د. عبدالله شاكر جنيد
مقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آلهِ وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن الله بعث النبي صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام للناس كافة، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ [الأعراف: 158].
وقال صلى الله عليه وسلم: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة»[1]، ولهذا كان من خصائص هذا الدين أنه دين عالمي في الزمان والمكان؛ فعالمية الزمان تعني أنه صالح إلى قيام الساعة، وعالمية المكان تعني أنه صالح على أي جزء من أجزاء المعمورة، والأوامر الربانية والتشريعات الإلهية التي نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم طبقها وصحابته الأخيار أتم تطبيق، وكانت شاملة كافية لهم فيما يحتاجون إليه؛ لأنها من لدن الحكيم الخبير سبحانه، وهو أعلم بخلقه.
ولما انتشر الإسلام في أماكن متفرقة من العالم بعد النبي صلى الله عليه وسلم وجد الناس أن هذه الشريعة محققة لهم ما يحتاجون إليه، مفضية بهم إلى سعادة الدارين، مع تجدد الحوادث واختلاف الزمان؛ وذلك لأن الله تعالى قيض لهذا الدين رجالاً أكفاء، فقهوا الكتاب والسنة، وأمضوا نفيس أوقاتهم وجُل َّأعمارهم في التأصيل والتفريع خدمة لهذا الدين، ومواجهة لما يحدث من قضايا ونوازل تتعلق بالمسلمين، وذلك بسياسة شرعية سديدة، وفقه راشد بصير.
فأثبتوا أن شريعتنا قادرة على الوفاء بحاجات المجتمعات في أي زمان ومكان، دون خروج على النص أو تبديل لشريعة الله، وهذا ما سأوضحه في هذه الكلمات تحت عنوان:
’’السياسة الشرعية بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين’’
وقد قسمت الحديث في هذا الموضوع على المحاور التالية:
المحور الأول: معنى السياسة الشرعية وموضوعاتها.
المحور الثاني: العقائد والأحكام الشرعية لا تتغير ولا تتبدل.
المحور الثالث: صلاحية الشريعة وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان.
المحور الرابع: فقه التغير في ضوء ما سبق مع مراعاة قاعدة «المصالح، وسنة التدرج».
المحور الأول
معنى السياسة الشرعية وموضوعاتها
أولاً: تعريف «السياسة» في اللغة:
جاء في «المصباح المنير»: «سَاسَ زيد الأمرَ يسوسه: أي دبَّره وقام بأمره»[2].
وجاء في «لسان العرب»: «السَّوْسُ الرياسة.
قال: ساسوهم سَوْساً... وساس الأمرَ سياسة: قام به... ويقال: سُوِّس فلان أمر بني فلان، أي كُلِّف سياستهم... والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه»[3].
ثانياً: تعريف السياسة الشرعية اصطلاحاً:
عرَّف أهل العلم السياسة الشرعية بتعريفات متعددة منها:
1- ما يراه الإمام أو يصدره من الأحكام والمقررات، زجراً عن فساد واقع، أو وقاية من فساد مُتوقع، أو علاجاً لوضع خاص[4].
2- تدبير شئون الدولة الإسلامية، التي لم يرد بحكمها نص صريح، أو التي من شأنها أن تتغير وتتبدل بما فيه مصلحة الأمة، ويتفق مع أحكام الشريعة وأصولها العامة[5].
3- تحقيق الحاكم الذي يسوس أمر الأمة للمصلحة التي تعود على الأفراد والجماعات، وذلك بتطبيق أحكام استنبطت بواسطة أسس سليمة أقرتها الشريعة، مثل: المصالح المرسلة، وسد الذرائع والاستحسان، والعرف، والاستصحاب، والإباحية الأصلية، وذلك فيما لم يرد فيه نص[6].
وإنما وصفت هذه السياسة بالشرعية، لأن اجتهاد الحاكم فيما جَدَّ من وقائع وأحداث وما يدخل في مجال علم السياسة الشرعية، لم يبن على الهوى والتشهي وإنما على مبادئ وقواعد معتبرة شرعاً[7].
يقول الدكتور القرضاوي:
«إن السياسة الشرعية هي السياسة القائمة على قواعد الشرع وأحكامه وتوجيهاته، فليست كل سياسة شرعية، فكثير من السياسات تعادي الشرع وتمضي في طريقها وفقاً لتصورات أصحابها وأهوائهم»[8].
ثالثاً: موضوعات علم السياسة الشرعية:
يدخل ضمن علم السياسة الشرعية الموضوعات التالية:
1- الوقائع المتعلقة بعلاقة الحاكم بالمحكومين، وبيان حقوقه وواجباته، وحقوق الرعية وواجباتها.
2- الوقائع المتعلقة بعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في حالتي الحرب والسلم.
3- الوقائع المتعلقة بجباية الأموال، وموارد الدولة ومصارفها، ونظام بيت المال.
4- الوقائع المتعلقة بتداول المال وكيفية تنظيم استثماره وهذا ما يشمله النظام الاقتصادي في الإسلام.
5- الوقائع المتعلقة بالنظم القضائية وطرق القضاء، وبيان وسائل الإثبات وهذا ما يشمله: السياسة القضائية في الإسلام[9].
وهذه الموضوعات قد تناولها فقهاؤنا على اختلاف مذاهبهم ضمن أبواب الفقه العام، كما تناولوها في كتب متخصصة مثل «الأحكام السلطانية» للماوردي الشافعي، و«الأحكام السلطانية» لأبي يعلى الفراء الحنبلي، و«السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» لابن تيمية، و«الطرق الحكمية» لابن قيم الجوزية، و«الخراج» لأبي يوسف، و«الأموال» لأبي عبيد بن سلام، ونستخلص مما سبق: أن السياسة الشرعية غايتها الوصول إلى تدبير شؤون الدولة الإسلامية بنظم من دينها، والإبانة عن كفاية الإسلام بالسياسة العادلة ورعاية مصالح الناس في مختلف العصور والبلدان، ومسايرة التطورات الاجتماعية في كل حال وزمان على وجه يتفق مع المبادئ العامة الإسلامية.
المحور الثاني
العقائد والأحكام الشرعية لا تتغير ولا تتبدل
من المعلوم إن الله أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3]، وإذا كان الدين قد كُمَل فلا يحتاج إلى زيادة أبداً، كما لا ينبغي أن تحذف أو تغير بعض أحكامه، ولم يقبض رب العباد حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن بلغ البلاغ المبين، وترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها ونهارها سواء.
وبناء على هذا أقول: إن الأحكام الشرعية لا تتغير ولا تتبدل؛ لأن الحكم الشرعي هو: «خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً»[10] والمراد بخطاب الشرع هنا هو الكتاب والسنة، ولا يتغيران بحال بتغير الزمان والمكان، والأدلة على ذلك متوافرة، منها:
1- قول الله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام: 115].
قال القاسمي رحمه الله: «وتمت كلمة ربك» أي بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده: «صدقاً» في الأخبار والمواعيد «وعدلاً» في الأقضية والأحكام. «لا مبدل لكلماته» أي لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل، أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعاً ذائعاً، كما فُعِل بالتوراة. على أن المراد بها القرآن. فيكون ضماناً لها منه تعالى، كقوله: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[11].
2- قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [يونس: 15]؛ وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك أن يغير أو يبدل من تلقاء نفسه، فغيره من باب أولى، وهو يدل على ثبات الأحكام الشرعية وبقائها كما جاءت من عند رب البرية.
وقد دلت السنة النبوية على ما دل عليه القرآن الكريم، كما في حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد»[12].
قال ابن حجر: «هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يُلتفت إليه»، قال النووي: «هذا الحديث مما ينبغي أن يُعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستعمال به كذلك»[13].
قلت: وجه الاستدلال بالحديث هو أن تغيير الأحكام الشرعية إحداث في الدين وخروج على الكتاب والسنة، فهو مردود لا يقبل ولا يجوز، وكل ذلك يدل على ثبات الأحكام الشرعية: وعدم تغييرها، يقول الشاطبي في بيان ثبات الأحكام الشرعية: «... فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أثبت سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجب أبداً أو مندوباً فهو مندوب... وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك»[14].
ولا شك أن القول بتغير الشريعة وتبديلها يترتب عليه مفاسد كثيرة منها:
1- اتخاذ الشركاء الذين يشرعون من دونه، والتشريع حق لله وحده دون سواه؛ قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 21]، فقد نعى الله تعالى على الذين لا يتبعون ما شرع الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من الدين القيم، ويلجأون إلى غيره، وفي الآية إشارة ظاهرة إلى أن التحليل والتحريم بغير سلطان من الله – إشراك بالله.
2- ومنها القول أو الاعتقاد بقصور الشريعة وعدم كمالها وعدم صلاحية أحكامها لعموم الزمان والمكان.
المحور الثالث
صلاحية الشريعة وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان
إن من الحقائق المعلومة من دين الإسلام بالضرورة أن الله – تبارك وتعالى – لم يبعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون نذيراً لطائفة من الناس دون سائرهم، ولا ليكون رسولاً لأمة من البشر دون سائر الأمم، وإنما بعثه ليكون بشيراً ونذيراً للعالمين أجمعين، بعثه برسالة الإسلام الخالدة إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، قاصيهم ودانيهم، أحمرهم وأسودهم، عربيهم وأعجمهم، شرقيهم وغربيهم، ذلك منذ أن بعثه الله بالحق وإلى قيام الساعة.
وعلى ذلك فمن أنكر هذه الحقيقة وجحدها كان على غير الملة لأن القرآن الكريم صرح بها تصريحاً لا يقبل التأويل، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ﴾ [الأعراف: 158]، ففي هذه الآية الكريمة «بيان عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، وهي عامة للثقلين كما نطقت به النصوص، حتى صرحوا بكفر منكره»[15]، وبرغم أن الآية الكريمة خاطبت الناس جميعاً برسالته صلى الله عليه وسلم إلا أنها أكدت ضمير المخاطبين بوصف: ﴿جميعاً﴾ الدال نصاً على العموم لرفع احتمال التخصيص[16].
ويقول الله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ [سبأ: 28]، أي: «وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصة، ولكنا أرسلناك كافة للناس أجمعين، العرب منهم والعجم، والأحمر والأسود، بشيراً من أطاعك ونذيراً من كذبك»[17].
وقال عز وجل: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، أي: «لأنذركم بالقرآن أيها المشركون وأنذر من بلغه القرآن من الناس كلهم»[18]. وقال عن القرآن الكريم نفسه: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نـزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [الفرقان: 1]، وقال: ﴿وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ [القلم: 52]، أي: «وما محمد إلا ذِكْر ذكَّر الله به العالمين الثقلين الجن والإنس»[19]، أو«وما القرآن الكريم إلا ذكر للعالمين. ومعناه: شرف.. كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: 44]..»[20].
وهذه الحقيقة التي صرح بها القرآن الكريم أكدتها السنة المطهرة، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»[21].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا دخل النار»[22].
والمراد بالأمة في هذا الحديث عموم أهل الدعوة سواء من دخل فيهم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالمعنى الخاص فصار مسلماً، أو من بقي منهم على كفره فكان من أمته بالمعنى العام أي: من عموم من بعث إليهم وأمر بدعوتهم وهم الناس جميعاً بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، وذلك بدليل ذكره لليهود والنصارى.
وإلى جانب هذه الحقيقة الراسية الراسخة حقيقة أخرى لا تقل عنها رسواً ورسوخاً، وهي أن رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، فلا نبي بعده ولا رسول، وأن رسالته خالدة باقية إلى يوم الدين، فلا نسخ لها ولا زوال.
وهي أيضاً حقيقة معلومة من دين الله بالضرورة، لا ينكرها إلا من كفر بالرحمن وكتب عليه الخذلان، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40]، أي: «وخاتم النبيين الذي ختم النبوة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة»[23] فهذه الآية الكريمة «نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»[24].
من هذه الأحاديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنةٍ من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»[25].
هاتان الحقيقتان الراسيتان الراسختان مقدماتان لحقيقة كبرى وهي: «صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان».
