السبت 14 صفر 1436 الموافق 06 ديسمبر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد جرت سنَّة الله تعالى أن تختلف هذه الأمة وتفترق إلى فرق كثيرة وقد ارتبطت بهذا الافتراق ممارسات سلبية كثيرة ممن لم يحسن التعامل مع هذه السنة الكونية التي لا بد من وقوعها فأخذ بعض الأمَّة يكفِّر بعضاً لمجرد المخالفة والبعض الآخر يفسِّق غيره أو يضلّله وزاد الشقاق بين الأمة واتسع وتعددت الأقوال والمذاهب حول كثير من الأصول الدينية والمسائل الشرعية حتى غدا الحق ملتبسًا على كثير من الناس وما زال الخلاف مستمرًا ومسيطرًا على الأمة إلى عصرنا الحاضر ذلكم العصر الذي تحتاج الأمَّة فيه إلى الاجتماع أكثر من كل عصر مضى.
ولما أدرك بعض المهتمين بإصلاح حال الأمة شؤم ذلك الافتراق وخطره أراد أن يتخذ طريقًا في الإصلاح يجتنب فيه الافتراق من أصله فنادى بما يسمى بـ" إسلام ما قبل الخلاف" وبعضهم يعبر بـ (سلفية ما قبل الافتراق) وأضحت هذه العبارة شعارًا إصلاحيًّا جذَّابًا تهوي إليه أفئدة كثير من القاصدين للإصلاح والمستاءين من نتائج الافتراق بين طوائف الأمَّة.
والدعوة إلى رجوع الأمة إلى إسلام ما قبل الخلاف ترجع إلى أن تلك المرحلة من تاريخ الأمة تمثل مرحلة الصفاء زمن الرعيل الأول الذي رُبي على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي محل تقدير وقبول بين جميع فرق الأمة إلا من شذَّ (كالشيعة مثلا) فالدعوة إلى تلك المرحلة الزمنية المباركة فيها نبذ للخلاف الذي أقض مضاجع المصلحين، وبدَّد جهود الصادقين.
حتى إن بعض من يدعو إلى إسلام ما قبل الخلاف يتأوه على حال الأمة إذا رأى اجتماعها في الحج مثلا فهذا أحدهم يقول:"وقف المسلمون أمس بعرفة، وأمسوا البارحة في مزدلفة، وانطلقوا منها هذا الصباح، وطاف بالبيت منهم من طاف، وذبحوا أضاحيهم، وحلقوا رؤوسهم، وتحللوا من إحرامهم، كلهم فعلوا أشياء متماثلة، لكنهم حين ينظرون لبعضهم يجدون أن"الفرقة" والخلاف والخصومة قد مزقتهم كل ممزق، وبعثرتهم كل بعثرة فيقف الواحد منهم إلى جوار أخيه وهو في حالة توجس وتخوف وتحسس منه، أهو من فرقته أم من"الآخرين" أهو من الأصحاب أم من"الأعداء"!! هذا ما جعلني أتمنى أن نعود لما كنا عليه في صدر الإسلام، حيث"إسلام ما قبل الفرقة".
فقصد أولئك المنادون بإسلام ما قبل الخلاف أن يرتبط الناس بذلك الجيل مباشرة، ويستقوا من معينهم الصافي، ويسيروا على طريق الوئام والاجتماع الذي كانوا عليه وينبذوا ما آل إليه افتراقهم من تمزق وتشرذم.
وقد لقيت هذه الدعوة رواجًا كبيرًا عند كثير من المعاصرين على مختلف أطيافهم فكتبت فيها الكتابات، وعقدت لها الندوات مع أن هذه الدعوة لها جذور في بداية عصر النهضة فقد دعى محمد عبده إلى"تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى"وهذا ما حاول سيد قطب فعله فقد قصد أن يأخذ العقيدة من نصوص القرآن مباشرة، ويتجاوز فهم رجال الفرق كلها ولهذا أطلق بعض الدارسين على عقيدته: عقيدة سلفية قبل الخلاف المذهبي والكلامي بين المسلمين".
