مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2019/09/09 18:42
أسرار العبادات الإسلامية عند الغزالي (2-2)

لقد وضع الغزالي الإنسان في آرائه الظاهرية دون مرتبة الملائكة. لكنه لم يغلق أمام الإنسان إمكانية تجاوزها في مجرى مساعيه الحثيثة "للتخلّق بأخلاق الحق". وإذا كانت آراؤه العامة تتبع في بعض جوانبها اعتبارات اللاهوت الإسلامي عن الملائكة، فإن الأخيرة لم تكن سوى رموز متنوعة ومتعددة في آرائه وأحكامه ومواقفه. إنها أقرب ما تكون إلى علائم. وفي حالات أخرى أقرب إلى إشارات ورموز، وفي حالات أخرى إلى جواهر قائمة بذاتها. الأمر الذي جعل منها مادة مطواعة في مقارناته. وفي الحالة المعنية لا يعني امتيازها بصلاة واحدة سوى وظيفتها "الجزئية" و"الثابتة" بفعل قيمتها المحددة والنهائية في منظومة العبودية لله أو الإلهية، والتي يفرضها منطق الوحدانية اللاهوتية. لكنها اتخذت في صوفية الغزالي ابعادا عبّرت في وظيفتها عن إدراك المرحلة لقيم الأقمار الضرورية في فلك واحديتها الثقافية. إنها مثلت التجسيد الفرداني الروحي للمثل الأخلاقية في صفائها التام والكامل. إذ لا يمكن للثقافة الحية، وبالأخص تلك التي يرتبط وجودها الباطني و"مشكاة" وحيها الأخلاقي بما وراء وجودها الواقعي والتاريخي، أن تتخلى عن الجواهر القائمة في كل ما هو موجود بوصفها ملائكتها الخاصة. وأن تعطي لها في برزخها الثقافي تصوراتها وقيمها المتسامية، باعتبارها الوسائط الضرورية بينها وبين المطلق. وهي الوساطة التي يحدد طابعها المثالي والواقعي تقلبات العصور والمعارف لا غير. وإلا فإن لكل مرحلة ملائكتها في علاقة السيادة والخضوع. وليس مصادفة أن يطابق الغزالي ضمنيا بين السيادة والمسيود في الصلاة الظاهرة مع مثليها في عبودية السلطة والسيطرة، وأن يذلل هذه الظاهرية في البديل الأسمى من خلال محاولته بناء وحدة الروح الإنساني في جمعه بالله، وفي جمع وحدته الداخلية. فهو المثال الذي لا يكف عن إثارة معضلات الفكر الدائمة ويستثير في أعماق الروح المتعطش ضمان بذله الدائم.  

وطبق هذا الاتجاه والنمط على موقفه من الصوم وأسراره، أي لم تعد عبادة الصوم الميدان الممكن للرياء الديني، لأن حقيقته تقوم في سرّيته بوصفه فعلا لا مرئيا. ولا تعني استتاره هنا سوى ذوبان الوسيلة في الغاية، وذلك لأن حقيقة الصوم بنظره لم تعد شيئا ما غير الكفّ عن الأذى وتركه. وإذا كانت جميع أعمال الطاعات الأخرى كالصلاة والزكاة والحج تقوم بمشهد الخلق ومرأى منهم، فإن الصوم لا يرى حقيقته إلا الله. انه عمل من أعمال الباطن. وقد جعله ذلك يدعوه بالصبر المجرّد لأنه قهر للشهوة[1]، ومن ثم تربية للإرادة أيضا. لهذا تكلم عن مراتب ودرجات الصوم، ابتداء من صوم العوام وانتهاء بصوم خصوص الخواص. حيث وجد في صوم العوام مجرد كفّ البطن والفرج، بينما وجد في صوم الخواص كفّ السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. في حين وجد ذروته عند خواص الخواص في "صوم القلب عن هضم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله بالكلّية"[2].

