أَنْ أُخلِّيَ بـينه وبـين الشام. فكتب إليه: أَنْ رَحِّل عبادَةَ حتى تَرجِعَهُ إلى داره بالمدينة. قال: فدخل عَلَى عُثمانَ، فلم يَفجأْهُ إِلاَّ به وهو معه في الدار، فالتفتَ إليه، فقال: يا عبادة ما لنا ولك؟ فقام عُبادةُ بـين ظهراني الناس، فقال: سمعتُ رسولَ اللّهِ يقول: «سَيَلي أُمُورَكُم بَعْدِي رِجَالٌ يُعرِّفُونَكُم مَا تُنْكِرُون، وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُم مَا تَعْرِفُون، فَلاَ طَاعَةَ لِمَنْ عَصىَ، وَلاَ تَضِلُّوا بِرَبِّكُمْ» هكذا يبرر عبادة موقفه السياسي «لا طاعة لمن عصى» لتبرير مقارعته لمعاوية فهل يعقل أن يروي هو أيضاً «إلا أن تروا كفراً بواحا» بقليل من العقل يا أعداء العقلانية فهل كان عبادة من القائلين بتكفير معاوية؟!
وجاء في أعلام النبلاء وفي السير عن عبادة بن الوليد، قال: كان عُبادة بن الصامت مع معاوية، فأذَّنَ يوماً، فقام خطيبٌ يمدح معاوية، ويُثني عليه، فقام عُبَادةُ بتراب في يده، فحثاه في فم الخطيب، فغضب معاويةُ، فقال له عُبادة: إنك لم تكن معنا حين بايعْنا رسولَ الله بالعقبة، على السَّمعِ والطَّاعة في مَنْشَطِنَا ومَكْرهِنَا ومَكْسَلِنَا، وأَثَرَة عَلَيْنَا، وألاَّ نُنازِعَ الأمر أهلَه، وأن نقومَ بالحقِّ حيثُ كنا، لا نخافُ في الله لومةَ لائم. وقال رسولُ الله: «إِذَا رَأَيْتُم المَدَّاحِينَ، فاحْثُوا في أفواهِهِم التُّرَابَ» والغريب أن في سند هذه الرواية ابن أبي أويس وليس فيها الزيادة الإرجائية.
وجاء في السير عن بُرد بنُ سنان: عن إِسحاقَ بنِ قَبـيصةَ بنِ ذُؤيب، عن أبـيه: أَنَّ عبادة أنكر على معاويةَ شيئاً، فقالَ: لا أُساكِنُك بأرض، فرحل إلى المدينة، قال له عمر: ما أقدَمَك؟ فأخبره (بفعل معاوية). فقال (له): ارحلْ إلى مكانك، فقبَّح الله أرضاً لستَ فيها وأمثالُك، فلا إِمرةَ لَهُ عليك.
وقد أكد ابن حجر هذا الروايات فقال في فتح الباري في شرح صحيح البخاري «ولعبادة قصص متعددة مع معاوية وإنكاره عليه أشياء وفي بعضها رجوع معاوية له وفي بعضها شكواه إلى عثمان منه تدل على قوته في دين الله وقيامه في الأمر بالمعروف»، وقال ابن حجر في سياق آخر «أصح من ذلك في هذا المراد ما أخرجه أحمد والطبراني من وجه آخر عن عبادة أنه جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية بالشام «فقال: يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة قي النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول بالحق ولا نخاف في الله لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا، ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -التي بايعناه عليها».
اعتبارات أخرى تؤكد تهافت زيادة «الكفر البواح»
1- جمهور أهل السنة وكافة المعتزلة والخوارج وكافة طوائف المسلمين باستثناء المرجئة يعتقدون بوجوب الخروج على الحاكم الظالم المسلم في حال اعتقاد القدرة وفي هذا الإجماع تعارض واضح مع الاستثناء الذي أفادته زيادة «إلا أن تروا كفراً بواحا».
2- ذهب الشيخ عبد العزيز الدبعي إلى ترجيح القول بطاعة الحاكم الظالم ولو كان كافراً في حال عدم القدرة والأخذ بهذا الترجيح يسقط أهمية الاحتجاج بهذه الزيادة المشكوك فيها.
