لبرلة السلفية (1/3)
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد فقد اطلعت على حوارات الأستاذ / ساري الزهراني المسؤول عن ملحق الرسالة مع الأستاذ / محمد علي المحمود حول الليبرالية وقيمها ، ولقد ساءني ما اطلعت عليه من تصريحات عنيفة ، وتعبيرات غليظة ، ما كنت أظن أن تصدر من شخص يدعو إلى الحوار والنقد البناء ، ثم ما يلبث أن (يصيح)- كما ذكر – في وجه من اختلفوا معه ؛ لأنه يصنفهم – حسب رأيه - في قالبين لا ثالث لهما : إما الجهل ، وإما العداء!
ولقد حظي جمع من أصحاب الأطروحات المخالفة للوجهة الإسلامية بحفاوة بعض المنظمات العالمية والجهات المشبوهة ، ليس ذلك لكونهم أتوا بجديد بنّاء ، وإنما لشجاعتهم في نقد وجهة المجتمع الدينية نيابة عن الأجنبي المرفوض اجتماعياً .
وإني لأتساءل متعجباً ما مصلحة الأستاذ / المحمود في تكريس الثقافة الغربية ـ ممثلة في القيم الليبرالية ـ في مجتمع يدين بالإسلام ، ويعتقد أهله أن الله قد كفاهم بالقرآن والسنة ما يحتاجونه من القيم الشاملة التي يصلح بها حال الإنسان صلاحاً عاماً، في وقت كفر فيه كثير من المسلمين المتغرّبين ـ فضلاً عن المتدينين ـ بالقيم الغربية وادِّعاءاتها بعد حربي العراق وغزة ، فلماذا يريد الأستاذ /المحمود أن يحشرنا معه في جحر الضب ، وقد حذرنا رسول الله من سنن اليهود المغضوب عليهم ، والنصارى الضالين ، والمسلم يدعو في كل ركعة من صلاته بذلك ، ويسأل الله الهداية إلى الصراط المستقيم ، فهل الليبرالية – عند الأستاذ / المحمود - هي الصراط المستقيم الذي نتحراه في دعائنا ؟ لاسيما وقد حذرنا المولى عز وجل من أهل الكتاب ، وأمرنا بمخالفتهم ، وعدم التشبه بهم حتى على مستوى الألفاظ : ( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) ، فكيف يسوغ بعد هذا أن يتجاوز الأستاذ / المحمود إلى أن تكون الليبرالية قالباً يحمل الإسلام ، ومنهجاً للتفكير والنظر ، بل منهجاً للحياة قاطبة ؟
لقد شنّ الأستاذ / المحمود حرباً ضروساً على من أسماهم بالتقليديين ، فلم يستثن أحداً ، وكال لهم التهم التي لا تليق بعامة الناس فضلاً عن العلماء والمشايخ والدعاة ، وإني أسأل الأستاذ / المحمود من هم الذين أمرنا الله بسؤالهم والرجوع إليهم من أهل الذكر ؟ من للفتوى والقضاء والمنابر والدعوة إذا أقصي هؤلاء ، إلا أن يكون عند الأستاذ / المحمود فريق كامل من علماء الليبرالية يقومون مقامهم في التعليم والفتوى والقضاء والإمامة ، والعجيب أنه في الوقت الذي يصف فيه التقليديين بأبشع الصفات : يصف نفسه - معجباً بها ويمدحها - بالعقل والعلم والخبرة ، ولا يخطئ القارئ في تعبيراته حجم التعالي والغرور ، والاستخفاف بالآخرين ، حتى من ذوي رحمه ؛ فقد صرح بعدم حرصه على استمرار علاقته بهم إذا لم يجاملوه في أطروحاته، فهم بالنسبة له مضيعة للوقت !