&artshow-86-109756.htm#8226; المقصود بالدعوة إلى إسلام ما قبل الخلاف:
حاصل المعنى الذي يتبادر إلى الذهن من هذه الدعوة هو مطالبة الناس بالرجوع والتحاكم إلى حالة الإجماع والاجتماع التي كانت عليها الأمة في الزمن المتقدم والذي يشمل زمن الصحابة بالضرورة ونبذ الخلاف والافتراق وما تبعه من شحناء وبغضاء بين طوائف الأمة وأن تترك الأمة تلك الانتماءات والتحزبات التي مزقت شملها، وأنهكت كيانها.
والأمر المطلوب الأخذ به هنا هو أن نأخذ بما أجمعوا عليه من أقوال في المسائل الدينية، ومن مناهج البحث التي اعتمدوها.
وهذه الغاية هي أصل الغايات التي يدعو إليها المذهب السلفي والدعوة إليها أصل من أصوله الكبار الذي كان يؤكد على أهميته والدعوة إليه الأئمة الكبار، كمالك والشافعي والثوري وابن المبارك وغيرهم من أئمة مذهب السلف، إلى من جاء بعدهم على مر القرون، إلى عصرنا الحاضر فإن دعوتهم قائمة على الدعوة إلى الأخذ بما كان عليه الصحابة والتابعون لهم من أصول في الاستدلال، وقواعد استنباط وأقوال في المسائل الشرعية الأصولية وكثيرًا ما يكررون في كتبهم وعقائدهم التأكيد على وجوب الأخذ بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وأن ما كانوا عليه هو الحَكَمُ بين طوائف الأمة يقول الأوزاعي:" اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم" ويقول الشعبي:" ما حدثوك به عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخذه. وما حدثوك به عن رأيهم فانبذه في الحش" ويقول أحمد بن حنبل:" أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم" ويقول عمر بن عبد العزيز:" قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم؛ فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي".
وقد درج أتباع مذهب السلف على الدعوة إلى هذا الأصل الأصيل عندهم، حتى إنهم في مناظراتهم لمن خالفهم يلزمونه بأن يثبتوا أن ما قاله منقول عن الصحابة ويجعلون عدم ثبوته عن الصحابة دليلاً على بطلانه ومن ذلك ما قاله محمد بن عبد الرحمن الأدرمي لرجل وقد تكلم ببدعة ودعا الناس إليها:"هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها، قال: فشيء لم يعلمه هؤلاء أعلمته أنت؟ قال الرجل: فإني أقول: قد علموها، قال: أفوسعهم أن لا يتكلموا به، ولا يدعوا الناس إليه، أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم، قال: فشيء وسع رسول صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لا يسعك أنت؟ فانقطع الرجل. فقال الخليفة - وكان حاضرًا -: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم".
فأهل السنة لا يريدون من الناس إلا الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، والرجوع إلى من تبع سننهم من الأئمة الذين شهدت لهم الأمة بالإمامة والعلم وتَحَقُق هذه الغاية يعتبر هدفًا أساسيًّا لهم وهي في الحقيقة دعوة إلى الإسلام الحقيقي الذي أخذ به الصحابة رضي الله عنهم.
فمن كان يدعو إلى إسلام ما قبل الخلاف، ويقصد ما تدل عليه هذه العبارة من معنى ظاهر فهو يدعو إلى مذهب أهل السنة والجماعة في الحقيقة.
&artshow-86-109756.htm#8226; معنى آخر:
إلا أن هذه الدعوة تطلق ويُراد بها أمر آخر هو قدر زائد على الأخذ بما قبل الخلاف فبعض من يطلقها يرى أن الحق لم يعد خالصًا بعد وقوع الافتراق بين الأمة وإنما تأثر بالانتماءات الطائفية والسياسية والحزبية فكل فرقة من فرق الأمة أخذت تقرر الحق، وتراعي في تقريره ما يناسب اتجاهها ولو من طرف خفي ولم تسلم طائفة من طوائف الأمة من هذا اللبس الذي جعل الحق غير خال مما يكدره أو ينقص صفاءه فغدا الحق في الأمة مشوشًا مختلطًا بغيره وضعفت فيه الموضوعية أو انعدمت كل ذلك بسبب الافتراق والتحزب مما يوجب على المصلحين والصادقين ترك ذلك كله، والرجوع إلى إسلام ما قبل الخلاف؛ حتى يتمكن المرء من التوصل إلى الحق الخالص.
