مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/27 18:42
كافية الصارمي على ضوء المنهج الإسلامي: دراسة موازنة
د. مرتضى بن عبد السّلام الحقيقي
المحاضر بقسم اللغة العربية، كلية التربية الفدرالية، بنكشن، ولاية بلاتو، نيجيريا.
الملخّص:
رغم أنّ الشعر العربي النيجيري بدأ جولته بالطابع التقليدي في أحضان المعارضة الفنية، فإنّ الحياة المعاصرة تنصفه على بلوغ قمة تعقّده، وروعة سياقه، بوجود كوكبة من الأدباء الذين مهّدوا له السبيل إلى الانغماس في أعماق الحياة الكبرى، تضفي عليه أريحية ونشاطاً، وتخلع عنه ثياباً بالية. وليس أدلّ على جِدّة نشاط مسار أغراضه وموضوعاته، ووحدة بصيرته على مقاساة الأوضاع الاجتماعية، واستلهام مقاصدها الغضّة النبيلة سوى كافيتي الصارمي اللتين تعرضها هذه المقالة على ضوء المنهج الإسلامي في هذه السطور. ويرى الباحث أن أهمية المقالة تكمن في بلورة شخصية الشاعر من خلال إبداعه في التفاعل معه تفاعلاً حيوياً من خلال أنساقه التعبيرية، إضافة إلى عكس النزعة الإنسانية التي تنماس بها الكافيتان، فتحدّ المقالة تانكم القصيدتان اللتان جادت بهما الشاعر منذ عقدين من الزمن. أما المنهج المعتمد فهو المنهج الوصفي الموازن، للوصول إلى الاستنتاج بعد دقة الاستقراء. وتأتي مناسبة المقالة في زاوية بند تعليم العربية لأغراض خاصّة، فهي إحياء الأدب الذي يحمل البشرية على فهم الحياة بملابساتها المتنوّعة، والله الموفّق إلى أهدى السبيل.
المقدمة:
راح المنهج الإسلامي يمجّد دور الوالدين ويشيد بالإحسان إليهما لاعتبار ذلك مبدأ من المبادئ الإنسانية السامية، فلا شكّ أنّ القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف أمثل دليل على هذه الدماثة الخلقية. وعلى هذا الأساس تنهض كافيتا الصارمي لتلبية هذا الاتجاه الإسلامي كميةً وكيفيةً، فتنطوي دراستهما على بلورة محدودية مقاصدهما وخفايا مراميهما، مع عقد الموازنة بين القصيدتين لحلّ إشكالات أخرى كانت من حقّ المقالة دراستها في حدود محاور آتية:
ا ـ الشاعر وبيئة الولادة والنشأة
ب ـ عرض الكافيتين
ج ـ دراسة الكافيتين على ضوء المنهج الإسلامي:
نقد الفكرة
نقد الأسلوب
ثم تأتي الخلاصة فثبت الهوامش والمراجع، والله الموفّق إلى السداد.
ا.الشاعر وبيئة الولادة والنشأة
هو عيسى بن عبد الكريم الصارمي، الملقّب ’’بروح الله’’. شهد نور الحياة بمدينة جوس( )، ولاية بلاتو، أواخر الستينات، في أسرة عريقة وجاهةً وسؤدداً، إذ ينتمي والده (شيخ الأسرة) إلى نسب ’’سارومي’’ إحدى الأنساب الجليلة في مدينة إلورن. وفي رحاب هذه البيئة السارمية تمت نشأة الشاعر، وهي بيئة لها ما لها من براعم الكرم والعزّة والسيادة والحنكة والشهامة وإباءة الضيم، فتلكم آيات باهرة توارثها الأبناء والأحفاد من ربّ الأسرة كابراً عن كابر( )، وكما أنّها لا تزال في صراع وتنافس شديدين بعدُ بين الأبناء والأحفاد كذلك لا تبرح محتفظةً على وجاهتها في المحيطي العلمي والسياسي في طول المدينة وعرضها.
ينزل الصارمي في الترتيب الأخير بين بني أمّه لوالده وكان أكثرهم حناناً ورعاية وخدمة لهما، فأضحى يحتضن الوالد ويلازم جواره حتى آخر أنفاسه 1992م، كما أمسى في رعاية الوالدة ـ أحسن الله عاقبتها ـ لحدّ الآن، دفاعاً عن حرمتها وصوناً لكرامتها من عوادي الضرات وغيرهن ممن يهدّدون حياتها السلمية.
أما البيئة الكبرى: فتعدّ ’’مدينة جوس’’( )، أكبر البيئات الثقافية المؤثّرة في حياة الشاعر دون أن يبغي بها بديلاً، إذ أولع بها وأخذ قسطاً من بصماتها الطبيعية الرومانسية في خفّة الروح والإيواء والجود والكرم والإيثار والأناقة، إضافة إلى سداد الرأي وحبّ العلم. التحق الصارمي بمدرسة أنصار الإسلام في مدينة جوس منذ وقت مبكّر فحصل على التعليم الابتدائي والإعدادي، ثم سافر إلى مدينة إلورن مسقط أجداده في أواسط الثمانينات، وانضم إلى كلية مدرّسي اللغة العربية، جيبا، ولاية كوارا، فتخرّج فيها بعد قضاء سنوات أربع 1989م لنيل الشهادة الثانوية العالية.
وفي عام 1989م رجع إلى جوس، واستأنف التدريس كالمدرّس الأوّل في مدرسة نور الدّين الإسلامية بـ ’’بكُرُ’’( )، إلى أن التحق بكلية الشريعة الإسلامية، ميسو، ولاية بوثي، عام 1993م، ثم تخرج فيها عام 1995م حاملاً شهادة الدبلوم في الشريعة الإسلامية. وفي عام 1998م ألقى عصا الترحال إلى جمهورية النيجر الفيدرالية ملتحقاً بالجامعة الإسلامية، كلية اللغة العربية والدراسات الأدبية، ثمّ تخرج فيها سنة 2002م، وكان حظّه أن يكون ضمن الدفعة الأولى للتخصّص الدقيق في الأدب العربي. ومن بين 2004م ـ 2007م، درس الماجستير في جامعة جوس، ووُظِّف في كلية التربية الفيدرالية، بنكشن، ولاية بلاتو عام2007، ثم تمّ تمويله من قبل الكلية لتحضير الدكتوراه عام 2010م في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية وآدابها، فحصل على الدكتوراه عام 2013م.
