مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2020/12/20 17:11
اللغة العربية بين أصالة الماضي وتحديات الحاضر(2،1)
اللغة العربية بين أصالة الماضي وتحديات الحاضر(1-2)
نتزال الجبوري
قبل البدء: أجدُ اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف يوم 18/ ديسمبر من كل عام، مناسبة للبحث في موضوع اللغة العربية وإن كنتُ لستُ من ذوي الاختصاص فيه؛ فهو متشعب واسع، لكني من المهتمين به بحدود ما أستطيع، فبعض منا نحن أبناء العربية الحريصين عليها ما يدلي بدلْوه بين الدّلاء إفراغا أوملئا.
أهمية اللغة
تكمن أهمية اللغة في كونها أداة الكشف عن هوية الفرد الخاصة، وهوية المجتمع العامة.
على الصعيد الفردي الشخصي هي أداة التعبير عن العقل؛ فلكل منا عقلان؛ واحد صامت يفكّر، وآخر ناطق يتكلم وهو اللغة؛ فهي المعبرة عن عقلنا المخبوء فينا. ويمكن القول أن اللغة هي وعاء العقل ولسانه الناطق؛ فالعقل وما اكتنز من تصورات، ومفاهيم، وآراء، وانطباعات، وأفكار يعبّر عنها بلسانه. وهي عقل لسانه المعبر عن المقولات، والأفكار، والآراء شفاهيا أو تدوينيا بوصفها البصمة التي تميز تفكير الفرد وبراعته في صبها – أي اللغة- في قالب التعبير عن الهوية الشخصية أمام الهويات الأخرى.
وهي أيضا رسالة التعبير عن نفس الفرد وما تختزنه من أحاسيس، ومشاعر، وعواطف، ومُثُل، وسلوكيات. ولكل لغة علومها وآدابها وقواعدها، فمن يتقن لغته الأم يستطع صياغة الفكرة بالاستفادة من كل ما تختزنه اللغة من كنوز.  وبذلك تكون اللغة الهوية الفردية له التي تميزه عن الآخرين وأداة التحاور معهم؛ فمن لا يتقن لغته الأم لا هوية له.
أما على الصعيد المجتمعي العام فهي:
أداة التعبير عن شخصية المجتمع، وما اكتنزت من شخوص، وتراث، وتاريخ، وحضارة، وثقافة، وعلوم، وفنون، وآداب، ومنجزات شفاهيا أوتدوينيا. وهي هوية التعريف بالمجتمع عبر التواصل والحوار مع الأمم الأخرى.  ولعل ما يميّز أمة ما عن غيرها هو غنى ومتانة اللغة المعبرة عن هويتها؛ فالأمة التي تمتلك لغة متينة لا تنهار ما دامت فيها عناصر قوية حريصة على حفظ اللغة وحمايتها من الضياع.
وتكمن أهمية اللغة أيضا في كونها الخطاب الإلهي الأول الذي تلقّاه الإنسان (خَلَقَ الْإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[1]، وعلم الله البيان للإنسان كل بلغته  (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)[2] ، فكل رسول يعبّر عن بيانه بلغة قومه. وبعض قال: إنه البيان عن الله وأسمائه وصفاته وفضله ورحمته لخلقه، وقال بعض: إن معناه التعبير عن كل ما يجول في خاطر الإنسان، يعبر عنها شفاهيا أو كتابيا.
وقوله: "(عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) والبيان هو الكشف عن الشيء، والمراد به الكلام الكاشف عما في الضمير، وهو من أعجب النعم وتعليمه للإنسان من عظيم العناية الإلهية المتعلقة به، ويجعل الإنسان بإلهام باطني من الله سبحانه الواحد من هذه الأصوات المعتمدة على مخرج من مخارج الفم المسمى حرفا أو المركب من عدة من الحروف علامة مشيرة إلى مفهوم من المفاهيم؛ يمثل به ما يغيب عن حس السامع وإدراكه؛ فيقدر به على إحضار أي وضع من أوضاع العالم المشهود، ثم على إحضار أي وضع من أوضاع المعاني غير المحسوسة التي ينالها الإنسان بفكره. قيل: الإنسان هو آدم (عليه السلام) والبيان اللغات التي وضعها الله سبحانه ثم علمها الإنسان بالوحي الى نبي من الأنبياء أو بالإلهام بأن الإنسان بوقوعه في ظرف الاجتماع مندفع بالطبع الى اعتبار التفهيم والتفهم بالإشارات والأصوات وهو التكلم والنطق لا يتم له الاجتماع المدني دون ذلك، وقيل الأسماء التي علمه الله إياها. وقيل الإنسان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والبيان القرآن، وقيل: البيان الخير والشر علمهما الإنسان، وقيل: سبيل الهدى وسبيل الضلال إلى غير ذلك وهي أقوال بعيدة عن الفهم". [3]
وفي مورد قرآني آخر (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[4] ، وهذا أول خطاب إلهي يتلقاه الإنسان والخطاب كان باللغة العربية، وواضح بيان الآية؛ فالله ألقى البيان على الرسول(ص) بلغته، وهي أن يقرأ ويكتب ما تلقّاه. وحينما يتلقى الإنسان البيان يقرأه ويتمثله عندئذ يعبّر عنه بأسلوبه الخاص، والأسلوب الخاص نسميه(اللغة).
اللغة العربية: سماتُها وميزاتُها
سيدةُ اللغات، ولغةُ الضاد كما أُطلق عليها... اللغة العربية ذات الأوتار ال(28 أو29 بعد إضافة الهمزة اليها)؛ فهي حاملة وتر الضاد كتابة وصوتا ..وترا منفردا من بين أوتارها الصوتية؛ وحرف الضاد لا وجود لما يقابله في اللغات الأخرى، فلفظه دقيق يشترك فيه اللسان واللثة معا، والعرب هم من استطاعوا لفظه بدقة؛ وتعذّر لفظه على غيرهم من الشعوب.