وبعض من يدعو إلى إسلام ما قبل الخلاق يبني دعوته على أن الأمة بعد الخلاف قد توزع الحق بين طوائفها فلم تعد هناك طائفة تمثل الحق ويتمثل الحق فيها حتى يؤمر الناس باتباعها والتمسك بمنهجها والانتساب إليها وإنما بعض الحق قد يوجد عند طائفة، وبعضه قد يوجد عند طائفة أخرى فالحق في الصفات مثلا قد يوجد عند الأشاعرة والحق في القدر قد يوجد عند المعتزلة وهكذا دواليك فَفِرق الأمة قد توزعت الحق فيما بينها بعد حصول الافتراق.
ثم يقول إن الأمر لم ينته إلى هذا بل إن الفرق قد تناحرت فيما بينها، وأُلقيت بينهم البغضاء والشحناء ففقدت الأمة هيبتها، وضاعت جماعتها وليس من سبيل إلى الخروج من هذا المأزق إلا بالدعوة إلى الحالة التي لم يتوزع الحق فيها، ولم تفترق فيها الأمة وهي مرحلة إسلام ما قبل الخلاف.
وبعض من يدعو إلى هذه الدعوة باعتبار المعنى الثاني لا يرضى أن ينسب إلى مذهب السلف، أو حتى غيرهم من المذاهب ويقول أنا مسلم وكفى ولا ينتسب إلى غير الإسلام ظنًّا منه أن انتسابه إلى منهج السلف – الذين يدعون إلى الأخذ بما كان عليه الصحابة – يعتبر مشاركة في الفرقة والافتراق، ودعوة إلى بُعدِ الناس عن الحق الصافي!! فتراه يقول إن تلك الانتسابات والتصنيفات أمور حادثة بعد زمن الصحابة فلو كانت من الإسلام لما وجدت بعد زمنهم.
وهذه الدعوة بهذا المعنى الذي يقتضي تكدر الحق في الأمة أو توزعه بين طوائفها من غير أن تكون هناك طائفة تمثل الحق، ويتمثل الحق فيها غير صحيحة وهي مخالفة لدلالات النصوص ومقتضيات الواقع وحتى يتبين ذلك فإنه لا بد من ذكر أمرين مهمين يتجلى بهما الموقف المعتدل من هذه الدعوة وهما.. الأول: الأدلة الشرعية والواقعية التي تدل على خطأ هذا التصور والثاني: الأسباب التي دعت إلى اللبس في هذا الموضوع.
&artshow-86-109756.htm#8226; أدلة خطأ التصور السابق:
دلَّت نصوص كثيرة من الشرع على أن الحق باق في الأمة إلى قيام الساعة فالحق في الأمة الإسلامية لا يزال محفوظًا ثابتًا لا يتغير ودلَّت أيضا على قدر زائد على هذا، وهو أن الحق لا بد أن يتمثل في طائفة واحدة من طوائف الأمة لا يخرج عنها وهي لا تخرج عنه ومعنى هذا: أن الحق لا يوجد كاملاً إلا فيها وليس معناه أنه لا يوجد إلا عندها بل يوجد عند طوائف الأمة قدر من الحق الذي جاءت به الشريعة وهي متفاضلة فيه بحسب قربها وبعدها عما كان عليه الصاحبة رضي الله عنهم وهذا الحق هو الذي يتحقق به إسلامها ولكن الحق الكامل لا يوجد إلا عند طائفة واحدة من تلك الطوائف وهي الطائفة التي التزمت بما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم كما دلَّت على ذلك النصوص الشرعية المتواترة.
