الدكتور جيلالي بوبكر
* ارتبطت العولمة كحتمية حضارية وضرورة إنسانية فرضها التطور الحضاري العلمي والتقني والاقتصادي والسياسي والعسكري- كما يرى الكثير- وهيمنت على الحياة عامة في العالم المعاصر بالتطور الهائل الذي عرفته تقنيات وأساليب الإعلام والاتصال، والاعتماد على تقنية الإعلام الآلي وشبكة المعلوماتية في الاتصالات المختلفة وفي إنجاز مختلف النشاطات من خلال استعمال الوسائل والبرامج الالكترونية، واستخدام وسائل وأساليب وآليات الاتصال المتطورة من أقمار صناعية ومحطات إذاعية وتليفزيونية وغيرها ، والحرص الشديد على تطوير تقنية الإعلام والاتصال والمعلوماتية والإنفاق الهائل على ذلك، "لقد أنفقت أكبر ثلاثمائة شركة تقانة معلوماتية في العام 1997، ما قيمته 216 مليار دولار على البحث والتطوير وهذا المبلغ أكثر بثلاثمائة مرة مما يخصصه الوطن العربي بأجمعه لكل أنواع البحث وفي عام 1998 زادت هذه الشركات الثلاثمائة نفقاتها على البحث والتطوير بنسبة 13 بالمائة عن نفقات عام1997، وإنفاق العرب على البحث والتطوير مستقر منذ سنوات عديدة على حوالي 750 مليون دولار في العام...لقد أصبحت ثورة الاتصالات وثورة الالكترونيات الحاسبات العمود الفقري لظاهرة العولمة وإن هذه التقنيات هي الأذرع التنفيذية للعولمة كما أنّ هذه التطورات الحاصلة في العالم اليوم لا تحدث أو تعمل على تحول من حقبة إلى حقبة وإنّها توجد عالما خاصا بها عالم العولمة بجميع جوانبه".
* إنّ عصر العولمة هو عصر التقنية بصفة عامة وعصر تقنية الإعلام والاتصال بصفة خاصة، والتقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي عرفه ويعرفه عالمنا المعاصر لا يسلم من كونه أداة تُستغل لممارسة الظلم والاستبداد والقهر وكل أنواع الاستغلال في جميع مجالات الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية عامة، وعبّر عن هذا الوضع المرحوم محمد عابد الجابري بقوله:"إنّ تأثير الإنتاج السمعي البصري العابر للحدود في ثقافات بقية المناطق في العالم كان موضوع كتابات كثيرة اشتكت كلها من مخاطر انحلال الشخصيات الثقافية لتلك المناطق المتأثرة وتسطيح التقاليد الثقافية العالمية". لأنّ "أي تقدم في التكنولوجيا لابد من أن ينطوي على زيادة قدرة الإنسان على تحقيق تفرده والتعبير عن نفسه، فلماذا تفترض أن من الممكن أن ينشأ تضاد أو تعارض بين التكنولوجيا والهوية أليست التكنولوجيا هي وسيلة تحقيق الهوية وطريقة التعبير عنها؟...أنّ التكنولوجيا يمكن أن تتحول بكل سهولة من أداة لخدمة الإنسان إلى أداة لقهره. إن هناك عد تفسيرات ممكنة لانطواء أي تقدم تكنولوجي على إمكانية القهر. هناك مثلا ما أشار إليه "لويس ممفورد" من أن الإنسان معرض دائما لأن يعتبر شيئا ما مرغوبا فيه لمجرد أنّه قد أصبح ممكنا...وقد يكون التفسير هو حاجة الإنسان الدفينة إلى إثبات تفوقه على غيره، فإذا به يحاول أن يستأثر دون غيره بالأدوات المتاحة (سواء أكانت سلاحا أم أداة إنتاج أم أداة من أدوات الاستهلاك) لمجرد الاستمتاع بتفوقه على غيره عن طريق قهره له...أيا كان السبب فإن من المؤكد أن التكنولوجيا الحديثة، أي ما طوره الإنسان من وسائل للإنتاج والاستهلاك خلال القرنين الماضيين وعلى الأخص نصف القرن الأخير، كانت تحمل خطر إخضاع الإنسان للقهر، وتهديدا لهويته وآدميته أكبر مما تعرض له الإنسان طوال تاريخه الطويل، إنّ إغراء الممكن تكنولوجيا، والظن بأنه لمجرد أنه قد أصبح ممكنا، هو أيضا مرغوب فيه، أكبر الآن، في ما يبدو من أي إغراء من النوع نفسه تعرض له الإنسان من قبل. كما أن خطر هذا الظن أكبر بكثير منه في أي وقت مضى، ذلك أن تطوير الإنسان لتكنولوجيا تتجاوز استعداداته وقدراته الطبيعية على التحمل، وتهدد توازنه المادي والنفسي، تزداد احتمالاته كلما زاد التطور التكنولوجي". وتزداد مع حجم تطور التقانة درجة حب السيطرة والتملك، وقوة السطوة ونماء شهوة الشهرة والرغبة في إخضاع الآخر وقهره، وهو السائد في جو العولمة.