3- أن راوي الحديث استخدمه في تبرير مقاومته لمعاوية وتحريضه لأهل الشام على معاوية وهذا يؤكد أن الزيادة أدرجت بعد ذلك في عصور الإرجاء لتفريغ الحديث من قوته التحريضية لأن معاوية لم يكن كافراً، حتى نقبل هذه الزيادة.
4- تعارض هذه الزيادة مع راويات صحيحة تتسق مع سياق الحديث ومناسبة وروده منها ما رواه أحمد والطبراني «لا طاعة لمن عصى، فلا تعتلوا بربكم» «إلا أن تروا معصية بواحا «إلا أن تروا إثماً بواحا».
5- إن الإمام البخاري روى في صحيحه رواية أخرى لأبن أبي أويس نفسه لم تتضمن هذه الزيادة وتضمنت البيعة على الجهر بكلمة الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم وعند مقارنة هذه الرواية لابن أبي أويس مع روايته الأخرى وسائر الروايات الصحيحة يتأكد لنا أن عبارة «إلا أن تروا كفراً بواحاً» أدرجها بعض الناس كما أكد الإمام سفيان بن عيينة للأسباب التي شرحناها آنفاً.
6- خروج الحسن وابن الزبير وأهل مدينة رسول الله وأعداد غفيرة من التابعين والصدر الأول على الحجاج ابن يوسف يؤكد عدم إيمانهم بهذه الزيادة التي أضافها بعض الناس!.
7- من المعلوم أن الإمامين البخاري ومسلم لم يدرجا في صحيحيهما إلا الصحيح وإذا أخرجا لأحد المتهمين حديثاً فإن ذلك يعود إلى اعتقادهم بثبوت صحة هذا الحديث بطرق أخرى ولكن هذا لا يعني قبول أي زيادات أو إدراجات انفرد بها الضعفاء ولو جاءت في الصحيحين مع تسليمنا بصحة الحديث إجمالاً.
8- مئات الروايات الصحيحة التي أوردت نص بيعتي العقبة وبيعة الرضوان ومنها أكثر من عشر روايات في صحيح البخاري ومثلها في صحيح مسلم أوردت هذا النص خالياً من زيادة الكفر البواح وكافة هذه الروايات أو أغلبها عن سعد بن عبادة.
9- تتعارض هذه الزيادة مع عموم قوله تعالى «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون» وعموم قوله «ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل*إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم».
10- أن البيعة في الأساس لا تلزم إلا من بايع وليس في نص بيعة عبادة إلزام لسائر الأمة إلا إذا عرفت إلزاميته بأدلة مستقلة وهذا ما فهمه عبادة حين لم يلزم أبا هريرة بما التزم به لكونه لم يبايع.
11- ولأن البيعة كانت لرسول الله وأمرائه الذين يعينهم هو فيستحيل عقلاً أن تضاف إليها هذه الزيادة لأن الكفر ممتنع عنه والعياذ بالله وهذا هو الظن بأصحابه.
وختاماً وبعد أن تعرفنا على كيفية فهم راوي الحديث الصحابي الجليل عبادة بن الصامت لهذا الحديث وكيفية تطبيقه العملي وبعد أن رأينا في الروايات كيف أمتثل الصحابة لهذا الفهم ومنهم أبو هريرة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان. فهل حان الوقت لنكون من أهل الأتباع ونلتزم بالمنهج الذي كان عليه الرسول وأصحابه؟ هل حان الوقت لنلتزم بفقه عصر التنزيل قبل عصور التأويل والتبديل والإرجاء؟! وبعد أن اتضح للجميع أن السلفية الإرجائية وقعت على هذا الحديث كما يقع الذباب على العسل، بعد ذلك هل يغيب عن القارئ المبصر أن يدرك لمن القول الفصل؟ للصحابي راوي الحديث عبادة بن الصامت؟ أم لتحوير فقهاء الإرجاء؟ اللهم أني قد بلغت.. اللهم فاشهد و لا نامت أعين الجبناء؟!
*الأهالي نت