يتمتّع الصارمي بحسّ أدبي مرهَف وبداهة عقلية قوية، وهو في شعره كلاسيكي الأسلوب رومانسي الاتجاه إسلامي الفكرة، يحفل بعرض لوحات فنيّة موحية لتحقيق التداعيات العاطفية بين الخطاب والمتلقي، وليست هتان الكافيتان (محورا الدراسة) قاصرتين عن عكس هذه الميزة الجمالية الفذّة.
ب. عرض الكافيتين
الكافية الأولى:
أمّـــاه قلبي مــــــدى الأيام يهواكِ ** وحسبــي الدهرَ أنّ الله يرعاكِ
سُقيتُ نبعَك قدماً صافياً غدقاً ** وليس أنّ الهوى زعمٌ فأغراكِ
نعــــــــم ولي كبدٌ تشتدّ لوعتـُـــــــه ** حتّى أنالَ بشكر العُرف مرضاكِ
حمــــــلتني لشــــــهورٍ ظلتِ مـــــــــدّتَها ** في لجّة الوهن والـــــــتهليلُ نجـــــــواكِ
لله درُّك كـــــــــم عــــــانيتِ من ألمٍ ** عند الــولادة كيف الــــيوم أنساكِ
فداكِ نفسي من ليلٍ أرقتِ به ** واصفرّ من شدّة المسعى محـــياكِ
وكلّما اِشتكى عضوٌ أُحسّ به ** أحسستِ مثلي فلا ندري منِ الشّاكي
وكم شدوتِ بألحـــــــــــــــــانٍ لترقدني ** حــملاً على الصّــــــــــدر مدعوماً بيمناكِ
فالسّهر والتعب والإشفاق مـــــــــــــرحمة ** فكلّها آيــــــــــــــــــــــةٌ تكفي لــــــــــــــــذكراكِ
يظلّ عهدُك روحاً أستمــــــــــــــدّ بها ** أسبابُ محيايَ من أسباب محــــــــــــــــــياكِ
أكرم بها عروة وثقى لها شـــــــرف ** أدركــــــتُ منها حيـــــــــــــــــاتي أيَ إدراكِ
أرجو وآمـلُ أن تبقى حضــــــــــــــانتُها ** في ذمّــــــــة الله أو ظــــــــلّ لأمـــــــــــــــــــلاكِ
نلتُ الوفـــــــــــــاءَ وحزتُ الأمنَ أوفرَه ** ما ريعت النفسُ في أجــــــــــواء مبناكِ
أما الحــــــــــنان فموفـورٌ أباشره ** والكــــــــوثرُ العــــــــــــذبُ مقــــــــــــرونٌ بمــــــــــــــــــــــــــرآكِ
أمّـــــــــــاه كم من مسرّاتٍ وأخيلةٍ ** بيضــــــــــاء تحكينها والفضلُ للـــــــــــــــحاكي
وظلْت نوري الذي دان الظـــــــــــــــلامُ له ** ولذّة العيش ما أحلى وأزكـــــــــاكِ
هبني أقوم الليالي دائمـــــــــــاً وكــــــــــــذا ** أقضي نهـــــــــــــــــاريَ في وردٍ وإمســــــــــاكِ
ولو بذلتُ الجبـــــــــــــــــالَ الشمَّ من ذهبٍ ** وهل جهوديَ إلاّ نفخ ريّــــــــــــــاكِ
ما ذا من البرّ يكفي شكـــــــــــــــرَ واهبتي ** ضــــــــــوءَ الحياة ولو أرقى كأفـــــــلاكِ
ما زلت أعجز عن بذل الجزاء ولو ** وفّيتُ كلَّ جميــــــــــــلٍ رِدفَ حُسناكِ
سفينة اللهِ لا ريث ولا عجل ** قــــــــد أمّــــن اللهُ مجــــــــــــــــــــــــــــراكِ ومرســــــــــــاكِ( ).
الكافية الأخيرة:
أيّـُــها الوالدُ ماذا روّعَكْ ** فاحـــــترفتَ الصّمتَ كيلا نسمعَـــــــــكْ
وارتضيتَ البُعدَ عن أنظارِنا ** فحملت الصبرَ والسلوى معكْ
قدْ تركتَ الرّوضَ قفراً موحـــــــــــــــــــشاً ** فتمنى كلُّنـــــــــــــــــــا أن يتبعـــكْ
هذه أرواحُنـــــــــا نُفدي بها ** إن يكن في وُسعــــــــها أن ترجعــــــــــكْ
كنتَ في الأهوالِ طوداً شامخاً ** ما رأينا أيَ هـــــــــــــولٍ زعزعــــــــكْ
جئتَ بالنصحِ ضياءً ساطعاً ** فتحرتْ كلُّ عينٍ موضعــــــــــــــــكْ
وتصبّ الشّهدَ في أفواهِنا ** قانعــــــــــاً من نخــــــــــــله أن يلسعـــــــــكْ
تهصُر الوَردَ وتُسديه لنا ** وعُضــــــوضُ الشوكِ يُدمي أصبعـــــــكْ
وعرضتَ الثغرَ بسّاماً لنا ** وكتمتَ الجُرحَ مهما أوجعَــــــــــــــــــــــــــكْ
تُطلق البسمةَ في أفواهِـــــــــنا ** وتُغطي في شموخ أدمعــَــــــــــــــــــــــــــــــــــــكْ
وتردّ النـــــــــــارَ عن أضلاعِنا ** حين تُلقي في لظاها أضلُعَــــــــــــــــــــكْ
وتضيء الحُلمَ في أجفانِنا ** والسّهادُ المرُّ أشقى مضجعَــــــــــــــــــكْ
فشفيتَ الجرحَ في أكبــــــادِنا ** بعدَ ما أجريتَ فيه مبضعَــــــــــــــكْ
كيف نحيــــــــــــا دون رأيٍ ثاقبٍ ** صاغه الرّحمنُ لمــــــــــا أبدعــــــــكْ
تعرف الحــــــــــــــقَّ صواباً كلّه ** ما تركتَ الزّيفَ حتّى يخدعـَـــــكْ
أغلق الحــــــــــقُّ على أســــــراره ** وعليها في جـــــــــــــــــلاءٍ أطلعَــــــــــــــكْ
لا أرى واللهِ يا قيديلَنــــــــــــا ** كيف يحيـا في الدّجى منْ أتبعَكْ
لا تزال العينُ دوماً من أسى** تَسكب الدّمعَ وترعى موقعكْ
طيّب الرّحمنُ رمساً ضمَّكم ** حاملاً رضوانَه الأعلى معكْ( ).