لأننا لو لم نقل بذلك – مع كون رسالة الإسلام رسالة عالمية خاتمة للرسالات – للزم منه أن يكون الله عز وجل قد أجاز للبشر أن يشرعوا لأنفسهم في كل زمان ما يصلح لهم، وهذا أبطل الباطل، وبطلانه معلوم من دين الله بالضرورة، كما أن حاكمية الله وانفراده بالسلطان على عباده وتفرده بحق التشريع معلوم من دين الله بالضرورة، قال تعالى: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]، وقال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10]، فالذي له الخلق هو وحده الذي يملك الأمر والنهي والتحليل والتحريم والتشريع والحكم، فما من شيء في حياة البشر مهما كان صغيراً إلا ولله فيه حكم، فيجب عليهم أن يردوا كل أمر يختلفون فيه إلى حكم الله وحده، وهذا أمر لا يخالف فيه إلا من لا حظ له من الإسلام.
فـ«الشريعة الإسلامية» صالحة لكل زمان ومكان، ومُصلِحة لكل زمان ومكان، بل لا يكفي أن نقول هذا حتى نرفع احتمال المشاركة بأن نقول: إنها هي وحدها الصالحة والمصلحة لكل زمان ومكان، وكل ما سبق أن قررناه من مقدمات وحقائق راسخة يدل على هذا دلالة قاطعة.
وهذا الوصف للشريعة الإسلامية يضم تحت عباءته أوصافاً تعد من مفرداته ومن ضروراته، هذه الأوصاف هي:
1- العموم: بمعنى كونها عامة للناس أجمعين، وهذا الوصف مستفاد من النصوص الدالة على عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سبق إيرادها.
2- البقاء: بمعنى أنها لا تأتي بعدها شريعة سماوية تنسخها، وهذا الوصف مستفاد من النصوص الدالة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأن رسالته خاتمة الرسالات وقد سقناها من قبل.
3- الحفظ: بمعنى أن الله عز وجل تولى حفظ أصولها من التحريف والتبديل، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9]، أي: «وإنا للقرآن الكريم لحافظون من أن يزاد فيه ما ليس منه أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه»[26].
وقال عز وجل: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: 42]، قال الزجاج: «معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه»[27].
وما يسري على القرآن الكريم يسري على السنة؛ لأنها بيان للقرآن الكريم قال تعالى: ﴿وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نـزلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]، فحفظ القرآن الكريم يستلزم حفظ السنة بل وحفظ اللسان العربي أيضاً، يقول المعلمي: «فأما السنة فقد تكفل الله بحفظها أيضاً؛ لأن تكفله بحفظ القرآن يستلزم تكفله بحفظ بيانه وهو السنة، وحفظ لسانه وهو العربية، إذ المقصود بقاء الحجة قائمة والهداية باقية، بحيث ينالها من يطلبها؛ لأن محمداً خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، بل دل على ذلك قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: 19]، فحفظ الله السنة في قلوب الصحابة والتابعين حتى دونت»[28].
4- الشمول: وهو غير العموم، فهو بمعنى أن أحكام الشريعة شاملة ومستغرقة ومستوعبة لكل أحوال البشر، وحاكمة على كل ما يستجد في حياتهم إلى يوم الدين، قال تعالى: ﴿وَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]، أي: «تبياناً لكل ما بالناس إليه حاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب»[29]، وهذا التبيان قد يكون بالتفصيل وقد يكون بالإجمال، وقد يكون بالإحالة على السنة، كقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: 7]، وقد يكون بإثارة القياس وتعديه حكم ما ذكر على ما لم يذكر كقوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]، فلا يلزم من بيانه لكل شيء أن يحمل بين دفتيه كل الأحكام بالتفصيل، يقول الزمخشري في الكشاف: «فإن قلت: كيف كان القرآن الكريم تبياناً لكل شيء؟ قلت: المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين: حيث كان نصاً على بعضها، وإحالة على السنة... وحثاً على الإجماع..»[30].
وقال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، أي: «ما تركنا في القرآن الكريم من شيء من أمر الدين إما تفصيلاً أو إجمالاً»[31] وقال عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3].
5- المرونة والاتساع: ومعناها قدرة الشريعة الإسلامية على مواجهة كل ما يستجد في حياة الناس وما يترك في دنياهم، وعلى الاستجابة لكل ما يتغير في أمورهم وأحوالهم بتغير أزمانهم، وعلى تلبية كل احتياجاتهم مهما تبدلت بتبدل ظروفهم، وذلك كله دون أن تتبدل أصولها أو تنسخ أحكامها أو تزيف مبادئها أو تزعزع ثوابتها أو يرجع على شيء منها بالإبطال أو التعطيل.
وهذه الصفة الأخيرة «المرونة والاتساع» لها آليات عدة، تضمن تحقيقها وتطبيقها والانتفاع بثمراتها دون الرجوع على النصوص المحكمة بالتعطيل أو على الأصول والثوابت الراسية بالتبديل، أو على الأحكام الثابتة بالنسخ أو التأويل.
من هذه الآليات: «تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان»
وهي التي عبر عنها العلماء – على سبيل التسهيل في الاصطلاح – بقولهم: «لا يُنكر تغير الأحكام بتغير الأزمان».
التغير لغة[32]: التبدل والتحول والانتقال، نقول: تغير الشيء: أي تحول، وغيّره: جعله غير ما كان، وغيّره: حوله وبدله، وغيّرت الشيء: بدلته، وغيّرت دابتي وثيابي: أي: جعلتها على غير ما كان، وغيّرت داري: بنيتها بناء غير الذي كان.
ومعنى «تغير الفتوى» في الاصطلاح الشرعي لا يبعد عن المعنى اللغوي السابق، فهو: التحول والانتقال – عند الإفتاء في مسألة – من حكم سابق كان مناسباً لها في وقت أو حال إلى حكم آخر لتبدل الوقت أو الحال.
والأفضل ألا يعبر عنه بلفظ «تغيير»؛ لأن كلمة «تغيير» تستعمل كثيراً بمعنى الإزالة والرفع، و«تغير الفتيا» ليس فيه إزالة ولا رفع، بل هو مجرد انتقال وتحول من حكم إلى حكم، مع بقاء الحكم ذاته.
وكذلك التعبير عنه بمصطلح «تغير الأحكام» أو بقاعدة: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان» فيه – أيضاً – قدر من المسامحة؛ لأن الذي يتغير هو الفتيا، أما الأحكام فلا تتغير ولا تتبدل، فالحكم الشرعي – كما سبق – هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً، والقول بإمكانية تغير الحكم الشرعي مكافئ للقول بإمكانية تغيير خطاب الله تعالى، وقد تُوعِّد المبدلون لأحكام الله المغيرون لشرعه بالإبعاد والهلاك يوم القيامة، ففي الحديث الصحيح: «ألا ليذادنَّ رجالٌ عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً»[33].
تغير الفتوى في الواقع المعاصر:
بعد فترة طويلة من الجمود الفكري والفقهي ومن غلق باب الاجتهاد بدأ البعث يدب من جديد في الحياة الفقهية المعاصرة، وذلك بعد ظهور حركات تجديدية ودعوات إصلاحية؛ أدت إلى فتح باب الاجتهاد ونبذ التعصب للمذاهب وإحياء الفقه المقارن، وكان من أعظم ما وصل إليه الفقه المعاصر مؤسسات الاجتهاد الجماعي، مثل: «مجمع البحوث الإسلامية» بالقاهرة، و«مجمع الفقه الإسلامي» المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي ومقره الرئيسي جدة، و«المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي» بمكة المكرمة.
ومع انطلاقة الاجتهاد والتجديد بدأت من جديد تظهر ظاهرة تغير الفتوى، وكان لها أمثلة كثيرة في واقع الأمة الإسلامية.
المثال الأول: الحقوق المالية للتأليف والتصنيف، فقد اتجه الفقه المعاصر إلى اعتبار هذه الحقوق، وإلى وضع الضمانات لحفظها لأصحابها، فصاحب المؤلف هو الأحق بطبعه ونشره، وهو الذي يملك أن يبيع هذا الحق وأن يجني ثمرته المالية، ولم يكن هذا موجوداً من قبل، بل كان الاحتساب هو السائد، ولكن ظهر للفقهاء المعاصرين وللمجامع والمؤسسات الفقهية أن المصلحة تقتضي الاعتراف بالحقوق المالية للتأليف وحفظها بالأحكام الشرعية.
المثال الثاني: ترجح القول بوجوب إخراج الزكاة في الخضر والفاكهة، وقد كان المذهب الراجح فيما مضى هو أن الخضر والفاكهة وما شابهها لا زكاة فيها، ولكن تغير الحال في الزمن الحاضر أدى إلى تغير الفتيا، فإن الخضر والفاكهة لم تكن في الماضي تمثل مصدر إنتاج وتنمية واستثمار، أما في العصر الحاضر فصارت من أكبر مشاريع التنمية والاستثمار في كثير من البلدان، فقد يزرع المستثمر آلاف أو مئات الأفدنة خضروات وفواكه ويربح من ورائها أموالاً طائلة، فهل يعفى من زكاة الزرع أو يكتفي في حقه بإخراج زكاة المال (5,2%) على الحول الكامل، بينما صاحب المساحات الزراعية الصغيرة من المحاصيل التي تقتات وتدخر كالقمح يخرج (5%) عند كل حصاد؟!
ثم إن القول بذلك يفضي في الواقع المعاصر إلى التهرب من زكاة الزرع والثمر بترك الزروع التي تجب فيها الزكاة وتوسيع الأنشطة فيما ليس فيه زكاة؛ مما يترتب عليه ضياع حقوق الفقراء والمساكين، واختلال الموازين الإنتاجية وفساد الأخلاق.
لذلك عمد كثير من الفقهاء المعاصرين إلى تغيير الفتوى في هذه المسألة، ورجحوا القول بوجوب زكاة الزرع في الخضر والفاكهة؛ سداً لذريعة التهرب من الزكاة، وحفاظاً على حقوق الفقراء والمساكين.
المثال الثالث: إفتاء العلماء المعاصرين بجواز توزيع لحوم الهدي خارج مكة بل خارج الجزيرة كلها، وذلك لظهور المصلحة في ذلك؛ حيث إن أهل مكة لا يأكلون هذه الذبائح، وهي تزيد عن حاجة الحجيج، فيؤدي القول بعدم إخراجها من مكة إلى فسادها وتعفنها وحدوث مفاسد التلوث مع ضياع مصلحة انتفاع المسلمين بها، وهذا تغير للفُتيا في ضوء تغير المصلحة.
تغير الفتوى وتجديد الخطاب الديني:
لم يختلف علماء الأمة الإسلامية في أن الثبات من خصائص هذه الشريعة الغراء – في عمومها – فهي شريعة لا تقبل التطويع للأغراض والأهواء وتقلبات الأمزجة واختلاط الآراء، ولا تقبل كذلك الذوبان في شرائع أخرى ولا معها، ولا يملك أحد أن يبدلها ولا أن يغيرها بحجة تغير الظروف والأحوال، قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ [الأنعام: 115]، أي: صدقاً فيما أخبر فما أخبر به هو الحق فيما حكم، فما أمر به هو العدل، وما نهى عنه فهو الباطل، ولا معقب لحكمه في الدنيا ولا في الآخرة[34]، ولا يملك أحد أن يغيرها ولا أن يبدلها ولا أن يخرج عن شيء من أحكامها، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3]، والتغيير فيما قد كمل وتم اتهام بالنقص، بل هو عين النقص.
وقال عز وجل: ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنـزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49]، فلا يجوز الخروج عن شريعة الله ولا عن شيء من أحكامها، ولا يجوز التبديل ولا التغيير فيها، وقال عز وجل: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنـزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3].
وقال سبحانه: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18]، وقال عز من قائل: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: 211]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»[35]، وقال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنة نبيه»[36].
فالشريعة الإسلامية ثابتة، تستعصي على التحريف والتبديل، وتتأبى على التطويع والتعطيل، ومن رماها بشيء من ذلك رمته بالكفر والتضليل.
ولقد حاول كثير من دعاة العصرانية أن ينفذوا إلى غرضهم في تبديل الشريعة وتذويب أحكامها وتطويع مبادئها للأهواء، وذلك من خلال ما اشتهر في كتب أهل العلم من تغير الأحكام بتغير الأزمان، ولا يمكنهم ذلك؛ لأن ما عناه العلماء بهذه المقولة شيء وما أرادوه شيء مختلف تمام الاختلاف، فتغير الأحكام بتغير الأزمان ليس فيه تبديل للشرع المحكم، ولا تغيير للشريعة الثابتة، بل هو خاصية في الشريعة نفسها تكسبها صفة البقاء والخلود وتزيدها ثباتاً وإحكاماً بقدرتها على تلبية كل متغير في حياة الناس.