* هذا الاستعمال التقني المتطور باستمرار في الاتصال والإعلام في مجال الحياة الاقتصادية أو في ميدان الحياة السياسية والاجتماعية أوفي الجانب العسكري واللوجيستيقي أو في حقل الفكر والثقافة والبحث العلمي وإنتاج المعرفة العلمية وغيرها، اختزل المسافات الكبرى والأوقات الطويلة كما حوّل الطاقة إلى مادة يستغلها الإنسان المعاصر حيثما كان، فتغير حال المكان وتبدّل حال الزمان وتحوّل دور الطاقة ومجال استعمالها، والمؤكد أنّ المظهر الإعلامي والبعد الاتصالي في العولمة شرط لازم لكل مظاهرها وأبعادها وتداعياتها بل هو شرط وجودها وتحقيق نفوذها وهيمنتها ولولاه ما تجسدت إرادة هيمنة القوى الكبرى، فهو وراء الانفجار العلمي والتقني والثورة الصناعية وتطور وسائل وأساليب العمل والتأثير في الطبيعة وفي الفرد والمجتمع ووراء الازدهار الاقتصادي والتطور السياسي والاجتماعي والثقافي والعسكري وغيره، لأنّ أيّ ميدان من الميادين المذكورة لا يمكنه أن يستقيم ويستقر ويزدهر في غياب تحكمه في مجال الإعلام والاتصال داخل هذا الميدان من جهة وبينه وبين الميادين الأخرى في المجتمع المتواجد فيه وخارج هذا المجتمع من جهة ثانية أي في الحياة عامة.
* لا يختص كل من مجال الاتصال ومجال الإعلام بالحياة الثقافية والفكرية ويقتصر عليها، فهي إذا كانت مظهرا من مظاهر الحياة الإنسانية عامة، فحقل الإعلام والاتصال هو الآخر مظهر من مظاهر الحياة وبعد من أبعاد العولمة بل شرط وجودها ونفوذها وهيمنتها، لأنّ انتشار ثقافة العولمة والترويج لها، ثقافة الغرب والأمريكان، الفكر الليبرالي وثقافة الحداثة والتحديث وسائر قيّم ودلالات النظر والعمل والممارسة في الغرب الحديث والمعاصر، وتغلغل الفكر الليبرالي السياسي والنهج الديمقراطي في حياة الناس عبر كل مناطق العالم، وانتشار اقتصاد السوق فلسفة ونظاما وإنتاجا واستهلاكا وتجارة في كافة جهات المعمورة، وبسط النفوذ العسكري للمركز على كافة الأطراف وفي كل جهات الأرض، كل هذا من صنيع التطور والازدهار الذي عرفته تقنيات وأساليب ووسائل الاتصال والإعلام، بالإضافة إلى ما حققته هذه التقنية من تطور وازدهار في جانب نقل الأخبار وبثها والدعاية والإشهار، وفي تقديم أنشطة التسلية والترفيه واللهو واللعب وكافة أنشطة المتعة والراحة، حتى أن الإنسان غرق في بحر قطاع الإعلام والمعلوماتية، لما فيه من تنوع هائل في أجهزة البث والإرسال، وتعدد كبير في قنوات التواصل الإذاعي والتليفزيوني والمحطات والأقمار الاصطناعية وغيرها، كما يشهد القطاع الإعلامي ظاهرة التخصص الضيق، مما زاد في تطويره وتوسيعه، فهناك الإعلام السياسي والاقتصادي والرياضي والخاص بالمرأة وبالطفل وبالصحة وبغيرها.