وأما التراث الإسلامي فلم يسلم من ذمه واستنقاصه ، ودعوته للإعراض عنه بالكلية وتجاوزه إلى الليبرالية ، حتى إنه يستنكر على العلماء ارتباطهم بالسلف ، ويرفض إيراد أسماء كالشافعي وأحمد ابن تيمية والشاطبي والقرطبي ونحوهم من (الماضوية)، في الوقت الذي يسمح لنفسه أن يكون ليبرالياً سلفياً ، فيرجع باستشهاداته إلى القرنين الميلاديين الماضيين ، ويشيد بإنجازات الليبرالية فيهما ، باعتبارهما كنوزاً حضارية ، لا يتصور الاستغناء عنها للنهضة الإسلامية المعاصرة ، فلا يخطئ القارئ رؤية الأسماء التي يستشهد بها الليبراليون مثل : روسو ، فولتير ، مونتسكيو ، لوك ، وملْ ونحوهم ، بل ربما تجاوز ذلك إلى جذور الليبرالية في العمق التاريخي للثقافة الغربية، متخطياً بذلك عصر النبوة والراشدين ، وتراث الأمة الإسلامي الثقافي ، وقد سبق للأستاذ / المحمود مقالات جريئة في جريدة الرياض تحمل – للأسف – هذا النفَس ، وتسعى بقوة لتطابق بين وضع أوروبا في العصور الوسطى المظلمة وبين تاريخ المسلمين ، حتى إنه زعم أن المسلمين يعيشون في العصور الإسلامية المظلمة منذ عشرة قرون ، مشبهاً حال المسلمين اليوم مع المؤسسة الدينية (التقليدية) كحال النصارى زمن تسلط الكنيسة الأوروبية عليهم ، ولهذا يرى أن تغيير الوضع يتطلب قروناً من الكفاح ضد الاتجاه الإسلامي التقليدي كما فعل الأوروبيون مع الكنيسة !
وربما تجاوز اسنتقاصه لعلماء المسلمين القرون العشرة الأخيرة ليصل إلى القرون المفضلة ؛ فيرفض الشافعي وأحمد ويقول : (مقولات هؤلاء هي مقولات تاريخية متواضعة ، لم تستطع توفير الاحتياجات لعصرها ، فكيف تجيب على إشكاليات معاصرة ، تفصلها عنها ثمانية أو عشرة قرون ؟) ، بل تجاوز ذلك ليشبّه بين نقل فقه السابقين وعلومهم ، والحديث عنه في هذا العصر ، وبين سؤال الموتى في قبورهم والتوسل بهم ، حتى إنه ينادي بإعادة قراءة النصوص الشرعية بعيداً عن الآليات التي وضعها السلف (الماضويون) ؛ وخصّ أصول الفقه التي وضعها الشافعي بضرورة تجاوزها ، والسعي في التجديد في كل ذلك بما يناسب العصر الذي نعيش فيه ، فلم يبق الأستاذ / المحمود من تراث الأمة الشرعي إلا الكتاب والسنة مجردين عن علومهما ، فيدرس الكتاب مجرداً من التفسير وعلوم القرآن ، وتدرس السنة مجردة عن علوم الحديث ، ويدرس الفقه مجرداً عن أصوله وهكذا.. ، ثم تنتظر الأمة حتى يأتي الليبراليون ليضعوا لها آليات جديدة تناسب العصر لفهم الكتاب والسنة ، وكأني بالأستاذ / المحمود يأتي على شجرة قائمة فيقطع فروعها وساقها ، ويبقي لها جذورها ، زاعماً بذلك أنه يجدد نشاطها، ويحييها من جديد .
إن من الحقائق التي يعرفها العقلاء أن الحق لا علاقة له بالقدم أو الحداثة ، وإنما الحق ما وافق الصواب الذي دل عليه الدليل الشرعي الصحيح في نفسه ، والصريح في مدلوله ، وإلا فإن القرآن والسنة أقدم ما نملك ، وهما مع ذلك الحق المطلق المعصوم الذي لا يقبل الخطأ ، فمسألة الحق لا علاقة لها بالتاريخ .
وأما العلوم والمعارف والمفاهيم التي نتجت من تفاعل المجتهد المسلم مع النصوص الشرعية فإنها تنال نصيباً من هذه العصمة بقدر حظها من موافقة هذه النصوص في مدلولاتها ومقاصدها ؛ فإن من احترم النصوص ، واجتهد في فهمها والعمل بها : قلّما يجانبه الصواب ، ولو قدر أنه أخطأ فلا إثم عليه ، ولهذا إذا توافقت أقوال المجتهدين جميعاً في مسألة فهي عين الصواب الذي يلزم الأمة الاعتقاد والعمل به ، فيكتسب قولهم الذي اتفقوا عليه العصمة في أقوى صورها ، فلا يتصور لمن بعدهم مخالفتهم ، ومن هنا فلا يصح للأستاذ / المحمود أن يفصل بين الوحيين : الكتاب والسنة، وبين العلوم والمعارف والمفاهيم التي ارتبطت بهما ، حين أصبحت جزءاً من الدين.
