العواصم مما في تلبيسات مجيب الحميدي من القواصم (2)
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني - دار الحديث بمأرب
التعقيب الثاني: قوله: «وهناك فرق بين منازعة الأمر أهله، وبين استعادته من مغتصبيه، وإعادته إلى أهله».
والجواب: علماء السنة يقولون: إذا كانت استعادة الأمر إلى أهله بخلع الظالم الجائر، وتولية العدل يمكن أن تتم بلا مفسدة أكبر فلا بأس -وقد يجب ذلك- عملاً بأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما في معناها، وإذا كان كل من الطرفين له شوكة، والمنايا ستحصد المسلمين، ومصالحهم ستتعطل، وبلادهم ستخرب، والأعداء سيُحْكِمون القبضة عليها؛ ففي هذه الحالة يُعمل بأحاديث السمع والطاعة في المعروف، والصبر على الأذى خشية حصول ما هو أكبر منه، مع نصح الحاكم بالطريقة التي تقلل الشر إن لم تعطله، فأي عيب في هذا القول عند من يفهم عن الله أو رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أو عند من له عقل رشيد؟! فنحن لا ننكر إعادة الأمر إلى أهله، بل نتمنى ذلك، لكن بشرط عدم حصول فتنة أكبر، ولا يجوز أن نجعل مصير البلاد ومستقبلها حقل تجارب!!
التعقيب الثالث: ذكر الكاتب أن طاعة أولي الأمر تكون إذا أدوا الأمانات إلى أهلها، وإلا فلا، ومن ذلك رد أمانة الحكم إلى عامة الناس، واستدل بقول عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- لما تولى: «أيها الناس، إني لستُ بمبتدع، ولكني متّبع، وإن مَنْ حولكم مِنَ الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم؛ فأنا واليكم، وإن هم أبوْا؛ فلسْتُ لكم بوال» وذكر مجيب الحميدي أن ولاة الأمر هم من نختارهم، لا من يحملون علينا السلاح، يعني أن المتغلِّب عليها بشوكته لا يكون ولي أمره!!
والجواب من وجوه:
1- معلوم أن ولي الأمر يتولى في تاريخ أمتنا وسيرة خلفائنا بإحدى هذه الحالات:
أ- أن يختاره أهل الحل والعقد، وهذه الحالة أكمل طريقة إن تيسرت، ولها شروط يراعيها العلماء وأهل الحل والعقد فيمن يختارونه.
ب- أن يستخلف الحاكم الذي قبله للأمة من يخلفه عليهم، إما لأنه أفضل مَنْ بعده، أو لدرء فتنة محتملة لو تُرك الأمر بدون استخلاف، وهذه الحالة عند درء الفتنة المتوقعة أفضل؛ لأنه قد لا يتم الاتفاق للأكثرية على الاختيار لتحيّز كل الناس إلى فئته، فيقع المحظور قبل الاختيار.
ج- أن يتغلب عليها بشوكته وأنصاره، حتى يفرض نفسه على الناس، وإن لم يتوافر فيه كثير من الشروط، فإن تحيق مقصود الولاية من حقن الدماء، وتسكين الدهماء أولى من مراعاة مكملاتها.
والكاتب يعني الحالة الأخيرة، وهي وإن لم تكن الطريقة الشرعية المختارة؛ إلا أن العلماء لما رأوا شوكه المتغِّلب وقوته، وأن من بقي مناوئًا له من أهل الحل والعقد لهم شوكة وقوة أيضًا، وأن الجميع سيحصد بعضهم بعضًا، فيكون ذلك أسرع في استئصال المسلمين، ونزع هيبتهم؛ أفتوا بالسمع والطاعة له في المعروف، وإعانته على ما هو عليه من الحق ورد الحقوق لأهلها، والصبر على ظلمه حتى يُريح الله المسلمين من شره، وعلى هذا أجمع العلماء، فقد قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»: «وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء» وهذا قول الشافعي، كما في «مناقب الشافعي» للبيهقي، وقول أحمد، كما في «الأحكام السلطانية» لأبي يعلى.