* أصبحت في هذا الجو الصورة الإعلامية أكثر وقعا على المشاهد من غيرها، لما تضعه من تعدد في البدائل للاختيار، ولما تسمح به من تقليص المسافات الزمنية والمكانية بين سكان المعمورة، فالعالم بات قرية صغيرة ومؤسسة تديرها الأمركة وتقدم صورتها العولمة الإعلامية، لكن الصورة الإعلامية المنقولة إلينا بأي وسيلة كانت فإنها تترك فجوات وآثار على حياتنا هذه الفجوات والآثار مرتبطة بالمرسل والمرسل إليه، ففجوة الصورة "التي تظهر على الشاشة والصورة التي يتلقاها المشاهدون في مقامات مختلفة كما يقول "امبرتوإيكو" فالرسالة التلفازية رسالة هدفها تحقيق إغلاق إيديولوجي يتعلق بمقصدية المرسل الذي يسعى إلى أن نرى العالم من خلال أعين السلطة وعندما يطلب ذلك، فأن المطلوب منا أن نؤمن بدون جدال بأننا نرى الواقع الموضوعي الذي يماثل الحقيقة الرسمية للسلطة...فالفضاء الصوري التلفازي فضاء استبدال يعمل على استبدال صورنا الشخصية عن العالم والمتولدة داخليا بالصورة المتجسدة لنا بواسطة وسائل الصور المتحركة فحين تشاهد التلفاز تكون جميع قدراتك العقلية لتكوين الصورة ساكنة هاجعة مغمورة بالصورة التلفازية على نحو مؤثر بينك وبين الصورة الشخصية، يستبدل نفسه، أي يحل محل غيره، حسبما يشير "جيري ماندر". وتزداد خطورة ذلك دعائيا في أن فضاءات الصور التي تختزن في ذاكرة المتلقي لعن أحداث في أماكن لم يشاهدها ولن يصلها منقاة من الصور التلفازية وبالتالي فإن سلوكه أو مواقفه اللاحقة مبنية إيديولوجيا على خزينة من هذه الفضاءات الصورية". ولما كانت الشركات الإعلامية العالمية المتعددة الجنسيات تشرف على التسويق والاتجار بالصور التلفازية، تكون الصور بالضرورة موظفة في الأداء والمردود والتأثير حسب التوجهات الإيديولوجية وسائر انتماءات أصحاب الشركات المتعددة الجنسيات، فشبكة CNN الأمريكية على سبيل المثال لا الحصر حسب خطابها الإيديولوجي تعمل على أمركة العالم، ولا تقدم إلاّ ما يخدم مصالح الأمركة المتصهينة، مثل تعتيمها الإعلامي في نقل أحداث حرب الخليج الأولى والثانية، ومثل التعتيم الإعلامي عما يجري في حرب أفغانستان، ولا تنقل من صور الأحداث والوقائع إلاّ ما يروق للأمريكيين قادة وغيرهم، كما تنقل كل الصور عن العمليات الفدائية التي ينفذها المقاومون في فلسطين وفي العراق وفي غيره، ولا تنقل البتة صور الجرائم التي يرتكبها الصهاينة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي ارتكبها ويرتكبها هؤلاء في غزّة وفي العراق، وفي حق المدنيين العزل، وفي حق النساء والأطفال والشيوخ، وقد نجد من الباحثين في العالم العربي من يشيد بدور شبكة CNN وبثقة الناس بها، فهذا صاحب كتاب "الإعلام الدولي والعولمة الجديدة" يقول:"لقد تميزت CNNباختراقها للبث الإذاعي والتليفزيوني العالمي بسرعة إلى درجة أنّها حصلت على ثقة العالم وكانت هي الشبكة الوحيدة المعتمدة في تغطية أخبار حروب الخليج سواء من أمريكا وحلفائها أو من القادة العراقيين، وكانت لها نشاطات واسعة في الصين وغطت أحداثا هامة هناك مما حدا بالحكومة الصينية في طلب وقف نقلها لأخبار الصين وذلك عندما قامت شبكة CNN بتغطية أحداث الميدان في الصين على الهواء مما أثار حفيظة الحكومة الصينية". والحقيقة أن الاختراق الإعلامي العالمي للشبكة لا يعود البتة إلى موضوعيتها أو حرفيتها العالية بل إلى احتكارها لتقنية الإعلام والاتصال المتطورة على الأرض وفي الفضاء، وبالتالي احتكارها لنقل الصورة الإعلامية، ولم تحظى مطلقا بثقة العالم بل حظيت بثقة خمس العالم الذي يعيش في العالم المتقدم وينعم بأكثر من 80 بالمائة من الناتج الاقتصادي الإجمالي العالمي، أما باقي شعوب العالم فلم تلق منها ومازالت سوى التعتيم الإعلامي ونشر إيديولوجيا الغرب الأمريكي والترويج لسياسة العولمة ومساندة سياسة الحلف الأطلسي والجيش الأمريكي الذي يزداد قهره للشعوب يوما بعد يوم.
