مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
عقلاء اليمن والدور المنشود!
عقلاء اليمن والدور المنشود!

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

تمر بلاد اليمن في جنوبها هذا الوقت بفتنة قوية ومخاطر فرقة حقيقية، بدأت أحداثها بدعوات صادقة مطالبة بتطبيق النظام، وإزالة التعديات وصور الفوضى، وحفظ الأراضي والممتلكات العامة، ورد المظالم التي عانى منها الناس إلى أصحابها، سواء أكان ذلك في عدم إعادة أموالهم وعقاراتهم التي أممها الحزب الاشتراكي قبل الوحدة، أم بتسوية أوضاع كثير من الجند الذين فقدوا وظائفهم بعد خسارة الحزب الاشتراكي لحرب 1994م.

ولو توقف الحال عند هذا الحدِّ لبقيت تلك الدعوات حقاً مشروعاً ومطلباً حضارياً عادلاً يتفق عليه الجميع.


لكن الأمر تجاوز ذلك إلى قيام زعامات مناطقية وحزبية - لم تجد لها الموقع الذي تؤمله لنفسها داخل دولة الوحدة - بالمتاجرة بمظالم الناس والتعديات على حقوقهم، متخذة من بعض صور الفوضى، ومن مظاهر ضعف المسؤولية في التعاطي البنَّاء مع قضايا الناس ومطالبهم العادلة؛ سبيلاً لتحقيق أجندة قوى استعمارية طامعة في تفتيت أراضي الأمة وتفويت استقرارها ونهب خيراتها.

وأمام هذه الصورة المؤلمة، وفي ظل تجاذب حزبي مقيت، وفي ظل ضعف وإقصاء متعمد للصوت العاقل والمسؤول، والمتمثل بصوت العلماء ومفكري البلاد وزعاماتها الواعية في عامة المواقع والمستويات؛ حيث إن اليمن اليوم أكثر ما يكون حاجة إلى تَصدُّرِ هذا الصوت ومبادرته إلى التعبير عن رأيه، ليقول الحق لكافة أطراف الأزمة، وليطالب الجميع بالعودة إلى حوار مسؤول تتحق من خلاله مصالح البلاد العليا، وليقوم بقيادة الحراك الشعبي ومشاعره الملتهبة لإبعادها عن مواضع الزيغ، وعن تأييد شخصيات أو مطالبات لا تحقق سوى مصالح شخصية أو حزبية.

وعندها ستُدعى الحكومة بقوة لتنفيذ إصلاحات كبيرة وجادَّة تقيم أَوَدَ دولة النظام، وتحقق العدالة، وتعيد المظالم لأصحابها، وتقوم بتسوية أوضاع المتضررين، وتحول دون استمرار مظاهر الفوضى والتعدي المختلفة.

وعندها أيضاً سيتم التفريق بين القيادات الشعبية الصادقة الرافضة للظلم والفلتان، والمجاهدة في سبيل حفظ حقوق العامة وتحقيق مصالح البلاد العليا، وبين تلك القيادات المزيفة المرتبطة بقوىً استعمارية، واللاهثة خلف الزعامة الشخصية عبر بوابة المطالبة بحقوق البسطاء والمعدمين، وتاريخها وواقعها وممارساتها وشعاراتها كافية في إثبات أنها أبعد ما تكون عن ذلك.

إن أهل الحكمة والاعتدال اليوم هم الأجدر والأقدر على أن يتجاوزوا باليمن الفتنة، وأن يقوموا بمدافعة كل صاحب دعوة خاطئة، وممارسة منحرفة، تجر البلاد إلى هاوية الانفصال، وتعمق في وسطه العصبيات المناطقية الجاهلية، وتقوم برهن اليمن - قراراً واستقراراً وثروة وسيادة - بأيدي قوى خارجية استعمارية طامعة.

وفي الظن أنه لن يتم لعقلاء القوم ذلك إلا من خلال:

1 - اجتماعهم على كلمة سواء من جهة، وقيادتهم لدفة الحوار والمصالحة بين الحكومة والمعارضة من جهة ثانية، واعتمادهم مبدأ الشفافية مع الشعب في كافة الجهود التي سيقومون بها خطوة بخطوة، ليتبين للناس الراغب في المعالجة وتجاوز الفتنة ممن في قلبه مرض.

2 - قيامهم بوضع قائمة من الثوابت والمشروعات الإصلاحية ترقى فوق العبث والقابلية للمتاجرة من أي طرف من أطراف الأزمة، ولعل من أهم ما يجب على الجميع النأي به عن الخلاف:

- وحدة البلاد، وعدم القابلية للعودة للتشطير بأي حال، وتنبيه الشعب على أن كثيراً من إخوة المعارضة اليوم في حال نجاح مراميهم هم أنفسهم صناع الفرقة وتجار الحروب غداً؛ نتيجة اختلاف مصالحهم الذاتية وتباين ارتباطاتهم الخارجية.

- صيانة الدماء والممتلكات العامة والخاصة، وحفظ أخوة الدين، ومحاربة العصبيات المناطقية وسائر الموروثات الجاهلية.

- المبادرة إلى إقرار إصلاحات كبيرة تُزال من خلالها التعديات، وتُرفع المظالم، وتُعاد الحقوق الوظيفية والمالية لأصحابها بصورة فورية.