ج. دراسة الكافيتين على ضوء المنهج الإسلامي
1. نقد الفكرة
لا يحول المنهج الإسلامي في سداد موقفه دون الإشادة بمناقب حميدة من أي فرد من أفراد الأمة صنع عجيباً تقوم عليه الحياة المثالية، لاستفزاز الآخرين على المنافسة المحمودة( )، فلذلك تمّ إبداعُ الكافيتين منذ عقدين من الزمن، في الجوّ البيئي والزمني الموحّد، إذ جادت بهما قريحة الشاعر وهو في السنة الرابعة، (شعبة الأدب) بالجامعة الإسلامية في جمهورية النيجر عام2002م. ولا شكّ أنّ لهذا الجوّ البيئي دوراً كبيراً في صنعة الشاعر وهندسة بيانه واستلهام فكره ودقّة أسلوبه.
تحمل الكافية الأولى شحنةً عاطفيةً تنحدر من شدّة تعلّق الشاعر بأمّه منذ الصغر إلى حدّ كبير، وتعبّر عن اعتراف الولد البرّ بما تكابدته الأمّ الرؤوف نحو تربيته من مشقّةٍ وألمٍ شديدين، ولاسيما في تلك البيئة المضطربة بفتن الضرّات ومضرات العشيرة. والملاحظ أنّ انطلاقات الشاعر لا تخلو من الإشارات الصريحة إلى المقاصد القرآنية في حقّ الوالدين من حيث بيان ما تقاسيه الأمّ من وهن سواء في حالة الحمل أو الوضع أو الفصال إلى أن بلغ الولد أشدّه( ). وهذا بلا أدنى ريب صدى من الأصداء الإسلامية، وتوجّه سديد يحبّذه الأدباء الإسلاميون في مناصرة الفضائل بمعرفة المعروف لأهله( ).
انظر إلى الشاعر وهو ينادي أمّه مناداة البنوة الخالصة، فقال: ’’أمّاه قلبي مدى الأيّام يهواك’’، وهو استلطاف نبيه يخلب كوامن العقل ويعبّر عن الرأفة والحنان اللذين تحلت بهما الأمّ نحو فلذة كبدها. وقال ’’قلبي’’ بإضافته إلى نفسه ولم يستخدم غيره؛ لأنّه بؤرة الشعور الوجداني النزيه، ثمّ قال ’’مدى الأيّام’’، فهي رأس العدّ الزمني، ومن اليوم تنشأ السنة. وفي عجز البيت: ’’وحسبي الدهر أنّ الله يرعاكِ’’. لم يجد سوى الدعاء إلى شكر الأمّ سبيلاً، دلالةً على عظم إحسانها وكثرة خيرها في نفس الشاعر. تلكم هي المثل العليا التي ينادي إليها الأدب الهادف في حقّ الوالدين، وهي التي يتناغم بها الشاعر الإسلامي في شخصية أمّه على صورة الدعابة الفنية الطريفة، تحلو أنسةً ونزهةً ساحرتين.
ولا يكاد الدارس يصل إلى الكافية الأخيرة حتى تطلعه على صفحات أخرى مغرية، قسيمة الأولى في مناصرة الفضائل بأداء حقّ الوالد على وجهه حيّاً وميتة، فتنكسر القلوب أمام عواطفها القوية إثر تلك اللوحات الفنية الرهيبة التي تنعكس عليها عاهة الوالد الرحيم جراء المحن المتساقطة عليه لسعادة الأبناء والمجتمع؛ الوضع الذي أثار تجربة الشاعر مجدّدة لاستحضار تلك الحياة الأبوية في ذاكرته تنويهاً بمعروف والده بأغلى هدايا الأدباء الخالدة.
اللهم إلا أنّ توجّه الشاعر في هذه الكافية يباين الأولى، إذ لا نكاد نحسّ فيها بتلك الحلاوة العاطفية المطربة كما أحسسناه في الأولى، وذلك لاختلاف الجوّ النفسي والتفاوت الموضوعي في كلتيهما، فغاية الشاعر في الكافية الأخيرة بلورة مكانة الوالد في محيطه الاجتماعي وتلميح إلى المشكلات الناجمة بعد وفاته، والتي تزلزلت بها أركان الأسرة، وتشعبت كتلها قدداً، إثر استيلاء مجموعة من السادة الأبناء على تركة الوالد لمدّة من الزمن( )، ولم يجد الصارمي ما يخفف عنه هذه المعاناة إلا التنفيس عن نفسه بلسان الشعر الذرب، فنراه ينادي والده نداء البعيد، تنبيهاً على ما آل إليه الأمر بعد وفاته، ولما أصاب تجمّع الأبناء من تفكّك وتفرّق، متمنياً أن ينهض من مقبره لحلّ الأزمة، كشأنه في قيد الحياة لو كان في ذلك إمكان!، فنفهم من قوله:
أيّهـــــا الوالدُ ماذا روّعكْ ** فاحترفتَ الصمتَ كيلا نسمعــــــــــــكْ
وارتضيتَ البعدَ عن أنظارنا ** فحملت الصبرَ والسلوى معكْ
قد تركتَ الروضَ قفراً موحـــــــــــــــــشاً ** فتمنى كلّنـــــــــا أن يتبعـــــــــــــكْ
هذه أرواحُنــــــــا نُفدي بها ** إن يكن في وسعها أن ترجعــــــــــــــــك ...