* ومن جانب آخر فإنّه منذ ابتكار الوسائل والأجهزة السمعية البصرية وتطورها وازدهارها إلى اليوم والمعركة تدور رحاها بين الفكر والعقل والنخبة من جهة وبين الصورة والصوت والجماهير من جهة ثانية، وإذا كانت "ثقافة الصورة هي ثقافة الجمهور أو العمود الفقري للثقافة الجماهيرية، كما أنها ثقافة الوجدان والانفعال والغرائز. ومبدئيا نقول إنّ ثقافة الكلمة هي امتداد للاستدلال العقلي، وإنّ ثقافة الصورة امتداد للإدراك البصري...الصورة هي الغاية والمنتهى، هي البديل عن العالة أو القائم مقام العالم العيني، بل إن الصورة توهمنا بأنها هي الواقع العيني، هذا العالم بخدعة خادع، هو الذي ينتقل إلينا في بيوتنا...ولا تكتفي الصورة بأن توحي لنا بأنّها هي الواقع الحق...بل إنها على المستوى المعرفي تخدعنا عندما توحي لنا بأنها هي العلم عينه والمعرفة عينها والثقافة ذاتها...أما الكلمة فهي تنتمي وجوديا ومعرفيا إلى نظام آخر. الكلمة على العموم أداة ووسيلة أو رمز دال، وهذا الدال عند تآلفه مع مجموعة دوال أخرى يطلق في ذهننا آلية التفكير: أي آلة مقارنة وحكم واستخلاص، ولنقل آلية تأويل...يكون وقع الصورة أقوى من وقع الكلمات". تراجعت ثقافة الكلمة وتنامت وتعاظمت ثقافة الصورة المسموعة والمرئية، وأقبلت المؤسسات الإعلامية الأمريكية والغربية على فرض الثقافة الليبرالية والنموذج الثقافي والاقتصادي والسياسي الأمريكي على العالم، باستخدام آلية الصورة السمعية البصرية، والحرص على نشر ثقافة الاستهلاك الواسع لما هو ثقافي ولما هو مادي، ومن وراء ذلك تمرير نمط العيش الأمريكي ونقله إلى كافة شعوب العالم، على أنّه النمط الوحيد الذي يلبي كافة حاجات ومطالب الإنسان.
* كان لجانب الدعاية والإشهار الأثر البارز في التعريف بالعولمة وبمظاهرها وأبعادها وآثارها وتداعياتها المختلفة السلبية والإيجابية، والتعريف بالشعوب وبثقافاتها وبتراثها وتاريخها وأفكارها وأنماط عيشها، والتعريف بجغرافيا العالم وبأفلاكه وما في ذلك من تنوع واتساع، والتعريف بالتطور الحاصل وباستمرار في جميع مجالات الحياة، كل هذا يصدر عن تقنية الإعلام والاتصال التي هي بحوزة المركز ينتجها ويديرها بحسب مصالحه وتطلعاته وبحسب توجه العولمة لديه من دون اعتبار مصالح وحاجات الأطراف، والمظهر الإعلامي الاتصالي يصب في تعميم تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وتعميم الأنماط الثقافية للمركز عن طريق وسائل الإعلام وبواسطة ووسائط وأدوات الاتصال، من خلال المظاهر السابقة الفكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها، خاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وغياب بديل حقيقي عملي عن الفكر الليبرالي، أما المظهر العسكري فلا وجود لوضع مختلف عما هو عليه، أما المظهر الإعلامي فالأمر فيه يختلف وصعب لأن التوحيد ممكن على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري بينما التنوع الثقافي والتعدد الفكري مستمر غير قابل للتوحيد، فلكل مجتمع تراثه يوجهه وثقافته تحكمه وتحدد سلوكه، ولا تسمح له بالانخراط في فضاء ثقافي آخر والاندماج والذوبان فيه كليا ووفقا لما يجري في الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية، لأنّ الكثير من شعوب العالم التي تعرّضت ومازالت تتعرّض لمحاولات الاختراق الثقافي، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل وزادت تلك الشعوب تمسكا وارتباطا بانتماءاتها الثقافية والتاريخية والحضارية.