تميّزت العربية بمدرج موسيقي عليه تُلفظ مخارج الحروف التي يشترك فيها اللثة واللسان وأعلى الحلق والشفتين كل بصوته الخاص مما يؤلف ترنيمة صوتية متناسقة. ولصعوبة إخراج الأصوات فيها فقد عجزت اللغات العالمية عن مجاراتها "العربية كالعود إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تحرك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكبا من العواطف والصور- الكاتب الفرنسي وليم مرسيه".
وامتازت اللغة العربية بالسعة، والرصانة، والأصالة، والفصاحة، والمتانة، والبلاغة، والنحو المتشعب، ووضوح البيان، والاشتقاق، وكل هذه الميزات حملتها على الغنى، والخصب، والثراء بالمفردات المترادفة، والمتطابقة، والمتشابهة، والمتخالفة، والمشتقات اللفظية المرنة مدعومة بالنحو الرصين.
ولمرونتها فإن الحديث بها سهل سلس التدوير فأحيانا مثلا نقدم الخبر على المبتدأ أو المفعول به على الفاعل وغيره الكثير. وبعض الكلمات لها عدة معان بمجرد تغيير حركتها، وبعض منها هي مفهوم لمصاديق متعددة، فاللغة العربية غنية بالألفاظ والمفردات، ولغناها فإنها تهب الاختصار في التعبير بعبارات قصيرة وكلمات تختزل الكثير من التفصيل.
وهي من أهم اللغات من حيث المادة اللغوية إذ تتوفر على (12.3) مليون كلمة، ويتكلم بها أكثر من نصف مليار شخص في العالم. و"للغة العربية  (16.000) جذرلغوي، وقيل إن جذور العربية تجاوزت (19.000) جذر، وأقرب لغة لها في عدد الجذور لا تتجاوز(4000) جذر . [5]
إن العبرية جذورها (2500) جذر، وهي لهجة من العربية القديمة بل حروفها الـ(22) نفس الحروف العربية بل وبترتيبها الأبجدي( أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت)[6].
وكون اللغة العربية متسعة يعني احتضنت تاريخ، وتراث، وحضارة، وثقافة، وعلوم، وفنون، وآداب الأمة العربية، واستوعبت شؤون حياة الناس باختلاف مشاربهم.
سُمات السعة والعمق والغنى فيها حملتها على العطاء لا الأخذ، فنجد جذور العربية منتشرة في أكثر اللغات وخاصة اللغة الإنجليزية، بل إن أحد الدكاترة العراقيين قد صنف معجماً أسماه "معجم الفردوس للجذور العربية الموجودة في الإنجليزية" فذكر اكثر من (1500) جذر عربي في اللغة الإنجليزية وهو رقم مبالغ فيه قليلاً؛ لأنه أدخل فيه أسماء الأعلام العربية (مثل أحمد، علي...وغيرها). وحتى اللغات في جنوب أمريكا (وهي تجاوز الألفين سواءً المستخدمة أو الميتة) نجد فيها جذوراً عربية كثيرة[7].
وتأثرت اللغات الفارسية، والتركية، والكردية، والأمازيغية، والإندونيسية، والألبانية، والمالطية، والإسبانية، والصقلية، والأوردية باللغة العربية. ودخلت الكثير من الأحرف العربية فيها عن طريق الأصوات، والحروف، والمفردات، والمعاني، والتراكيب، وأصبحت تكتب بالحروف العربية. كما كان للعربية الحظ الأوفر في الإنبثاث في اللهجات الصومالية، والزنجبارية لرجوع الصلة بين شرق أفريقيا وجزيرة العرب الى أقدم عصور التاريخ[8].
وُضعت للغة العربية المعاجم والقواميس. ولعل من أقدم معاجم اللغة هو لسان العرب لابن منظور(ت711هـ)، والقاموس المحيط للفيروز آبادي(729-817هـ)، وتاج العروس لمرتضى الزبيدي وهو شرح للقاموس المحيط. كما وضعت لاحقا القواميس والمعاجم اللغوية، ولما تزل اللغة العربية تولّد المصطلحات الجديدة كل يوم.
وامتازت اللغة العربية بأنها لغة الخطاب الرباني التي اختص الله بها العرب دون غيرهم؛ فهم سادة اللغة العربية وأمراؤها، وبها نزلت رسالة الإسلام وحملوها الى العالم ...نزلت بين أياديهم في قرآن كريم ضم مفاهيم وأفكارا ونظما وقواعد وقوانين للحياة وللإنسان في كتاب مكنون لا ريب فيه(قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[9]، (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)[10]، ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[11]، ولعل أهم أسباب نزول القرآن بها هي؛ امتدادها التاريخي العميق؛ فهي من اللغات السامية التي يُعتقد أنها كانت متداولة قبل عام 4000 قبل الميلاد[12]، إذ "يعود أصل أقدم نصوص عربية عُثر عليها الى القرن الثالث بعد الميلاد، وهي نصوص شعرية تميزت ببلاغة لغتها، وأسلوبها الراقي، ووزنها الشعري المنتظم"[13] ، وإن" أقدم مخطوط وجد في العالم في مناجم الفيروز في صحراء سيناء مكتوب باللغة العربية وعمره 4000 سنة"[14].
وكون الجزيرة العربية موطن اللغة العربية الأول فقد تداولها العرب قبل الإسلام بقرون عديدة، والعرب حافظوا عليها ويتكلمون بالعربية الفصحى، والدليل هو أن العرب الأوائل كانوا شعراء فصحاء، وبلغاء بارعين باللغة؛ فكانوا يقيمون الأسواق التي هي بمثابة مهرجانات شعر كسوق عكاظ إذ يعلقون أشعارهم على جدران الكعبة المشرفة؛ وهذا ما زاد اللغة تطورا وبريقا وتألقا فقد أثْرت اللغة تلك الأسواق. وبناء على هذا فإنهم أولى الشعوب باستيعاب القرآن بلغتهم العربية. وحتى اللهجات العامية في منطقة الجزيرة العربية هي أقرب الى اللغة العربية الفصحى في الكثير من ألفاظها عن غيرها من اللهجات العربية.