ومن تلك النصوص حديث الافتراق المشهور وفيه:"افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فقال الصحابة: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" فهذا الحديث يدل على أن الأمة لا بد أن تفترق، وأن كل فرقة تتميز عن الفرقة الأخرى بأصولها ومقالاتها، بحيث تكون كل فرقة منفصلة عن الأخرى ولهذا صح عدها إلى ثلاث وسبعين فرقة ويدل أيضًا على أن هناك طائفة ستبقى على الحق لا تتغير لأنها باقية على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومن ذلك أيضا النصوص المتواترة التي جاءت في الطائفة المنصورة ومن الألفاظ التي جاء بها الحديث:" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" ومن ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم:"ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله".
فهذه النصوص تدل على أن الحق سيبقى في الأمة إلى قيام الساعة بحيث إن من أخذ به يكون قد أخذ بالحق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسينجو به يوم القيامة وهذا يستلزم عدم ضياع الحق وعدم تكدره وتدل أيضا على أن هناك طائفة في الأمة تمثل الحق الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدعو إليه وتنافح عنه وترد على المخالفين له.
وهذا يقتضي أن هذه الطائفة لا يمكن أن تكون مجهولة غير معلومة الأوصاف والمنهج؛ لأن الجهل بها يقتضى الجهل بكمال الحق فالطائفة التي معها الحق لا بد أن تكون معلومة ظاهرة للناس بمنهجها وطريقها ومن المعلوم أن الظهور درجات والنصوص أثبتت مطلق الظهور ولم تضمن الظهور الكامل؛ ولهذا فقد ينقص ظهور الطائفة الحق في بعض الأزمان أو الأماكن إلى أقل درجاته.
ومن ضروريات تلك الطائفة ألا يكون منهجها مخالفًا لما كان عليه الصحابة وهذا يقتضى انتفاء وجود المخالفة عندهم لما كان عند الصحابة فهم ينتسبون إليهم، ولا يتحرجون من نسبة أقوالهم إليهم ومن ينتسب إلى هذه الطائفة فهو في الحقيقة منتسب إلى الصحابة من جهة إعلانه بمبدأ الأخذ بما كانوا عليه وتبرئه من كل ما يخالف أقوالهم وأصولهم.
ومن يتأمل التاريخ يجد أن الطائفة التي تنتسب للصحابة وتنقل عن الصحابة الأقوال الكثيرة في تأييد أقوالها وتُأسس أصولها بناءً على تلك الأقوال وتهتم بنقل أقوال الصحابة وتبويبها وجمعها ودراسة أسانيدها وتعلن أن كل قول يخالف ما كان عليه الصحابة هو قول باطل وهي مع ذلك تطالب الناس بالنقل عن الصحابة في بناء المسائل الأصلية في الدين هي طائفة واحدة فقط وهي طائفة أهل السنة.
وهذا دليل واقعي ظاهر على كون هذه الطائفة (أهل السنة) هي الطائفة التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها الطائفة الناجية التي تبقى على الحق، وبها يبقى الحق في الأمة إلى قيام الساعة.
وأما الطوائف الأخرى فلا توجد طائفة تستند في بناء في كل أصول المسائل عندها على أقوال الصحابة بل إما أنهم لا يتعرضون لذلك أصلا أو أنهم يعتذرون للصحابة أو يعتمدون عليهم فيما وافق أقوالهم فقط أما الطائفة التي تعلن التزامها بالأخذ بكل ما كان عليه الصحابة والتي تلتزم بالاحتكام في بناء آرائها إلى ما كان عليه الصحابة فهم أهل السنة فقط الذي يدل واقعهم من حيث نصوصهم وتقريراتهم وتأصيلهم ومنهجهم ومناظراتهم لمخالفيهم على اتباعهم للصحابة.
وإذا كان الأمر كذلك فإن الواجب على المرء أن يتبع هذه الطائفة،ويعلن احتكامه إلى أصــولها؛ لأنه بذلك يكون متبعًا لما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم.