شيئاً من الاضطراب النفسي المفضي إلى نوع من التعجّب والتحسّر على عجز الوالد عن التدخّل في أمور الأسرة، شأنَه حال حياته، حتى اختل النظام، وغاض معين الأنس الصافي، فسادت الوحشة على كيان الحياة الأسرية بأسرها، ولم يجد الجميع بدّاً من إيثار الممات على الحياة، مالم يكن في إرجائه رجاء بأنفس ما يملكونه.
ثمّ أتى المقطع في كلتا الكافيتين بما يوحي ببلوغ الغاية دون أن يجعل القلوب في ظمإ من الانتظار الخادع، وهذه قمة من براعة الاختتام التي يفضلها النقدة المتذوّقون( )، سوى أنّ إخلاص الشاعر لصنيع أمّه لا يزال به قويّاً إلى نهاية القصيدة الأولى، كما أنّ تلهّفه على ندب والده لا ينفك شديداً إلى آخر الأخيرة، فتلك أيضا براعة فائقة في الأداء الأدبي الرائع، انظر إليه وهو يقطع كلامه كما جاء في الأولى:
ما زلتُ أعجز عن بذل الجزاء ولو ** وفيتُ كلّ جميل رِدفَ حُسناك
سفينة الله لا ريث ولا عجـــــــــــــــــــل ** قد أمّن الله مجـــــــــــــــــــــــــراك ومرساك
وفي الأخيرة:
لا تزال العينُ دوماً من أسى ** تسكب الدمعَ وترعى موضعك
طيّب الرّحمن رمساً ضمّــــــــكم ** حــــــــــــاملاً رضوانه الأعلى معك
والملاحظ أنّ الشاعر يفتح أمام القارئ بُعدين زمنيين مختلفين من مراحل حياته في هاتين القصيدتين، فهما مرحلة الطفولة المبكّرة عند ما أشاد بصلة تعلّقه مع أمّه، ومرحلة الطفولة المتأخّرة، عندما نوّه بعلاقة الأبوة الحقّة، وكلّ هذا وذاك يشكّل جزءاً من فروضات الانطباع السيكولوجي المساعد على نجاح الشاعر في صدقه الفني( ).
2. نقد الأسلوب
يحظى بناء الكافيتين بميزة فنية عالية في إحكام النسج والصياغة لما يتطلّبه الحال والمقام، فأتى المطلع فيهما دالاً على اتّجاه شاعر متحرّر من قيود العقلية القديمة في الوقوف والاستيقاف فالبكاء على الأطلال( )، بل يلاحظ أنّ الشاعر في تخلّصه لم ينتهج المنهج التقليدي الشائع في التعبير عن تجربته، بذكر ما يحلو به الوالدين من أمومة، أو أبوة وعزة ولطف وحنان وتضحية وكرم وذكاء وشجاعة وصدق، بل لجأ إلى النسق الخطابي الوصفي في المحاورة وتعداد المناقب، فتلاحظ في مطلع الكافية الأولى: ’’أمّاه’’ لمسة عاطفية عارمة تضفي على المتذوّق ظلالاً وارفة من عشق الشاعر وتعلّقه الشديدين بأمّه، وما أجدر حذف النداء في هذا الاستهلال وما أنسب إلقاءه في الكافية الأخيرة: ’’أيّها الوالد’’، ولو أنّه قال في الأولى: ’’يا أمّ قلبي مدى الأيّام يهواك’’، لفقدت القصيدة تلك الأريحية العاطفية المغمرة في مطلعها، ولما استطاع الشاعر أداءَ ذلك الغرض الأموي الذي يقصد إليه بالبداهة، وكذلك لو قال في الثانية: ’’إيه يا والدُ ماذا روّعك’’، لذهب رونق براعة الاستهلال وحلاوة دقتها البيانية.
اللهم إلاّ أنّ الشاعر استعرض تلك الحالة النفسية المتلهّفة في جانب والده بمراعاة دقة النداء الصريح المقرون بهاء التنبيه في قوله: ’’أيّها الوالدُ’’، دلالةً على خطورة الخطاب وإشعاراً بموقف المعني بالكلام، وبعد منزله عن العيون، وأوحت استفهاميةُ الخطاب بلفحة التحسّر وشدّة التلهّف على فراقه وانقطاع أخباره عن المسامع فقال:
أيّها الوالدُ ماذا روّعكْ ** فاحترفتَ الصمتَ كيلا نسمعكْ
فلا غرو في أن تتملك على الشاعر روحُ التحسّر إثر فقد الوالد، وامتناعه عما يسدّه من ثغرات ويقضيه من حاجات، ولذلك نفهم من قوّة بيانه إيماءاتٍ إلى معرفة شخصية الوالد وسموّ مكانته، ليس في ذات الشاعر ولا في أسرته فحسب، بل في ذات المجتمع الذي ينتمي إليه، وإلاّ فما سرّ قوله:
جئتَ بالنصح ضياءً ساطعاً ** فتحرّت كلُّ عينٍ موضعَكْ
إلاّ لبلورة بؤرة البعد الاجتماعي وفاعلية والده في تنشيطه وإصلاحه.