* ارتبطت العولمة كحتمية حضارية وضرورة إنسانية فرضها التطور الحضاري العلمي والتقني والاقتصادي والسياسي والعسكري- كما يرى الكثير- وهيمنت على الحياة عامة في العالم المعاصر بالتطور الهائل الذي عرفته تقنيات وأساليب الإعلام والاتصال، والاعتماد على تقنية الإعلام الآلي وشبكة المعلوماتية في الاتصالات المختلفة وفي إنجاز مختلف النشاطات من خلال استعمال الوسائل والبرامج الالكترونية، واستخدام وسائل وأساليب وآليات الاتصال المتطورة من أقمار صناعية ومحطات إذاعية وتليفزيونية وغيرها ، والحرص الشديد على تطوير تقنية الإعلام والاتصال والمعلوماتية والإنفاق الهائل على ذلك، "لقد أنفقت أكبر ثلاثمائة شركة تقانة معلوماتية في العام 1997، ما قيمته 216 مليار دولار على البحث والتطوير وهذا المبلغ أكثر بثلاثمائة مرة مما يخصصه الوطن العربي بأجمعه لكل أنواع البحث وفي عام 1998 زادت هذه الشركات الثلاثمائة نفقاتها على البحث والتطوير بنسبة 13 بالمائة عن نفقات عام1997، وإنفاق العرب على البحث والتطوير مستقر منذ سنوات عديدة على حوالي 750 مليون دولار في العام...لقد أصبحت ثورة الاتصالات وثورة الالكترونيات الحاسبات العمود الفقري لظاهرة العولمة وإن هذه التقنيات هي الأذرع التنفيذية للعولمة كما أنّ هذه التطورات الحاصلة في العالم اليوم لا تحدث أو تعمل على تحول من حقبة إلى حقبة وإنّها توجد عالما خاصا بها عالم العولمة بجميع جوانبه".
* إنّ عصر العولمة هو عصر التقنية بصفة عامة وعصر تقنية الإعلام والاتصال بصفة خاصة، والتقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي عرفه ويعرفه عالمنا المعاصر لا يسلم من كونه أداة تُستغل لممارسة الظلم والاستبداد والقهر وكل أنواع الاستغلال في جميع مجالات الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية عامة، وعبّر عن هذا الوضع المرحوم محمد عابد الجابري بقوله:"إنّ تأثير الإنتاج السمعي البصري العابر للحدود في ثقافات بقية المناطق في العالم كان موضوع كتابات كثيرة اشتكت كلها من مخاطر انحلال الشخصيات الثقافية لتلك المناطق المتأثرة وتسطيح التقاليد الثقافية العالمية". لأنّ "أي تقدم في التكنولوجيا لابد من أن ينطوي على زيادة قدرة الإنسان على تحقيق تفرده والتعبير عن نفسه، فلماذا تفترض أن من الممكن أن ينشأ تضاد أو تعارض بين التكنولوجيا والهوية أليست التكنولوجيا هي وسيلة تحقيق الهوية وطريقة التعبير عنها؟...أنّ التكنولوجيا يمكن أن تتحول بكل سهولة من أداة لخدمة الإنسان إلى أداة لقهره. إن هناك عد تفسيرات ممكنة لانطواء أي تقدم تكنولوجي على إمكانية القهر. هناك مثلا ما أشار إليه "لويس ممفورد" من أن الإنسان معرض دائما لأن يعتبر شيئا ما مرغوبا فيه لمجرد أنّه قد أصبح ممكنا...وقد يكون التفسير هو حاجة الإنسان الدفينة إلى إثبات تفوقه على غيره، فإذا به يحاول أن يستأثر دون غيره بالأدوات المتاحة (سواء أكانت سلاحا أم أداة إنتاج أم أداة من أدوات الاستهلاك) لمجرد الاستمتاع بتفوقه على غيره عن طريق قهره له...أيا كان السبب فإن من المؤكد أن التكنولوجيا الحديثة، أي ما طوره الإنسان من وسائل للإنتاج والاستهلاك خلال القرنين الماضيين وعلى الأخص نصف القرن الأخير، كانت تحمل خطر إخضاع الإنسان للقهر، وتهديدا لهويته وآدميته أكبر مما تعرض له الإنسان طوال تاريخه الطويل، إنّ إغراء الممكن تكنولوجيا، والظن بأنه لمجرد أنه قد أصبح ممكنا، هو أيضا مرغوب فيه، أكبر الآن، في ما يبدو من أي إغراء من النوع نفسه تعرض له الإنسان من قبل. كما أن خطر هذا الظن أكبر بكثير منه في أي وقت مضى، ذلك أن تطوير الإنسان لتكنولوجيا تتجاوز استعداداته وقدراته الطبيعية على التحمل، وتهدد توازنه المادي والنفسي، تزداد احتمالاته كلما زاد التطور التكنولوجي". وتزداد مع حجم تطور التقانة درجة حب السيطرة والتملك، وقوة السطوة ونماء شهوة الشهرة والرغبة في إخضاع الآخر وقهره، وهو السائد في جو العولمة.