ومع ذلك فإن فهم الكتاب والسنة وخدمتهما ليست حكراً على أحد بعينه في القديم أو الحديث ، وباب الاجتهاد الشرعي مفتوح للقادرين المؤهلين من أهل الاختصاص في كل عصر ، فلو أن حكمة علمية صالحة صدرت عن مستشرق نصراني – فضلاً عن ليبرالي عربي – فإنها مقبولة ، يلتقطها المسلم ، ويدخلها ضمن تراثه الشرعي ، ولقد انتفع الباحثون الشرعيون من بعض المستشرقين الجادين في خدمة العلم، من الذين خدموا الكتاب والسنة ، فلم تُرفض جهودهم الصادقة لكونهم غير مسلمين ، ويا ليت الليبراليين العرب يقدموا خدمة للكتاب والسنة كما قدم بعض هؤلاء المستشرقين ، بدلاً من أن يسعوا لتجريدهما من علومهما الضابطة ليصبحا نهباً للمرتزقة المتطفلين على العلم .
وعليه فأي عيب يلحق المسلم المعاصر حين يستلهم فقه الآخرين ، من الماضين أو المعاصرين ، لحل بعض مشكلاته المعاصرة ، ما دام أن فقههم ضمن الحكمة المطابقة للواقع، فتقليد المجتهد المتفق على إمامته ، لاسيما من أصحاب المذاهب الإسلامية الكبرى أولى ألف مرة من اجتهاد القاصر المعاصر الذي لم يبلغ مبلغهم ، ولا يفهم من هذا ألا يجتهد العلماء المعاصرون خارج فقه السلف – حتى وإن لم يبلغوا مبلغهم – فيما لم يجدوا فيه عند المتقدمين فقهاً شافياً يطابق النازلة القائمة ، ولا أعرف بين العلماء المعتبرين من المعاصرين من يقول بغير هذا ، فيلزم الأمة بمطلق التقليد ، وإنما يحرمون على المتعالمين الخروج بالفقه عن أطره الشرعية ، وضوابطه العلمية ليصبح محكوماً بالأهواء الشخصية ، ولو أمكن الأستاذ / المحمود أن يجدد للمسلمين المعاصرين أصول الفقه ، فيضع له منهجاً جديداً ، يضاهي ما وضعه الشافعي ، أو من هم دونه من الأصوليين : فإن الباحثين عن الحكمة لن يترددوا في الأخذ به ، والاستفادة منه ، ولـمّا يصدر مثل هذا الجهد الجليل من الأستاذ / المحمود فسوف يُبقي العلماء المعاصرون على ما عندهم من كتب الأصول القديمة .
لقد عودنا الليبراليون الهدم ، فقد أتقنوه غاية الإتقان ، أما البناء فهذا ما لم يشرعوا فيه بعد ، فلو أخذنا بنصيحة الأستاذ / المحمود في الإعراض عن علوم الشريعة التي ارتبطت بالكتاب والسنة : فإنا سوف ننتقل منها إلى لا شيء ! فنواجه الكتاب والسنة مجردين عن آلاتهما للنظر والضبط والاستنباط ، منفصلين عن التراث التشريعي المتراكم عبر القرون ، فبأي فقه سوف يحكم القضاة في المحاكم ، وبأي علم سوف يفتي العلماء ، إن أحدهم – ضمن هذا الوضع المبتور - إذا عرضت عليه القضية أو المسألة احتاج معها إلى استقراء الكتاب والسنة ، فيدخل عليهما كما دخل فقهاء الصحابة والأئمة المجتهدون ، وهذا مقام لا يعرف عن أحد من المعاصرين ، ولا ادّعاه أحد منهم، بحيث يتحول كل عالم وقاض إلى إمام مستقل باجتهاده لا يراجع غيره ، في عصر تعقدت فيه العلوم والمعارف وتداخلت ، حتى احتاج فيه العلماء لصواب الفتوى إلى الفقه الجماعي ، من خلال مجمعات فقهية كبرى ، ويأتي الأستاذ / المحمود بجرة قلم ليلغي هذا التراث ، وينصحنا بتقليده في اجتهاداته الخاصة !