وتأسيساً على هذا نتفاعل مع الشاعر في قراءة نفسيته المعقّدة التي أملت عليه هذا التفاوت الإبداعي في نعت الوالدين؛ عند ما أنزل الكافية الأولى على المستوى الفردي (الذاتي)، وأوقع الأخيرة على المستوى الجماعي، انطلاقاً من فكرة تنوع النماذج الإنسانية في تعداد المناقب( )، فتراه يردّد في الأولى ضميراً يشعر بذاتية النزعة، أمثال: قلبي، حسبي، سُقيتُ، فلي، أنال، حملتني...
انظر إليه وهو يقول:
أمّـــــــــــــاه قلبي مدى الأيّام يهواكِ ** وحسبي الدهر أنّ الله يرعـــــــاكِ
سُقيتُ نبعَك قدما صافياً غدقــــــاً ** وليس أنّ الهوى زعمٌ فأغراكِ
نعـــــــــــــم فلي كبد تشتدّ لوعتُــــــــــــــــه** وليس أنّ الهوى زعمٌ فأغــــــــــــــراكِ
حملتني لشهــــــــــــــــورٍ ظلتُ مدّتها** في لجّــــــــــــــة الوهن والتهليل نجـواكِ
وفي ذات الوالد ساد العدولُ عن الانتماء الذاتي إلى دائرة أوسع، فخلع عليه صنوفاً من النعوت يعمّقها السياق التركيبي لإبراز المعاني الخفية المقصودة على ما يطلعنا عليه من التفاتات رائعة بقوله:
’’فاحترفتَ الصمتَ كي لا نسمعكْ’’
’’وارتضيتَ البعدَ عن أنظارنا’’
’’فتمنى كلُّنا أن يتبعكْ’’
’’هذه أرواحنا نُفدي بها’’
’’وتصبّ الشهدَ في أفواهنا’’
’’تهصر الوردَ وتسديه لنا’’
’’وعرضتَ الثغرَ بسّاماً لنا’’
’’تطلق البسمةَ في أفواهنا’’
’’وتردّ النارَ عن أضلاعنا’’
’’وتضيئ الحلمَ في أجفاننا’’
’’فشفيتَ الجرحَ في أكبادنا’’
’’كيف نحيا دون رأيٍ ثاقب’’
’’لا أرى واللهِ يا قنديلَنا’’
هكذا غلبت الأنساق الذاتية على الكافية الأولى، فكثر ورود ما يشعر بأنانية الانتماء، كما غلبت الأنساق الجماعية على الأخيرة مما يجعل الباحث يوثرها على الأولى لدلالة أوصاف والده على إنسانية النزعة لا يشترك فيها جميع الناس غالباً، وهي نعوت ذات بقاء وخلود( )، ومن ثمّ يوخذ على الشاعر انحرافه قليلاً بقوله:
قد تركتَ الرّوض قفراً موحشاً ** فتمنى كلُّنا أن يتبعكْ
فالعدول عن ضمير الجمع ’’نتبعك’’ إلى الإفراد بمراعاة ’’كلّ’’ في ’’يتبعك’’، قلّل من دقّة التعبير وجودة التركيب. وأما ما يخلع على أمّه من نعوت فهي أشياء فطرية جبلت عليها الأمهات عادةً.
وعلى الرغم من أنّ معاناة الأمّ في عرض الشاعر أمست حديث حلو يثني به عليها فترتاح النفوس إلى سماعه بخلاف مقاساة الوالد التي يرثى بها عليه وتدمي أمامها العيون، فمن البديهي أن يوثر الشاعر الأمّ على الوالد في خلاصة بيانه وخاتمة جولته؛ لأنّ ذلك ناتج من منابع سيكولوجية، ومنطق إسلامي نزيه؛ فللأم فضل الأسبقية كما جعلها المنهج الإسلامي( )، وعلى هذا يحسن تبرير خروج الشاعر عن الاعتدال أو التوازن في بناء القصيدة، فمال لعاطفة الأمومة المتحكّمة فيه إلى إيثار الأمّ على الوالد، بعقد الكافية الأولى على واحد وعشرين بيتاً، والأخيرة على عشرين، فتنوّع مجرى عرض ثنائه على الأمّ، وهي تارة رؤوف، وعروة وثقى، وحنون، ووفية، وآمنة، والكوثر العذب، ومحبوبة، ونور، ولذة العيش، وحلوة، وزكية... وتارة أخرى يعجز عن أداء حقّ قدرها مهما حاول مكافأتها إلى أن قال:
هبني أقوم الليالي دائـــــــــماً وكذا ** أقضي نهاريَ في ورد وإمســــــــــــــاكِ
ولو بذلتُ الجبالَ الشمّ من ذهب ** وهل جهودي إلاّ نفخ رياكِ
ماذا من البرّ يكفي شكـــــــــــــــــــر واهبتي ** ضوء الحياة ولو أرقى كأفلاكِ
ما زلتُ أعجز عن بذل الجزاء ولو ** وفيتُ كلَّ جميل رِدف حسناكِ
سفينة الله لا ريث ولا عجل ** قد أمّن اللهُ مجراك ومرســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاكِ.
اللّهم إلاّ أنّ تعبيره في ’’هبني’’ تعوزه الدقة في الذوق العربي الفصيح، ويا حبّذا لو استخدم ’’هب لي’’ مكانه. فجلّ الله الذي لا يخطئ.
وعند ما انصرفنا إلى الكافية الثانية في هذا الصدد أدركنا الشاعر يجول بنفسه في متاهات التلهّف مستوحياً أنساق الأحداث الغابرة لاستجلاء شخصية الوالد ومناقبه الاجتماعية، ويعبّر تعبيراً دقيقاً عن سلبية المعاناة النفسية التي يستشعرها، مما يجعل الباحث يدرك حتمية الأزمة التي عاشها في محيطه البيئي الأسري.