ولعل أهم عامل لنزول القرآن بالعربية هو قابليتها المرنة والحيوية، والخاصية الرياضية الفعالة في تدوير وتدويل المفردات، وخاصية الإيجاز والاختصار بأقصر التعابير، والاستيعاب للنص القرآني، وتفسيره، وتحليل معانيه؛ لذلك صار العرب من أفصح الشعوب فهم فرسان الخطاب والبيان والكلام"اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر فليس لها طفولة ولا شيخوخة - إرنست رينان الفرنسي".
يوم اللغة العربية
لثرائها وكثرة المتكلمين بها فقد اختصت منظمة(اليونسكو) التابعة للأمم المتحدة اللغة العربية بيوم أسمته (اليوم العالمي للغة العربية) وذلك في عام 1948 ؛ حيث قررت منظمة(اليونسكو) اعتماد اللغة العربية كثالث لغة رسمية لها بعد اللغتين الانجليزية والفرنسية.
وفي عام 1960 تم الاعتراف رسميا في دور اللغة العربية بالتأثير على المنشورات العالمية. وفي عام 1974 عقد المؤتمر الأول لليونسكو في اللغة العربية بناء على مجموع من الاقتراحات التي تبنتها العديد من الدول العربية، وأدّى ذلك الى اعتمادها كواحدة من اللغات العالمية التي تستخدم في المؤتمرات الدولية[15] .
واعتُمدت اللغة العربية كإحدى اللغات الرسمية الست المعترف بها من قبل منظمة(اليونسكو) التي تكتب بها الوثائق واعتُمِدت وفقا لما قررته يوم 18 ديسمبر يوما عالميا للغة العربية عام 1973 في دورتها الثامنة والعشرين، وأقرت أن هذه اللغة يتحدث بها أثنان وعشرون عضوا من الدول الأعضاء في (اليونسكو)، وهي لغة رسمية سادسة في المنظمة، ويكون لها نفس وضع اللغات الانجليزية، والفرنسية، والإسبانية، والروسية، والصينية.[16]
ويعزو الأستاذ محفوظ عبد الستار سبب اعتبار اللغة العربية لغة رسمية في مجلس الأمن لسبب هو؛ أهمية اللغة العربية في العالم الافتراضي المتمثل بأجهزة وبرمجيات الحاسوب والانترنت التي طرأ عليها تطور كبير زالت معه العقبات التي تحول دون اعتماد اللغة العربية للاستخدام الرقمي، وقد أصبحت تحتل المرتبة الرابعة بعد الانجليزية والصينية والإسبانية بين اللغات الأكثر استخداما على موقع ال(Facebook) ، وإن إتقان اللغة العربية بات شرطا أساسيا من شروط العمل في الترجمة بالأمم المتحدة؛ فالوثائق الصادرة يجب أن تكون خالية من الأخطاء النحوية والإملائية.[17]
أزماتٌ تواجه اللغة العربية
تعترض اللغة العربية أزمات قديمة وحديثة، ذاتية وعرضية، نختصرها بشكل سريع:
الأزمات الذاتية: وهي كثيرة؛ وأهمها صعوبة وتعقيد ودقة قواعد النحو والإملاء -حسب رأي الأغلبية من المتكلمين بها. وهذه عقبة عامة أمام الطلبة من التعليم الابتدائي حتى الجامعي. والطالب حينما يتخرج من الجامعة فهو لا يكون متقنا للغته تمام الإتقان؛ لأنه يدرس القواعد القديمة دون تجديد وتبسيط على كادر تدريسي كان قد مرّ بنفس أزمة تعليم اللغة التي يمر بها التلميذ؛ فتنشأ عند الكثير منهم عقدٌ كثيرة من تعليم اللغة مما يؤدي الى عزوفهم عن تعلّمها، وتعلّم لغات أخرى؛ لسهولتها وخلوها من التعقيد فضلا عن ضمان مستقبلهم، وهو تحدٍ خطير تواجهه اللغة العربية فهي" لا تُدرَّس في مدارسنا وإنما يُدرّس فيها شيءٌ غريب لا صلة بينه وبين الحياة، ولاصلة بينه وبين التلميذ وشعوره وعاطفته" .[18]
وعبّرت الدكتورة بنت الشاطئ عن أزمة تعليم اللغة العربية قائلة: "الظاهرة الخطيرة لأزمتنا اللغوية هي أن التلميذ كلما سار خطوة في تعلم اللغة العربية ازداد جهلا بها، ونفورا منها، وصدودا عنها. وقد يمضي في الطريق التعليمي الى آخر الشوط؛ فيتخرج من الجامعة حتى ينال أعلى درجاتها، ويعيبه مع ذلك أن يملك هذه اللغة التي هي لسان قوميته ومادة تخصصه. كل درس يتلقاه أبناؤنا في لغتهم العربية ينآى بهم عنها" .[19]
وثاني الأزمات الذاتية هي سطوة اللهجات الدارجة على الفصحى؛ وتعني الانسلاخ عن اللغة الأم. وهيمنت اللهجات على اللغة الفصحى الأم في المدارس، والجامعات، والندوات، والمؤتمرات، والدراسات، ووسائل الإعلام، وهذا ما أدّى الى الفوضى اللغوية، والتفنن في صياغة المصطلحات العامية التي تشوّه الفصحى. فالحديث في هذه الفضاءات المذكورة عادة يكون متموّجا بين العامي والفصيح.