يقول فضيلة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد – بعد ما حمل على القائلين بتغير الأحكام –:
«والعصرانيون دخلوا من هذا التقعيد الصوري إلى أوسع الأبواب فأخضعوا النصوص ذات الدلالة القطعية كآيات الحدود في: السرقة والزنا ونحوهما بإيقاف إقامة الحدود؛ لتغير الزمان، وهكذا، مما نهايته انسلاخ من الشرع تحت سرادق موهوم»[37].
وكذلك الشيخ محمد بن شاكر الشريف يحذر من طائفتين:
إحداهما: استغلت هذه المقولة لتحقيق بغيتها في نفث سمومها والسعي في إطفاء نور الله وتحريف دينه باسم «تجديد الخطاب الديني».
والثانية: وجدت في هذه المقولة وسيلة للتوفيق بين الفكر الغربي المعاصر وبين أحكام الشريعة.
وقد عقد الإمام ابن القيم رحمه الله فصلاً نافعاً في كتابه «إعلام الموقعين» عن هذا الموضوع قال فيه:
«هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل... إلى أن قال: فالشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة»[38].
ولا يتناقض هذا المحور المهم مع القول بثبات الشريعة؛ ذلك أن الفتوى هي: «جواب المفتي»، أو «ما يصدر عن المفتي»، ومن البين أن الفتوى قد تدخل فيها أو ترتبط بها عدة عوامل تكون مرتبة عليها، وبالتالي يلحق بالفتوى التغيير بضوابط مهمة، ذكرها أهل العلم – وستأتي الإشارة إليها – مع التأكيد على أن ما يقع فيه التغيير إنما هو بحسب اجتهاد المجتهد، وبحسب تحقيق مناط الحكم وتحقيق المصلحة، ومراعاة العرف، إذا كان مما يلحظ فيه ذلك.
ومن أمثلة هذا النوع: تنظيم جمع الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية، وكالأحكام التي علقها الشارع على العرف ولم يقيدها بوصف سوى الحكم العام، كالتراضي في البيوع، وألفاظ القذف، واليمين، كمن حلف لا يأكل لحماً، والعرف يخصصه في لحم الغنم والبقر والجمل دون لحم السمك وغيره، فلو أكل لحم السمك لا يعد حانثاً ومما تجدر الإشارة إليه هنا: أن تغيير الفتوى بهذا المعنى، إنما هو إعمال لما أمرت به الشريعة، وراعته في أصولها الكلية وجزئياتها الفرعية، إذ من الفتيا ما يكون من حيثيات الحكم فيها مراعاة العرف والمصلحة، فإذا تغير العرف أو تخلفت المصلحة تغيرت الحيثية، فتتغير – لذلك – الفتيا[39]، أما الأحكام الأساسية فهي ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
يقول الأستاذ مصطفى الزرقا: «قد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية – أي التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة، وهي المقصودة بالقاعدة: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان»-. أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوحيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية، كحرمة المحرمات المطلقة، وكوجوب التراضي في العقود، والتزام الإنسان بعقده، وضمان الضرر الذي يلحق بغيره، وسريان إقراره على نفسه دون غيره، ووجوب منع الأذى وقمع الإجرام وسد الذرائع إلى الفساد وحماية الحقوق المكتسبة، ومسؤولية كل مكلف عن عمله وتقصيره، وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره.. إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها، فهذه لا تتبدل باختلاف الأزمنة المحدثة»[40].
ولهذا أقول: يجب أن يراعى عند تغير الفتوى الضوابط التي وضعها أهل العلم في ذلك، وهي – باختصار – كما يلي[41]:
1- اختلاف العوائد والأعراف:
من الأمور التي تتغير بسببها الفتوى تغير العوائد والأعراف التي تبنى عليها الفتوى، يقول القرافي:
«فمهما تجدد العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِهِ على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأفته به دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك[42]».
وقال ابن القيم: «فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد»[43]، وقد بوب البخاري في جامعه الصحيح باباً قال فيه: «باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة، وقال شريح للغزَّالين: سنتكم بينكم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهند: «خُذي ما يكفيك وولدك بالمعروف، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾».
وقال ابن حجر: «قال ابن المنير وغيره: مقصوده بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف وأنه يقضى به على ظواهر الألفاظ... وذكر القاضي حسين من الشافعية أن الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس التي يبنى عليها الفقه...»[44].
وقد ضرب العلماء أمثلة كثيرة لذلك، منها: ما يخرج في صدقة الفطر، فإن الحديث جاء بإخراج صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط، فرأى العلماء أن هذه الأقوات كانت هي غالب القوت عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث في ذلك الزمان، وعلى ذلك أفتى العلماء بجواز إخراج صاع من الأرز والذرة... ونحوه إذا كان هذا هو غالب قوات البلد في زمنهم[45].
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن العوائد قسمان:
أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، بمعنى أنه أمر بها إيجاباً أو ندباً، أو نهى عنها كراهة أو تحريماً، أو أذن فيها فعلاً وتركاً.
الثاني: العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.
أما الأول: وهي العوائد الشرعية، فهذه ثابتة أبداً لا يمكن أن تتغير فيها الفتوى إلا بدليل شرعي يخصص عموم الأول أو يقيده؛ لأنها نص عليها الشارع بخصوصها، وأثبت لها حكماً شرعياً، فتغير عادة الناس فيها من استقباح إلى استحسان لا يغير حكم الشرع فيها، فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحاً، ولا القبيح حسناً، حتى يقال مثلاً: إن كشف العورة الآن، ليس بعيب ولا قبيح فلنجزه؛ إذ لو صح مثل هذا لكان الآن نسخاً للأحكام المستقرة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل، فرفع العوائد الشرعية باطل.
أما الثاني: وهي العوائد الجارية بن الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي، فهذا الذي يمكن أن تتغير فيه الفتوى، وهو الذي عناه العلماء بقولهم: إن الأحكام المبنية على العرف والعادة تتغير تبعاً لتغير العرف والعادة، ومن هنا قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقاً ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف ومثلوه بالحرز في السرقة والتفرق في البيع[46].
2- وجود السبب وتحقيق الشرط وانتفاء المانع:
وذلك كالأحكام المرتبة على وجود سببها، فإذا وجد سبب الحكم وتحقق شرطه وانتفى المانع، انطبق الحكم على الواقع، فإذا تخلف أحد الشروط أو وجد أحد الموانع انطبق حكم آخر على الواقع.
ومثال ذلك: لو أن رجلاً ملك نصاب الزكاة، ثم استفتى أهل العلم عن وجوب إخراج الزكاة، فإن المفتي يسأله؛ هل مر على النصاب الحول؟ فلو قال: نعم، وسأله هل عليك دين؟ فقال لا. هنا يجيبه المفتي بقول: نعم تجب عليك الزكاة.
ولو عاد هذا السائل بعد سنين، وسأل المفتي: هل عليَّ زكاة؟ فإذا سأله المفتي هل عليك دين؟ وقال: نعم، عليَّ دين يستوعب أكثر من مالي حتى لا يبقى منه قدر النصاب.
هنا يقول المفتي: ليس عليك زكاة.
فالحالة الأولى: وجد السبب وتحقق الشرط وانتفى المانع، وأما الحالة الثانية فقد وجد المانع وهو الدين، فتغير الحكم تبعاً لذلك، لأن الحكم إذا كان وارداً على سبب خاص فيجب الإفتاء فيه بما يخصه، ولا يعم.
3- الضرورة الملجئة:
هناك حالات اضطرار يقع فيها المسلم مما يكون معه مضطراً لفعل ما حرم الله عليه، فالميتة مثلاً محرمة، ولكن إذا اضطر الإنسان إليها أبيحت له؛ قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنـزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 3].
ومن ذلك إسقاط عمر رضي الله عنه إقامة حد السرقة عام المجاعة، لأنه غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه.
قال ابن القيم رحمه الله: «وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب، فدُرئ، نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قطع»[47].
4- تغير الوصف أو الاسم:
هناك أحكام رتبت على أوصاف أو أسماء، فإذا تغيرت تلك الأوصاف أو الأسماء تغير الحكم تبعاً لذلك.
مثال ذلك: ما فعله أمير المؤمنين رضي الله عنه في سهم المؤلفة قلوبهم، وهم مَن يعطون من الصدقات لأجل تألف قلوبهم على الإسلام أو لأجل ضعف المسلمين حتى يأمن المسلمون شرهم، فهو حكم معلق على وصف وليس على أشخاص بأعيانهم، فإذا تحقق هذا الوصف في شخص أو أشخاص أعطيناهم من سهم المؤلفة قلوبهم، وإذا فقدوا الوصف؛ كأن حسن إسلامهم، أو قوي المسلمون فلم يعد بهم ضعف منعنا سهم المؤلفة قلوبهم، وليس في هذا خروج عن دائرة النص؛ لأن الله تعالى لما قال: ﴿وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ أثبت لفريق من الناس نصيباً من الزكاة بوصف معين هو مناط الاستحقاق، فإذا انتفى هذا الوصف انتفى الاستحقاق، لأن الحكم المعلل، يدور مع علته وجوداً وعدماً[48].
5- تدافع المأمورات أو المنهيات:
قد يكون هناك أمران مطلوب تحصيلهما ولكن لا يمكن تحصيل أحدهما إلا بتفويت الآخر، فهما على ذلك متدافعان، كما أنه قد يكون هناك أمران مطلوب اجتنابهما ولا يمكن اجتناب أحدهما إلا بفعل الآخر، فهنا تحصل أعظم المصلحتين، وتدفع أقبح المفسدتين، فمثلاً: الشهادة يطلب فيها العدول، فإذا لم نجد العدول صرنا بين أمرين: إما ضياع الحقوق، وإما شهادة غير العدول، وقد أفتى أهل العلم في مثل ذلك أن لكل قوم عدولهم، وعلى القاضي أن يتوسم فيهم ويقبل أكثرهم صلاحاً وأقلهم فجوراً، وواضح أنه إذا وجد العدول في هذا المكان لم تقبل شهادة غيرهم.
6- وجود العَارِض وزواله:
قد يكون هناك شيء محبوب شرعاً لكن يُخشى من فعله أن يترتب عليه تكليف، قد لا يقوم به الناس، فيترك هذا الشيء لذلك العارض، فإذا زال العارض رجع الأمر إلى حالة الأولى.
مثال ذلك: امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قيام الليل في رمضان في المسجد بعد ما فعل ذلك عدة ليال؛ وذلك خوفاً من أن يفرض قيام الليل على المسلمين رحمة منه صلى الله عليه وسلم، فلما زال هذا الأمر بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأُمِن عدم فرض قيام الليل – جاز الاجتماع في المسجد في رمضان لقيام الليل، وليس في هذا تغيير للحكم الشرعي.
ويمكننا أن نلاحظ مما تقدم أن عملية تغير الفتوى هو تغير خاص من حيث الزمان والمكان والشخص، حيث تتغير فقط بالنسبة للزمان أو المكان أو الشخص الذي تغيرت في حقه مسوغات الفتوى، وهذا معناه أن الأمور تكون باقية على ما نص عليه في بقية الأماكن والأزمان والأشخاص.
ومَرَدّ هذا التغيير إلى:
1- سعة الشريعة ومرونتها.
2- التيسير ورفع الحرج عن المكلفين.
3- احتواء المسلمين جميعاً على اختلاف بلدانهم وأزمانهم، والوفاء بحاجاتهم.
4- تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، ودرء المفاسد عنهم.
5- التوسعة والرحمة.
6- إعمال الرخص والاعتبار بالأعذار المبيحة لها، ومبررات تخفيف الأحكام؛ من مرض، وسفر، وخطأ، ونسيان.
ومن هنا جاءت القواعد الفقهية لتقرر أن: «المشقة تجلب التيسير»، و«الضرورات تبيح المحظورات».
7- فساد الزمان وانحراف أهله عن الجادة، وتغير العادات وتبدل الأعراف، وهذا منتزع من قواعد فقهية مثل: «درء المفاسد مقدم على جلب المنافع»، و«لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان»، و«الضرر يُزال»، و«الضرر لا يُزال بمثله».
على أن الوصول إلى هذه الدرجة لا يكون إلا من عالم باختلاف العلماء، موسوم بالإنصاف، يعرف الحق، ويرحم الخلق، واسع العلم، بصير بالدين، حسن الفهم والقصد، صاحب صلة بالحياة وما يدور فيها، له دراية بحوائج الناس وهي لا تنتهي، وأعرافهم وهي متعددة، وبيئاتهم وهي متنوعة... والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب عن السؤال الواحد بأكثر من إجابة، مراعاة لحال من سأله واستفتاه، ولقرائن الأحوال التي تحف به، والظروف التي يحياها، وحالات الكمال والنقص عنده، وآية ذلك ما رواه أبو هريرة وأبو ذر وابن مسعود رضي الله عنهم في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله؟ فمرة قال: «إيمان بالله وجهاد في سبيله وحج مبرور»، ومرة قال: «الصلاة لوقتها، وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله...»[49].