* هذا الاستعمال التقني المتطور باستمرار في الاتصال والإعلام في مجال الحياة الاقتصادية أو في ميدان الحياة السياسية والاجتماعية أوفي الجانب العسكري واللوجيستيقي أو في حقل الفكر والثقافة والبحث العلمي وإنتاج المعرفة العلمية وغيرها، اختزل المسافات الكبرى والأوقات الطويلة كما حوّل الطاقة إلى مادة يستغلها الإنسان المعاصر حيثما كان، فتغير حال المكان وتبدّل حال الزمان وتحوّل دور الطاقة ومجال استعمالها، والمؤكد أنّ المظهر الإعلامي والبعد الاتصالي في العولمة شرط لازم لكل مظاهرها وأبعادها وتداعياتها بل هو شرط وجودها وتحقيق نفوذها وهيمنتها ولولاه ما تجسدت إرادة هيمنة القوى الكبرى، فهو وراء الانفجار العلمي والتقني والثورة الصناعية وتطور وسائل وأساليب العمل والتأثير في الطبيعة وفي الفرد والمجتمع ووراء الازدهار الاقتصادي والتطور السياسي والاجتماعي والثقافي والعسكري وغيره، لأنّ أيّ ميدان من الميادين المذكورة لا يمكنه أن يستقيم ويستقر ويزدهر في غياب تحكمه في مجال الإعلام والاتصال داخل هذا الميدان من جهة وبينه وبين الميادين الأخرى في المجتمع المتواجد فيه وخارج هذا المجتمع من جهة ثانية أي في الحياة عامة.
* لا يختص كل من مجال الاتصال ومجال الإعلام بالحياة الثقافية والفكرية ويقتصر عليها، فهي إذا كانت مظهرا من مظاهر الحياة الإنسانية عامة، فحقل الإعلام والاتصال هو الآخر مظهر من مظاهر الحياة وبعد من أبعاد العولمة بل شرط وجودها ونفوذها وهيمنتها، لأنّ انتشار ثقافة العولمة والترويج لها، ثقافة الغرب والأمريكان، الفكر الليبرالي وثقافة الحداثة والتحديث وسائر قيّم ودلالات النظر والعمل والممارسة في الغرب الحديث والمعاصر، وتغلغل الفكر الليبرالي السياسي والنهج الديمقراطي في حياة الناس عبر كل مناطق العالم، وانتشار اقتصاد السوق فلسفة ونظاما وإنتاجا واستهلاكا وتجارة في كافة جهات المعمورة، وبسط النفوذ العسكري للمركز على كافة الأطراف وفي كل جهات الأرض، كل هذا من صنيع التطور والازدهار الذي عرفته تقنيات وأساليب ووسائل الاتصال والإعلام، بالإضافة إلى ما حققته هذه التقنية من تطور وازدهار في جانب نقل الأخبار وبثها والدعاية والإشهار، وفي تقديم أنشطة التسلية والترفيه واللهو واللعب وكافة أنشطة المتعة والراحة، حتى أن الإنسان غرق في بحر قطاع الإعلام والمعلوماتية، لما فيه من تنوع هائل في أجهزة البث والإرسال، وتعدد كبير في قنوات التواصل الإذاعي والتليفزيوني والمحطات والأقمار الاصطناعية وغيرها، كما يشهد القطاع الإعلامي ظاهرة التخصص الضيق، مما زاد في تطويره وتوسيعه، فهناك الإعلام السياسي والاقتصادي والرياضي والخاص بالمرأة وبالطفل وبالصحة وبغيرها.