والكتابة أو التخاطب باللغة العامية هي حالة مستساغة للأكثرية، باعتبارها لغة الحوار الدارجة السهلة وليس فيها تكلّف. والمجتمع كما نعلم يستخدم لغة التخاطب العامية، والحديث بها عادة تُتداول في روتين الحياة اليومي باعتبارها عملية ولا ضير في ذلك. وأحيانا تُستخدم مفردات قديمة بالعامية عفى عليها الزمن، والمجتمع لا يزال يتداولها؛ فلا حدود بين اللهجة العامية والناطق بها؛ والحدود بين الفصحى ومن لا يتقنها شاسعة. ففي العراق -مثلا- يتفنّن الناس بصياغة مصطلحات غريبة؛ باسثناء المصطلحات ذات الأصول السومرية المُتداولة في الجنوب العراقي، والأسباب متعددة؛ منها تفشّي الأمية والجهل والفقر في بلادنا، وهبوط وتدنّي مستويات التعليم، فضلا عن الانفتاح على العالم واختزال المسافات بين البلدان وفق النظام العالمي الجديد، فأدى الى دخول مصطلحات جديدة في اللهجات العامة.
وسادت اللهجات الدارجة في مختلف قنوات التواصل الاجتماعي ونلاحظ من يمتلك رصيدا لغويا لا بأس به، أيضا يتحدث ويكتب في هذه المنتديات بأسلوب العامة رغما عنه حتى يستطيع توصيل مرامه، حتى نلاحظ في بعض الأحيان أخطاء نحوية أو إملائية من أساتذة لغات بارعين بسبب الفوضى العامة السائدة. واللهجات العامية مختلفة في المشرق العربي عن المغرب العربي باختلاف الألفاظ واستعمالاتها وكذلك تأثير اللغات اللاتينية في اللهجات؛ فبعض اللهجات العامية تكاد تكون لغة أخرى لا نفهم منها شيئا كاللهجة المغربية والشامية والمصرية، فالعربية فيها مشوبة بلكنة افرنجية، وبعض المصطلحات فيها غير مفهومة. وقد أخلّت اللهجات العامية كثيرا باللغة ومستقبلها البعيد.
وثالث الأزمات التي تواجه اللغة العربية هي عدم وجود حيّز في اللغة العربية للعلوم الحديثة، وشحة المؤلفات العربية المهتمة بها، وقلة المؤلفات المهتمة بالعلوم والمعارف المترجمة الى اللغة العربية.
ورابع الأزمات هي إهمال معظم مجالات البحث العلمي استخدام اللغة العربية كلغة خاصة في الأبحاث الآكاديمية والعلمية، وكذلك الاعتماد على اللغة والأرقام اللاتينية في فضاء الانترنيت؛ بالرغم من أن تعليم العلوم باللغة العربية أسهل وأكثر إمتاعا؛ لأن في اللغة العربية مجالا واسعا للتعبير والإيجاز بشكل كبير في المواضيع المختلفة لمرونتها وحيويتها في ظل وفرة المفردات والأساليب اللغوية [20]. 
الأزمات العرضية: وأهمها الهيمنة الغربية على البلدان العربية في قرون خلت بدأت بالاستعمار وانتهت بالعولمة، وفرض تعليم لغاتهم على العرب؛ فتأثرت اللغة العربية باللغات الأجنبية وصار تداخلا بين المفردات، التي تداخلت أيضا مع اللهجات المختلفة بين البلدان العربية؛ فاستبدلت الكلمات العربية بأخرى غير عربية، ففي كل بلد توجد لهجات متعددة لكل منطقة، وأُغرِقت اللغة العربية بسيل من الألفاظ الأجنبية بحيث أحدثت ازدواجية بين الفصحى والعامية. وشجع الغرب اللهجات العامية في اللغة العربية قاصدا لتهميش اللغة العربية تدريجيا لتحل محلها اللغة الانجليزية، وهي لغة الدولة العالمية الواحدة، فسلطة اللغة هي لغة السلطة...سلطة العالم الأقوى.
ثاني الأزمات هي هيمنة العولمة التي تسعى لأن يكون العالم كله بقبضة نظام عالمي واحد لا يقبل التشظي في كل مجالات الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والسياسية. والعولمة تبتلع ثقافات الأمم والشعوب بما فيها لغاتها، وتوحيد العالم فيها هو توحيد ظاهري صوري لكن في جوهره هو تمزق، وتشظٍ وتشتت لثقافة، وتاريخ، وحضارة، ولغة، وأحوال كل مجتمع من المجتمعات حينما تُختزل ثقافته، وحضارته، ولغته، في نظام اقتصادي ومالي قوي يتحكم فيها كيفما أراد في ظل سطوة التكنولوجيا على كل الحياة؛ وتبعا لها تتعولم اللغة؛ فلغة العالم القوي هي السائدة، وغيرها مهمشة؛ فلا جغرافية للغة بعد النظام العالمي الجديد.
اللغة العربية في مأزقين هما العولمة أولا، وزحام التنوع اللغوي، وكل لغة تريد الحفاظ على كيانها الأصيل وسط هذا الضجيج. وما دام الغرب يؤمن بالاختلاف والتعددية -فمن المفترض- أن الدولة القوية تحترم الهويات والثقافات المتعددة لدى شعوب العالم.
وللعولمة خياران هما "إما أن تتيح فرصة نوعية لانفتاح الشعوب والثقافات على بعضها لغاية التعريف بالتراث الحضاري والفكري واللغوي والروحي للشعوب، وهذا سيؤدي الى احترام الحق في الاختلاف والتنوع والاعتراف لكل ثقافة باسهاماتها في الحضارة الإنسانية الواحدة، وأما أن تؤدي العولمة الى تدمير الثقافات، وتحويل النتاجات الثقافية الى سلع تتحكم فيها قوانين السوق، وبالنتيجة ستؤدي الى تطويق الإبداع الأدبي والفني لدى الشعوب ذات الهويات الثقافية المتميزة، كما تهمش الثقافة الوطنية واللغة القومية من خلال فرض لغة وثقافة القطب الاقتصادي الذي ينتج وحده ويفرض لغته وثقافته عبر وسائل الاتصال التي يملكها، وأخيرا فإنها تؤدي إلى تقليص العلاقة بين المثقف والخبرة المباشرة بعمله وبالحياة من حوله، من خلال تقديم كل ما كان يختبره العالم والمثقف بنفسه، جاهزا موثقا؛ فتغنيه عن الانتقال والبحث؛ فيصبح إنسان المستقبل نسخا متطابقة"[21].