غير أن الغزالي لم يحصر آراءه في باطنية العبادات الدينية، بقدر ما انه أراد إظهار النسبة الحقة بين تجليها الظاهري وفعلها الباطني. وبالتالي الربط الدائم بينهما. إننا نعثر على نفس الاتجاه المميز لآرائه وأحكامه اللاهوتية عن توحيد مفاهيم وقيم العقلانية والإيمان، الواقعية والميتافيزيقية. لكنه أعطى في الوقت نفسه أولوية المعنى لسيادة القيم العقلية والأخلاقية، وبالأخص من خلال تمريرها في وحدة العلم والعمل، أي في وحدة الذات الإنسانية وسلوكها الأجتماعي والروحي. فعندما تناول قضية الزكاة نراه يشدد على ما أسماه بأسرارها وشروطها الجلية والخفية ومعانيها الظاهرة والباطنة[3]. وبما أن ظاهرها وشروطها ترتبط بتقنين الدفع والعطاء، فإن لهذه الإخيرة صلاتها الروحية بالأخلاق من خلال ما دعاه بالشروط الظاهرة والباطنة وآدابها. بمعنى موقف الإنسان الأخلاقي منها. فهو لم يسع من وراء إبراز شروطها وآدابها الظاهرة والباطنة وتقنينها الفقهي سوى تحديد سلوك السلطة وأخلاقية الفرد الاجتماعية والاقتصادية. وحصر شروطها الباطنة الظاهرة في كل من النية (ينوى بقلبه زكاة الفرض) والبدار عقيب الحلول والفطر ولا يؤخرها. وأن لا يخرج بدلا باعتبار القيمة، بل يخرج المنصوص عليه، وأن لا ينقل الصدقة إلى بلد آخر، وأن يقّسم ماله بعدد الأصناف الموجودين في بلده والمحتاجين إليها[4]. وهي الشروط التي سعى من خلالها الى "قمع" حرية الجشع، وصياغة ضرورة الشروط في منظومة الآداب الباطنة للزكاة. وبهذا لم تعد الزكاة فعلا اجتماعيا أو اقتصاديا بحتا، بل ورمزا ومَعْلَما في تربية الروح الأخلاقي. إذ ليست الزكاة من وجهة نظر الوجوب الأخلاق سوى أسلوب كشف درجة مفارقة الإرادة لمحبوبها أو درجة مفارقة المحب لمحبوبه. فالأموال محبوبة الخلائق. وهي المقدمة التي وضعها في فكرته القائلة بضرورة توجه الإنفراد الحق لمن لا ينفد ولا يزول. أما وقت أدائها المحدد لها فهو رمز إلى الإمتثال الحق، في حين أن أفضلية الإسرار (الإعطاء سرا) هو محاربة الرياء وحب الجاه. غير ـن الغزالي لا يعتمد ولا يتوقف هنا، شأنه تجاه مختلف القضايا الاجتماعية والأخلاقية على معيار واحد. من هنا توكيده على أن الزكاة في الخفاء ليست على الدوام أفضل من القيام بها في العلن. والعكس هو الصحيح، أي إمكانية أن يكون إظهارها العلني أدبا من آداب الباطن في بعض الأحيان، خصوصا عندما يرتبط الإعلان بالنية الخالصة ترغيبا للناس في الاقتداء بمثله. في حين حارب بشدة صدقة المِّنة وذِكرها وإعلانها. فالصدقة الحقة هي صدقة "اللامبالاة" المطلقة في مظاهرها. وهو موقف مبني على أساس وحدة المطلق وكونه غير قابل في حقيقته للتجزئة بين الظاهر والباطن. الامر الذي جعله يشدد على ضرورة استصغار العطايا أيا كانت، باعتبارها مدرسة لترويض السلوك الأخلاقي[5].