- احترام النظام واعتماد سياسات واقعية قابلة للتنفيذ - لا مجرد شعارات مدغدغة - يتم من خلالها بث الأمن، وتحقيق العدالة، ومحاسبة المجرمين، وإزالة كافة صور الظلم والفوضى.

- رفض كل مدافعة عن أي واقع خاطئ، سواء أكان ذلك ممارسات حكومية خاطئة، أم دعوات لتجاوز ثوابت البلاد ومصالحها العليا من خلال المعارضة.

- تجريم الخلط بين ما هو حق للناس ومصلحة عليا للبلاد، وبين ما هو تجاذب حزبي وعراك سياسي بين هذا الحزب أو ذاك.

وهذا لا ينفي أهمية امتلاك مشروع ناضج للمصالحة السياسية والقيام بتسويقه على الشعب وعلى كافة أطراف الأزمة؛ لأن من الواضح أن النزاع السياسي هو أساس مشكلة الجنوب اليوم، وما المطالبة بإعادة الحقوق وإزالة التعديات لدى كثير من قيادات المعارضة - لا غالب الشعب - إلا غطاء أخلاقي لذلك النزاع، ومفتاح مستغَل لتهييج الجماهير في المناطق الجنوبية لا غير.

3 - توعية الشعب بما له وما عليه، وبأن من حقه أن يعيش في دعة ورخاء وأمن وعدالة، وبأن لا يُتاجَر بقضاياه وبصور الظلم والفوضى التي تقع على بعض أفراده، وفي المقابل يُبيَّن له أن ليس من حقـه متابعة بعض المتهورين فيه في رهن البلاد لقوى خــارجيــة، ولا الرضا بتجذير العصبية الجاهلية في أوساطه، وأن التمادي في ذلك ستكون عواقبه وخيمة عليه سواء أكان ذلك على مستوى الحريات أم على مستوى الأمن والاستقــرار والتنميــة، أم علــى مستــوى وحــدة ما كان يعرف باليمن الجنوبــي، وأن ذلك قد يُعرِّض البـلاد - لا قدَّر الله تعالى - لعملية صوملة جديدة، من خلال التنافس بين بعض قيادات المعارضة الحالمة بالزعامة، بل قد يفرض القيم والسلوكيات التغريبية المتنافية مع قيم الأمة وثوابتها، ويسهم بصورة فاعلة في زيادة تهديد أمن المنطقة الداخلي برمته، ويؤدي إلى البدء الفعلي في تنفيذ أجندات أمريكية يهودية إيرانية مشتركة لتفتيت أرض جزيرة الإسلام وتعريضها للنهب والتمزيق والتشرذم.

4 - مطالبة الحكومة اليمنية باتخاذ خطوات سريعة وجادة في سبيل المصالحة العميقة مع كافة القوى الوحدوية الجادة في البلد، والتي عرَّض فقدانها وامتلاك الحزب الحاكم للأغلبية النيابية البلاد لكثير من الفتن ومهاوي الردى.

وفي المقابل مطالبة تلك القوى في المعارضة بأن لا تكون معارضتها للمعارضة، وبأن تقوم زعاماتها بنبذ حظوظها الشخصية، وما شعرت به من انتقاص وتعدٍّ وضيم في سبيل الحفاظ على مصالح البلاد العليا، والتي كانت ركيزة أساسية في ثنايا عمليات التضحيات الجسيمة التي تجرَّعها أهل اليمن في سبيل تحقيقها.

5 - التأكيد على المسببات الشرعية للأزمة، وأن ضعف التدين، واللهث خلف المصالح الشخصية، والارتهان للآخر، واستبعاد الشخصيات المؤثرة في أوساط الشعب والمتسمة بالقوة والأمانة عن كثير من مواقع القرار والشورى، وعدم تطبيق قيم الشريعة وأحكامها في الواقع المعاش في مجالات شتى هو ما أدى إلى هذه الفتنة، وأن رفعها لن يتم إلا بتضرع وابتهال صادق إلى الله عز وجل، وإلا بتوبة نصوح على المستوى الفردي والمناطقي والحزبي والحكومي؛ إذ ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة، وعندها ستصفو النفوس، وتتعمق الثقة، وتتهيأ الفرصة المواتية لامتلاك إرادة صادقة تمكِّن من إزالة المظالم، ومحاربة كل دعـوى جاهلية، وممارسة ظالمة، وانحراف كلي زائغ يهدد وحدة البلاد ويعرِّض أمنها واستقرارها هي وكافة المنطقة للخطر.

6 - التواصل مع القوى الإقليمية الهامة في المنطقة، وإفهامها طبيعة الخطر، والنتائج الأمنية والثقافية والسيادية المتوقعة لتفاقم الأزمة على اليمن بخاصة، وعلى إقليم الجزيرة والخليج بصفة عامة؛ لأن استقرار اليمن - في ظل مؤشرات مباشرة وغير مباشرة على وجود أصابع أمريكية إيرانية في الأزمة - مرهون فيما يبدو في جزء كبير منه بمقدرة عقلاء اليمن وحكومته على نيل دعم قوي من حكومات المنطقة.

حفظ الله - تعالى - على اليمن دينه، ووفق علماءه وكافة الصادقين من أبنائه لتنميته، وحفظ وحدته، وتحقيق استقراره، وتوسيع تطبيق قيم الخير والعدالة فيه.
وصلى الله وسلم على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

افتتاحية مجلة البيان
أضافة تعليق