وقد أجاب العلماء على هذه الأحاديث وما يشبهها بأجوبة متعددة منها ما ذكره الحافظ في «الفتح» حيث قال:
«ومحصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال، أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين، بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو: كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره....»[50].
وعلى هذا: فيجب أن تصدر الفتوى في ضوء المصالح والظروف، والالتفات إلى تعليل الأحكام، ومراعاة القرائن وشواهد الحال، وهي أمور يجب أن لا تهمل، وإلا وقع الناس في خطأ كبير، فلكل حال مقتضاه، ولكل عصر قضاياه، ومن ثم وجب الحذر من إنـزال قضايا عصر على عصر آخر، أو إنـزال قضايا بلد على بلد آخر.
ولهذا أوجب العلماء على من يفتي الناس، معرفة عوائدهم، وعللوا الاختلاف بين فتاوى المتقدمين والمتأخرين باختلاف الزمان والمكان.
المحور الرابع
فقه التغيير
(في ضوء ما سبق مع مراعاة قاعدة المصالح وسنة التدرج)
مما لا شك فيه أن الأمم تمر بفترات مختلفة، وتكون قوية في حين وضعيفة في حين آخر، والغيورين على الأمة الإسلامية يسعون دائماً إلى تغيير الواقع الانهزامي أو الضعيف بالأمة والوصول بها إلى مصاف العزة والقوة والسيادة، وهذا يحتاج إلى فقه سديد ونظر رشيد، وإذا أردنا القيام به فلا بد أن نبدأ بأهم الأمور فنعتني أولاً بتغيير العقائد الباطلة والأفكار المنحرفة والتصورات الخاطئة؛ لتحل محل كل ذلك العقيدة الصحيحة والمفاهيم السليمة المستقيمة، ثم نعتني بعد ذلك بجميع الجوانب التي تتعلق بحياة المسلم وعزته وكرامته، ويجب أن تراعى قاعدة المصالح الشرعية في ذلك، فتغيير المنكر أمر يحبه الله ورسوله، ولكن إذا كان تغييره سيؤدي إلى منكر أكبر منه وأعظم، فإن لا يسوغ إنكاره حينئذ، وهذا كالإنكار على الملوك، والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم؟
فقال: «لا؛ ما أقاموا الصلاة»، وقال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ولا ينـزعن يداً من طاعته»[51]، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر... وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام، عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش ذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه[52].
قال الإمام النووي رحمه الله – في شرحه للحديث السابق –: «وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها: إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدئ بالأهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم مصلحة ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيماً فتركها صلى الله عليه وسلم، ومنها: تألف قلوب الرعية وحسن حياطتهم وأن لا ينفروا، ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه، ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي – كما سبق –»[53].
وقال ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: «ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس، والمراد بالاختيار المستحب، وفيه اجتناب ولي الأمر ما يتسرع إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يُترك فيه أمر واجب، وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة»[54].
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله حادثة عن شيخه ابن تيمية رحمه الله تدل على فقهه بالتغيير والواقع فقال: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه ونور ضريحه – يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال. فدعهم»[55] فلله دره ما أفقهه وأعلمه!.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم وهم أفقه الناس لهذه الشريعة، أكثر الناس استعمالاً للمصلحة واستناداً إليها، فهذه المصلحة هي التي جعلت أبا بكر رضي الله عنه يجمع الصحف المفرقة التي كان القرآن مدوناً فيها من قبل في مصحف واحد، وهو أمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي وجهت عمر رضي الله عنه إلى وضع الخراج وتدوين الدواوين، وهي التي جعلت عثمان رضي الله عنه يجمع المسلمين على مصحف واحد... وهكذا[56]. فالشريعة – إذن – مبنية على مصالح العباد في العاجل والآجل، وقد حصرها الشاطبي رحمه الله في ثلاثة أقسام:
أحدهما: أن تكون «ضرورية»، وهي ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم المقيم، والرجوع بالخسران المبين، ومجموع الضروريات خمسة، وهي حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة.
الثاني: أن تكون «حاجيَّة» ومعناها: أنها مُفتقَرٌ إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي – في الغالب – إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين – على الجملة – الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.
الثالث: أن تكون «تحسينية»، ومعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنِّسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق[57].
وبناءً على ما سبق: يجب أن يراعى في فقه التغيير أحوال البلاد والعباد، والقوة والضعف، وأن تراعى سنة التدرج مع الناس كي يقع منهم القبول، وقد تدرج الإسلام في فرض الفرائض؛ كالصلاة والصيام والجهاد، كما تدرج بهم في تحريم المحرمات كالخمر ونحوها، وعند تجدد ظروف مماثلة لظروف قيام المجتمع الأول، أو قريبة منها، نستطيع الأخذ بهذه السنة «سنة التدرج»، وهو تدرج في «التنفيذ»، وليس تدرجاً في «التشريع»، فإن التشريع قد تم واكتمل بإكمال الدين، وإتمام النعمة، وانقطاع الوحي، وهذا هو المنهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية؛ فقد ظل ثلاثة عشر عاماً في مكة، كانت مهمته فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن الذي يستطيع – فيما بعد – أن يحمل عبء الدعوة وإنشاء الأمة والدولة، وتكاليف الجهاد لحكايتها ونشرها في الآفاق[58].
وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وتكوين الدولة الإسلامية، تتابعت الأحكام بعد بناء الأساس، وأقبل الناس على الطاعة والتسليم بعد التربية والإعداد.
ومن طريف ما يُذكر: أن عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز قال لأبيه: «ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك. فقال له عمر: «لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة»[59].
يقول الشاطبي رحمه الله – معلقاً على ذلك –: «وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي، فكان ما كان أجرى بالمصلحة وأجرى على جهة التأنيس، وكان أكثرها على أسباب واقعة، فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنـزل بحسب الوقائع، وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنـزل حكماً حكماً، وجزئية جزئية، لأنها إذا نـزلت كذلك لم ينـزل حكم إلا والذي قبله صار عادة، واستأنست، به نفس المكلف... فإذا نـزل الثاني كانت النفس أقرب للانقياد»[60].
أهم النتائج التي نخرج بها من هذا البحث:
1- عظمة الفقه الإسلامي ومرونته، وقوة معانيه وألفاظه، حيث تتسع لكل ما يَجِدُّ ويَحْدثُ من نوازل.
2- الأحكام الشرعية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير بمرور الزمان وتبدل المكان، وإنما الذي يتغير هو الفتوى بناء على أصول شرعية، وعلل مرعية، ومصالح جنسها مراد لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
3- الشريعة الإسلامية صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان وهذه حقيقة ثابتة معلومة من دين الإسلام بالضرورة.
4- النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ورسالته هي الرسالة الخاتمة ورسالته خالدة باقية إلى يوم الدين فلا نسخ لها ولا زوال.
5- للشريعة الإسلامية أوصاف كثيرة قد جعلتها صالحة لكل زمان ومكان، من هذه الأوصاف (العموم، البقاء، الحفظ، الشمول، المرونة والاتساع).
6- الفتوى لا تتغير بحسب الهوى والتشهي واستحسان العباد واستقباحهم، وإنما بضوابط دقيقة أشرت إليها في البحث، ولا يصلح أن يكون تغير الزمان والأحوال سبباً لتغير الفتوى، وإنما يصلح أن يكون هذا سبباً يدعو المجتهد لإعادة النظر في مدارك الأحكام، فإذا تحقق من ضعف المدرك أو زواله، أو ترجيح غيره عليه لمصلحة معتبرة شرعاً غير موهومة نظر في أمر تغيير الفتوى معتمداً على الدليل الشرعي.
7- الشريعة قائمة على مراعاة المصالح ودرء المفاسد، ويجب أن يؤخذ هذا في الاعتبار، وعلى المجتهد أن يفهم الواقع وأحوال الأمم وأن يعمل بسنة التدرج.
8- تغيير الفتوى مقصور على طائفة من الناس وهم حملة الشريعة وورثة الأنبياء، أهل الاجتهاد والفتوى، فليس لأحد أن ينازعهم هذا الحق، ولا أن يقول على الله بغير علم.
وهنا انتهى ما أردت الحديث عنه، وأسأل الله سبحانه أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن يغفر خطيئتي يوم الدين، وأن يعفو عني فيما قصرت فيه أو أخطأت، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
[1] أخرجه: البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه.
[2] المصباح المنير لأحمد بن القيومي المقري ص177، ط.أولى لعام 1421، دار الحديث بالقاهرة.
[3] لسان العرب لابن منظور (6/ 108) ط. دار صادر – بيروت.
[4] «السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها» د/ يوسف القرضاوي ص32، مكتبة وهبة بمصر.
[5] «نظام الدولة في الإسلام»، د/ محمود الصاوي ص39، ط.أولى، لعام 1418هـ، دار الهداية بمصر.
[6] «المدخل إلى السياسة الشرعية»، لعبدالعال أحمد عطوة ص43.
[7] «السياسة الشرعية». د/ عبدالله القاضي ص36.
[8] «السياسة الشرعية». د/ يوسف القرضاوي.
[9] «نظام الدولة في الإسلام» د/ محمود الصاوي ص39، 40، و«السياسة الشرعية». د/ القرضاوي ص15.
[10] الموسوعة الفقهية (18/ 65).
[11] تفسير القاسمي (6/ 2475، 2476)
[12] أخرجه: البخاري (2697)، ومسلم (1718).
[13] «فتح الباري» (5/ 302، 303).
[14] «الموافقات في أصول الشريعة»، للشاطبي (1/ 78، 79).
[15] «روح المعاني»، للألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (9/ 82).
[16] «التحرير والتنوير»، للطاهر بن عاشور، (5/ 484).
[17] «تفسير الطبري»، تحقيق أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1 (1420هـ - 2000م) (10/ 377).
[18] السابق (5/ 161).
[19] السابق (22/ 204).
[20] «تفسير القرطبي»، دار إحياء التراث، بيروت، لبنان (1966م) (18/ 223).
[21] أخرجه: البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
[22] أخرجه: مسلم (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[23] «تفسير الطبري» لابن جرير، (10/ 305).
[24] «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 (1406هـ - 1986م) (3/ 650).
[25] أخرجه: البخاري (3535)، ومسلم (2286) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[26] «تفسير الطبري»، لابن جرير (4/ 493).
[27] «تفسير البغوي»، (1/ 176).
[28] «الأنوار الكاشفة، لما في كتاب (أضواء على السنة) من الزلل والتضليل والمجازفة» للمعلمي، ط عالم الكتب (1403هـ) (ص33).
[29] «تفسير الطبري»، (7/ 633).
[30] «الكشاف»، لمحمود بن عمر الزمخشري، دار المعرفة، بيروت، (1/ 665).
[31] «فتح القدير»، للشوكاني، دار المعرفة، بيروت، (2/ 164).
[32] انظر:«المعجم الوسيط» (ص668)، «لسان العرب» لابن منظور (5/ 404)، «تاج العروس» للزبيدي (3/ 461).
[33] أخرجه: البخاري (2367)، ومسلم (249)، هذا لفظه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[34] انظر: تفسير ابن كثير (5/ 225).
[35] أخرجه: البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[36] أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 171) وصححه، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 114) من طريق عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً.
[37] «التعالم وأثره على الفكر والكتاب»، لفضيلة الدكتور بكر أبو زيد، مكتبة دار الراية، الرياض، ط3، (1412هـ - 1992م) (ص55).
[38] «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/ 14).
[39] انظر: كتاب «تغير الفتوى» لمحمد بن عمر بازمول ص32-33، و«إغاثة اللهفان» لابن القيم (1/ 330).
[40] «المدخل الفقهي العام» (2/ 924-925).
[41] يراجع «ثبات الأحكام الشرعية وضوابط تغير الفتوى» للشيخ/ محمد بن شاكر الشريف.
[42] «الفروق»، للقرافي (1/ 176).
[43] «إعلام الموقعين» (3/ 14).
[44] «فتح الباري» لابن حجر (4/ 405، 406).
[45] «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/ 23، 24).