لقد كان بإمكان الغزالي التعمق والانسياق في رؤية النسب الحقة بين الظاهر والباطن في أسرار الصوم والصلاة والزكاة. إلا انه أبقى عليها بصيغها المشار إليها أعلاه تاركا للمرء حرية الاستزادة والاستفاضة فيما وضعه من مبادئ عامة. وظهرت هذه الإمكانية بوضوح في مواقفه من عبادة الحج. فقد أدرك سواء في مرحلة ما قبل التصوف وما بعدها مظاهر الحج اللاعقلانية. لهذا أكد على انه "لاحظّ للنفوس ولا أنس فيها، ولا اهتداء للعقل إلى معانيها. فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد وقصد الامتثال"[6]. انه أشار إلى ما في الأمر المجرد وقصد الامتثال في سلوك العوام من "بقايا وثنية"، لأنه كان يعرف "رموز" الوثنية في الطواف والسعي بين الصفا والمروة والتعلق بأستار الكعبة ورمي الجمار وذبائح الهدي. إنها تكشف بقدر متساو عما في رموز الوثنية الغابرة من معايير متحركة صوب وحدانيتها، وعما في الرموز التقليدية للوحدانية الإسلامية من معايير متكلسة تجاه الوثنية العربية (الجاهلية). وذلك لأن هذه "المعايير" ما هي إلا العلاقة القائمة بين العابد والمعبود. لهذا امتثلت في وثنيتها قدرة الأمر المجرد وقصد الامتثال. إذ لم تساق عرب الجاهلية إلى "بيت الله الحرام" بسياط غير سوط إيمانها الوثني. وهي العملية التي تبدع في علاقتها المتجسدة بقصد الامتثال خشوعها التقليدي وأهدافها المستترة والمعلنة. وبالتالي استثارتها روح الوحدة والإخلاص للمبدأ العام، الذي يحدد مسار الحركة منه وإليه. ليس مصادفة أن تضع المتصوفة في رؤيتها للحج درجاته وطبقاته، لتعبّر بذلك عن مستويات علاقة الظاهر بالباطن، والنسبة المدركة في بواعث الأمر المجرد وقصد الامتثال في سلوك الروح والجسد. وهي النسب المجردة، التي بنى عليها تذوقه العقلي الأخلاقي والأخلاقي الحقوقي لأسرار العبادات. وللمقارنة يمكن الإتيان هنا بالتصنيف الذي أورده الطوسي في كتاب (اللمع في التصوف). مع انه ليس التصنيف الوحيد، لكنه يعكس في انموذجه مواقف المتصوفة في علومها وأعمالها وسلوكها وآرائها من الحج وأثره في الظاهر والباطن. فقد صنف طبقات المتصوفة في آدابهم إلى ثلاث طبقات. الأولى منها "إذا حجّوا حجة الإسلام جلسوا واشتغلوا بحفظ أوقاتهم ومراعاة أحوالهم. فطلبوا السلامة ولم يتعرضوا للبلاء مما يلحقهم من المشقة في ذلك". أما الطبقة الثانية "فإنهم لما قطعوا العلائق وفارقوا الأوطان وهجروا الإخوان قصدوا بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول عليه السلام. فقطعوا البراري والقفار بغير حمل نفقة ولا زاد، ولا سلكوا على الطريق، ولا تعلقوا بمصاحبة الرفيق، ولا عدّوا الاميال ولا البرد، ولا طلبوا المنازل ولا المناهل". أما الطبقة الثالثة "فإنهم اختاروا المقام بمكة والمجاورة بها وحبسوا أنفسهم هناك لما خصّ الله تعالى به تلك البقاع والمشاهد من الفضيلة والشرف. ولما وجدوا أنفسهم من التنافر والعجز عن المقام بها، لأنها واد غير ذي زرع، وهو الحجاز، يحجز عن الشهوات واللذات لاسيما لمن كان قوته في الغيب ورزقه مقسوم ورفقه معدوم. والنفس مجبولة على الاضطراب عند عدم الوفاء بها. والعبد مطالب بالسكون تحت الأحكام. فعند ذاك تبين مقامات الرجال"[7]. انه أراد من وراء ذلك الكشف عن طبقات المتصوفة في ما يمكن دعوته بحج الطريق الذاتي، الذي يكشف عن مسار الوحدة الممكنة بين الروح والجسد في مقامات الطريق باعتباره حجا في مسار الحق. تماما بالقدر الذي تعبّر في مقامات الحج السلوكي النماذج الأكثر رفعة عن حقيقة الوحدة بين طابعه التقليدي الظاهر وباطنه المثالي.  

