الملف من إعداد:-
عبد الواحد مفتاح
عز الدين بوركة
الثقافة فعل تنويري، ذو نزعة عقلية وإنسانية: ككينونة تنصهر في بوتقتها كل من الفنون والآداب والأخلاق والمعارف، وما إلى ذلك من أوجه تتجلى من خلالها قدرات الإنسان وطاقاته الإبداعية، التي يصير لها أن تكون العماد الأساس لأي خطو نحو التقدم والنهضة، لأي شعب فهي الفاعل الأقدر على التأثير التنموي في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، وحتى السياسية لما لها من كونية في الطرح، وارتباط أكيد بحقوق الإنسان، وبالتعايش الديمقراطي، بالإضافة إلى إسهامها إيجابا في توجيه الأفراد والجماعات، ودفعها نحو الإبداع والتميز، من هنا كان لزاما علينا التوقف في هذا الملف، عند الأسئلة الملحة المرتبطة براهنية الوضع الثقافي، داخل المشهد المغربي عامة، خاصة بعد تجاوز فترة ما عرف بالانتقال الديمقراطي من جهة وسحابة الربيع العربي من جهة أخرى
ماذا عن المؤسسات الثقافية؟ ووفائها بما تدعيه؟
وهل من الممكن الحديث عن دينامكية ثقافية في مغرب اليوم؟ وما دور الفعل الثقافي في التنمية الاقتصادية والمجتمعية؟
ما كان لنا إلا أن نأخذ هذه الأسئلة وسواها إلى نخبة من الفاعلين الجادين في الحراك الثقافي، من مسيّرين لجمعيات ثقافية وباحتين ليكون لنا معهم هذا الملف الذي نسعى من خلاله أن يكون أرضية لنقاش مجتمعي أوسع..
يقول الأكاديمي وعالم الجماليات د. موليم العروسي ردا عن سؤال وضعية العمل الثقافي اليوم بالمغرب:
"العمل الثقافي بالمغرب يلاقي صعوبات كثيرة أهمها عدم اعتراف المجتمع بشيء يسمى الثقافة. هناك عدد كبير من الناس من بينهم سياسيون ومسئولون كبار لا يفرقون بين الثقافة والتعليم فكيف الحديث عن عموم الناس. من هذا المنطلق لا يمكن للعمل الثقافي أن يعتمد على مساندة مجتمعية قد تترجم فيما بعد إلى مردود مادي يسهم في تسيير وتنشيط الشأن الثقافي. العمل الثقافي يسوق الرمز ولذا فإنه من الصعب الاعتماد على وسائل التسويق التقليدية التي تخاطب غرائز الناس. يجب مخاطبة العقول والعقليات لكن للأسف هذه العقليات تكاد تكون متكلسة مغرقة في التقليدانية لذا ترى أن كل ما هو تقليدي يجد له صدى في المجتمع".
حديثنا عن "الثقافي" هنا، يقودنا بالضرورة للحديث عن الجمعيات "الثقافية"، لارتباطها بالفعل الثقافي وكونها جزء من - هذا- المجتمع المدني. مما يجعلنا نعيد طرح السؤال الأخير على شاكلة: ما الدور/ الفعل الذي يمكن أن تلعبه الجمعيات الثقافية في تنمية المشهد الثقافي والمجتمعي في بلادنا؟
حول هذا السؤال يجيبنا الباحت "ابراهيم الحجري" قائلا:
"لقد افتقد العمل الجمعوي للأسف فعاليته في دعم المشهد الثقافي، وأصبحت الجمعيات في غالبيتها عبارة عن قنوات لوصول غايات لا ثقافية، إما سياسوية أو مادية أو للتغطية عن أمور أخرى لا علاقة لها بالثقافة، لذلك تراجع التأطير والإقبال على الأنشطة التي تنظمها هذه الجمعيات، كما أن الفضاءات التي كانت تنشط فيها الجمعيات أغلقت تماما، وأصبحت خرابات، وهي دور الشباب. الإدارة هي الأخرى أسهمت بشكل كبير في تأجيج هذا الوضع المأساوي، بوضعها المنح رهن إشارة جمعيات غير نشطة بحكم العلاقات والخدمات المتبادلة... وفي الوقت الذي كان يجب أن تؤدي فيه الجمعيات دور المحتضن للعمل الثقافي، أصبح إلا من رحم ربي، تلعب دور حجب ومحاربة العمل الثقافي الجاد... لقد غلبت الوصولية على الجمعويين، والنفعية والبحث عن العلاقات والنفوذ، وما لم يتم تنقية المشهد من مثل هذه الوجوه المحسوبة كرها على الثقافة، لن نستطيع أن نرى عملا جمعويا حقيقيا في البلاد".