هذا قول العلماء، أما هؤلاء الكُتَّاب وأشباههم فإنهم يطالبون بالأكمل -في نظرهم وإن لم يكن كذلك عند العلماء الربانيين- فإن حصل، وإلا فالفوضى وخراب الديار، ولا وسط بينهما، فأي الفريقين أقوم قيلاً، وأهدى سبيلا؟
2- ما قاله عمر بن عبدالعزيز هو الحق، وأين لنا مثل عمر، أو رُبُعه، أو عُشُره؟! لكن العقلاء يقولون: ما لا يُدْرَك كُلّه، لا يُتْرك جُلّه، وكل ما فيه تحصيل خير وتقليل شرٍّ فَثَمَّ شرع الله.
3- ومن يحمل السلاح على الأمة فإثمه على نفسه، ولا نسوِّغ فعله، لكن طاعته في المعروف وفيما يحفظ هيبة الجماعة في بعض الجهات شأن آخر، والناس في هذا الزمان يتحالفون على نقاط مشتركة، وإن اختلفوا في غيرها، فهذه أمريكا عدّة ولايات، وأوربا عدة دول قد اجتمعوا على أمور مشتركة، واختلفوا في أكثر منها، فلماذا لا نفعل هذا مع حُكَّامنا المسلمين؟ فنتعاون معهم في قضايا مشتركة ترضي الله عز وجل، وإن اختلفنا معهم في أمور أخرى!! وقد مثَّلْتُ بأمريكا وأوربا لافتتان كثير من أبنائنا ببرامجهم، وإلا ففي شريعتنا وتاريخ أمتنا كفاية لمن طلب الهداية!!
التعقيب الرابع: ذهب الكاتب إلى الحكم بوضع حديث عبادة المذكور، واستدل على ذلك بأدلة، أذكرها مع جوابها:
1- ذكر أن راوي حديث: «إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان» عند مسلم هو أحمد بن عبدالرحمن بن وهب، وقد خالفه ابن أبي شيبة فروى الحديث بلفظ: «وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم» وأن ابن أبي شيبة ثقة حافظ مصنِّف، وأحمد بن عبدالرحمن قد ضعّفه الأئمة، واستغرب الكاتب من استبدال اللفظ الثاني باللفظ الأول، سائلاً: من المستفيد من ذلك؟
والجواب: لا تعارض بين الروايتين، وليس مخرجهما واحدًا؛ حتى نفزع إلى الترجيح بين الروايتين المذكورتين، فالترجيح عند أهل الحديث يكون عند اتحاد المخرج والمخالفة، وكل من الراويين يروي الحديث عن رواة غير رواة الحديث الآخر، ولم يلتقيا إلا في الصحابي عبادة رضي الله عنه وكلا الحديثين يُستعمل في موضعه، فإن العلماء إذا رأوا من ينادي بالخروج على الحاكم الظالم لمجرد ظلمه مع كونه صاحب شوكة؛ استدلوا باللفظ الأول: «إلا أن تروا كفرًا بواحًا» وإذا أرادوا بيان فضل الصدع بالحق -بما لا يؤول إلى شر أكبر- استدلوا باللفظ الثاني، وهذا هو الفقه في الدين، ووضْع كل حديث في موضعه، أما من حُرم هذه المنزلة؛ فيرى أن هناك تعارضًا، وأن هناك يدًا خفيّة استبدلت هذا بذاك، وقد أُتِيَ هؤلاء من سوء فهمهم، وجسارتهم فيما لا يحسنون، وفي أمور كبار لو عُرضت على عمر؛ لجمع لها أهل الشورى!!
2- ذكر الكاتب أقوال من ضعَّف أحمد بن عبدالرحمن بن وهب، إلا أنه بتر في كثير منها كلام الأئمة، ونقل من كلامهم ما يعجبه، وكتم ما لا يعجبه، وهذه خيانة علمية، وجناية دينية، فليسجلها التاريخ على هذا الكاتب، كما سيظهر للقارئ الكريم:
أ- فقد نقل عن ابن عدي أنه قال: «رأيت شيوخ أهل مصر الذين لحقتهم مجمعين على ضعفه» مع أن ابن عدي ذكر عن بعض شيوخ أهل مصر -وإن لم يدركهم- من عدّله وأثنى عليه، فلماذا لم يُشِرْ الكاتب أدنى إشارة إلى ذلك، وعلى كل حال: فقد وثّقه من شيوخ أهل مصر جماعة -ذكر ابن عدي بعضهم- منهم: محمد بن عبدالله بن عبدالحكم، وعبدالملك بن شعيب بن الليث الفهمي مولاهم، وهارون بن سعيد الأيلي، وأبو الطاهر أحمد بن عمر بن السرح.