أما بالنسبة للغزالي فالحج لم يعد عملا تقليديا، بل شكلا من أشكال الجهاد الروحي الأخلاقي. من هنا تتبع ما أسماه بمحطاته الظاهرة والبحث فيها عن أسرار الباطن باعتبارها حقيقة الحج. من هنا وضعه عشرين محطة ظاهرة تعكس مسار الحج من بدايته حتى نهايته في الروح والجسد أو أفعاله الظاهرة ومعانيه الباطنة. ولم يكن هذا التناول معزولا عن تقاليده العريقة في التصوف. فقد سبقه أبو طالب المكي إلى ذلك عندما أكد على انه ينبغي للحاج أن "يعتبر في طريقه وسيره بالآيات وما يرى من الحكمة والقدرة في تصريف الخلق وما يحدث الله تبارك وتعالى في كل وقت. فيكون له في كل شيء عبرة، ومن كل شيء موعظة، فإنه على مثال طريق الآخرة. وليكن له بكل شيء تذكرة، وفي كل شيء فطنة وتبصره تردّه الى الله تعالى، وتدل عليه، وتذكره به، ويشهده منها، فيتفكر في أمره ويستدل به على حكمته، ويشهد منه قدرته"[8]. وهي الفكرة التي سبق للطوسي وأن نفذها في محاولته كشف أحد النماذج الرفيعة لنسبة العلاقة بين الظاهر والباطن، والفعل ومعناه الواجب في الحج. واستعرض بهذا الصدد مثال هذه العلاقة في بعض آدابهم، حيث كتب قائلا بأن المتصوفة "إذا بلغوا الميقات غسلوا أبدانهم بالماء وغسلوا قلوبهم بالتوبة. وإذا نزعوا ثيابهم للإحرام وتجردوا وحلّوا العقد وائتزروا وارتدوا فكذلك نزعوا عن أسرارهم الغلّ والحسد، وحلّوا عن قلوبهم عقدة الهوى ومحبة الدنيا، ولم يعودوا إلى ما خرجوا منه من ذلك. ومن آدابهم أيضا أنهم إذا قالوا لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، أن لا يجيبوا بعد ذلك دواعي النفس والشيطان والهوى بعد ما أجابوا الحق بالتلبية وأقروا أنه لا شريك له في ملكه. فإذا نظروا إلى البيت بأعين رؤوسهم نظروا بأعين قلوبهم إلى من دعاهم إلى البيت. فإذا طافوا حول البيت بأبدانهم، فكأنهم ينظرون طواف الملائكة حول العرش. فإذا حلّوا خلف المقام يعلمون انه مقام عبد قد وفى لله بعهده فندب الله الأولين والآخرين إلى متابعة قدمه، واتخاذ صلواتهم خلف مقامه. فإذا استلموا الحجر وقبّلوه، علموا أنهم هو ذا يبايعون الله بإيمانهم. فإذا جاؤوا إلى الصفا فمن الأدب أن لا يعترض بعد ذلك كدورة الصفا قلوبهم. فإذا هرولوا بين الصفا والمروة وأسرعوا في مشيهم فمن الأدب أن يسرعوا بالفرار من عدوهم، ويهربوا من متابعة نفوسهم وهواهم. وإذا وافوا الى منى فمن آدابهم في ذلك أن يتأهبوا للفناء، فلعلهم يصلون إلى مناهم. فإذا وافوا إلى عرفات فأدبهم أن يتعرفوا إلى معروفهم، ويذكروا نشرهم وحشرهم وبعثهم من قبورهم. فإذا وقفوا فأدب الوقوف أن يكون وقوفهم بين يدي سيدهم. فإذا دفعوا إلى المزدلفة فأدبهم أن يكون في قلوبهم العظمة والإجلال لله. فإذا دفعوا إلى الأمام مع إمامهم جعلوا الدنيا والآخرة وراء ظهورهم. فإذا كسروا الحجارة للرمي كسروا مع الحجارة إرادات بواطنهم وشهوات أسرارهم، وممكنات أهوائهم. فإذا ذكروا الله عند المشعر الحرام فالأدب عند ذلك أن يكون مصحوبهم تعظيم مشاعرهم وتشريف مشاهدهم وإعظام حرماتها. فإذا رموا الحجر رموا بحسن الأدب، بملاحظة أعمالهم ومشاهدة أفعالهم. فإذا حلقوا رؤوسهم فآدابهم أن يحلقوا عن بواطنهم حب الثناء والمحمدة مع حلق رؤوسهم. فإذا ذبحوا فأدبهم في الذبح أن يبدؤوا بذبح نفوسهم في نفوسهم قبل ذبح ذبيحتهم. فإذا رجعوا إلى طواف الزيارة وتعلقوا بأستار الكعبة فمن الأدب أن لا يتعلقوا بغيره ولا يلوذوا بأحد من خلقه بعد اللياذة والتعلق به"[9]. وهي العملية التي ينبغي أن تؤدي في نهاية المطاف ألى تطابق السرّ والعلن في أفعالهم.