أليس بجميل في حسّ الأستاذ / المحمود أن يشيد جمع كبير من الباحثين الاقتصاديين ، والسياسيين الغربيين بالمصرفية الإسلامية – رغم الملاحظات الشرعية التي تكتنف جوانب منها – ففي الوقت الذي تستفتي فيه الليبرالية الغربية تراثنا الاقتصادي للخروج من الأزمة المالية المعاصرة : يتوجه الأستاذ / المحمود نحو الليبرالية الغربية لحل إشكالية تراثنا الثقافي !
والغريب في شأن الأستاذ / المحمود – رغم عقوقه الشديد في حق تاريخ الأمة التشريعي – فإنه مع ذلك يستشهد في بعض الأحيان بعلماء السلف (الماضويين) ، ويصفهم بالجمهور على طريقة الفقهاء ، ويطالب العلماء التقليديين المعاصرين بإتباعهم؛ وذلك حين استشهد بمذهب الجمهور على جواز كشف وجه المرأة ، فأين يريد أن يسوقنا الأستاذ /المحمود في متاهته الغامضة ؟
إن من أخطر أطروحات الأستاذ / المحمود اعتقاده أن النصوص الشرعية غير شاملة ، باعتبارها نصوص محدودة ، في مقابل أن الواقع بمتغيراته الكثيرة غير محدود ، ويرفض معتقد الفقهاء بشمول أحكام الشريعة لكل شيء : ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، فيزعم أن هذا إقحام للنص في غير موضعه ، وتحميله ما لا يحتمل ، ولهذا يرى أن عصر التنزيل غير عصرنا ، فالمرأة في ذلك الوقت غير المرأة الآن ، وهذا الاتجاه من الأستاذ / المحمود يستلزم استنقاص الشريعة بحجة عدم قدرتها على مواكبة العصر ، والحقيقة : أن طبيعة أحكام الشريعة الإسلامية الخاتمة غير متناهية ، بمعنى أن عطاءها العلمي غير محدود ، واستجابتها – بصورة دائمة - لحاجات الناس في كل عصر لا تتوقف ، ما داموا يستفتونها ، ويرجعون إليها .
د0عدنان حسن باحارث
جامعة أم القرى
www.bahareth.org
*تربيتنا
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد فقد اطلعت على حوارات الأستاذ / ساري الزهراني المسؤول عن ملحق الرسالة مع الأستاذ / محمد علي المحمود حول الليبرالية وقيمها ، ولقد ساءني ما اطلعت عليه من تصريحات عنيفة ، وتعبيرات غليظة ، ما كنت أظن أن تصدر من شخص يدعو إلى الحوار والنقد البناء ، ثم ما يلبث أن (يصيح)- كما ذكر – في وجه من اختلفوا معه ؛ لأنه يصنفهم – حسب رأيه - في قالبين لا ثالث لهما : إما الجهل ، وإما العداء!
ولقد حظي جمع من أصحاب الأطروحات المخالفة للوجهة الإسلامية بحفاوة بعض المنظمات العالمية والجهات المشبوهة ، ليس ذلك لكونهم أتوا بجديد بنّاء ، وإنما لشجاعتهم في نقد وجهة المجتمع الدينية نيابة عن الأجنبي المرفوض اجتماعياً .