وقد زادت بيانَه جلاءً وعمقاً وتأثيراً في الكافيتين شُعَب مسالكه التعبيرية المتنافية مع الإحصاء التجريدي المألوف، لأنّها مخلوطة بخيوط دقيقة من الصنعة الشعورية المرهَفة عبر الغوص الخيالي والتسلسل المنطقي القويين؛ وليس ثمة ما يساعد على نجاح الشاعر سوى صدق العاطفة وقوتها وثبوتها وسموّها( )، كما أنّه ليس هناك ما يحقّق توفيقه إلا بدائع لوحاته الفنية رغبةً ورهبةً على وجه التقابل الفني السديد؛ إذ الأولى مطربة مثيرة، والأخيرة مرهبة محزنة، وهما وجهان متقابلان تنعكس عليهما الحياة في أشكالها العامة. وقد أفرغ النقدة الإسلاميون لهذه الظاهرة مجالاً رحباً لبناء الفنّ القولي على جادة الأحوال النفسية والكونية في صور زاهية من الأسلوب الفني الراقي( )، فهذا سرّ من أسرار نجاح الشاعر في مراعاة التوازن الدقيق لما يلائم الحال والمقام.
أما في جانب الإيحاء التركيبي فإنّ الشاعر قد أبدى مهارة فائقة في التعبير عن المعنى المقصود عبر دلالات الجملة، فنراه في مطلع الكافية الأولى ينفذ من جملة اسمية لإفادة ثبوت حبّه وولعه الشديدين لأمّه، قاصراً عليها هواه على وجه التوكيد الصامت بقوله:
أمّاه قلبي مدى الأيّام يهواك ** وحسبي الدهر أنّ الله يرعاكِ
ولو أنّه أبدل الجملة إلى فعلية لأخل بروعة البيان. وفي مقابلة ذلك أتى عددٌ من الجملة الفعلية على نحو ما يلقانا في البيت الثاني:
سُقيتُ نبعك قدماً صافياً غدقاً ** وليس أنّ الهوى زعمٌ فأغراكِ
فكانت الجملة مؤسّسة على المجهول: ’’سُقيتُ’’، لوضوح المشار إليه تعظيماً وتبجيلاً، وأنّه لا يتيسر ذلك إلا بقدرة القادر وعون المعين جلّ شأنه، وأسند الحدث إلى نفسه بضمير المتكلّم في مقام نائب الفاعل؛ لأنّه أكثر من يحسّ إحساساً قوياً بنعمة هذه الأمومة بين إخوته الأشقاء بوازع تربيته الإسلامية. ومن مزية هذه الجملة دورها الفعّال في التحديد الزمني والانقطاع الحدثي بقوله:
حملتني لشهورٍ ظلـــــــــــــــــتُ مدّتها ** في لجّة الوهن والتهليلُ نجواكِ
لله درّك كم عانيت من ألمٍ ** عند الولادة كيف اليـــــــــــــــوم أنساكِ
وكلّما أشتكي عضواً أحسّ به ** أحسست مثلي ولا ندري من الشاكي
نلت الوفاء ونلت الأمن أوفره ** ما ريعت النفس في أجواء مبناكِ
وتغيّر النسق الجملي في قوله: ’’أحسّ به’’ فعلاً مضارعاً؛ فما أدق هذا الانحراف السياقي في محلّه مراعاة للمعنى؛ إذ يستوحي الشاعر الحدث المنقطع آوانه على وجه حكاية الحال فألقى الصيغة المضارعة: ’’أحسّ’’، وأما في جانب أمّه فأتت الماضية: ’’أحسَسْتِ’’ مردفة بــــ ’’مثلي’’. أتقول إنّ إحساس الشاعر وإحساس أمّه سيان؟، بل أفصح السياق عن سرّ هذا الإحساس في تعبيره بالماضي: ’’أحسستِ’’، دلالة على إعلاء إحساس أمّه في الحال، وأنّه مهما يكن ألمه وضجره فمعاناة أمّه أشدّ منه وأقوى.
وفي طرافة هذا النسق التركيبي جملة ’’تحكينها’’، التي يبهر وقعها في محلّها بما أتت به الصياغة من إطالة الياء للدلالة على المخاطبة، وتحكي تلك المدّة التي تستغرقها الحكاية برفق وأناة.
ويحسن التوازي الاشتقاقي في قوله:
وكلّما اشتكى عضوٌ أُحسّ به ** أحسستِ مثلي فلا ندري من الشاكي
أمّــــــــــــــــــــاه كم من مسرّات وأخيلة ** بيضاء تحكينـــــــــــــــــــها والفضلُ للحاكي
لاحظ كيف أبدى مهارة جميلة في الجمع بين الكلمات المشتقات من مصدر واحد: ’’أحسّ’’ و’’أحسست’’، ’’اشتكى’’ و’’الشاكي’’، ’’تحكين’’ و’’الحاكي’’: فعل مضارع + ماض، وماض + فاعل، ومضارع + فاعل(أحسّ و أحسست، اشتكى و الشاكي، تحكينها والحاكي)، ولا شكّ أنّ قيمة هذا الاشتقاق في التبادل العاطفي بين الطرفين:(الشاعر والأمّ)، وأنّهما ينتميان إلى مصدر واحد في هذه الظاهرة كلّها ترحاً وفرحاً، وليس مفاد استخدام كلمة الحاكي غير مؤنثة ’’ الحاكية’’ مراعاة القافية، بل لمزية فنية يقتضيها المعنى المقصود في تغليب الجنس الذكري على الأنثوي من حيث الجأش والجَلد والثبات على تحقيق الأهداف النبيلة التي قد تذبل همة النساء دون تحقيقها، فكأني بالشاعر قد جرّد الأمّ من هذه الصورة الساذجة إلى جنس الذكور مبالغةً في الادّعاء الانتمائي، وهذا منطق سليم من أسلوب القرآن الكريم، قال تعالى في حقّ مريم البتول: ’’وكانت من القانتين’’( ).