&artshow-86-109756.htm#8226; الأسباب التي أدَّت إلى اللبس في تلك الدعوة:
الذي يظهر بعد التأمل في طبيعة الدعوة إلى إسلام ما قبل الخلاف ونبذ الخلاف والافتراق الذي وقع في تاريخ الأمة وطبيعة الداعين إليها ندرك أن تلك الدعوة متمخضة من ثلاثة أسباب وهي:
السبب الأول: عدم التفريق بين الحكم على الطائفة، والحكم على الأفراد المنتسبين للطائفة وهذا الخلط أدى ببعض الناظرين إلى واقع الفرق والطوائف في الأمة أن يعتقد بأن الحكم على طائفة ما بالنجاة أو الصواب والصحة يعتبر حكمًا لكل من انتسب إليها بذلك أو أن الحكم على طائفة ما بالهلاك والفساد يعتبر حكمًا لكل من انتسب إليها والحقيقة أن الأمر ليس كذلك فالحكم على الطائفة لا يلزم أن يكون حكمًا لكل فرد انتسب إليها فالحكم مثلا على الطائفة المتبعة للصحابة (أهل السنة) بالنجاة ليس حكمًا لكل معين من أهل السنة بذلك بل قد يكون المعين منهم عنده من الأسباب ما يوجب له الهلاك وكذلك الحكم على طائفة أهل السنة بإصابة الحق ليس حكمًا لكل من انتسب إليها بأنه مصيب للحق في كل أحواله بل قد تتخلف إصابة الحق عن بعض أعيان أهل السنة فالعصمة ليست إلا للمنهج فقط الذي هو في الحقيقة مبني على إجماع الصحابة فليس هناك فرد يكون الحق ملازمًا له إلا الرسول صلى الله عليه وسلم وأما من عداه فهو معرض لمفارقة الصواب وأفراد أهل السنة من أولئك.
وهذا يستلزم أن المنهج الحق لا يؤخذ من تصرفات الأفراد الخاصة ولا من أقوالهم المفردة وإنما يؤخذ من إجماعاتهم فقط ونتيجة ذلك أن الحكم بالمخالفة للمنهج الحق لا تكون إلا إذا كانت فيما فيه إجماع فقط وأما إن وقعت للأقوال المفردة فلا يصح الحكم عليها بكونها مخالفة للمنهج.
وكذلك قُل في الطوائف الأخرى فالحكم عليها بالخطأ أو الهلاك ليس حكمًا لازما لكل من انتسب إليها بل قد يكون بعض المنتسبين للطوائف المخالفة مصيبًا للحق في كثير من المسائل وقد يكون ناجيا غير هالك باعتبارات أخرى.
وبهذا التقرير نخلص إلى أصل مهم في الحكم على الطوائف المفترقة في الأمة وهو أن لا تلازم بين الحكم على مجموع الطائفة وبين الحكم على أفرادها فليس حكم الفرد هو حكم الطائفة المنتسب إليها دائماً والوعي بهذا الأصل يزيل كثيرًا من السلبيات التي اقترنت بالافتراق في الأمة.
السبب الثاني: عدم التفريق بين الانتساب إلى المنهج وبين الاتباع له فقد وقع خلط كبير بينهما وهذا الخلط أدى إلى التباسات كثيرة أيضا وذلك أن البعض يظن أن من ضروريات الاتباع لمنهج السلف الانتساب إليه مطلقاً وهذا غير صحيح بل الذي يجب في كل حال هو الاتباع لمنهج السلف فقط وأما الانتساب لمنهجهم وهو إعلان المرء اتباعه لمذهب السلف وانتماءه له فهو منوط بوجود المصلحة وانتفاء المفسدة فإن وجدت المصلحة وانتفت المفسدة فليعلن اتباعه وأما إن وجدت مفسدة من إعلانه فإن الجواب عليه ألا يعلن اتباعه كأن يكون في إعلانه لكونه من اتباع مذهب السلف مثلا سبب للتفرقة بين الأمة وحدوث الشقاق بينها فالواجب في هذه الحالة عدم الانتساب إلى السلف؛ لأن المحافظة على جماعة المسلمين أولى من مجرد إعلانه أنه سلفي أو سني ولا يعني هذا أنه تخلى عن منهجه أو مبادئه.
ومثل الانتساب تماما ذِكرُ الفرق والطوائف ومذاهبها فذكر افتراق الأمة وأعيان فرقها منوط بالمصلحة أيضا فليس يحمد دائما ذكر الفرق وبيان أقوالها والحكم عليها وبيان مصيرها بل لا بد من اعتبار الحال والزمان والمكان فإن غلب على ظن المرء أن ذكر الفرق والطوائف يؤدي إلى مفسدة فالجواب عليه عدم ذكر ذلك حينئذ.