[46] انظر:«تغير الفتوى: مفهومه وضوابطه وتطبيقاته في الفقه الإسلامي» د/ عبدالله الغطيمل، ص50-51، من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 35/ 1418هـ.
[47] «إعلام الموقعين» (3/ 23).
[48] انظر:«السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها»، د/ يوسف القرضاوي، ص176.
[49] انظر:«ضوابط الخلاف في ميزان السنة»، د/ عبدالله شعبان، ص184-187.
[50] «فتح الباري» لابن حجر (2/ 9).
[51] الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم، ج3/ 1481.
[52] «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/ 15-16).
[53] «شرح مسلم»، للنووي (9/ 89).
[54] «فتح الباري» لابن حجر، (3/ 448).
[55] «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/ 16).
[56] انظر:«ضوابط الخلاف في ميزان السنة» د/ عبدالله شعبان، ص209.
[57] «الموافقات»، للشاطبي (2/ 8-11).
[58] «السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها» د/ يوسف القرضاوي، ص327-328.
[59] «الموافقات»، للشاطبي (2/ 93، 94).
[60] المرجع السابق (2/ 94).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/38096/#ixzz2w2q4Ktbr
مقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آلهِ وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن الله بعث النبي صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام للناس كافة، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ [الأعراف: 158].
وقال صلى الله عليه وسلم: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة»[1]، ولهذا كان من خصائص هذا الدين أنه دين عالمي في الزمان والمكان؛ فعالمية الزمان تعني أنه صالح إلى قيام الساعة، وعالمية المكان تعني أنه صالح على أي جزء من أجزاء المعمورة، والأوامر الربانية والتشريعات الإلهية التي نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم طبقها وصحابته الأخيار أتم تطبيق، وكانت شاملة كافية لهم فيما يحتاجون إليه؛ لأنها من لدن الحكيم الخبير سبحانه، وهو أعلم بخلقه.
ولما انتشر الإسلام في أماكن متفرقة من العالم بعد النبي صلى الله عليه وسلم وجد الناس أن هذه الشريعة محققة لهم ما يحتاجون إليه، مفضية بهم إلى سعادة الدارين، مع تجدد الحوادث واختلاف الزمان؛ وذلك لأن الله تعالى قيض لهذا الدين رجالاً أكفاء، فقهوا الكتاب والسنة، وأمضوا نفيس أوقاتهم وجُل َّأعمارهم في التأصيل والتفريع خدمة لهذا الدين، ومواجهة لما يحدث من قضايا ونوازل تتعلق بالمسلمين، وذلك بسياسة شرعية سديدة، وفقه راشد بصير.
فأثبتوا أن شريعتنا قادرة على الوفاء بحاجات المجتمعات في أي زمان ومكان، دون خروج على النص أو تبديل لشريعة الله، وهذا ما سأوضحه في هذه الكلمات تحت عنوان:
’’السياسة الشرعية بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين’’
وقد قسمت الحديث في هذا الموضوع على المحاور التالية:
المحور الأول: معنى السياسة الشرعية وموضوعاتها.
المحور الثاني: العقائد والأحكام الشرعية لا تتغير ولا تتبدل.
المحور الثالث: صلاحية الشريعة وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان.
المحور الرابع: فقه التغير في ضوء ما سبق مع مراعاة قاعدة «المصالح، وسنة التدرج».
المحور الأول
معنى السياسة الشرعية وموضوعاتها
أولاً: تعريف «السياسة» في اللغة:
جاء في «المصباح المنير»: «سَاسَ زيد الأمرَ يسوسه: أي دبَّره وقام بأمره»[2].
وجاء في «لسان العرب»: «السَّوْسُ الرياسة.
قال: ساسوهم سَوْساً... وساس الأمرَ سياسة: قام به... ويقال: سُوِّس فلان أمر بني فلان، أي كُلِّف سياستهم... والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه»[3].
ثانياً: تعريف السياسة الشرعية اصطلاحاً:
عرَّف أهل العلم السياسة الشرعية بتعريفات متعددة منها:
1- ما يراه الإمام أو يصدره من الأحكام والمقررات، زجراً عن فساد واقع، أو وقاية من فساد مُتوقع، أو علاجاً لوضع خاص[4].
2- تدبير شئون الدولة الإسلامية، التي لم يرد بحكمها نص صريح، أو التي من شأنها أن تتغير وتتبدل بما فيه مصلحة الأمة، ويتفق مع أحكام الشريعة وأصولها العامة[5].
3- تحقيق الحاكم الذي يسوس أمر الأمة للمصلحة التي تعود على الأفراد والجماعات، وذلك بتطبيق أحكام استنبطت بواسطة أسس سليمة أقرتها الشريعة، مثل: المصالح المرسلة، وسد الذرائع والاستحسان، والعرف، والاستصحاب، والإباحية الأصلية، وذلك فيما لم يرد فيه نص[6].
وإنما وصفت هذه السياسة بالشرعية، لأن اجتهاد الحاكم فيما جَدَّ من وقائع وأحداث وما يدخل في مجال علم السياسة الشرعية، لم يبن على الهوى والتشهي وإنما على مبادئ وقواعد معتبرة شرعاً[7].
يقول الدكتور القرضاوي:
«إن السياسة الشرعية هي السياسة القائمة على قواعد الشرع وأحكامه وتوجيهاته، فليست كل سياسة شرعية، فكثير من السياسات تعادي الشرع وتمضي في طريقها وفقاً لتصورات أصحابها وأهوائهم»[8].
ثالثاً: موضوعات علم السياسة الشرعية:
يدخل ضمن علم السياسة الشرعية الموضوعات التالية:
1- الوقائع المتعلقة بعلاقة الحاكم بالمحكومين، وبيان حقوقه وواجباته، وحقوق الرعية وواجباتها.
2- الوقائع المتعلقة بعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في حالتي الحرب والسلم.
3- الوقائع المتعلقة بجباية الأموال، وموارد الدولة ومصارفها، ونظام بيت المال.
4- الوقائع المتعلقة بتداول المال وكيفية تنظيم استثماره وهذا ما يشمله النظام الاقتصادي في الإسلام.
5- الوقائع المتعلقة بالنظم القضائية وطرق القضاء، وبيان وسائل الإثبات وهذا ما يشمله: السياسة القضائية في الإسلام[9].
وهذه الموضوعات قد تناولها فقهاؤنا على اختلاف مذاهبهم ضمن أبواب الفقه العام، كما تناولوها في كتب متخصصة مثل «الأحكام السلطانية» للماوردي الشافعي، و«الأحكام السلطانية» لأبي يعلى الفراء الحنبلي، و«السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» لابن تيمية، و«الطرق الحكمية» لابن قيم الجوزية، و«الخراج» لأبي يوسف، و«الأموال» لأبي عبيد بن سلام، ونستخلص مما سبق: أن السياسة الشرعية غايتها الوصول إلى تدبير شؤون الدولة الإسلامية بنظم من دينها، والإبانة عن كفاية الإسلام بالسياسة العادلة ورعاية مصالح الناس في مختلف العصور والبلدان، ومسايرة التطورات الاجتماعية في كل حال وزمان على وجه يتفق مع المبادئ العامة الإسلامية.
المحور الثاني
العقائد والأحكام الشرعية لا تتغير ولا تتبدل
من المعلوم إن الله أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3]، وإذا كان الدين قد كُمَل فلا يحتاج إلى زيادة أبداً، كما لا ينبغي أن تحذف أو تغير بعض أحكامه، ولم يقبض رب العباد حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن بلغ البلاغ المبين، وترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها ونهارها سواء.
وبناء على هذا أقول: إن الأحكام الشرعية لا تتغير ولا تتبدل؛ لأن الحكم الشرعي هو: «خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً»[10] والمراد بخطاب الشرع هنا هو الكتاب والسنة، ولا يتغيران بحال بتغير الزمان والمكان، والأدلة على ذلك متوافرة، منها:
1- قول الله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام: 115].
قال القاسمي رحمه الله: «وتمت كلمة ربك» أي بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده: «صدقاً» في الأخبار والمواعيد «وعدلاً» في الأقضية والأحكام. «لا مبدل لكلماته» أي لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل، أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعاً ذائعاً، كما فُعِل بالتوراة. على أن المراد بها القرآن. فيكون ضماناً لها منه تعالى، كقوله: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[11].
2- قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [يونس: 15]؛ وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك أن يغير أو يبدل من تلقاء نفسه، فغيره من باب أولى، وهو يدل على ثبات الأحكام الشرعية وبقائها كما جاءت من عند رب البرية.
وقد دلت السنة النبوية على ما دل عليه القرآن الكريم، كما في حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد»[12].
قال ابن حجر: «هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يُلتفت إليه»، قال النووي: «هذا الحديث مما ينبغي أن يُعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستعمال به كذلك»[13].
قلت: وجه الاستدلال بالحديث هو أن تغيير الأحكام الشرعية إحداث في الدين وخروج على الكتاب والسنة، فهو مردود لا يقبل ولا يجوز، وكل ذلك يدل على ثبات الأحكام الشرعية: وعدم تغييرها، يقول الشاطبي في بيان ثبات الأحكام الشرعية: «... فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أثبت سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجب أبداً أو مندوباً فهو مندوب... وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك»[14].
ولا شك أن القول بتغير الشريعة وتبديلها يترتب عليه مفاسد كثيرة منها:
1- اتخاذ الشركاء الذين يشرعون من دونه، والتشريع حق لله وحده دون سواه؛ قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 21]، فقد نعى الله تعالى على الذين لا يتبعون ما شرع الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من الدين القيم، ويلجأون إلى غيره، وفي الآية إشارة ظاهرة إلى أن التحليل والتحريم بغير سلطان من الله – إشراك بالله.
2- ومنها القول أو الاعتقاد بقصور الشريعة وعدم كمالها وعدم صلاحية أحكامها لعموم الزمان والمكان.
المحور الثالث
صلاحية الشريعة وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان
إن من الحقائق المعلومة من دين الإسلام بالضرورة أن الله – تبارك وتعالى – لم يبعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون نذيراً لطائفة من الناس دون سائرهم، ولا ليكون رسولاً لأمة من البشر دون سائر الأمم، وإنما بعثه ليكون بشيراً ونذيراً للعالمين أجمعين، بعثه برسالة الإسلام الخالدة إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، قاصيهم ودانيهم، أحمرهم وأسودهم، عربيهم وأعجمهم، شرقيهم وغربيهم، ذلك منذ أن بعثه الله بالحق وإلى قيام الساعة.
وعلى ذلك فمن أنكر هذه الحقيقة وجحدها كان على غير الملة لأن القرآن الكريم صرح بها تصريحاً لا يقبل التأويل، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ﴾ [الأعراف: 158]، ففي هذه الآية الكريمة «بيان عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، وهي عامة للثقلين كما نطقت به النصوص، حتى صرحوا بكفر منكره»[15]، وبرغم أن الآية الكريمة خاطبت الناس جميعاً برسالته صلى الله عليه وسلم إلا أنها أكدت ضمير المخاطبين بوصف: ﴿جميعاً﴾ الدال نصاً على العموم لرفع احتمال التخصيص[16].
ويقول الله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ [سبأ: 28]، أي: «وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصة، ولكنا أرسلناك كافة للناس أجمعين، العرب منهم والعجم، والأحمر والأسود، بشيراً من أطاعك ونذيراً من كذبك»[17].
وقال عز وجل: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، أي: «لأنذركم بالقرآن أيها المشركون وأنذر من بلغه القرآن من الناس كلهم»[18]. وقال عن القرآن الكريم نفسه: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نـزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [الفرقان: 1]، وقال: ﴿وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ [القلم: 52]، أي: «وما محمد إلا ذِكْر ذكَّر الله به العالمين الثقلين الجن والإنس»[19]، أو«وما القرآن الكريم إلا ذكر للعالمين. ومعناه: شرف.. كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: 44]..»[20].
وهذه الحقيقة التي صرح بها القرآن الكريم أكدتها السنة المطهرة، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»[21].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا دخل النار»[22].
والمراد بالأمة في هذا الحديث عموم أهل الدعوة سواء من دخل فيهم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالمعنى الخاص فصار مسلماً، أو من بقي منهم على كفره فكان من أمته بالمعنى العام أي: من عموم من بعث إليهم وأمر بدعوتهم وهم الناس جميعاً بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، وذلك بدليل ذكره لليهود والنصارى.