وإني لأتساءل متعجباً ما مصلحة الأستاذ / المحمود في تكريس الثقافة الغربية ـ ممثلة في القيم الليبرالية ـ في مجتمع يدين بالإسلام ، ويعتقد أهله أن الله قد كفاهم بالقرآن والسنة ما يحتاجونه من القيم الشاملة التي يصلح بها حال الإنسان صلاحاً عاماً، في وقت كفر فيه كثير من المسلمين المتغرّبين ـ فضلاً عن المتدينين ـ بالقيم الغربية وادِّعاءاتها بعد حربي العراق وغزة ، فلماذا يريد الأستاذ /المحمود أن يحشرنا معه في جحر الضب ، وقد حذرنا رسول الله من سنن اليهود المغضوب عليهم ، والنصارى الضالين ، والمسلم يدعو في كل ركعة من صلاته بذلك ، ويسأل الله الهداية إلى الصراط المستقيم ، فهل الليبرالية – عند الأستاذ / المحمود - هي الصراط المستقيم الذي نتحراه في دعائنا ؟ لاسيما وقد حذرنا المولى عز وجل من أهل الكتاب ، وأمرنا بمخالفتهم ، وعدم التشبه بهم حتى على مستوى الألفاظ : ( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) ، فكيف يسوغ بعد هذا أن يتجاوز الأستاذ / المحمود إلى أن تكون الليبرالية قالباً يحمل الإسلام ، ومنهجاً للتفكير والنظر ، بل منهجاً للحياة قاطبة ؟
لقد شنّ الأستاذ / المحمود حرباً ضروساً على من أسماهم بالتقليديين ، فلم يستثن أحداً ، وكال لهم التهم التي لا تليق بعامة الناس فضلاً عن العلماء والمشايخ والدعاة ، وإني أسأل الأستاذ / المحمود من هم الذين أمرنا الله بسؤالهم والرجوع إليهم من أهل الذكر ؟ من للفتوى والقضاء والمنابر والدعوة إذا أقصي هؤلاء ، إلا أن يكون عند الأستاذ / المحمود فريق كامل من علماء الليبرالية يقومون مقامهم في التعليم والفتوى والقضاء والإمامة ، والعجيب أنه في الوقت الذي يصف فيه التقليديين بأبشع الصفات : يصف نفسه - معجباً بها ويمدحها - بالعقل والعلم والخبرة ، ولا يخطئ القارئ في تعبيراته حجم التعالي والغرور ، والاستخفاف بالآخرين ، حتى من ذوي رحمه ؛ فقد صرح بعدم حرصه على استمرار علاقته بهم إذا لم يجاملوه في أطروحاته، فهم بالنسبة له مضيعة للوقت !
وأما التراث الإسلامي فلم يسلم من ذمه واستنقاصه ، ودعوته للإعراض عنه بالكلية وتجاوزه إلى الليبرالية ، حتى إنه يستنكر على العلماء ارتباطهم بالسلف ، ويرفض إيراد أسماء كالشافعي وأحمد ابن تيمية والشاطبي والقرطبي ونحوهم من (الماضوية)، في الوقت الذي يسمح لنفسه أن يكون ليبرالياً سلفياً ، فيرجع باستشهاداته إلى القرنين الميلاديين الماضيين ، ويشيد بإنجازات الليبرالية فيهما ، باعتبارهما كنوزاً حضارية ، لا يتصور الاستغناء عنها للنهضة الإسلامية المعاصرة ، فلا يخطئ القارئ رؤية الأسماء التي يستشهد بها الليبراليون مثل : روسو ، فولتير ، مونتسكيو ، لوك ، وملْ ونحوهم ، بل ربما تجاوز ذلك إلى جذور الليبرالية في العمق التاريخي للثقافة الغربية، متخطياً بذلك عصر النبوة والراشدين ، وتراث الأمة الإسلامي الثقافي ، وقد سبق للأستاذ / المحمود مقالات جريئة في جريدة الرياض تحمل – للأسف – هذا النفَس ، وتسعى بقوة لتطابق بين وضع أوروبا في العصور الوسطى المظلمة وبين تاريخ المسلمين ، حتى إنه زعم أن المسلمين يعيشون في العصور الإسلامية المظلمة منذ عشرة قرون ، مشبهاً حال المسلمين اليوم مع المؤسسة الدينية (التقليدية) كحال النصارى زمن تسلط الكنيسة الأوروبية عليهم ، ولهذا يرى أن تغيير الوضع يتطلب قروناً من الكفاح ضد الاتجاه الإسلامي التقليدي كما فعل الأوروبيون مع الكنيسة !
وربما تجاوز اسنتقاصه لعلماء المسلمين القرون العشرة الأخيرة ليصل إلى القرون المفضلة ؛ فيرفض الشافعي وأحمد ويقول : (مقولات هؤلاء هي مقولات تاريخية متواضعة ، لم تستطع توفير الاحتياجات لعصرها ، فكيف تجيب على إشكاليات معاصرة ، تفصلها عنها ثمانية أو عشرة قرون ؟) ، بل تجاوز ذلك ليشبّه بين نقل فقه السابقين وعلومهم ، والحديث عنه في هذا العصر ، وبين سؤال الموتى في قبورهم والتوسل بهم ، حتى إنه ينادي بإعادة قراءة النصوص الشرعية بعيداً عن الآليات التي وضعها السلف (الماضويون) ؛ وخصّ أصول الفقه التي وضعها الشافعي بضرورة تجاوزها ، والسعي في التجديد في كل ذلك بما يناسب العصر الذي نعيش فيه ، فلم يبق الأستاذ / المحمود من تراث الأمة الشرعي إلا الكتاب والسنة مجردين عن علومهما ، فيدرس الكتاب مجرداً من التفسير وعلوم القرآن ، وتدرس السنة مجردة عن علوم الحديث ، ويدرس الفقه مجرداً عن أصوله وهكذا.. ، ثم تنتظر الأمة حتى يأتي الليبراليون ليضعوا لها آليات جديدة تناسب العصر لفهم الكتاب والسنة ، وكأني بالأستاذ / المحمود يأتي على شجرة قائمة فيقطع فروعها وساقها ، ويبقي لها جذورها ، زاعماً بذلك أنه يجدد نشاطها، ويحييها من جديد .