ويمكن أن يلاحظ على الشاعر في البيت العاشر حين آثر الجملة الفعلية المضارعة على نظيرتها الماضية قائلاً:
يظلّ عهدُك روحاً أستمدّ به ** أسباب محياي من أسباب محياكِ
فما أحسنها لو أبدلت إلى الماضية وقال: ’’وظلّ عهدُك’’ إثراءً للمعنى وتوكيداً لكيانه الحدثي المحقّق لا يتزحزح، على نحو ما مارسه بحنكة رائعة في البيت السادس عشر:
وظلتِ نوري الذي دان الظلامُ له** ولذّة العيش ما أحلى وأزكاكِ
ولا تزال الكافية الأخيرة قسيمة سابقتها من هذا الجانب، فكان من مظاهر أنساقها الأسلوبية تغليب الأفعال الماضية على غيرها مما ينبئ بحتمية انقضاء الأحداث وانقطاع الآمال في عودة الوالد الفقيد، فتبهر المتذوّق حقول دلالية مفرداتها في: ’’روّعك، فاحترفتَ، وارتضيتَ، فحملتَ، قد تركتَ، كنتَ، جئتَ، عرضتَ، وكتمتَ، فشفيتَ، أجريتَ’’، فقد أحسن الشاعر انتقاء كلمات تراجيدية موحية لتعزيز قوّة العاطفة وثبوتها في القصيدة برمتها على نحو يفهم في تعبيراته: (روّعك، قفراً موحشاً، الأهوال، يلسعك، عضوض الشوك، يُدمي، الجرح، أدمعك، النار، لظاها، أشقى، أسى، المع). ثمّ كرّة أخرى لاستحضار مواقف باسلة ويعيد سلسلة حياة والده، ولكنه لم يجد بدّاً من صياغتها على الجمل المضارعة في صور تركيبية رائعة فيقول:
وتصـــــــــــبُّ الشهدَ في أفواهنا ** قانعاً من نحـــــــــله أن يلسعكْ
تهصرُ الوردَ وتسديه لنا ** وعضوض الشوك يُدمي أُصبعكْ
تطلقُ الـــــــــــــــــــــــــــــبسمةَ في أفواهنا ** وتغطّي في شموخ أدمعكْ
وتــــــــــــــــــردُّ النارَ عن أضلاعنا ** حين تُلقي في لظاها أضلُعكْ
وتضيئ الحُلم في أجفاننــــــــــــا ** والسّهاد المرّ أشقى مضجعكْ
تذوّق شعرية هذا النصّ ولاحظ كيف آثر الشاعر الأفعال المضارعة هنا – رغم أنّها ليست على مستوى الأفعال الماضية في الكثرة – وذلك لتثرية المعاني الثانوية العميقة في حكاية الحال واستحضار ذكريات فائتة تحسّراً وتأبيناً. لاحظ هندسة تركيب هذه الأبيات على التوازي النحوي الدقيق: تصب الشهدَ، تهصر الوردَ، تطلقُ البسمةَ، تردُّ النارَ : ’’مضارع + مفعول’’، وعرّف المفعول في جميعها توسّعاً في المعنى المقصود على وجه المبالغة، فكأني به يرى أنّ هذه الأشياء هي الغاية التي تنتهي إليها أجناسها.
ويلاحظ أنّ الكافيتين لا تخرجان عن منهج الشعر العمودي في وضعه وجودة الصقل في اختيار الألفاظ وبناء التراكيب وتشكيل الصورة الشعرية المنطفحة بإيحاءات متنوّعة لإثارة العواطف والميول، شأن الشاعر في ذلك شأن الشعراء العرب الفحول في أزهى العصور الأدبية( ) ولاسيما امتصاصه على وجه التناص الدقيق من صنعة الشعراء الأمويين كما في قوله:
يظلّ عهدُكِ روحاً أستمدّ بها ** أسباب محياي من أسباب محياك
وهو تضمين لشعر جرير في قوله:
لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعت ** أسباب دنياك من أسباب دنيانا( ).
اللهم إلاّ أنّه يُعنى عناية فائقة بهندسة الوحدة الموضوعية والعضوية فأتت الأبيات في القصيدتين موحّدة الموضوعات، آخذة بحجز سابقها ولاحقها، وراحتا بذلك في خاتمة المطاف متماسكتي الأجزاء في شدّة الربط والتلاحم( ). وإذا كانت تعبيرات الشاعر رقيقة سهلة ممتنعة فإنّما أعانته على إذابتها رقّة حياته وما يلوّنها من حضارات وثقافات، فحسن في القصيدتين الجمع بين الوحدة النفسية والفنية لإثارة عواطف القراء( ).
وفي الناحية الموسيقية فإنّ الوقع الخارجي للقصيدتين مثير الانتباه، إذ تنطلق أنغامه من أوتار حسّاسة تأخذ بجوامع القلوب وتأسر الألباب. فالكافية الأولى مؤسّسة على بحر البسيط المتكوّن من ثمانية أجزاء: مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن*2، سوى أنّه مخبون العروض والضرب، فأصبح: مستفعلن فاعلن مستفعلن فعْلنْ*2( ). والكافية الأخيرة معقود على بحر الرمل الناتج من ستة أجزاء: فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن*2، وهو في القصيدة محذوف العروض والضرب، فكان: فاعلاتن فاعلاتن فاعلن*2( ). وكلا البحران في التوظيف الموسيقي من البحور التراثية ذات أجراس نغمية مطربة وتوقيعات موسيقية راقصة، وأوعية معانية واسعة. وواضح أنّ البسيط في الكافية الأولى ساعد الشاعر على عرض كلامه وإرخاء طول نفسه؛ فجاء بيانه مبسّطاً سهلاً، قريب الألفاظ والمعاني، كما أنّ الرمل أنهض الكافية الأخيرة من طي الأوصاف التجريدية إلى نسق فيه رقّة ودقّة، فاستطاع به الشاعر تعداد مناقب والده المتعدّدة بطريقة غير مكشوفة كشأنه في القصيدة الأولى، إلاّ أنّه هنا لم يبسط الألفاظ والمعاني، بل غاص في لجة الأخيلة وعمق التصويرات الموحية.