وإلى جانب هذه الحقيقة الراسية الراسخة حقيقة أخرى لا تقل عنها رسواً ورسوخاً، وهي أن رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، فلا نبي بعده ولا رسول، وأن رسالته خالدة باقية إلى يوم الدين، فلا نسخ لها ولا زوال.
وهي أيضاً حقيقة معلومة من دين الله بالضرورة، لا ينكرها إلا من كفر بالرحمن وكتب عليه الخذلان، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40]، أي: «وخاتم النبيين الذي ختم النبوة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة»[23] فهذه الآية الكريمة «نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»[24].
من هذه الأحاديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنةٍ من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»[25].
هاتان الحقيقتان الراسيتان الراسختان مقدماتان لحقيقة كبرى وهي: «صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان».
لأننا لو لم نقل بذلك – مع كون رسالة الإسلام رسالة عالمية خاتمة للرسالات – للزم منه أن يكون الله عز وجل قد أجاز للبشر أن يشرعوا لأنفسهم في كل زمان ما يصلح لهم، وهذا أبطل الباطل، وبطلانه معلوم من دين الله بالضرورة، كما أن حاكمية الله وانفراده بالسلطان على عباده وتفرده بحق التشريع معلوم من دين الله بالضرورة، قال تعالى: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]، وقال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10]، فالذي له الخلق هو وحده الذي يملك الأمر والنهي والتحليل والتحريم والتشريع والحكم، فما من شيء في حياة البشر مهما كان صغيراً إلا ولله فيه حكم، فيجب عليهم أن يردوا كل أمر يختلفون فيه إلى حكم الله وحده، وهذا أمر لا يخالف فيه إلا من لا حظ له من الإسلام.
فـ«الشريعة الإسلامية» صالحة لكل زمان ومكان، ومُصلِحة لكل زمان ومكان، بل لا يكفي أن نقول هذا حتى نرفع احتمال المشاركة بأن نقول: إنها هي وحدها الصالحة والمصلحة لكل زمان ومكان، وكل ما سبق أن قررناه من مقدمات وحقائق راسخة يدل على هذا دلالة قاطعة.
وهذا الوصف للشريعة الإسلامية يضم تحت عباءته أوصافاً تعد من مفرداته ومن ضروراته، هذه الأوصاف هي:
1- العموم: بمعنى كونها عامة للناس أجمعين، وهذا الوصف مستفاد من النصوص الدالة على عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سبق إيرادها.
2- البقاء: بمعنى أنها لا تأتي بعدها شريعة سماوية تنسخها، وهذا الوصف مستفاد من النصوص الدالة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأن رسالته خاتمة الرسالات وقد سقناها من قبل.
3- الحفظ: بمعنى أن الله عز وجل تولى حفظ أصولها من التحريف والتبديل، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9]، أي: «وإنا للقرآن الكريم لحافظون من أن يزاد فيه ما ليس منه أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه»[26].
وقال عز وجل: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: 42]، قال الزجاج: «معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه»[27].
وما يسري على القرآن الكريم يسري على السنة؛ لأنها بيان للقرآن الكريم قال تعالى: ﴿وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نـزلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]، فحفظ القرآن الكريم يستلزم حفظ السنة بل وحفظ اللسان العربي أيضاً، يقول المعلمي: «فأما السنة فقد تكفل الله بحفظها أيضاً؛ لأن تكفله بحفظ القرآن يستلزم تكفله بحفظ بيانه وهو السنة، وحفظ لسانه وهو العربية، إذ المقصود بقاء الحجة قائمة والهداية باقية، بحيث ينالها من يطلبها؛ لأن محمداً خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، بل دل على ذلك قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: 19]، فحفظ الله السنة في قلوب الصحابة والتابعين حتى دونت»[28].
4- الشمول: وهو غير العموم، فهو بمعنى أن أحكام الشريعة شاملة ومستغرقة ومستوعبة لكل أحوال البشر، وحاكمة على كل ما يستجد في حياتهم إلى يوم الدين، قال تعالى: ﴿وَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]، أي: «تبياناً لكل ما بالناس إليه حاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب»[29]، وهذا التبيان قد يكون بالتفصيل وقد يكون بالإجمال، وقد يكون بالإحالة على السنة، كقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: 7]، وقد يكون بإثارة القياس وتعديه حكم ما ذكر على ما لم يذكر كقوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]، فلا يلزم من بيانه لكل شيء أن يحمل بين دفتيه كل الأحكام بالتفصيل، يقول الزمخشري في الكشاف: «فإن قلت: كيف كان القرآن الكريم تبياناً لكل شيء؟ قلت: المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين: حيث كان نصاً على بعضها، وإحالة على السنة... وحثاً على الإجماع..»[30].
وقال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، أي: «ما تركنا في القرآن الكريم من شيء من أمر الدين إما تفصيلاً أو إجمالاً»[31] وقال عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3].
5- المرونة والاتساع: ومعناها قدرة الشريعة الإسلامية على مواجهة كل ما يستجد في حياة الناس وما يترك في دنياهم، وعلى الاستجابة لكل ما يتغير في أمورهم وأحوالهم بتغير أزمانهم، وعلى تلبية كل احتياجاتهم مهما تبدلت بتبدل ظروفهم، وذلك كله دون أن تتبدل أصولها أو تنسخ أحكامها أو تزيف مبادئها أو تزعزع ثوابتها أو يرجع على شيء منها بالإبطال أو التعطيل.
وهذه الصفة الأخيرة «المرونة والاتساع» لها آليات عدة، تضمن تحقيقها وتطبيقها والانتفاع بثمراتها دون الرجوع على النصوص المحكمة بالتعطيل أو على الأصول والثوابت الراسية بالتبديل، أو على الأحكام الثابتة بالنسخ أو التأويل.
من هذه الآليات: «تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان»
وهي التي عبر عنها العلماء – على سبيل التسهيل في الاصطلاح – بقولهم: «لا يُنكر تغير الأحكام بتغير الأزمان».
التغير لغة[32]: التبدل والتحول والانتقال، نقول: تغير الشيء: أي تحول، وغيّره: جعله غير ما كان، وغيّره: حوله وبدله، وغيّرت الشيء: بدلته، وغيّرت دابتي وثيابي: أي: جعلتها على غير ما كان، وغيّرت داري: بنيتها بناء غير الذي كان.
ومعنى «تغير الفتوى» في الاصطلاح الشرعي لا يبعد عن المعنى اللغوي السابق، فهو: التحول والانتقال – عند الإفتاء في مسألة – من حكم سابق كان مناسباً لها في وقت أو حال إلى حكم آخر لتبدل الوقت أو الحال.
والأفضل ألا يعبر عنه بلفظ «تغيير»؛ لأن كلمة «تغيير» تستعمل كثيراً بمعنى الإزالة والرفع، و«تغير الفتيا» ليس فيه إزالة ولا رفع، بل هو مجرد انتقال وتحول من حكم إلى حكم، مع بقاء الحكم ذاته.
وكذلك التعبير عنه بمصطلح «تغير الأحكام» أو بقاعدة: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان» فيه – أيضاً – قدر من المسامحة؛ لأن الذي يتغير هو الفتيا، أما الأحكام فلا تتغير ولا تتبدل، فالحكم الشرعي – كما سبق – هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً، والقول بإمكانية تغير الحكم الشرعي مكافئ للقول بإمكانية تغيير خطاب الله تعالى، وقد تُوعِّد المبدلون لأحكام الله المغيرون لشرعه بالإبعاد والهلاك يوم القيامة، ففي الحديث الصحيح: «ألا ليذادنَّ رجالٌ عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً»[33].
تغير الفتوى في الواقع المعاصر:
بعد فترة طويلة من الجمود الفكري والفقهي ومن غلق باب الاجتهاد بدأ البعث يدب من جديد في الحياة الفقهية المعاصرة، وذلك بعد ظهور حركات تجديدية ودعوات إصلاحية؛ أدت إلى فتح باب الاجتهاد ونبذ التعصب للمذاهب وإحياء الفقه المقارن، وكان من أعظم ما وصل إليه الفقه المعاصر مؤسسات الاجتهاد الجماعي، مثل: «مجمع البحوث الإسلامية» بالقاهرة، و«مجمع الفقه الإسلامي» المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي ومقره الرئيسي جدة، و«المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي» بمكة المكرمة.
ومع انطلاقة الاجتهاد والتجديد بدأت من جديد تظهر ظاهرة تغير الفتوى، وكان لها أمثلة كثيرة في واقع الأمة الإسلامية.
المثال الأول: الحقوق المالية للتأليف والتصنيف، فقد اتجه الفقه المعاصر إلى اعتبار هذه الحقوق، وإلى وضع الضمانات لحفظها لأصحابها، فصاحب المؤلف هو الأحق بطبعه ونشره، وهو الذي يملك أن يبيع هذا الحق وأن يجني ثمرته المالية، ولم يكن هذا موجوداً من قبل، بل كان الاحتساب هو السائد، ولكن ظهر للفقهاء المعاصرين وللمجامع والمؤسسات الفقهية أن المصلحة تقتضي الاعتراف بالحقوق المالية للتأليف وحفظها بالأحكام الشرعية.
المثال الثاني: ترجح القول بوجوب إخراج الزكاة في الخضر والفاكهة، وقد كان المذهب الراجح فيما مضى هو أن الخضر والفاكهة وما شابهها لا زكاة فيها، ولكن تغير الحال في الزمن الحاضر أدى إلى تغير الفتيا، فإن الخضر والفاكهة لم تكن في الماضي تمثل مصدر إنتاج وتنمية واستثمار، أما في العصر الحاضر فصارت من أكبر مشاريع التنمية والاستثمار في كثير من البلدان، فقد يزرع المستثمر آلاف أو مئات الأفدنة خضروات وفواكه ويربح من ورائها أموالاً طائلة، فهل يعفى من زكاة الزرع أو يكتفي في حقه بإخراج زكاة المال (5,2%) على الحول الكامل، بينما صاحب المساحات الزراعية الصغيرة من المحاصيل التي تقتات وتدخر كالقمح يخرج (5%) عند كل حصاد؟!
ثم إن القول بذلك يفضي في الواقع المعاصر إلى التهرب من زكاة الزرع والثمر بترك الزروع التي تجب فيها الزكاة وتوسيع الأنشطة فيما ليس فيه زكاة؛ مما يترتب عليه ضياع حقوق الفقراء والمساكين، واختلال الموازين الإنتاجية وفساد الأخلاق.
لذلك عمد كثير من الفقهاء المعاصرين إلى تغيير الفتوى في هذه المسألة، ورجحوا القول بوجوب زكاة الزرع في الخضر والفاكهة؛ سداً لذريعة التهرب من الزكاة، وحفاظاً على حقوق الفقراء والمساكين.
المثال الثالث: إفتاء العلماء المعاصرين بجواز توزيع لحوم الهدي خارج مكة بل خارج الجزيرة كلها، وذلك لظهور المصلحة في ذلك؛ حيث إن أهل مكة لا يأكلون هذه الذبائح، وهي تزيد عن حاجة الحجيج، فيؤدي القول بعدم إخراجها من مكة إلى فسادها وتعفنها وحدوث مفاسد التلوث مع ضياع مصلحة انتفاع المسلمين بها، وهذا تغير للفُتيا في ضوء تغير المصلحة.
تغير الفتوى وتجديد الخطاب الديني:
لم يختلف علماء الأمة الإسلامية في أن الثبات من خصائص هذه الشريعة الغراء – في عمومها – فهي شريعة لا تقبل التطويع للأغراض والأهواء وتقلبات الأمزجة واختلاط الآراء، ولا تقبل كذلك الذوبان في شرائع أخرى ولا معها، ولا يملك أحد أن يبدلها ولا أن يغيرها بحجة تغير الظروف والأحوال، قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ [الأنعام: 115]، أي: صدقاً فيما أخبر فما أخبر به هو الحق فيما حكم، فما أمر به هو العدل، وما نهى عنه فهو الباطل، ولا معقب لحكمه في الدنيا ولا في الآخرة[34]، ولا يملك أحد أن يغيرها ولا أن يبدلها ولا أن يخرج عن شيء من أحكامها، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3]، والتغيير فيما قد كمل وتم اتهام بالنقص، بل هو عين النقص.
وقال عز وجل: ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنـزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49]، فلا يجوز الخروج عن شريعة الله ولا عن شيء من أحكامها، ولا يجوز التبديل ولا التغيير فيها، وقال عز وجل: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنـزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3].
وقال سبحانه: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18]، وقال عز من قائل: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: 211]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»[35]، وقال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنة نبيه»[36].