حاليا، نتوفر على نحو 400000 جمعية في المغرب، بمختلف أصنافها - محتسبين جمعيات قد تم حلها دون اعلامها بذلك- ورقمها ضخم وفي ازدياد، وحسب بعض الإحصائيات التقريبية هناك حوالي 20000 من هذه الجمعيات فاعلة وناشطة و2% منها ذات توجه ثقافي صرف. وحسب احصاء سنة 2006 أزيد من 150 جمعية تحظى بحق النفع العام، وهنا يقودنا الحديث عن جمعيات ثقافية كبرى ﻛ"بيت الشعر" و"اتحاد كتاب المغرب" وغيرهما...
ومشكل هذا الأخير (أي الاتحاد) هو النفس الإيديولوجية الحزبية التي تحوم في أروقته.. والصراعات الناتجة عن الانتقال من الإيديولوجية اليمينية التي كان يمثلها "حزب الاستقلال" إلى أخرى يسارية يتزعمها "الاتحاد الاشتراكي".. "كان أحد أوجه الصراع الأيديولوجي الذي انخرط فيه اتحاد كتاب المغرب، وأصبح هذا الصراع، أو المعنى الأيديولوجي، هو ما يحكم بنية الاتحاد، ويهيمن عليها، فيما بقي المعنى الثقافي مؤجَّلاً، أو كان تابعاً، بالأحرى، للمعنى الأيديولوجي، وخاضعاً له". (صلاح بوسريف).
هذا التخبط الذي يعيشه الاتحاد وجمعيات ثقافية مماثلة، دخولها في صراعات حزباوية وإيديولوجية، بعيدة كل البعد عن العامة والمشهد الثقافي، مؤججة بالتالي صراعات إيديولوجية وفكرية، لا تخدم الصالح العام، ولا التنمية المجتمعية..
1) اكراهات العمل الثقافي في المغرب:
قبل التطرق لهذا المحور، كان لزاما طرح سؤالٍ كفاتحة لولوجه ومناقشته، ما الفرق بين العمل الثقافي الحكومي الذي تطلع به وزارة الثقافة ميدانيا، وبين مؤسسات المجتمع المدني، التي لها هامش أوسع من المناورة الأيديولوجية والحرية في الاختيار والتأسيس؟ وهل استطاعت هذه الأخير تحقيق استثنائية حقيقية يمكن المراهنة عليها؟ وماد عن واقع استقلاليتها؟
يقول الروائي "مصطفى الغتيري" مجيبا عن هذه الأسئلة:
"لقد عرف المغرب الثقافي بروز عدد وافر من الجمعيات المهتمة بالشأن الثقافي محاولة بذلك القيام بعدد من الأنشطة المختلفة، التي تستهدف مبدئيا النهوض بالشأن الثقافي في بلادنا، وبالطبع لا يمكن الحديث عن هذه الجمعيات باعتبارها متشابهة وذلك لأسباب أهمها المرجعيات المختلفة والمتناقضة أحيانا والأهداف غير المعلنة كذلك، فهناك جمعيات أنشأتها الدولة من طرف خفي وتتمتع بدعم كبير، وقد أسست تحديدا لجر البساط من تحت أقدام الجمعيات التابعة للأحزاب السياسية وخاصة اليسارية منها التي كانت في وقت ما تستقطب الشباب المتعلم وتؤطرهم بما يتلاءم مع أفكارها. وإذا كنا نستطيع ان نتحدث عن النية غير الخالصة لكلا النوعين من الجمعيات إذ ان الهاجس الإيديولوجي محركها الأول والأخير، فإن هناك جمعيات مستقلة أخرى أسسها مبدعون ومثقفون تهتم بشتى الأجناس الأدبية، وقد حققت بالفعل الاستثناء وشكلت قيمة إضافية للفعل الجمعوي الثقافي في المغرب، ورغم إمكاناتها المحدودة والمنعدمة أحيانا فإنها مافتئت تقدم خدمات جليلة للثقافة والمثقفين في المغرب".