ثالث الأزمات هي لا وجود للغة العربية في عالم التكنولوجيا في كل مجالاتها وبرامجها فاللغة الانجليزية واللغات الأخرى هي الحاضرة.
يتبع

 
اللغة العربية بين أصالة الماضي وتحديات الحاضر (2)

انتزال الجبوري
محاولات الإصلاح في اللغة العربية
تضاربت الآراء، والنظرات، والدعوات الى إصلاح اللغة العربية بفروعها من مختلف الفئات المثقفة والمهتمة، وتنوعت تبعا لها المواقف المتباينة بين القبول والرفض.
ظهرت دعوات لإصلاح العربية من مختلف المهتمين باللغة من أدباء ونحّاة ومفكرين ومثقفين من مختلف الحقول؛ لتحريرها من أغلال القديم المتمثل بما أرسى قواعده، ووضع قوالبه الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية كل من الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه حتى قيل" من أراد أن يعمل كتابا في النحو بعد سيبويه فليستحِ)[1]. والدعوات تنوّعت بين إصلاح النحو والأدب والإملاء. وأغلب المحاولات ركزت على إصلاح النحو؛ بالدعوة الى الاختصار والاقتصار والتيسير في  قواعد النحو والاعراب.
شرعت الدعوات لتيسير النحو منذ القرن الثاني الهجري، فظهرت المؤلفات التي تهدف الى تيسير النحو واختصاره فكانت في أول وهلة لا تمس القواعد الأصلية وانما اتجهت الى الاختصار والتطبيق، ثم  توالت الدعوات لإصلاح النحو العربي فكانت "التفاحة في النحو" لأبي جعفر النحاس(ت328هـ)، و"الجمل في النحو" لعبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي(ت337هـ)[2]، و"الإيضاح" لابي علي الحسن بن أحمد الفارسي(377هـ)، وقد ذكر في كتابه أن قطرب تلميذ سيبويه أول من طالب برفع العلامة الإعرابية، وقد عابوا عليه دعواه. وكتاب "الواضح" لأبي بكر الزبيدي الأشبيلي(379هـ)[3].
غير أن محاولة ابن مضاء القرطبي (ت 592هـ)  في كتابه (الرد على النُحّاة) كانت بمثابة الثورة على المنهج البصري في النحو[4]، وقد رد به على علماء القرن الرابع الهجري الذين توسعوا في الأمثلة الصناعية النحوية والكلام على العلل الثواني والثوالث في النحو العربي، وهو من أوائل الرواد لإصلاح النحو وتجديده. وتُعد محاولته هي الوحيدة التي اقتربت من الأصول والمبادئ النظرية ومناقشتها وفق أصول ومبادئ فكرية وفلسفية مختلفة جذريا عن تلك التي وضعتها مدرسة البصرة؛ " يقول إبن مضاء في الكتاب" وقصدي من هذا الكتاب أن أحذف من النحو ما يستغني النحوي عنه وأنبّه على ما أجمعوا على الخطأ فيه" وفي مورد آخر من الكتاب يقول" إني رأيت النحويين رحمهم الله قد وضعوا صناعة النحو لحفظ كلام العرب من اللحن وصيانته عن التغيير؛ فبلغوا من ذلك الغاية التي أمّوا وانتهوا الى المطلوب الذي اتبعوا الاّ أنهم التزموا ما لا يلزمهم وتجاوزوا فيها القدر الكافي فيما أرادوا منها، فتوعّرت مسالكها ووهنت مبانيها"[5]  . وقد نشر هذا الكتاب على يد الدكتور شوقي ضيف عام 1947؛ فأحدث صدى كبيرا في الهيئات العلمية، وفي كثير من كتابات الباحثين والدارسين المعاصرين عربا ومستشرقين[6].
ثم محاولة ناصر الدين المطرزي (610هـ) في كتابه "المصباح في النحو"[7]، وابن هشام الأنصاري(761هـ) صاحب"الإعراب عن قواعد الإعراب".[8] وكان كتابه هو دعوة الى تدريس النحو بأسلوب جديد لكنه لم يغادر المطالب النحوية ولم ييسر قواعدها.
وتوالت الدعوات لإصلاح اللغة العربية وجلّها كان في مجال النحو العربي وكل المحاولات كانت لا تمس الأصول والنظريات في النحو الاّ أنها كانت تدور حول الاختصار والتيسير والتطبيق والتعليم[9].
هذه المحاولات كانت مشجعة وموجهة لمحاولات الإصلاح والتجديد في مطلع العصر الحديث، وأولاها كان على يد المجدد رفاعة رافع الطهطاوي فألف كتابا في تبسيط النحو أسماه" التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية" متتبعا فيه أسلوب التأليف الفرنسي في النحو، والكتاب جاء بسيطا سهلا مُخلّصا الكتب النحوية من الغموض والاختلاف والتعقيد مستخدما فيه الجداول الإيضاحية[10].