إن من الحقائق التي يعرفها العقلاء أن الحق لا علاقة له بالقدم أو الحداثة ، وإنما الحق ما وافق الصواب الذي دل عليه الدليل الشرعي الصحيح في نفسه ، والصريح في مدلوله ، وإلا فإن القرآن والسنة أقدم ما نملك ، وهما مع ذلك الحق المطلق المعصوم الذي لا يقبل الخطأ ، فمسألة الحق لا علاقة لها بالتاريخ .
وأما العلوم والمعارف والمفاهيم التي نتجت من تفاعل المجتهد المسلم مع النصوص الشرعية فإنها تنال نصيباً من هذه العصمة بقدر حظها من موافقة هذه النصوص في مدلولاتها ومقاصدها ؛ فإن من احترم النصوص ، واجتهد في فهمها والعمل بها : قلّما يجانبه الصواب ، ولو قدر أنه أخطأ فلا إثم عليه ، ولهذا إذا توافقت أقوال المجتهدين جميعاً في مسألة فهي عين الصواب الذي يلزم الأمة الاعتقاد والعمل به ، فيكتسب قولهم الذي اتفقوا عليه العصمة في أقوى صورها ، فلا يتصور لمن بعدهم مخالفتهم ، ومن هنا فلا يصح للأستاذ / المحمود أن يفصل بين الوحيين : الكتاب والسنة، وبين العلوم والمعارف والمفاهيم التي ارتبطت بهما ، حين أصبحت جزءاً من الدين.
ومع ذلك فإن فهم الكتاب والسنة وخدمتهما ليست حكراً على أحد بعينه في القديم أو الحديث ، وباب الاجتهاد الشرعي مفتوح للقادرين المؤهلين من أهل الاختصاص في كل عصر ، فلو أن حكمة علمية صالحة صدرت عن مستشرق نصراني – فضلاً عن ليبرالي عربي – فإنها مقبولة ، يلتقطها المسلم ، ويدخلها ضمن تراثه الشرعي ، ولقد انتفع الباحثون الشرعيون من بعض المستشرقين الجادين في خدمة العلم، من الذين خدموا الكتاب والسنة ، فلم تُرفض جهودهم الصادقة لكونهم غير مسلمين ، ويا ليت الليبراليين العرب يقدموا خدمة للكتاب والسنة كما قدم بعض هؤلاء المستشرقين ، بدلاً من أن يسعوا لتجريدهما من علومهما الضابطة ليصبحا نهباً للمرتزقة المتطفلين على العلم .
وعليه فأي عيب يلحق المسلم المعاصر حين يستلهم فقه الآخرين ، من الماضين أو المعاصرين ، لحل بعض مشكلاته المعاصرة ، ما دام أن فقههم ضمن الحكمة المطابقة للواقع، فتقليد المجتهد المتفق على إمامته ، لاسيما من أصحاب المذاهب الإسلامية الكبرى أولى ألف مرة من اجتهاد القاصر المعاصر الذي لم يبلغ مبلغهم ، ولا يفهم من هذا ألا يجتهد العلماء المعاصرون خارج فقه السلف – حتى وإن لم يبلغوا مبلغهم – فيما لم يجدوا فيه عند المتقدمين فقهاً شافياً يطابق النازلة القائمة ، ولا أعرف بين العلماء المعتبرين من المعاصرين من يقول بغير هذا ، فيلزم الأمة بمطلق التقليد ، وإنما يحرمون على المتعالمين الخروج بالفقه عن أطره الشرعية ، وضوابطه العلمية ليصبح محكوماً بالأهواء الشخصية ، ولو أمكن الأستاذ / المحمود أن يجدد للمسلمين المعاصرين أصول الفقه ، فيضع له منهجاً جديداً ، يضاهي ما وضعه الشافعي ، أو من هم دونه من الأصوليين : فإن الباحثين عن الحكمة لن يترددوا في الأخذ به ، والاستفادة منه ، ولـمّا يصدر مثل هذا الجهد الجليل من الأستاذ / المحمود فسوف يُبقي العلماء المعاصرون على ما عندهم من كتب الأصول القديمة .