بل ابن عدي نفسه دافع عن الرجل، فلماذا لم يذكر الكاتب دفاعه عنه أيضًا، كما نقل عنه الذم موهمًا أنه رأي ابن عدي أيضًا؟ أم أن سياسة الكاتب هي سياسة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير، مثل الذباب يراعي موضع العلل؟!
فقد قال ابن عدي مدافعًا عنه في روايته عن عمه عبدالله بن وهب شيخه في هذا الحديث، ورادًّا دعوى تفرده عن عمه بما لم يتابع عليه، فقال: «وكل ما ينفرد عن عمه بشيء فذلك الذي ينفرد به هو وجدوه عنده وحدَّثهم به» أي وجدوه عند عمه من رواية غيره عن عمه، وقال أيضًا: «وكل ما أنكروه عليه فمحتمل، وإن لم يكن يرويه عن عمه غيره، ولعلّه خصَّه به..» اهـ، أي ما ينفرد به مقبول غير مردود، وإن تفرَّد عن غيره فلكونه ابن أخي شيخه، ولعلّه خصَّه به دون غيره من زملائه لقرابته منه، فهل يليق بالكاتب أن ينقل كلام ابن عدي السابق، ولا يشير أدنى إشارة إلى هذا كله؟!
ب- ومما يدل على تحريف الكاتب وبتره لكلام العلماء حسب ما يهواه، أنه قال: وقال ابن الأخرم: «نحن لا نشك في اختلاطه بعد الخمسين» اهـ هذا، ومع أن الكاتب نقل من «تهذيب التهذيب» وفيه تتمة تدافع عن أحمد بن عبدالرحمن هذا؛ إلا أن دينه وأمانته لم يمنعاه من بترها وإخفائها، حيث أن تتمة الكلام -وهو كلام الحاكم تلميذ ابن الأخرم، ولم يفصله الحافظ ابن حجر-: «وإنما اُبتلي -أي أحمد بن عبدالرحمن- بعد خروج مسلم من مصر» وهذا معناه: أن الاختلاط قد طرأ على أحمد هذا بعد أن أخذ عنه مسلم في زمن استقامته، بل بعد أن خرج من مصر، ولذلك قال الحاكم كما في «المدخل»: «فما نشبِّه حال مسلم معه إلا بحال المتقدمين من أصحاب ابن أبي عروبة، أنهم أخذوا عنه قبل الاختلاط، وكانوا منها على أصلهم الصحيح، فكذلك مسلم أخذ عنه قبل تغيّره واختلاطه» اهـ. فهل بعد هذا نصٌّ صريح في صحة رواية مسلم عن أحمد هذا؟! فإذا كان الكاتب لا يعلم هذا؛ فلماذا يتجاسر على الحكم بوضع حديث أو أحاديث في «الصحيحين» أو أحدهما، وهو لا يعلم بكلام العلماء؟ وإن كان يعلمه؛ فلماذا لا يذكره، حتى يتم الجمع بين ما ظاهره التعارض؟! لقد ظهر لي من خلال الرد على هذا الكاتب أنه يريد إثبات قوله بالحق والباطل، وفي سبيل ذلك يرمي مخالفه بكل حجر ومَدَر!!
ج- ذكر الكاتب أن العلماء أنكروا على أحمد بعض الموضوعات، فاعترف بها، ورجع عنها، وأن البوشنجي كذَّبه لما علم أنه حدَّث بكتاب الفتن عن عمه ابن وهب.
والجواب: إن إنكارهم بعض الموضوعات عليه لا يلزم من ذلك أنها مِنْ وَضْعِهِ وافتعاله، إنما كان ذلك من روايته أحاديث الوضّاعين، وفرق بين وضْع الحديث، ورواية الحديث الموضوع، فالأول صاحبه في أسوأ درجات التجريح، والثاني صاحبه قد يكون صدوقًا ضعيف الحفظ من أصله، أو ممن طرأ عليه اختلاطٌ أو تغيّر حتى ضعف حفظه، وهذا محمول على رواية أحمد لهذه الروايات زمن اختلاطه، وقد سبق أن مسلمًا روى عنه قبل أن تصيبه آفة الاختلاط، فلا يضر ذلك حديث مسلم عنه.