وهذا الحكم غير واضح عند كثيرين فيُظن أن من مقتضيات اتباع مذهب السلف –باعتباره المذهب الحق - أن يُعلن ذلك دائما، وأن يُذكر افتراق الأمة والحكم على الفرق الأخرى بالهلاك وهذا كله غير صحيح.
وكذلك بعض من يدعو إلى إسلام ما قبل الخلاف يظن أن الدعوة إلى الأخذ بمذهب أهل السنة فيه دعوة لتكريس الخلاف وتوسيع الشقاق بين الأمة؛ باعتبار أن الدعوة إلى مذهب السلف دعوة إلى إعلان ذلك مطلقًا من غير مراعاة للواقع والحال.
والوعي بهذه التفرقة هام جدًا في تقدير الموقف من الافتراق بين الأمة وهو هام أيضًا في تحديد الموقف ممن يدعو إلى إسلام ما قبل الخلاف؛ لأنه ليس كل من دعا إلى تلك الدعوة يقصد الدعوة إلى ترك الاتباع بل بعضهم يقصد الدعوة إلى ترك الانتساب لما يراه من مصلحة في ذلك.
السبب الثالث: عدم التفريق بين المنهج من حيث هو وبين التخريج على المنهج فكثير لا يكاد يفرق بين الأصول والأقوال التي بناها الصحابة والأئمة الذين أجمعت الأمة على إمامتهم بأنفسهم، أو اعتبروها في صريح أقوالهم وتصرفاتهم وبين ما يخرجه المتأخر عنهم على أصولهم ويجعله في مرتبة واحدة وهذا خطأ أدى إلى التباسات متعددة فلا بد لنا أن نفرق بين منهج أهل السنة من حيث هو، وبين التخريج عليه؛ لأن ذلك المنهج قد انتهى من حيث البناء وكل من جاء بعد الصحابة والأئمة المعتبرين، وأتى بشيء جديد، ونسبه إلى السلف فنسبته إليهم إنما هي على جهة التخريج على أقوالهم فقط وهو قد يكون مصيبًا في ذلك التخريج وقد يكون مخطئًا وليس لقوله من الحرمة ما لأقوال الأئمة ومن خالفه في تخريجه فهو ليس مخالفًا للسلف.
ويظهر أثر هذا التفريق في كثير من المسائل التي ظهرت في عصور متأخرة كالمسائل الفكرية المعاصرة فقد يأتي باحث ما ويخرج موقفًا اتجاه قضية معينة بناءً على أصول السلف وهذا ليس مشكلا ولكن المشكل حقا هو أن يجعل قوله قولاً للسلف! له ما لقول السلف من حرمة ومن خالفه فكأنما خالف قول السلف وهذا كله غير صحيح.
والوعي بهذا نافع في تقليص الخلاف الواقع بين أتباع السلف في عصرنا فإن أكثر اختلافاتهم إنما هي في التخريج لا في الالتزام بالأصول وهو نافع أيضا في تقدير منزلة الأقوال والبحوث المذكورة حول المسائل الحادثة ومن ثم حسن التعامل معها.
فهذه الأسباب الثلاثة هي أهم الأسباب -في نظري- التي أدَّت إلى اللبس في تقييم واقع الافتراق بين الأمَّة، ومن ثم الدعوة إلى الخروج من ذلك كله، والرجوع إلى إسلام ما قبل الخلاف.
ولكن بالتفطن لمواقع الغلط في تلك الأسباب وتمييز مواطن الصحة فيها فلا ضرورة حينئذ لإثارة الدعوة لإسلام ما قبل الخلاف بالصورة التي نجدها عند من يقصد بتلك الدعوة الاتباع حتى لمنهج السلف وإنما الضرورة كل الضرورة في دعوة الناس إلى منهج السلف، وإظهاره للناس، مع ضرورة ترشيد الناس إلى حسن التعامل مع الخلاف والافتراق.