لقد عودنا الليبراليون الهدم ، فقد أتقنوه غاية الإتقان ، أما البناء فهذا ما لم يشرعوا فيه بعد ، فلو أخذنا بنصيحة الأستاذ / المحمود في الإعراض عن علوم الشريعة التي ارتبطت بالكتاب والسنة : فإنا سوف ننتقل منها إلى لا شيء ! فنواجه الكتاب والسنة مجردين عن آلاتهما للنظر والضبط والاستنباط ، منفصلين عن التراث التشريعي المتراكم عبر القرون ، فبأي فقه سوف يحكم القضاة في المحاكم ، وبأي علم سوف يفتي العلماء ، إن أحدهم – ضمن هذا الوضع المبتور - إذا عرضت عليه القضية أو المسألة احتاج معها إلى استقراء الكتاب والسنة ، فيدخل عليهما كما دخل فقهاء الصحابة والأئمة المجتهدون ، وهذا مقام لا يعرف عن أحد من المعاصرين ، ولا ادّعاه أحد منهم، بحيث يتحول كل عالم وقاض إلى إمام مستقل باجتهاده لا يراجع غيره ، في عصر تعقدت فيه العلوم والمعارف وتداخلت ، حتى احتاج فيه العلماء لصواب الفتوى إلى الفقه الجماعي ، من خلال مجمعات فقهية كبرى ، ويأتي الأستاذ / المحمود بجرة قلم ليلغي هذا التراث ، وينصحنا بتقليده في اجتهاداته الخاصة !
أليس بجميل في حسّ الأستاذ / المحمود أن يشيد جمع كبير من الباحثين الاقتصاديين ، والسياسيين الغربيين بالمصرفية الإسلامية – رغم الملاحظات الشرعية التي تكتنف جوانب منها – ففي الوقت الذي تستفتي فيه الليبرالية الغربية تراثنا الاقتصادي للخروج من الأزمة المالية المعاصرة : يتوجه الأستاذ / المحمود نحو الليبرالية الغربية لحل إشكالية تراثنا الثقافي !
والغريب في شأن الأستاذ / المحمود – رغم عقوقه الشديد في حق تاريخ الأمة التشريعي – فإنه مع ذلك يستشهد في بعض الأحيان بعلماء السلف (الماضويين) ، ويصفهم بالجمهور على طريقة الفقهاء ، ويطالب العلماء التقليديين المعاصرين بإتباعهم؛ وذلك حين استشهد بمذهب الجمهور على جواز كشف وجه المرأة ، فأين يريد أن يسوقنا الأستاذ /المحمود في متاهته الغامضة ؟
إن من أخطر أطروحات الأستاذ / المحمود اعتقاده أن النصوص الشرعية غير شاملة ، باعتبارها نصوص محدودة ، في مقابل أن الواقع بمتغيراته الكثيرة غير محدود ، ويرفض معتقد الفقهاء بشمول أحكام الشريعة لكل شيء : ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، فيزعم أن هذا إقحام للنص في غير موضعه ، وتحميله ما لا يحتمل ، ولهذا يرى أن عصر التنزيل غير عصرنا ، فالمرأة في ذلك الوقت غير المرأة الآن ، وهذا الاتجاه من الأستاذ / المحمود يستلزم استنقاص الشريعة بحجة عدم قدرتها على مواكبة العصر ، والحقيقة : أن طبيعة أحكام الشريعة الإسلامية الخاتمة غير متناهية ، بمعنى أن عطاءها العلمي غير محدود ، واستجابتها – بصورة دائمة - لحاجات الناس في كل عصر لا تتوقف ، ما داموا يستفتونها ، ويرجعون إليها .
د0عدنان حسن باحارث
جامعة أم القرى
www.bahareth.org
*تربيتنا