*الأهالي نت
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني - دار الحديث بمأرب
التعقيب الثاني: قوله: «وهناك فرق بين منازعة الأمر أهله، وبين استعادته من مغتصبيه، وإعادته إلى أهله».
والجواب: علماء السنة يقولون: إذا كانت استعادة الأمر إلى أهله بخلع الظالم الجائر، وتولية العدل يمكن أن تتم بلا مفسدة أكبر فلا بأس -وقد يجب ذلك- عملاً بأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما في معناها، وإذا كان كل من الطرفين له شوكة، والمنايا ستحصد المسلمين، ومصالحهم ستتعطل، وبلادهم ستخرب، والأعداء سيُحْكِمون القبضة عليها؛ ففي هذه الحالة يُعمل بأحاديث السمع والطاعة في المعروف، والصبر على الأذى خشية حصول ما هو أكبر منه، مع نصح الحاكم بالطريقة التي تقلل الشر إن لم تعطله، فأي عيب في هذا القول عند من يفهم عن الله أو رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أو عند من له عقل رشيد؟! فنحن لا ننكر إعادة الأمر إلى أهله، بل نتمنى ذلك، لكن بشرط عدم حصول فتنة أكبر، ولا يجوز أن نجعل مصير البلاد ومستقبلها حقل تجارب!!
التعقيب الثالث: ذكر الكاتب أن طاعة أولي الأمر تكون إذا أدوا الأمانات إلى أهلها، وإلا فلا، ومن ذلك رد أمانة الحكم إلى عامة الناس، واستدل بقول عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- لما تولى: «أيها الناس، إني لستُ بمبتدع، ولكني متّبع، وإن مَنْ حولكم مِنَ الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم؛ فأنا واليكم، وإن هم أبوْا؛ فلسْتُ لكم بوال» وذكر مجيب الحميدي أن ولاة الأمر هم من نختارهم، لا من يحملون علينا السلاح، يعني أن المتغلِّب عليها بشوكته لا يكون ولي أمره!!
والجواب من وجوه:
1- معلوم أن ولي الأمر يتولى في تاريخ أمتنا وسيرة خلفائنا بإحدى هذه الحالات:
أ- أن يختاره أهل الحل والعقد، وهذه الحالة أكمل طريقة إن تيسرت، ولها شروط يراعيها العلماء وأهل الحل والعقد فيمن يختارونه.
ب- أن يستخلف الحاكم الذي قبله للأمة من يخلفه عليهم، إما لأنه أفضل مَنْ بعده، أو لدرء فتنة محتملة لو تُرك الأمر بدون استخلاف، وهذه الحالة عند درء الفتنة المتوقعة أفضل؛ لأنه قد لا يتم الاتفاق للأكثرية على الاختيار لتحيّز كل الناس إلى فئته، فيقع المحظور قبل الاختيار.
ج- أن يتغلب عليها بشوكته وأنصاره، حتى يفرض نفسه على الناس، وإن لم يتوافر فيه كثير من الشروط، فإن تحيق مقصود الولاية من حقن الدماء، وتسكين الدهماء أولى من مراعاة مكملاتها.
والكاتب يعني الحالة الأخيرة، وهي وإن لم تكن الطريقة الشرعية المختارة؛ إلا أن العلماء لما رأوا شوكه المتغِّلب وقوته، وأن من بقي مناوئًا له من أهل الحل والعقد لهم شوكة وقوة أيضًا، وأن الجميع سيحصد بعضهم بعضًا، فيكون ذلك أسرع في استئصال المسلمين، ونزع هيبتهم؛ أفتوا بالسمع والطاعة له في المعروف، وإعانته على ما هو عليه من الحق ورد الحقوق لأهلها، والصبر على ظلمه حتى يُريح الله المسلمين من شره، وعلى هذا أجمع العلماء، فقد قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»: «وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء» وهذا قول الشافعي، كما في «مناقب الشافعي» للبيهقي، وقول أحمد، كما في «الأحكام السلطانية» لأبي يعلى.