* أصبحت في هذا الجو الصورة الإعلامية أكثر وقعا على المشاهد من غيرها، لما تضعه من تعدد في البدائل للاختيار، ولما تسمح به من تقليص المسافات الزمنية والمكانية بين سكان المعمورة، فالعالم بات قرية صغيرة ومؤسسة تديرها الأمركة وتقدم صورتها العولمة الإعلامية، لكن الصورة الإعلامية المنقولة إلينا بأي وسيلة كانت فإنها تترك فجوات وآثار على حياتنا هذه الفجوات والآثار مرتبطة بالمرسل والمرسل إليه، ففجوة الصورة "التي تظهر على الشاشة والصورة التي يتلقاها المشاهدون في مقامات مختلفة كما يقول "امبرتوإيكو" فالرسالة التلفازية رسالة هدفها تحقيق إغلاق إيديولوجي يتعلق بمقصدية المرسل الذي يسعى إلى أن نرى العالم من خلال أعين السلطة وعندما يطلب ذلك، فأن المطلوب منا أن نؤمن بدون جدال بأننا نرى الواقع الموضوعي الذي يماثل الحقيقة الرسمية للسلطة...فالفضاء الصوري التلفازي فضاء استبدال يعمل على استبدال صورنا الشخصية عن العالم والمتولدة داخليا بالصورة المتجسدة لنا بواسطة وسائل الصور المتحركة فحين تشاهد التلفاز تكون جميع قدراتك العقلية لتكوين الصورة ساكنة هاجعة مغمورة بالصورة التلفازية على نحو مؤثر بينك وبين الصورة الشخصية، يستبدل نفسه، أي يحل محل غيره، حسبما يشير "جيري ماندر". وتزداد خطورة ذلك دعائيا في أن فضاءات الصور التي تختزن في ذاكرة المتلقي لعن أحداث في أماكن لم يشاهدها ولن يصلها منقاة من الصور التلفازية وبالتالي فإن سلوكه أو مواقفه اللاحقة مبنية إيديولوجيا على خزينة من هذه الفضاءات الصورية". ولما كانت الشركات الإعلامية العالمية المتعددة الجنسيات تشرف على التسويق والاتجار بالصور التلفازية، تكون الصور بالضرورة موظفة في الأداء والمردود والتأثير حسب التوجهات الإيديولوجية وسائر انتماءات أصحاب الشركات المتعددة الجنسيات، فشبكة CNN الأمريكية على سبيل المثال لا الحصر حسب خطابها الإيديولوجي تعمل على أمركة العالم، ولا تقدم إلاّ ما يخدم مصالح الأمركة المتصهينة، مثل تعتيمها الإعلامي في نقل أحداث حرب الخليج الأولى والثانية، ومثل التعتيم الإعلامي عما يجري في حرب أفغانستان، ولا تنقل من صور الأحداث والوقائع إلاّ ما يروق للأمريكيين قادة وغيرهم، كما تنقل كل الصور عن العمليات الفدائية التي ينفذها المقاومون في فلسطين وفي العراق وفي غيره، ولا تنقل البتة صور الجرائم التي يرتكبها الصهاينة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي ارتكبها ويرتكبها هؤلاء في غزّة وفي العراق، وفي حق المدنيين العزل، وفي حق النساء والأطفال والشيوخ، وقد نجد من الباحثين في العالم العربي من يشيد بدور شبكة CNN وبثقة الناس بها، فهذا صاحب كتاب "الإعلام الدولي والعولمة الجديدة" يقول:"لقد تميزت CNNباختراقها للبث الإذاعي والتليفزيوني العالمي بسرعة إلى درجة أنّها حصلت على ثقة العالم وكانت هي الشبكة الوحيدة المعتمدة في تغطية أخبار حروب الخليج سواء من أمريكا وحلفائها أو من القادة العراقيين، وكانت لها نشاطات واسعة في الصين وغطت أحداثا هامة هناك مما حدا بالحكومة الصينية في طلب وقف نقلها لأخبار الصين وذلك عندما قامت شبكة CNN بتغطية أحداث الميدان في الصين على الهواء مما أثار حفيظة الحكومة الصينية". والحقيقة أن الاختراق الإعلامي العالمي للشبكة لا يعود البتة إلى موضوعيتها أو حرفيتها العالية بل إلى احتكارها لتقنية الإعلام والاتصال المتطورة على الأرض وفي الفضاء، وبالتالي احتكارها لنقل الصورة الإعلامية، ولم تحظى مطلقا بثقة العالم بل حظيت بثقة خمس العالم الذي يعيش في العالم المتقدم وينعم بأكثر من 80 بالمائة من الناتج الاقتصادي الإجمالي العالمي، أما باقي شعوب العالم فلم تلق منها ومازالت سوى التعتيم الإعلامي ونشر إيديولوجيا الغرب الأمريكي والترويج لسياسة العولمة ومساندة سياسة الحلف الأطلسي والجيش الأمريكي الذي يزداد قهره للشعوب يوما بعد يوم.