فما هي اكراهات العمل الثقافي الميداني إذن؟
أما الفاعل الجمعوي القاص ابراهيم ابويه فيقول ردا عن هذا السؤال
"العمل الثقافي الميداني بالمغرب، يعرف تطورا مطردا رغم الاكراهات الكثيرة التي تقف حاجزا بين أهدافه الخاصة والعامة، وبين استراتيجية البلاد وتصوراتها لمفهوم الثقافة. فالجمعيات الثقافية أو مؤسسات الثقافة، رغم اختلاف منطلقاتها وبرامجها ومواردها، لا زالت تتلمس طريقها نحو أدوار الثقافة والفئات المستهدفة من العمل الثقافي، ومدى ملاءمتها لما تمليه الظروف السياسية والاجتماعية، وكذلك نوعية الثقافة التي لن تتعارض مع المبادئ العليا للبلاد. الجمعيات الثقافية تعتمد في رؤيتها وإستراتيجيتها على العمل التشاركي، لأنها بدونه لن تستطيع تنفيذ برامجها الثقافية السنوية، فهي ملزمة بمنهجها وطريقة تدبيرها دون أن تغفل القيمة الحقيقية للتجمعات الثقافية السنوية التي تحافظ على الاستمرارية وعلى زرع القيم الثقافية وتقاسم الأدوار بينها وبين شركائها من كل الفئات الممكنة. ونظرا لقلة الموارد المتاحة، أو صعوبة ضمانها بشكل قار، فإن أغلب الجمعيات الثقافية تحاول أن تكون منسجمة مع مشروعها الثقافي العام، باعتبارها جمعية تنتمي للمجتمع المدني، وبالتالي فهي مطالبة بتغيير قيم المحيط من خلال اندماجها في تكوين المواطن وجعله قادرا على تمثل أدواره في شكلها المعرفي والجمالي واستثمارها لفهم السياقات العامة التي تنتج تلك القيم وتدافع عنها".
وفي نفس المحور يقول الباحت محمد أسليم:
"العمل الثقافي، بمعناه الأكاديمي، هو في طور الانحسار نتيجة انتصار الليبرالية الجديدة، وظهور فاعلين جدد في الحقل الثقافي على الصعيد العالمي، هم أصحاب رؤوس الأموال.. والإيمان بجدوى الفعل الثقافي، من هنا، هو تموقع في القرن السابق، حيث كانت الثقافة رأسمالا رمزيا يمتلكه حفنة أشخاص يمتلكون شرعية الفعل في المجتمع.
ليكن. إذا سلمنا ببقاء الوضع على ما هو عليه، فالإكراهات نوعان: الأول مادي متمثل في غياب البنيات الأساسية الضرورية للوصول إلى كافة شرائح المجتمع، وعدم كفاية المتاح منها. الثاني مرتبط بالتركيبية الاجتماعية لمجتمعنا المتألف من فئات تشبه طبقات جيولوجية يتجاور فيها السحيق والحديث وحثى ما بعد الحداثي..."