فالشريعة الإسلامية ثابتة، تستعصي على التحريف والتبديل، وتتأبى على التطويع والتعطيل، ومن رماها بشيء من ذلك رمته بالكفر والتضليل.
ولقد حاول كثير من دعاة العصرانية أن ينفذوا إلى غرضهم في تبديل الشريعة وتذويب أحكامها وتطويع مبادئها للأهواء، وذلك من خلال ما اشتهر في كتب أهل العلم من تغير الأحكام بتغير الأزمان، ولا يمكنهم ذلك؛ لأن ما عناه العلماء بهذه المقولة شيء وما أرادوه شيء مختلف تمام الاختلاف، فتغير الأحكام بتغير الأزمان ليس فيه تبديل للشرع المحكم، ولا تغيير للشريعة الثابتة، بل هو خاصية في الشريعة نفسها تكسبها صفة البقاء والخلود وتزيدها ثباتاً وإحكاماً بقدرتها على تلبية كل متغير في حياة الناس.
يقول فضيلة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد – بعد ما حمل على القائلين بتغير الأحكام –:
«والعصرانيون دخلوا من هذا التقعيد الصوري إلى أوسع الأبواب فأخضعوا النصوص ذات الدلالة القطعية كآيات الحدود في: السرقة والزنا ونحوهما بإيقاف إقامة الحدود؛ لتغير الزمان، وهكذا، مما نهايته انسلاخ من الشرع تحت سرادق موهوم»[37].
وكذلك الشيخ محمد بن شاكر الشريف يحذر من طائفتين:
إحداهما: استغلت هذه المقولة لتحقيق بغيتها في نفث سمومها والسعي في إطفاء نور الله وتحريف دينه باسم «تجديد الخطاب الديني».
والثانية: وجدت في هذه المقولة وسيلة للتوفيق بين الفكر الغربي المعاصر وبين أحكام الشريعة.
وقد عقد الإمام ابن القيم رحمه الله فصلاً نافعاً في كتابه «إعلام الموقعين» عن هذا الموضوع قال فيه:
«هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل... إلى أن قال: فالشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة»[38].
ولا يتناقض هذا المحور المهم مع القول بثبات الشريعة؛ ذلك أن الفتوى هي: «جواب المفتي»، أو «ما يصدر عن المفتي»، ومن البين أن الفتوى قد تدخل فيها أو ترتبط بها عدة عوامل تكون مرتبة عليها، وبالتالي يلحق بالفتوى التغيير بضوابط مهمة، ذكرها أهل العلم – وستأتي الإشارة إليها – مع التأكيد على أن ما يقع فيه التغيير إنما هو بحسب اجتهاد المجتهد، وبحسب تحقيق مناط الحكم وتحقيق المصلحة، ومراعاة العرف، إذا كان مما يلحظ فيه ذلك.
ومن أمثلة هذا النوع: تنظيم جمع الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية، وكالأحكام التي علقها الشارع على العرف ولم يقيدها بوصف سوى الحكم العام، كالتراضي في البيوع، وألفاظ القذف، واليمين، كمن حلف لا يأكل لحماً، والعرف يخصصه في لحم الغنم والبقر والجمل دون لحم السمك وغيره، فلو أكل لحم السمك لا يعد حانثاً ومما تجدر الإشارة إليه هنا: أن تغيير الفتوى بهذا المعنى، إنما هو إعمال لما أمرت به الشريعة، وراعته في أصولها الكلية وجزئياتها الفرعية، إذ من الفتيا ما يكون من حيثيات الحكم فيها مراعاة العرف والمصلحة، فإذا تغير العرف أو تخلفت المصلحة تغيرت الحيثية، فتتغير – لذلك – الفتيا[39]، أما الأحكام الأساسية فهي ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
يقول الأستاذ مصطفى الزرقا: «قد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية – أي التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة، وهي المقصودة بالقاعدة: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان»-. أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوحيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية، كحرمة المحرمات المطلقة، وكوجوب التراضي في العقود، والتزام الإنسان بعقده، وضمان الضرر الذي يلحق بغيره، وسريان إقراره على نفسه دون غيره، ووجوب منع الأذى وقمع الإجرام وسد الذرائع إلى الفساد وحماية الحقوق المكتسبة، ومسؤولية كل مكلف عن عمله وتقصيره، وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره.. إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها، فهذه لا تتبدل باختلاف الأزمنة المحدثة»[40].
ولهذا أقول: يجب أن يراعى عند تغير الفتوى الضوابط التي وضعها أهل العلم في ذلك، وهي – باختصار – كما يلي[41]:
1- اختلاف العوائد والأعراف:
من الأمور التي تتغير بسببها الفتوى تغير العوائد والأعراف التي تبنى عليها الفتوى، يقول القرافي:
«فمهما تجدد العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِهِ على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأفته به دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك[42]».
وقال ابن القيم: «فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد»[43]، وقد بوب البخاري في جامعه الصحيح باباً قال فيه: «باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة، وقال شريح للغزَّالين: سنتكم بينكم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهند: «خُذي ما يكفيك وولدك بالمعروف، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾».
وقال ابن حجر: «قال ابن المنير وغيره: مقصوده بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف وأنه يقضى به على ظواهر الألفاظ... وذكر القاضي حسين من الشافعية أن الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس التي يبنى عليها الفقه...»[44].
وقد ضرب العلماء أمثلة كثيرة لذلك، منها: ما يخرج في صدقة الفطر، فإن الحديث جاء بإخراج صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط، فرأى العلماء أن هذه الأقوات كانت هي غالب القوت عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث في ذلك الزمان، وعلى ذلك أفتى العلماء بجواز إخراج صاع من الأرز والذرة... ونحوه إذا كان هذا هو غالب قوات البلد في زمنهم[45].
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن العوائد قسمان:
أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، بمعنى أنه أمر بها إيجاباً أو ندباً، أو نهى عنها كراهة أو تحريماً، أو أذن فيها فعلاً وتركاً.
الثاني: العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.
أما الأول: وهي العوائد الشرعية، فهذه ثابتة أبداً لا يمكن أن تتغير فيها الفتوى إلا بدليل شرعي يخصص عموم الأول أو يقيده؛ لأنها نص عليها الشارع بخصوصها، وأثبت لها حكماً شرعياً، فتغير عادة الناس فيها من استقباح إلى استحسان لا يغير حكم الشرع فيها، فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحاً، ولا القبيح حسناً، حتى يقال مثلاً: إن كشف العورة الآن، ليس بعيب ولا قبيح فلنجزه؛ إذ لو صح مثل هذا لكان الآن نسخاً للأحكام المستقرة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل، فرفع العوائد الشرعية باطل.
أما الثاني: وهي العوائد الجارية بن الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي، فهذا الذي يمكن أن تتغير فيه الفتوى، وهو الذي عناه العلماء بقولهم: إن الأحكام المبنية على العرف والعادة تتغير تبعاً لتغير العرف والعادة، ومن هنا قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقاً ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف ومثلوه بالحرز في السرقة والتفرق في البيع[46].
2- وجود السبب وتحقيق الشرط وانتفاء المانع:
وذلك كالأحكام المرتبة على وجود سببها، فإذا وجد سبب الحكم وتحقق شرطه وانتفى المانع، انطبق الحكم على الواقع، فإذا تخلف أحد الشروط أو وجد أحد الموانع انطبق حكم آخر على الواقع.
ومثال ذلك: لو أن رجلاً ملك نصاب الزكاة، ثم استفتى أهل العلم عن وجوب إخراج الزكاة، فإن المفتي يسأله؛ هل مر على النصاب الحول؟ فلو قال: نعم، وسأله هل عليك دين؟ فقال لا. هنا يجيبه المفتي بقول: نعم تجب عليك الزكاة.
ولو عاد هذا السائل بعد سنين، وسأل المفتي: هل عليَّ زكاة؟ فإذا سأله المفتي هل عليك دين؟ وقال: نعم، عليَّ دين يستوعب أكثر من مالي حتى لا يبقى منه قدر النصاب.
هنا يقول المفتي: ليس عليك زكاة.
فالحالة الأولى: وجد السبب وتحقق الشرط وانتفى المانع، وأما الحالة الثانية فقد وجد المانع وهو الدين، فتغير الحكم تبعاً لذلك، لأن الحكم إذا كان وارداً على سبب خاص فيجب الإفتاء فيه بما يخصه، ولا يعم.
3- الضرورة الملجئة:
هناك حالات اضطرار يقع فيها المسلم مما يكون معه مضطراً لفعل ما حرم الله عليه، فالميتة مثلاً محرمة، ولكن إذا اضطر الإنسان إليها أبيحت له؛ قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنـزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 3].
ومن ذلك إسقاط عمر رضي الله عنه إقامة حد السرقة عام المجاعة، لأنه غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه.
قال ابن القيم رحمه الله: «وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب، فدُرئ، نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قطع»[47].
4- تغير الوصف أو الاسم:
هناك أحكام رتبت على أوصاف أو أسماء، فإذا تغيرت تلك الأوصاف أو الأسماء تغير الحكم تبعاً لذلك.
مثال ذلك: ما فعله أمير المؤمنين رضي الله عنه في سهم المؤلفة قلوبهم، وهم مَن يعطون من الصدقات لأجل تألف قلوبهم على الإسلام أو لأجل ضعف المسلمين حتى يأمن المسلمون شرهم، فهو حكم معلق على وصف وليس على أشخاص بأعيانهم، فإذا تحقق هذا الوصف في شخص أو أشخاص أعطيناهم من سهم المؤلفة قلوبهم، وإذا فقدوا الوصف؛ كأن حسن إسلامهم، أو قوي المسلمون فلم يعد بهم ضعف منعنا سهم المؤلفة قلوبهم، وليس في هذا خروج عن دائرة النص؛ لأن الله تعالى لما قال: ﴿وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ أثبت لفريق من الناس نصيباً من الزكاة بوصف معين هو مناط الاستحقاق، فإذا انتفى هذا الوصف انتفى الاستحقاق، لأن الحكم المعلل، يدور مع علته وجوداً وعدماً[48].
5- تدافع المأمورات أو المنهيات:
قد يكون هناك أمران مطلوب تحصيلهما ولكن لا يمكن تحصيل أحدهما إلا بتفويت الآخر، فهما على ذلك متدافعان، كما أنه قد يكون هناك أمران مطلوب اجتنابهما ولا يمكن اجتناب أحدهما إلا بفعل الآخر، فهنا تحصل أعظم المصلحتين، وتدفع أقبح المفسدتين، فمثلاً: الشهادة يطلب فيها العدول، فإذا لم نجد العدول صرنا بين أمرين: إما ضياع الحقوق، وإما شهادة غير العدول، وقد أفتى أهل العلم في مثل ذلك أن لكل قوم عدولهم، وعلى القاضي أن يتوسم فيهم ويقبل أكثرهم صلاحاً وأقلهم فجوراً، وواضح أنه إذا وجد العدول في هذا المكان لم تقبل شهادة غيرهم.
6- وجود العَارِض وزواله:
قد يكون هناك شيء محبوب شرعاً لكن يُخشى من فعله أن يترتب عليه تكليف، قد لا يقوم به الناس، فيترك هذا الشيء لذلك العارض، فإذا زال العارض رجع الأمر إلى حالة الأولى.
مثال ذلك: امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قيام الليل في رمضان في المسجد بعد ما فعل ذلك عدة ليال؛ وذلك خوفاً من أن يفرض قيام الليل على المسلمين رحمة منه صلى الله عليه وسلم، فلما زال هذا الأمر بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأُمِن عدم فرض قيام الليل – جاز الاجتماع في المسجد في رمضان لقيام الليل، وليس في هذا تغيير للحكم الشرعي.
ويمكننا أن نلاحظ مما تقدم أن عملية تغير الفتوى هو تغير خاص من حيث الزمان والمكان والشخص، حيث تتغير فقط بالنسبة للزمان أو المكان أو الشخص الذي تغيرت في حقه مسوغات الفتوى، وهذا معناه أن الأمور تكون باقية على ما نص عليه في بقية الأماكن والأزمان والأشخاص.
ومَرَدّ هذا التغيير إلى:
1- سعة الشريعة ومرونتها.
2- التيسير ورفع الحرج عن المكلفين.
3- احتواء المسلمين جميعاً على اختلاف بلدانهم وأزمانهم، والوفاء بحاجاتهم.
4- تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، ودرء المفاسد عنهم.
