لطالما كانت إشكالية تحديد مفهوم البدعة مطروحة أمام المسلمين الذين ابتلوا في هذا العصر بزمرة من فقهاء الفضائيات الذين لا يعرفون من الدين إلا عموميات لا تؤهلهم للتصدر للفتيا التي باتوا يوزعونها مجانا دون معرفة عبر الفضائيات لتنتشر كالنار في الهشيم دون الرجوع في ذلك إلى الراسخين في العلم من جهابذة علماء الأمة، لهذا تجد فقهاء الفضائيات عندما تقصر بأحدهم همته أو يقصر به علمه عن فهم مسألة أو نازلة –تجده- يتهرب من الاعتراف بجهله ليقول بكل بساطة إنها ” بدعة” وبات العامة من المسلمين يتساءلون عن المخرج من في مثل هذه النوازل.
ولمعالجة هذه المشكلة وتحديد مفهوم البدعة، والتفريق بينها وبين النوازل والمستجدات قام الشيخ عبد الإله العرفج بجهد كبير في هذا المجال عن طريق تأليف كتابه القيم ” مفهوم البدعة” حاول من خلاله حل هذه الإشكالية عن طريق جمع الأقوال والآراء والاختلاف بين علماء الأمة -منذ عهد الصحابة إلى اليوم- في تحديد البدعة، وخلص في نهاية بحثه إلى تعريف البدعة من الناحية الشرعية، وتقسيمها إلى عدة أقسام تعتريها أحكام الضرورات الأربع، أي أن البدعة منها ما هو واجب، وما هو مستحب، وما هو مكروه، وما هو محرم.
وقد حاز كتاب ” مفهوم البدعة” على استحسان كوكبة من جهابذة علماء الأمة أشادوا بمحتواه وأثنوا على مؤلفه خيرا، مؤكدين أنه تناول في كتابه موضوعا شائكا وفصل فيه وأجمل حتى بات باستطاعة أي قارئ للكتاب معرفة أنواع البدعة والتعامل معها.
ونبه العرفج على أمر مهم في مقدمة كتابه هو: أنه لم يقم بهذا البحث وتأليف هذا الكتاب وسرد المسائل التي تعرض لها من أجل الدفع بالمسلمين إلى الاستسلام للبدعة وقبول كل محدثة أو بدعة جديدة بدعوى أن العلماء اختلفوا في آرائهم حولها، وأن اختلافهم رحمة كما يتصور البعض، بل أراد من خلال هذا الجهد إيصال رسالة خاصة للمسلمين تعرِّفهم بمفهوم البدعة وتحرير المعنى الدقيق لها حتى لا يتصور” فقهاء البدعة وأشياعهم” أن كل شيء لم يرد فيه نص هو بدعة حتى لو توقفت مصالح البلاد والعباد عليه، لافتا إلى أن الاختلاف في حكم بعض المحدثات الدينية يدخل في باب الاختلاف المقبول، ولا يلزم أن يكون كله دائرا بين الحق والضلال.
وأشار الشيخ العرفج إلى أن الاختلاف في تحديد البدعة ليس وليد اللحظة بل إنه ظل ميدانا للخلاف بين طبقات علماء الأمة منذ العصور الأولى للإسلام، لكن هؤلاء العلماء أجمعوا على أن البدعة المحرمة هي ما خالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا، وما سوى ذلك هو مجال واسع لاختلاف العلماء فيه، ورأيهم يدور بين الصواب والخطأ، علما أن أصحاب الرأيين من العلماء مأجورون على اجتهادهم، من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر اجتهاده.
يقول العرفج في مبحث كتابه الثاني ص-45 تحت عنوان الإجماع على عدم خلو أي نازلة من حكم الله تعالى
” لما كانت نصوص الشريعة –على كثرتها- معدودة وكانت الحوادث والنوازل والمستجدات لا تقع تحت حد، ولا تحصر فتعد، أجمع العلماء على أنه لا تخلوا واقعة من حكم الله عز وجل، إما تصريحا أو تلميحا، تفصيلا أو تأصيلا، نصا أو دلالة، وقد كان مستند إجماعهم آيات من كتاب الله كقوله تعالى (ما فرَّكنا في الكتاب من شيء) الأنعام:38] وقوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) [النحل:98] إلى آخر الآيات التي توضح أنه لا تخلوا أي نازلة من حكم الله تعالى.
ونبه على أن موضوع البدعة والاختلاف في تحديدها هو الذي تسبب في اضطراب الفتاوى بين علماء اليوم، وما تسبب فيه هذا الاضطراب من فرقة للأمة وظهور الشحناء والبغضاء والتعصب للآراء حتى بات لكل عالم مريدوه الذين لا يتقبلون رأيا يخالف رأي شيخهم مهما كانت قوة النصوص التي تعضده”.
وقسم الشيخ العرفج في كتابه النوازل التي لا بد لعلماء المسلمين من الاجتهاد فيها -والتي عن طريقها نكتشف الفرق بين البدعة والنازلة- إلى ثلاثة أقسام 1- أن تكون النازلة منصوص عليها في الكتاب والسنة فهذا يوجب على المسلمين الانقياد لما ورد فيها من نص لقوله تعالى ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا)
2- مستجدات ابتدعها وأحدثها غير المسلمين، مثل التبرع بالأعضاء، وتغيير جنس الجنين، وعمليات أطفال الأنابيب إلى غير ذلك من الاختراعات الطبيبة، والتنظيمية، 3- مستجدات دينية ابتدعها وأحدثها بعض المسلمين مستحسنين لها مثل: دروس الوعظ بعد صلاة العصر، تخصيص العشر الأواخر من رمضان لقيام الليل، إنشاء المنظمات والجمعيات الخيرية، إلى غير ذلك من الأمور الهامة التي تدخل في مصالح المسلمين، فالواجب في هذه الحالات الاجتهاد وبذل الوسع في استنباط حكمها من نصوص الشريعة الدالة عليها، وردها إلى أمثالها وأشباهها في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عن طريق القياس.
لذا لا يجوز في مثل هذه النوازل أن يبادر إلى تحريمها وإدخالها في باب البدعة دون حجة واضحة وأدلة قاطعة، وإلا لأدى هذا المسلك المتسرع إلى تحريم كل طاعة ومعاملة وعادة وسلوك –ذي صبغة دينية- لم يكن معهودا في الصدر الأول، ومن ثم غلق باب الاجتهاد في النوازل والمستجدات
وخلص إلى أن البدعة هي ما خالف الكتاب والسنة، وهذا ما يجب على المسلمين الابتعاد عنه لأنه ضلال، وما عدا ذلك داخل في باب الاجتهاد، لافتا إلى أن المستجدات والمحدثات تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النحو، فقد كان يقبل بعض ما يستحدثه أصحابه ويقرهم عليه، ويرد البعض الآخر وينهى عنه، وهذا ما درج عليه صحابته من بعده.