2) الدولة ودعم الثقافة:
حديثنا هنا، عن الإكراهات المادية و البنيات الضرورية لوصول "الثقافة" إلى كافة شرائح المجتمع، عبر جسر الجمعيات الثقافية "الميدانية"، يحيلنا إلى الحديث بالضرورة عن دعم الدولة لهذه الجمعيات، ولكن وجب القول أولا، وبموضوعية، أن المشكل الحقيقي في المغرب ليس في شقه المادي فقط فسوء تدير هذا المادي ايضا له الجانب الأهم داخل هذه العملية السلبية بالخصوص
تعرف الساحة الثقافية المغربية عدة فاعلين قائمين بشكل دؤوب على تنشيط الحركة الثقافية والفنية بجميع مكوناتها. ومن بين هؤلاء الفاعلين هناك الجمعيات والهيئات الثقافية، التي يزداد عددها بشكل مضطرد، مشكلا بذلك نسيجا متعدد الألوان والأنماط الفكرية تعكس جميعها مدى الثراء الذي يميز الثقافة المغربية ومجالها الخصب.
تقول الوزارة المعنية في موقعها الرسمي، أنه، ونظرا للأهمية التي تكتسيها الجمعيات في أبعادها الثقافية فإن وزارة الثقافة "تقديرا" منها للدور الذي تقوم به هذه الهيئات، تخصص سنويا حوالي اثنين مليون درهم (2.000.000 درهم) كدعم تحفيزي لفائدة الجمعيات الثقافية والفنية الفعالة، والتي لها إشعاع وطني في المجالين الثقافي والفني. (موقع الوزارة).
هذه اﻟ"ميزانية مخصصة من طرف الحكومة لدعم الجمعيات بصفة عامة وهناك مثلها مخصص من طرف الجماعات المحلية والمؤسسات المالية والاقتصادية لكن هذه المساعدات غالبا ما تكون محكومة إما بالزبونية (بجميع تلاوينها) أو بنوع العقليات المتحجرة التي تسهر على منحها. النتيجة هي أن العمل الثقافي المنفتح على المستقبل والحامل لبوادر التغيير يجد نفسه محاصرا ومدعو للاعتماد على موارده الذاتية. (د. موليم العروسي)..
ثم إن هذا الدعم المخصص للجمعيات الثقافية "هزيل، وهزاله من الغلاف المالي المخصص لوزارة الثقافة الوصية، وفاقد الشيء لا يعطيه، ثمّ، لقد أظهرت أخبار صحفية أن العديد من الجمعيات الثقافية تلقت دعما ماليا إما لا يتناسب ونشاطها الواقعي أو عما تقوم به أصلا، ما يفسح المجال للحديث عن جمعيات أشباح على غرار ما يقال عن موظفين أشباح. وحيث يعيش المغرب حاليا فترة إصلاحات حثيثة، على أكثر من صعيد، يُفترض أنّ هذا الوضع سيصير قريبا من طيات الماضي، والمأمول أن يستند الدعم إلى دفاتر تحملات ويعتمد مبدأ المسؤولية المتبوعة بالمحاسبة". (د. محمد اسليم).
الدولة لها منظورها الخاص، ولها مؤسساتها الثقافية التي تلتزم بمبادئها وتشكل حلقة امتدادها، لذلك فهي تدعمها وتحملها مسؤولية الاشعاع الثقافي الذي سيكون دعامة لمنهجها ونافذة لمشاريعها التنموية بشكل عام. [...] فكل جمعية تعمل على مقدار مواردها، لكنها كلها تجتمع على خدمة القيم الجمالية عند الجميع، لا يهمها أن تسمع التصفيق، ولكن ما يهمها هو جعل الثقافة قيمة حقيقية يشارك فيها كل شخص له غيرة على الموروث الثقافي وتثبيت الهوية والمشاركة في القيم الانسانية التي بدونها لن تنجح أية تنمية بشرية تجعل من المواطن هدفها الأسمى. (ذ. ابراهيم ابويه).