* ومن جانب آخر فإنّه منذ ابتكار الوسائل والأجهزة السمعية البصرية وتطورها وازدهارها إلى اليوم والمعركة تدور رحاها بين الفكر والعقل والنخبة من جهة وبين الصورة والصوت والجماهير من جهة ثانية، وإذا كانت "ثقافة الصورة هي ثقافة الجمهور أو العمود الفقري للثقافة الجماهيرية، كما أنها ثقافة الوجدان والانفعال والغرائز. ومبدئيا نقول إنّ ثقافة الكلمة هي امتداد للاستدلال العقلي، وإنّ ثقافة الصورة امتداد للإدراك البصري...الصورة هي الغاية والمنتهى، هي البديل عن العالة أو القائم مقام العالم العيني، بل إن الصورة توهمنا بأنها هي الواقع العيني، هذا العالم بخدعة خادع، هو الذي ينتقل إلينا في بيوتنا...ولا تكتفي الصورة بأن توحي لنا بأنّها هي الواقع الحق...بل إنها على المستوى المعرفي تخدعنا عندما توحي لنا بأنها هي العلم عينه والمعرفة عينها والثقافة ذاتها...أما الكلمة فهي تنتمي وجوديا ومعرفيا إلى نظام آخر. الكلمة على العموم أداة ووسيلة أو رمز دال، وهذا الدال عند تآلفه مع مجموعة دوال أخرى يطلق في ذهننا آلية التفكير: أي آلة مقارنة وحكم واستخلاص، ولنقل آلية تأويل...يكون وقع الصورة أقوى من وقع الكلمات". تراجعت ثقافة الكلمة وتنامت وتعاظمت ثقافة الصورة المسموعة والمرئية، وأقبلت المؤسسات الإعلامية الأمريكية والغربية على فرض الثقافة الليبرالية والنموذج الثقافي والاقتصادي والسياسي الأمريكي على العالم، باستخدام آلية الصورة السمعية البصرية، والحرص على نشر ثقافة الاستهلاك الواسع لما هو ثقافي ولما هو مادي، ومن وراء ذلك تمرير نمط العيش الأمريكي ونقله إلى كافة شعوب العالم، على أنّه النمط الوحيد الذي يلبي كافة حاجات ومطالب الإنسان.
* كان لجانب الدعاية والإشهار الأثر البارز في التعريف بالعولمة وبمظاهرها وأبعادها وآثارها وتداعياتها المختلفة السلبية والإيجابية، والتعريف بالشعوب وبثقافاتها وبتراثها وتاريخها وأفكارها وأنماط عيشها، والتعريف بجغرافيا العالم وبأفلاكه وما في ذلك من تنوع واتساع، والتعريف بالتطور الحاصل وباستمرار في جميع مجالات الحياة، كل هذا يصدر عن تقنية الإعلام والاتصال التي هي بحوزة المركز ينتجها ويديرها بحسب مصالحه وتطلعاته وبحسب توجه العولمة لديه من دون اعتبار مصالح وحاجات الأطراف، والمظهر الإعلامي الاتصالي يصب في تعميم تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وتعميم الأنماط الثقافية للمركز عن طريق وسائل الإعلام وبواسطة ووسائط وأدوات الاتصال، من خلال المظاهر السابقة الفكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها، خاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وغياب بديل حقيقي عملي عن الفكر الليبرالي، أما المظهر العسكري فلا وجود لوضع مختلف عما هو عليه، أما المظهر الإعلامي فالأمر فيه يختلف وصعب لأن التوحيد ممكن على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري بينما التنوع الثقافي والتعدد الفكري مستمر غير قابل للتوحيد، فلكل مجتمع تراثه يوجهه وثقافته تحكمه وتحدد سلوكه، ولا تسمح له بالانخراط في فضاء ثقافي آخر والاندماج والذوبان فيه كليا ووفقا لما يجري في الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية، لأنّ الكثير من شعوب العالم التي تعرّضت ومازالت تتعرّض لمحاولات الاختراق الثقافي، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل وزادت تلك الشعوب تمسكا وارتباطا بانتماءاتها الثقافية والتاريخية والحضارية.