وعلى غرار هذا الكتاب تدفّقت المؤلفات في تبسيط النحو فكان "النحو الواضح" لعلي الجارم ومصطفى الأمين،  و"التطبيق النحوي" للدكتور عبده الراجحي،  و"النحو المصفى" لمحمد عيد. كما تعدّت حركة الإصلاح في النحو الى أبعد من هذا، وأعادت النظر في أصول ومبادئ النحو فكانت أولى المحاولات هي "إحياء النحو" للإستاذ ابراهيم مصطفى(1937)[11]، ثم محاولة وزارة المعارف المصرية (1938) "وقد تشكلت لجنة منها ضمت كل من الدكتور طه حسين، وأحمد أمين، وابراهيم مصطفى، وعلي الجارم، ومحمد بن أبي بكر ابراهيم، وعبد المجيد الشافعي بقصد العمل على تيسير قواعد تدريس اللغة العربية وانتهت الى اقتراحات عديدة أهمها الاستغناء عن الإعراب التقليدي والمحلي وجعل بعض علامات الإعراب أصلية وبعضها فرعية"[12]، ثم يعقوب عبد النبي(1941-1945)[13]، ومحاولته تتألف من قسمين؛ الأول نظري عرض فيه مقترحات جديدة لإصلاح النحو، والثاني تطبيقي على بعض أبواب النحو.[14]
وجاءت محاولة أمين الخولي(1943) مشددا على أن " اللغة بطبيعتها أكثر حيوية ومرونة وإمكانات تحديث سواها ففيها على الدوام كلمات تموت وتندثر وأخرى تتوالد أو تنحت؛ لتثري معجمها وتعزز رصيدها التداولي. وهذا ما يوضحه بقوله (فاللغة من أشد المظاهر الحيوية لينا وأقلها تصلبا وتحجّرا وأطوعها للتطور، وقدماؤنا يدركون هذا واضحا حين يتحدثون عن تهذيب اللغة وعوامله، وحين يقررّون أن الاستعمال يُحيي ويُميت، ويُقبح ويُحسن، وحين يصفون تداخل اللغات وما إلى ذلك من دلائل الشعور بتأثر اللغة بالحياة تأثرا قويا)"[15].
وبعد أمين الخولي طرح عبد المتعال الصعيدي (1947) آراء مختلفة ذكر فيها عيوب اللغة العربية، ثم محمد أحمد برانق(1958)، ثم د. مهدي المخزومي (1966) في كتابين الأول بعنوان"في النحو العربي نقد وتوجيه" عام 1964، والثاني "في النحو العربي قواعد وتطبيق على المنهج العلمي الحديث" عام 1966 ؛ وفيهما أعطى مفهوما جديدا للنحو العربي متأثرا بنظام الجملة الانجليزية. قائلا فيه(لقد أصبحت الحاجة ماسة الى نحو جديد يخلو مما علق به في تاريخه الطويل من شوائب ليست منه وتعليلات فلسفية اصطنعها القوم"[16].
بعده محاولة محمد كامل حسين (1972) داعيا الى تغيير النمط النحوي في كتابه" اللغة العربية المعاصرة"، وداعيا أيضا الى وضع نموذج لغوي جديد غير النموذج القديم التقليدي، وذلك بأن رأى أن الفصحى المخففة دون العالية هي الأيسر والأكثر انتشارا، ويمثل مشروعه التقاء الفصحى بالعامية لقاء ميسرا، وذلك بأن منهجه يقوم على التدرّج من أدنى مراتبه في العامية المنقحة الى الفصحى العامية حسب المرحلة العمرية والدراسية، اما الفصحى المخففة فيقوم منهجه على عدم الالتزام الحرفي بالإعراب الاّ في الحالات الواضحة[17]. أما آخر المحاولات كانت لشوقي ضيف(1982)[18].
وأشار السيد محمدحسين الطباطبائي في تفسير الميزان الى تجديد اللغة قائلا "ولا يتم للإنسان اجتماعه المدني ولا تقدم في حياته هذا التقدم الباهر إلاّ بتنبهه لوضع الكلام، وفتحه بذلك باب التفهيم والتفهم، ولولا ذلك لكان هو والحيوان العجم سواء في جمود الحياة وركودها"[19].
وهناك تيار آخر يدعو الى إعادة النظر في العربية وتطوير الفصحى، ومثّل هذا التيار سلامه موسى حيث دعا الى إحلال العامية محل الفصحى أو إحلال الحروف اللاتينية محل الحروف العربية في الكتابة، وجوبهت دعوته هذه بالرفض الشديد والتصدي لها.
ثم جاءت محاولة توفيق الحكيم الى الدعوة الى ما أطلق عليه" اللغة الثالثة"؛ وهي النمط المتوسط للاستعمال اللغوي، وقد اهتم بدراستها الدكتور السعيد البدوي بدراسة المستويات العالية المعاصرة للغة العربية، وتوقفت عند حدود الدعوة اليها، ولم تخرج الى حيز التطبيق العملي[20].
وفي إطار مشروعه الفكري (نقد العقل العربي) دعا الدكتور محمد عابد الجابري الى تجديد اللغة العربية باعتبار أن "اللغة العربية هي المدخل الأساسي في فهم العقل العربي والذهنية العربية، بل والدين والإنسان العربي والواقع العربي. يدعم هذا ما تؤكده الدراسات المعرفية واللسانية الحديثة من أن اللغة تساهم بشكل أساس في(تحديد نظرة الإنسان الى الكون وتصوره له ككل وكأجزاء)، لذلك كان للغة العربية أثر كبير وخطير على العقل العربي، خصوصا وأنها بقيت الوحيدة محافظة على منظومتها من حيث الكلمات والنحو والتركيب منذ عصر التدوين. كما ظلت اللغة العربية الى اليوم تجر معها تراث عصر التدوين ومفرداته. ومن خلال هذه الزاوية تحددت أسس التفكير العلمي وأدواته بنظر الجابري في الثقافة العربية فيه بذلك محددا حاسما للعقل العربي في بنيته ونشاطه"[21].
وقد جرت محاولات عديدة لتطوير اللغة العربية بمختلف فروعها، وليس آخرها كان محاولة بعض من المختصين بإنشاء جمعيات مخصصة للحفاظ على اللغة العربية وتنميتها باستبدال طرق الحوار المختلفة بين الأشخاص حتى مع اختلاف جنسياتهم باللغة العربية الفصحى، وتطوير الفصحى حتى تقترب من العالمية أكثر بإدخالها كلغة مندرجة في عالم برمجة النت والتكنولوجيا، وتطبيق جميع المناهج باللغة العربية الفصحى[22].