وتتبع الغزالي هذه الفكرة والنمط في المواقف. لكنه وضعها في منظومته الإصلاحية الدينية الأخلاقية والاجتماعية الشاملة، أي طريق الجهاد الروحي والجسدي في مساعيها نحو الوحدة الحقة للظاهر والباطن، للفعل ومعناه، للوسيلة والغاية. وليس اعتباطا أن يقارن الحج الإسلامي بالرهبنة النصرانية من حيث فاعليته في تنقية الروح والجسد، لأنه هو الآخر يقدم في مراحله نموذج العزلة والمجاهدة. بهذا لم يعد الحج عبادة تقليدية، بل عبادة الروح المعرفي الأخلاقي. وذلك لأنه لا سبيل للوصول إلى الله، كما يقول الغزالي، إلا بالتنزه عن الشهوات والكفّ عن الملذات، والتجرد لله في جميع الحركات والسكنات. من هنا فكرته القائلة بأن الإسلام جعل الحج رهبانية لأتباعه. انه اعطى له مهمة الكلّية الإسلامية بالصيغة التي طابقها مع الأمة في مبادئ أخلاقها الواجبة، بحيث كفّ عن أن يكون تخصصا بفعل إلزامية الحج للجميع بمعايير الإخلاص الإسلامي.

وقد شكل هذا الفهم الأولي المقدمة التي ينبغي تتبع درجاتها في العزم وقطع العلائق حتى بلوغ المراد الأقصى. وذلك لأنه بعد الفهم والتحقق من أن البيت (الحرام) وضع على مثال حضرة الملوك، من هنا، فإن شاهده قاصد إلى مالكه. وبما أن الله لا يمكن رؤيته بالعين المجردة لهذا أصبح قصد البيت هو شكل من أشكال التشوق إلى رب البيت. أما العزم فهو أن يقصد مفارقة الأهل والوطن وهجرة الشهوات، وأن يجعل عزمه لله وحده. أما قطع العلائق فهو رد المظالم والتوبة الخالصة. وإذا كان الحجاج مضطرين إلى تحملهم بالزاد وشراء الراحلة، فإنهما يطابقان في حقيقتهما الباطنة بالنسبة للمؤمن ما ينبغي طلبه من موضع الحلال للزاد. إذ أن زاده الحياتي ينبغي أن يذكره بزاد حياته الخالدة، لأن سفر الآخرة طويل. وأن حقيقة زاده في الحياة الدنيا هو إزالة كدوراتها وشوائب الرياء العالقة فيها. وإن راحلته هي نعمة الله في الوجود. وذلك لأن وجود الإنسان نفسه هو نعمة من نعم الله الكبرى. لهذا ينبغي أن تذّكره الراحلة بما سيحمله بعد موته. إذ أن سفر الحج مثل سفر الموت. وبالتالي فإن شراء ثوبي الإحرام ينبغي أن يذكره بالكفن. إذ ليس ثياب الإحرام كثياب الحياة. فهي بلا خيط كالكفن. والإنسان لا يلاقي الله بعد الموت بثياب الدنيا. وإذا كان دخول البادية وصعوباتها من حر وبرد وجوع وعطش، فإنها يمكن أن تعني في رمزيتها الباطنة كيفية الخروج من الدنيا حتى البعث. وهو حكم حق، لكنه كينونة غير متناهية في السلوك أيضا. انه ليس علائم العروة الأبدية بل وأسلوبها الدائم. وبالتالي فإن المقارنات الممكنة هنا بين نسب الظاهر والباطن في العبادات هي نسب التجارب الفردية ورؤيتها من جهة، وكيفية ارتباطها في النظام العام من جهة أخرى. لهذا تكلم الطوسي عن آداب المتصوفة باعتبارها آدابا للخواص، وتكلم الغزالي عما ينبغي رؤيته في سلوك المؤمن. وصاغ المبادئ العامة للأمة في عباداتها وترك لأفرادها حرية استيعابها الشخصي وتطبيقها. انه دفع إبداع الفكر الصوفي في منظومته عن وحدة الطريقة والحقيقة إلى مداها الاجتماعي الأوسع من خلال ربطها بقواعد السنّة الإصلاحية للأمة ككل. ومن الممكن العثور على هذا الربط في كل الكتب العشرين لربعي العادات والعبادات من (إحياء علوم الدين). الأمر الذي يكشف عن منظومته الدقيقة في توليف تقاليد "السنّة"، باعتبارها حكمة الجماعة والأمة، مع نتاج الوعي الصوفي وأخلاقيته المتسامية. ويمكن التدليل على ذلك في موقفه من قضايا الزمان والمكان في العبادات على مثال الحج. فقد أذاب الغزالي الزمن العبادي، مع احتفاظه الدائم بقواعده المتوارثة، بحيث أعطى له قيمة المنظِّم الأخلاقي الفعال بوصفه سنّة. وينطبق هذا على كافة العبادات. من هنا يمكن القول، بأن مأثرته مقارنة بمن سبقه بهذا الصدد تقوم في سعيه الدائم لربط أشد الأفكار تحررا وراديكالية بأثقال التجارب التاريخية للأمة، دون أن يخضع في الوقت نفسه أحدهما للآخر. بمعنى بحثه عن حقيقة الوحدة الدائمة في تطورها. لهذا لم يعن إذابته للزمن العبادي سوى ترسيخ عوالم العبادة وبناءها على أساس القيم الأخلاقية المتسامية. ولم ينجز هذه المهمة بمعزل عن تقاليد الثقافة وتطور وعيها العقلي وتعمق تجاربها الروحية. إذ للظاهرة تاريخها الخاص. فقد كان لزمن العبادة الجاهلية معناه الخاص في عوالم الوحدة المافوق قبلية. غير انه لم يمتلئ بكونية الميتافيزيقيا الأخلاقية. لكنه تضمن مع ذلك بعض عناصرها الأولية. إذ ليس الاجتماع الدوري للحج سوى إبداع وحدة الزمن الأخلاقي الديني ووحدة الميتافيزيقيا المعرفية. وقد عمقت التقاليد الإسلامية هذه الظاهرة من خلال تحويل كعبة مكة إلى قبلتها الدائمة. وبغض النظر عن إدراك الغزالي للطابع الجزئي والحسي للوجود الإلهي في مكان محسوس وملموس، إلا انه أبقى على ضرورته بسبب تحول المحسوس الجزئي إلى رمز المطلق غير المتناهي أو الشعاع الذي ينبغي ان يضئ مسالك الأمة في سنتّها العملية.