هذا قول العلماء، أما هؤلاء الكُتَّاب وأشباههم فإنهم يطالبون بالأكمل -في نظرهم وإن لم يكن كذلك عند العلماء الربانيين- فإن حصل، وإلا فالفوضى وخراب الديار، ولا وسط بينهما، فأي الفريقين أقوم قيلاً، وأهدى سبيلا؟
2- ما قاله عمر بن عبدالعزيز هو الحق، وأين لنا مثل عمر، أو رُبُعه، أو عُشُره؟! لكن العقلاء يقولون: ما لا يُدْرَك كُلّه، لا يُتْرك جُلّه، وكل ما فيه تحصيل خير وتقليل شرٍّ فَثَمَّ شرع الله.
3- ومن يحمل السلاح على الأمة فإثمه على نفسه، ولا نسوِّغ فعله، لكن طاعته في المعروف وفيما يحفظ هيبة الجماعة في بعض الجهات شأن آخر، والناس في هذا الزمان يتحالفون على نقاط مشتركة، وإن اختلفوا في غيرها، فهذه أمريكا عدّة ولايات، وأوربا عدة دول قد اجتمعوا على أمور مشتركة، واختلفوا في أكثر منها، فلماذا لا نفعل هذا مع حُكَّامنا المسلمين؟ فنتعاون معهم في قضايا مشتركة ترضي الله عز وجل، وإن اختلفنا معهم في أمور أخرى!! وقد مثَّلْتُ بأمريكا وأوربا لافتتان كثير من أبنائنا ببرامجهم، وإلا ففي شريعتنا وتاريخ أمتنا كفاية لمن طلب الهداية!!
التعقيب الرابع: ذهب الكاتب إلى الحكم بوضع حديث عبادة المذكور، واستدل على ذلك بأدلة، أذكرها مع جوابها:
1- ذكر أن راوي حديث: «إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان» عند مسلم هو أحمد بن عبدالرحمن بن وهب، وقد خالفه ابن أبي شيبة فروى الحديث بلفظ: «وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم» وأن ابن أبي شيبة ثقة حافظ مصنِّف، وأحمد بن عبدالرحمن قد ضعّفه الأئمة، واستغرب الكاتب من استبدال اللفظ الثاني باللفظ الأول، سائلاً: من المستفيد من ذلك؟
والجواب: لا تعارض بين الروايتين، وليس مخرجهما واحدًا؛ حتى نفزع إلى الترجيح بين الروايتين المذكورتين، فالترجيح عند أهل الحديث يكون عند اتحاد المخرج والمخالفة، وكل من الراويين يروي الحديث عن رواة غير رواة الحديث الآخر، ولم يلتقيا إلا في الصحابي عبادة رضي الله عنه وكلا الحديثين يُستعمل في موضعه، فإن العلماء إذا رأوا من ينادي بالخروج على الحاكم الظالم لمجرد ظلمه مع كونه صاحب شوكة؛ استدلوا باللفظ الأول: «إلا أن تروا كفرًا بواحًا» وإذا أرادوا بيان فضل الصدع بالحق -بما لا يؤول إلى شر أكبر- استدلوا باللفظ الثاني، وهذا هو الفقه في الدين، ووضْع كل حديث في موضعه، أما من حُرم هذه المنزلة؛ فيرى أن هناك تعارضًا، وأن هناك يدًا خفيّة استبدلت هذا بذاك، وقد أُتِيَ هؤلاء من سوء فهمهم، وجسارتهم فيما لا يحسنون، وفي أمور كبار لو عُرضت على عمر؛ لجمع لها أهل الشورى!!
2- ذكر الكاتب أقوال من ضعَّف أحمد بن عبدالرحمن بن وهب، إلا أنه بتر في كثير منها كلام الأئمة، ونقل من كلامهم ما يعجبه، وكتم ما لا يعجبه، وهذه خيانة علمية، وجناية دينية، فليسجلها التاريخ على هذا الكاتب، كما سيظهر للقارئ الكريم:
أ- فقد نقل عن ابن عدي أنه قال: «رأيت شيوخ أهل مصر الذين لحقتهم مجمعين على ضعفه» مع أن ابن عدي ذكر عن بعض شيوخ أهل مصر -وإن لم يدركهم- من عدّله وأثنى عليه، فلماذا لم يُشِرْ الكاتب أدنى إشارة إلى ذلك، وعلى كل حال: فقد وثّقه من شيوخ أهل مصر جماعة -ذكر ابن عدي بعضهم- منهم: محمد بن عبدالله بن عبدالحكم، وعبدالملك بن شعيب بن الليث الفهمي مولاهم، وهارون بن سعيد الأيلي، وأبو الطاهر أحمد بن عمر بن السرح.