والطريف أنّ الشاعر بحنكته الإبداعية راعى عدم الائتلاف بين موقفي الكافيتين في البعد الداخلي والخارجي للموسيقى، فعمد إلى اعتماد معانٍ عميقة مبكية في الكافية الأخيرة مما جعل حدّاً لحدّة الطرب والنشوة، وفاصلاً بينهما في الجانب الشعوري أو المنزعة النفسية. ويستوقف الدارس المتذوّق روعة التناسب البياني في إطار روي الكافيتين؛ فالكاف من الحروف العربية الصوامت مخرجه أسفل بقليل من مخرج القاف بين اللسان والحنك الأعلى، فهو بصفته لدي اللسانيين الصوتِيِّين صوت حنكي لهوي شديد منخفض( )، وهي صفات لها فاعلية كبيرة في التوظيف الموسيقي لبلورة المعاني المتسمة بالحنان والشفقة والتحسّر والفجيعة.
وثمة التباين بين الكافيتين في هذا الصدد هو أنّ الأولى مطلَقة القافية، مكسورة الروي فناسبها الإطلاق؛ لأنّها في مدح الأمّ وهي لا تزال حيةً ترزق، وناسبتها الحركة (الكسرة) كذلك التي هي أقلّ قوّة من الضمّة، لتتناسب مع الجنس الأنثوي في تخفيف حدّة القوّة فطرياً، وساعد كون حرف ما قبل الروي ألفاً على انبساط الشاعر انبساطاً قويّاً لإطالة الصوت واستقبال أمّه في نشوةٍ وحيويةٍ بارزتين.
أمّا الكافية الأخيرة فهي مقيّدة (ساكنة الروي)، ودقّ فيها السكون لأنّها في تأبين الوالد المرحوم المنقطع عن الحركة في عداد الموتى، فطابق فيه تأسيس ما قبل الروي على العين، فهو حرف مجهور رخو، يخرج من وسط الحلق( )، وينمّ بوقعه عن ضجر الشاعر وضيقه وفجيعته تجاه مقاساة الوالد، كما ساند على إبراز حالته المشبوبة بخوف شديد وألم عظيم وحزن دفين نحو المستقبل الغامض بين الأسرة.
ثمّ ساعد على جمالية هذا الإيقاع الصوتي ما امتلأت به القصيدتان من ظواهر الموسيقى الداخلية تنويناً وتكراراً ومدّاً وتقديماً وتأخيراً وتوكيداً واستفهاماً ونداءً وعطفاً وتعريفاً وتنكيراً وإفراداً وجمعاً وغيرها مما يتمّ به التشكيل الصوتي المطرب.
لاحظ مقطع الكافية الأخيرة عند ما يعبّر الشاعر بـالجمع في ’’ضمّكم’’ مثلاً:
طيّب الرحمنُ رمساً ضمّكم ** حاملاً رضوانه الأعلى معكْ
فقد حسن فيه الوقع الموسيقي، إذ كان أحلى نطقاً وأروع نغمةً من استخدام ’’ ضمّكَ’’ الذي يصكّ الآذان، إضافة إلى دلالة التعبير على المبالغة في الاحترام والذي لا ينبو في الذوق العربي السليم.
الخلاصة:
لا يخامر الباحث شكّ في أنّ الشعر العربي النيجيري المعاصر يستطيع أن يشقّ طريقه إلى النهضة الحقيقية إذا تخلّص من ربقة تقليده الموروث في أحضان المناسبات الرخيصة والموضوعات الساذجة، لغاية تحقيق متعة عاجلة لا تدوم. وتلكم هي الأهداف الثانوية التي ستحقّقها هذه المقالة – وأرجو أنها قد تحقّقت – في اختيار كافيتي الصارمي محوري الدراسة وعلى وجه الاستقراء، فقد استجابت المقالة لحلّ إشكالات الكافيتين على ضوء المنهج الإسلامي في نقد الفكرة والأسلوب، متتبّعة أبعاد أخرى ساعدت على التفاعل الحيوي التامّ مع الشاعر في الجوّ الشعوري، فأثبتت بإيماتٍ قوية أنّ شعر الصارمي نبضة من حياته، وسيظلّ فنّاً خالداً يؤرّخ عنه ويفصح في تناغم جميل. وتأسيساً على هذا الفهم العميق تتلخص نتائج الدراسة فيما يلي:
- تشكّل الكافيتان جزءاً مهمّا من حياة الشاعر
- تنماس نفس الشاعر فيهما إثر صدقه الفني
- تمثّلان وجهين مقابلين في البؤرة الشعورية
- تغلب عليهما النزعة الإنسانية الخالدة
- تتسمان بالوحدة الموضوعية والعضوية الفنيتين
- تعظم فيهما مزية النظم الإبداعي في دقّة متناهية
- تخدمان فكرة الأدب الإسلامي شكلاً ومضموناً
- تصلحان للدراسات النقدية الحديثة في قالب تشكيل الصورة الشعرية
- تتفوّق الكافية الأخيرة على الأولى لارتكازها على العاطفة الجماعية
وعلى هذه الشاكلة يطيب للباحث تحريض الإخوة الدارسين على قراءة أعمال الجيل المعاصر قراءة نقدية فاحصة تضمن لها الخلود والبقاء في ساحة الأعمال الحية، خاصّة المجهولين منهم لإخراج نتاجهم من الظلام الدامس، علماً بأنّ الجودة ليست مقصورة على شخصية دون أخرى. عسى الله أن يلهمنا السداد في القول والعمل، ويرفع بنا الفكر الإسلامي وبيانه العربي، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه، وهو أهل المغفرة وأهل التقوى. سبحانك اللّهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من اعمال الباحث
أضافة تعليق
آخر مقالات