وهذا بدوره لا يعني في الواقع سوى ما يتطابق مع آرائه عن الإصلاح الديني الشامل من خلال وضعه مهمة خلاص الإنسان ورقيه الأخلاقي والروحي في صلبه. وتتبع هذا الأسلوب في توليفه "زندقة" الفكر الصوفي كما نراها في استنتاجاته الأخلاقية "الغالية" بمقاييس الاعتدال وتقاليده السائدة في الأمة. فعندما تناول على سبيل المثال، مسألة الطواف الشريف أو "طواف القلب بحضرة الربوبية"، فإنه حاول أن يظهره من خلال منظومته الفكرية عن وحدة الظاهر والباطن، والملك والملكوت المنفية في السلوك الصوفي باعتباره مثالا رفيعا للحق. فالبيت (الحرام) ما هو إلا مثال ظاهر في عالم الملك، تماما كما أن الحضرة الإلهية لا شاهد لها لأنها من عالم الملكوت. كذلك الحال بالنسبة للبدن والقلب. فالأول هو مثال ظاهر في عالم الملك و الشهادة، والثاني مثال باطن في عالم الغيب والملكوت. ومن هنا استنتاجه القائل بأن "عالم الملك والشهادة مدركه إلى عالم الغيب والملكوت لمن فتح الله له الباب. وإلى هذه الموازنة وقعت الإشارة بأن البيت المعمور في السموات بإزاء الكعبة، وأن طواف الملائكة به كطواف الأُنس بهذا البيت. ولما قصرت رتبة أكثر الخلق عن مثل ذلك الطواف أمروا بالتشبه بهم بحسب الإمكان، ووعدوا بأن من تشبه بقوم فهو منهم، والذي يقدر على مثل ذلك الطواف هو الذي يقال أن الكعبة تزوره وتطوف به على ما رآه بعض المكاشفين لبعض اولياء الله"[10]. وإذا كان المقصود بهؤلاء الحلاج وأمثاله، فإن الذين ليس بمقدورهم رؤية المطلق في ذواتهم يكون البيت والكعبة بالنسبة لهم وسائل للتشبه بهم حسب الإمكان.