بل ابن عدي نفسه دافع عن الرجل، فلماذا لم يذكر الكاتب دفاعه عنه أيضًا، كما نقل عنه الذم موهمًا أنه رأي ابن عدي أيضًا؟ أم أن سياسة الكاتب هي سياسة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير، مثل الذباب يراعي موضع العلل؟!
فقد قال ابن عدي مدافعًا عنه في روايته عن عمه عبدالله بن وهب شيخه في هذا الحديث، ورادًّا دعوى تفرده عن عمه بما لم يتابع عليه، فقال: «وكل ما ينفرد عن عمه بشيء فذلك الذي ينفرد به هو وجدوه عنده وحدَّثهم به» أي وجدوه عند عمه من رواية غيره عن عمه، وقال أيضًا: «وكل ما أنكروه عليه فمحتمل، وإن لم يكن يرويه عن عمه غيره، ولعلّه خصَّه به..» اهـ، أي ما ينفرد به مقبول غير مردود، وإن تفرَّد عن غيره فلكونه ابن أخي شيخه، ولعلّه خصَّه به دون غيره من زملائه لقرابته منه، فهل يليق بالكاتب أن ينقل كلام ابن عدي السابق، ولا يشير أدنى إشارة إلى هذا كله؟!
ب- ومما يدل على تحريف الكاتب وبتره لكلام العلماء حسب ما يهواه، أنه قال: وقال ابن الأخرم: «نحن لا نشك في اختلاطه بعد الخمسين» اهـ هذا، ومع أن الكاتب نقل من «تهذيب التهذيب» وفيه تتمة تدافع عن أحمد بن عبدالرحمن هذا؛ إلا أن دينه وأمانته لم يمنعاه من بترها وإخفائها، حيث أن تتمة الكلام -وهو كلام الحاكم تلميذ ابن الأخرم، ولم يفصله الحافظ ابن حجر-: «وإنما اُبتلي -أي أحمد بن عبدالرحمن- بعد خروج مسلم من مصر» وهذا معناه: أن الاختلاط قد طرأ على أحمد هذا بعد أن أخذ عنه مسلم في زمن استقامته، بل بعد أن خرج من مصر، ولذلك قال الحاكم كما في «المدخل»: «فما نشبِّه حال مسلم معه إلا بحال المتقدمين من أصحاب ابن أبي عروبة، أنهم أخذوا عنه قبل الاختلاط، وكانوا منها على أصلهم الصحيح، فكذلك مسلم أخذ عنه قبل تغيّره واختلاطه» اهـ. فهل بعد هذا نصٌّ صريح في صحة رواية مسلم عن أحمد هذا؟! فإذا كان الكاتب لا يعلم هذا؛ فلماذا يتجاسر على الحكم بوضع حديث أو أحاديث في «الصحيحين» أو أحدهما، وهو لا يعلم بكلام العلماء؟ وإن كان يعلمه؛ فلماذا لا يذكره، حتى يتم الجمع بين ما ظاهره التعارض؟! لقد ظهر لي من خلال الرد على هذا الكاتب أنه يريد إثبات قوله بالحق والباطل، وفي سبيل ذلك يرمي مخالفه بكل حجر ومَدَر!!
ج- ذكر الكاتب أن العلماء أنكروا على أحمد بعض الموضوعات، فاعترف بها، ورجع عنها، وأن البوشنجي كذَّبه لما علم أنه حدَّث بكتاب الفتن عن عمه ابن وهب.
والجواب: إن إنكارهم بعض الموضوعات عليه لا يلزم من ذلك أنها مِنْ وَضْعِهِ وافتعاله، إنما كان ذلك من روايته أحاديث الوضّاعين، وفرق بين وضْع الحديث، ورواية الحديث الموضوع، فالأول صاحبه في أسوأ درجات التجريح، والثاني صاحبه قد يكون صدوقًا ضعيف الحفظ من أصله، أو ممن طرأ عليه اختلاطٌ أو تغيّر حتى ضعف حفظه، وهذا محمول على رواية أحمد لهذه الروايات زمن اختلاطه، وقد سبق أن مسلمًا روى عنه قبل أن تصيبه آفة الاختلاط، فلا يضر ذلك حديث مسلم عنه.
*الأهالي نت