ويرى أغلب أبناء اللغة العربية أن إبقاء اللغة على حالها في التعبير والفصاحة والنحو هو السبيل الوحيد للحفاظ عليها من الضياع. ويعتبر بعض من المثقفين أن  قواعد النحو، وفصاحة اللغة وغناها يشكلان معا مانعا وعائقا لها عن التواصل مع اللغات العالمية ومواكبة العصر وتغيّراته؛ فلا ضير إذا تحدثنا أو كتبنا بأخطاء نحوية أو نكسر شيئا من الفصاحة اللغوية، ونتحدث بخليط من الدارجة والفصحى. ويرى بعض آخر أن تبسيط قواعد النحو وتيسير المصطلحات العامية وتقريبها من الفصحى هي أفضل السبل لفهم اللغة وتيسيرها للمتكلمين بها وانفتاحها على لغات العالم الأخرى.
وما دامت اللغة العربية هي السادسة في الأمم المتحدة، فلا بد لها من تجاوز مأزق العقبات، ولكي تتجاوز المأزق على المهتمين بها أن ينظروا بمنظار الواقعية لا المثالية التي تستوجب الدفاع الأبدي عن اللغة العربية؛ وأن يصغوا لآراء ونظرات ذوي الرأي في تطوير اللغة وتجديدها، وتسديد دعوات الإصلاح بالعمل الجاد والتطبيق العملي.
وقد نطرح آراء موازية أو رديفة لما تقدم في تجديد اللغة العربية؛ وربما سَبَقَنا اليها الكثيرون؛ وهي غيض من فيض حلول مطروح بعضها أم لم يطرح؛ منها تحديث مناهج اللغة العربية في الجامعات والمعاهد والمدارس في كل مراحلها، ومسؤولية التحديث تقع على عاتق المتصدين والمختصين وذوي الخبرة في اللغة، لإعداد ملاك تعليمي متميز كفوء؛ فالتركيز الأول على تعلّم اللغة العربية بصورة صحيحة هو الممهد لتعلّم لغة الآخر، ويعتمد ذلك على وجود أساتذة لغة أكفّاء.
ومنها أيضا تحديث وتبسيط قواعد النحو بشكل دائمي لتكون واضحة بسيطة سلسة؛ فأغلب الطلاب يعانون من صعوبة النحو والإملاء الذي يشكل عقبة كأداء في طريق تعلم اللغة، وأغلب العرب حتى المثقفين منهم لا يجيدون الإملاء الصحيح ما خلا المتخصصين باللغة، فصعوبة النحو والإملاء هي أكبر تحدٍّ يواجهه أبناء العربية. وكما تطورت اللغة عبر العصور فإن -من المفترض- أن تتطور تبعا لها قواعدها، كما تطورت العلوم التطبيقية الأخرى كالرياضيات -مثلا-، واللغة من العلوم اللسانية التي تناظر الرياضيات في القوانين والتطبيقات. وأغلب أبناء الجيل الجديد يهرب من العربية الى لغات أخرى لصعوبتها، وهو أساسا جيل اعتاد على تلقي المعلومة السريعة عبر الشبكة العنكبوتية.
ونرى أن على اللغويين الاهتمام بوضع المعاجم والقواميس في مختلف التخصصات لتستوعب المفردات والمصطلحات الجديدة في اللغة؛ حتى يتسنى للغة مجاراة كل جديد في العلوم باختلافها وتحديثها باستمرار. وإن قاموس اللغة هو الرافد الأول لتقوية وتمتين لغة المتلقي، فضلا عن كونه خير مرجع للباحثين والمثقفين.
ومنها أيضا الحفاظ على الفصحى وتشذيبها من المصطلحات العامية؛ ونحن في زمن تتشابك فيه اللغات، و تختلط الألفاظ ومعانيها بفعل عالم الانترنت وما أحدثه من إرباك في اللغات العالمية عامة فضلا عن العوامل التي أوردناها؛ فكسر قوالب وقواعد العربية الفصحى في الحديث والكتابة ليست صحيحة، وتخلّ باللغة وتشطرها الى شطرين؛ كل منهما لغة خاصة لا تشبه اللغة الأصل، وإذا كانت العربية الفصحى ذات لون واحد ومتفق عليه عند كل العرب، و-مثاله- يمكن لأي عربي متعلم قراءة وفهم أي نصح فصيح؛ فإن اللهجات العامية هي سلاسل بألوان وأشكال شتى غير متفق عليها، متعددة ومختلفة باختلاف وتعدد البلدان العربية وشعوبها، وقد يفضي ذلك الى تعدد القواميس اللغوية لكل بلد باختلاف اللهجات وتعدديتها فيما لو فكّر مهتم باللغة بجمع ألفاظها العامية والفصيحة. ولستُ من دعاة تحديث المصطلحات العامية وتقريبها من الفصحى لتكون الفصحى عملية أكثر وسلسة في التواصل والحوار. واللهجات الدارجة موجودة في كل اللغات ولا تقتصر على العربية فحسب. سمعتُ من بعض الأطباء المغتربين أن من شروط تعيينهم في المستشفيات هو اتقانهم اللهجات العامة، وبعض منهم يفشل في ذلك. اللغة العربية غنية ورياضية وحيوية سواء في فصحاها أو في عاميتها.
إن استهجان اللغة والاستخفاف بقواعدها يخلّ بخطاب المتكلم ونص الكاتب، واللغة العربية بالأساس متخمة ومشبعة باللهجات العامية؛ فمراعاة فصاحة وقواعد اللغة الميسرة السلسة أثناء الخطاب والحديث والكتابة -برأيي -هو ذوق لغوي أنيق، ويضفي على الحديث لياقة ولباقة لا نجدها في غير اللغة العربية. متانة الخطاب تكون بالحفاظ على اللغة والحفاظ عليها هو حفاظ على الهوية الثقافية العربية، والانفتاح على الثقافات الأخرى من المفترض يسوده الاتزان والتعقلن.