وفي الحصيلة يمكننا القول، بأن آراء الغزالي وأحكامه بصدد العبادات الإسلامية كانت الحصيلة اللاهوتية لآرائه الأخلاقية وتقاليدها الصوفية. فقد سادت فكرة المطلق الأخلاقي في ارآئه ومواقفه بهذا الصدد، الأمر الذي حوّل العبادات إلى رموز محكية ومرئية لما لا يمكن تلمسه ورؤيته بالحواس المباشرة. غير انه لم يسع من وراء ذلك فصل أحدهما عن الآخر، بقدر ما انه سعى إلى تثبيت وحدتهما الأخلاقية المعقولة، ومن ثم ربط العبادات الإسلامية التقليدية بروحية التصوف. وكان ذلك من الناحية التاريخية تثويرا أخلاقيا للإصلاحية الدينية والاجتماعية. إذ لم تكن آراء الغزالي بهذا الصدد معزولة عن واقع انكسار عالم السياسة وترميمها الأفضل في عالم الأخلاق. غير أن هذا الترميم لم يبق في حيّز التأملات المجردة، بل كان في أعماقه الكامنة قوة التأثير الفاعلة في حوافز السياسة العملية. ففي آرائه نعثر بقدر واحد على انتقاده العميق للسلطة غير الأخلاقية وأخلاقية السلطة المكثفة في جهازها القمعي من الفقهاء. لهذا وجّه انتقاده العارم ضد الرياء الديني، وأّسس في الوقت نفسه لتبسيط العبادات وبناء مقوماتها الروحية والأخلاقية. وبالتالي استثارة حقائق المسؤولية الفردية تجاه المصير الفعلي للأمة. وبهذا يكون قد أّسس للإصلاح الديني الشامل، بما في ذلك في العبادات التقليدية من خلال تعميق حرية الفرد في تعامله مع الآلهة باعتبارها الكيان الجامع لفضائل الفرد والجماعة. ولم يقيّد هذا التعامل بسلطة ما غير سلطة الروح الأخلاقي للمطلق. وبهذا يكون قد رفع مسؤولية الفرد إلى أقصى درجاتها الممكنة، تماما بالقدر الذى نّحى جانبا قدسية الهيبة التقليدية والمفتعلة للعبادات في أفعالها وحرّاسها (الفقهاء). انه سعى لتحطيم الأسس المعنوية والفكرية للمؤسسة الدينية في شخصية الفقهاء، والفقهاء في شخصية المؤسسة الدينية من خلال جعل الباعث الديني في العبادات الإسلامية رديفا للباعث الأخلاقي.

***

 ميثم الجنابي

..............................

[1] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص231. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الغزالي اعتبر الشهوة عدوا من أعداء الله وإن الصوم قاهرها، أي أنها تتخذ في منظومته عن العبادات صيغة الرذيلة الباطنة. وهو تحديد له معناه الواقعي والنفسي والأخلاقي في منظومة العبادات ومحتواها العملي والشرعي. فقد أعتبرها الغزالي أحد الأجزاء الضرورية للنفس. من هنا إفراده إياها بقيمة واقعية وحيوية في نشاط الإنسان والمجتمع بما في ذلك في بناء روحهما الأخلاقي. ذلك يعني انه أعطى لها قيمة ايجابية، لكنه ربطها في الوقت نفسه بمنظومة الأخلاق العقلية. بمعنى تحجيمها في الكلّ الايجابي. وبالتالي لم يقصد بالشهوة بوصفها عدوا لله سوى صيغتها الغالية، أي الشهوة المذمومة . وهذه بدورها ليست إلا الصيغة المفرطة التي تتعدى حدودها الطبيعية ووحدة ارتباطها بالكلّ الأخلاقي. لهذا نراه يجد في الصوم وسيلة قهرها. ولا يعني ذلك بالنسبة له سوى كونها ميدان تربية الإرادة وكيانها الروحي الأخلاقي.

[2] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص234.

[3] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص209

[4] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص212-213.

[5] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص213-221.

[6] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص266.

[7] الطوسي: اللمع في التصوف، ص167-169.

[8] ابو طالب المكي: قوت القلوب، ج2، ص119.

[9] الطوسي: اللمع في التصوف، ص171-172.

[10] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص269.

 

أضافة تعليق
آخر مقالات