تتجدد اللغة بتجدد وتحديث مفرداتها وقواعدها وأصول التخاطب بها. ولغتنا غنية، والمثقفين العرب تفننوا في التعبير بها، والكُتاّب العرب بارعون في صياغة الألفاظ واستحداث مصطلحات جديدة وأساليب تعبيرية هي غاية في الإبداع. ويبرعُ من له ملَكَة لغوية في إيجاد المصطلحات والمفردات الجديدة، ويعتمد ذلك على الخزين اللغوي الذي يدّخره، ولا ننكر دخول مصطلحات جديدة على اللغة الفصحى سببه التطوّر في تعليم اللغة في بعض البلدان العربية كسوريا، ولبنان، وبلدان المغرب العربي، والانفتاح على العلوم الغربية وترجمتها، وتطور نمط الحياة الكلي. ولعل أقوى العرب إتقانا للغة العربية هم بلاد الشام؛ وسوريا بشكل أخص، وبلدان المغرب العربي. و-برأيي- فإن حيوية اللغة ومرونتها وديناميتها تتحقق باستحداث ألفاظ جديدة.
و-حسب وجهة نظري- يمكن القول إن من بين أهم السبل التي تمكّن اللغة العربية من الانفتاح على غيرها من اللغات هي تبسيط قواعد النحو والإملاء، وتحديث الألفاظ والمصطلحات، وتحرير النصوص المكتوبة من الحركات التي ترهق الكاتب وتستنزف وقته وجهده البدني والنفسي؛ فالقارئ العربي لا يهتم بتحريك الكلمات بقدر اهتمامه بفكرة النص، وماذا يستفيد من الحركات؟ وهي لتلاميذ المرحلة الابتدائية لتعليمهم النطق السليم. لا ندري من الذي جاء لنا ببدعة تحريك الكلمات في النصوص العربية الحديثة؟
وبالنسبة لمأزق العولمة، فشروط اجتيازه صعبة، وتعتمد على همة وحرص وجدّ ذوي الخبرة والاختصاص في شؤون اللغة من تنفيذها؛ فالتنظير لا يفي بشيء ما لم يسنده العمل والتطبيق، ومن الشروط مثلا العمل على تعريب العلوم والمعارف بمختلف فروعها والمؤسسات العلمية والثقافية والاقتصادية، وتنشيط حركة الترجمة للمؤلفات في مختلف المجالات والتخصصات، وإعداد كادر مهتم بالمعاجم والفهارس، والاهتمام بالتعليم الآكاديمي، وتهيئة مناهج الجامعات وتوفير فرص انفتاحها على الجامعات العالمية ومراكز البحث ودور النشر، وتشجيع طلبة الجامعات على كتابة الأبحاث والدراسات اللغوية المرتبطة بالتقنية والصناعات الحديثة، أضف اليها دخول اللغة العربية في عالم البرمجة الألكترونية كما الانجليزية.
ما يجدر قوله: إن ما تقدّم ذكره من آراء ماهي الاّ محاولات لا تعني تقوقع اللغة العربية وانطوائيتها وهي سادس اللغات العالمية لكن لا لتذويبها وسط الفوضى اللغوية العارمة.
 
.........................
[1] عبد اللطيف، محمد. موقع اسلام أونلاين(19/12/2019).
[2]  نفس المصدر.
[3] المبارك، د. مازن. موقع alukah.
[4] عبد اللطيف، محمد. مصدر متقدم.
[5] نفس المصدر .
[6]  نفس المصدر.
[7] المبارك، د. مازن. مصدر متقدم.
[8]  نفس المصدر.
[9]  عبد اللطيف، محمد. مصدر متقدم.
[10]  نفس المصدر.
[11] نفس  المصدر.
[12]  عسيلان، أ. د. عبد الله بن عبد الرحيم. موقع حماسة الألكتروني.
[13]عبد اللطيف، محمد.مصدر متقدم.
[14]  في إصلاح النحو العربي، ص123- 133، نقلا عن العكيلي، أ. د حسن منديل حسن. محاولات التيسير النحوي الحديثة. بيروت: دار الكتب العلمية، 1971، ص47..
[15]  الخولي، أمين. مناهج التجديد، ص17، نقلا عن الرفاعي، د. عبد الجبار. الدين والاغتراب الميتافيزيقي. بيروت: دار التنوير، ط1، 2018، ص136.
[16]  عبد اللطيف، محمد. مصدر متقدم.
[17]عبد اللطيف، محمد. مصدر متقدم.
[18] نفس المصدر.
[19] الطباطبائي، السيد محمدحسين. الميزان في تفسير القرآن. ج19(تفسير سورة الرحمن).
[20] عبد اللطيف، محمد. مصدر متقدم.
[21]  همام. د. محمد. مصدر متقدم.
[22]  موقع ثقافية.
[1]  الرحمن- 3-4.
[2] ابراهيم- 4.
[3] السيد محمد حسين. الميزان في تفسير القرآن، ج19(تفسير سورة الرحمن).
[4] العلق-1-5.
[5]  موقع دراسات الصين والعالم.
[6] القحطاني، خالد فهد سعدان. لغة آدم. موقع صحيفة اللغة العربية.
[7] نفس المصدر.
[8] السليم، فرحان. اللغة العربية وموقعها بين اللغات. موقع صيد الفوائد.
[9] الزمر- 28.
[10]  الشعراء- 195.
[11]  يوسف – 2.
[12] موسوعة كله لك الألكترونية.
[13]  موقع بحوث الألكتروني.
[14] القحطاني. مصدر متقدم.
[15] موقع موضوع (يناير 2018)..
[16]  موقع دراسات الصين والعالم.
[17]  نفس المصدر.
[18]  حسين، د. طه. في الأدب الجاهلي. القاهرة: دار المعارف، ط9، ص7.
[19] بنت الشاطئ، عائشة عبد الرحمن. لغتنا والحياة. القاهرة: دار المعارف المصرية، 196.
[20] موقع موضوع الألكتروني.
[21] موقع دراسات  الصين والعالم.
 
من اعمال الباحث
أضافة تعليق
آخر مقالات