5- التوسعة والرحمة.
6- إعمال الرخص والاعتبار بالأعذار المبيحة لها، ومبررات تخفيف الأحكام؛ من مرض، وسفر، وخطأ، ونسيان.
ومن هنا جاءت القواعد الفقهية لتقرر أن: «المشقة تجلب التيسير»، و«الضرورات تبيح المحظورات».
7- فساد الزمان وانحراف أهله عن الجادة، وتغير العادات وتبدل الأعراف، وهذا منتزع من قواعد فقهية مثل: «درء المفاسد مقدم على جلب المنافع»، و«لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان»، و«الضرر يُزال»، و«الضرر لا يُزال بمثله».
على أن الوصول إلى هذه الدرجة لا يكون إلا من عالم باختلاف العلماء، موسوم بالإنصاف، يعرف الحق، ويرحم الخلق، واسع العلم، بصير بالدين، حسن الفهم والقصد، صاحب صلة بالحياة وما يدور فيها، له دراية بحوائج الناس وهي لا تنتهي، وأعرافهم وهي متعددة، وبيئاتهم وهي متنوعة... والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب عن السؤال الواحد بأكثر من إجابة، مراعاة لحال من سأله واستفتاه، ولقرائن الأحوال التي تحف به، والظروف التي يحياها، وحالات الكمال والنقص عنده، وآية ذلك ما رواه أبو هريرة وأبو ذر وابن مسعود رضي الله عنهم في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله؟ فمرة قال: «إيمان بالله وجهاد في سبيله وحج مبرور»، ومرة قال: «الصلاة لوقتها، وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله...»[49].
وقد أجاب العلماء على هذه الأحاديث وما يشبهها بأجوبة متعددة منها ما ذكره الحافظ في «الفتح» حيث قال:
«ومحصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال، أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين، بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو: كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره....»[50].
وعلى هذا: فيجب أن تصدر الفتوى في ضوء المصالح والظروف، والالتفات إلى تعليل الأحكام، ومراعاة القرائن وشواهد الحال، وهي أمور يجب أن لا تهمل، وإلا وقع الناس في خطأ كبير، فلكل حال مقتضاه، ولكل عصر قضاياه، ومن ثم وجب الحذر من إنـزال قضايا عصر على عصر آخر، أو إنـزال قضايا بلد على بلد آخر.
ولهذا أوجب العلماء على من يفتي الناس، معرفة عوائدهم، وعللوا الاختلاف بين فتاوى المتقدمين والمتأخرين باختلاف الزمان والمكان.
المحور الرابع
فقه التغيير
(في ضوء ما سبق مع مراعاة قاعدة المصالح وسنة التدرج)
مما لا شك فيه أن الأمم تمر بفترات مختلفة، وتكون قوية في حين وضعيفة في حين آخر، والغيورين على الأمة الإسلامية يسعون دائماً إلى تغيير الواقع الانهزامي أو الضعيف بالأمة والوصول بها إلى مصاف العزة والقوة والسيادة، وهذا يحتاج إلى فقه سديد ونظر رشيد، وإذا أردنا القيام به فلا بد أن نبدأ بأهم الأمور فنعتني أولاً بتغيير العقائد الباطلة والأفكار المنحرفة والتصورات الخاطئة؛ لتحل محل كل ذلك العقيدة الصحيحة والمفاهيم السليمة المستقيمة، ثم نعتني بعد ذلك بجميع الجوانب التي تتعلق بحياة المسلم وعزته وكرامته، ويجب أن تراعى قاعدة المصالح الشرعية في ذلك، فتغيير المنكر أمر يحبه الله ورسوله، ولكن إذا كان تغييره سيؤدي إلى منكر أكبر منه وأعظم، فإن لا يسوغ إنكاره حينئذ، وهذا كالإنكار على الملوك، والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم؟
فقال: «لا؛ ما أقاموا الصلاة»، وقال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ولا ينـزعن يداً من طاعته»[51]، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر... وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام، عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش ذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه[52].
قال الإمام النووي رحمه الله – في شرحه للحديث السابق –: «وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها: إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدئ بالأهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم مصلحة ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيماً فتركها صلى الله عليه وسلم، ومنها: تألف قلوب الرعية وحسن حياطتهم وأن لا ينفروا، ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه، ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي – كما سبق –»[53].
وقال ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: «ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس، والمراد بالاختيار المستحب، وفيه اجتناب ولي الأمر ما يتسرع إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يُترك فيه أمر واجب، وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة»[54].
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله حادثة عن شيخه ابن تيمية رحمه الله تدل على فقهه بالتغيير والواقع فقال: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه ونور ضريحه – يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال. فدعهم»[55] فلله دره ما أفقهه وأعلمه!.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم وهم أفقه الناس لهذه الشريعة، أكثر الناس استعمالاً للمصلحة واستناداً إليها، فهذه المصلحة هي التي جعلت أبا بكر رضي الله عنه يجمع الصحف المفرقة التي كان القرآن مدوناً فيها من قبل في مصحف واحد، وهو أمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي وجهت عمر رضي الله عنه إلى وضع الخراج وتدوين الدواوين، وهي التي جعلت عثمان رضي الله عنه يجمع المسلمين على مصحف واحد... وهكذا[56]. فالشريعة – إذن – مبنية على مصالح العباد في العاجل والآجل، وقد حصرها الشاطبي رحمه الله في ثلاثة أقسام:
أحدهما: أن تكون «ضرورية»، وهي ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم المقيم، والرجوع بالخسران المبين، ومجموع الضروريات خمسة، وهي حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة.
الثاني: أن تكون «حاجيَّة» ومعناها: أنها مُفتقَرٌ إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي – في الغالب – إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين – على الجملة – الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.
الثالث: أن تكون «تحسينية»، ومعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنِّسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق[57].
وبناءً على ما سبق: يجب أن يراعى في فقه التغيير أحوال البلاد والعباد، والقوة والضعف، وأن تراعى سنة التدرج مع الناس كي يقع منهم القبول، وقد تدرج الإسلام في فرض الفرائض؛ كالصلاة والصيام والجهاد، كما تدرج بهم في تحريم المحرمات كالخمر ونحوها، وعند تجدد ظروف مماثلة لظروف قيام المجتمع الأول، أو قريبة منها، نستطيع الأخذ بهذه السنة «سنة التدرج»، وهو تدرج في «التنفيذ»، وليس تدرجاً في «التشريع»، فإن التشريع قد تم واكتمل بإكمال الدين، وإتمام النعمة، وانقطاع الوحي، وهذا هو المنهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية؛ فقد ظل ثلاثة عشر عاماً في مكة، كانت مهمته فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن الذي يستطيع – فيما بعد – أن يحمل عبء الدعوة وإنشاء الأمة والدولة، وتكاليف الجهاد لحكايتها ونشرها في الآفاق[58].
وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وتكوين الدولة الإسلامية، تتابعت الأحكام بعد بناء الأساس، وأقبل الناس على الطاعة والتسليم بعد التربية والإعداد.
ومن طريف ما يُذكر: أن عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز قال لأبيه: «ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك. فقال له عمر: «لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة»[59].
يقول الشاطبي رحمه الله – معلقاً على ذلك –: «وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي، فكان ما كان أجرى بالمصلحة وأجرى على جهة التأنيس، وكان أكثرها على أسباب واقعة، فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنـزل بحسب الوقائع، وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنـزل حكماً حكماً، وجزئية جزئية، لأنها إذا نـزلت كذلك لم ينـزل حكم إلا والذي قبله صار عادة، واستأنست، به نفس المكلف... فإذا نـزل الثاني كانت النفس أقرب للانقياد»[60].
أهم النتائج التي نخرج بها من هذا البحث:
1- عظمة الفقه الإسلامي ومرونته، وقوة معانيه وألفاظه، حيث تتسع لكل ما يَجِدُّ ويَحْدثُ من نوازل.
2- الأحكام الشرعية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير بمرور الزمان وتبدل المكان، وإنما الذي يتغير هو الفتوى بناء على أصول شرعية، وعلل مرعية، ومصالح جنسها مراد لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
3- الشريعة الإسلامية صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان وهذه حقيقة ثابتة معلومة من دين الإسلام بالضرورة.
4- النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ورسالته هي الرسالة الخاتمة ورسالته خالدة باقية إلى يوم الدين فلا نسخ لها ولا زوال.
5- للشريعة الإسلامية أوصاف كثيرة قد جعلتها صالحة لكل زمان ومكان، من هذه الأوصاف (العموم، البقاء، الحفظ، الشمول، المرونة والاتساع).
6- الفتوى لا تتغير بحسب الهوى والتشهي واستحسان العباد واستقباحهم، وإنما بضوابط دقيقة أشرت إليها في البحث، ولا يصلح أن يكون تغير الزمان والأحوال سبباً لتغير الفتوى، وإنما يصلح أن يكون هذا سبباً يدعو المجتهد لإعادة النظر في مدارك الأحكام، فإذا تحقق من ضعف المدرك أو زواله، أو ترجيح غيره عليه لمصلحة معتبرة شرعاً غير موهومة نظر في أمر تغيير الفتوى معتمداً على الدليل الشرعي.
7- الشريعة قائمة على مراعاة المصالح ودرء المفاسد، ويجب أن يؤخذ هذا في الاعتبار، وعلى المجتهد أن يفهم الواقع وأحوال الأمم وأن يعمل بسنة التدرج.
8- تغيير الفتوى مقصور على طائفة من الناس وهم حملة الشريعة وورثة الأنبياء، أهل الاجتهاد والفتوى، فليس لأحد أن ينازعهم هذا الحق، ولا أن يقول على الله بغير علم.
وهنا انتهى ما أردت الحديث عنه، وأسأل الله سبحانه أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن يغفر خطيئتي يوم الدين، وأن يعفو عني فيما قصرت فيه أو أخطأت، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
[1] أخرجه: البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه.
[2] المصباح المنير لأحمد بن القيومي المقري ص177، ط.أولى لعام 1421، دار الحديث بالقاهرة.
[3] لسان العرب لابن منظور (6/ 108) ط. دار صادر – بيروت.
[4] «السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها» د/ يوسف القرضاوي ص32، مكتبة وهبة بمصر.
[5] «نظام الدولة في الإسلام»، د/ محمود الصاوي ص39، ط.أولى، لعام 1418هـ، دار الهداية بمصر.
[6] «المدخل إلى السياسة الشرعية»، لعبدالعال أحمد عطوة ص43.
[7] «السياسة الشرعية». د/ عبدالله القاضي ص36.
[8] «السياسة الشرعية». د/ يوسف القرضاوي.
[9] «نظام الدولة في الإسلام» د/ محمود الصاوي ص39، 40، و«السياسة الشرعية». د/ القرضاوي ص15.
[10] الموسوعة الفقهية (18/ 65).
[11] تفسير القاسمي (6/ 2475، 2476)
[12] أخرجه: البخاري (2697)، ومسلم (1718).
[13] «فتح الباري» (5/ 302، 303).
[14] «الموافقات في أصول الشريعة»، للشاطبي (1/ 78، 79).
[15] «روح المعاني»، للألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (9/ 82).
[16] «التحرير والتنوير»، للطاهر بن عاشور، (5/ 484).
[17] «تفسير الطبري»، تحقيق أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1 (1420هـ - 2000م) (10/ 377).
[18] السابق (5/ 161).
[19] السابق (22/ 204).
[20] «تفسير القرطبي»، دار إحياء التراث، بيروت، لبنان (1966م) (18/ 223).
[21] أخرجه: البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
[22] أخرجه: مسلم (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[23] «تفسير الطبري» لابن جرير، (10/ 305).
[24] «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 (1406هـ - 1986م) (3/ 650).
[25] أخرجه: البخاري (3535)، ومسلم (2286) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[26] «تفسير الطبري»، لابن جرير (4/ 493).
[27] «تفسير البغوي»، (1/ 176).
[28] «الأنوار الكاشفة، لما في كتاب (أضواء على السنة) من الزلل والتضليل والمجازفة» للمعلمي، ط عالم الكتب (1403هـ) (ص33).
[29] «تفسير الطبري»، (7/ 633).
[30] «الكشاف»، لمحمود بن عمر الزمخشري، دار المعرفة، بيروت، (1/ 665).
[31] «فتح القدير»، للشوكاني، دار المعرفة، بيروت، (2/ 164).
[32] انظر:«المعجم الوسيط» (ص668)، «لسان العرب» لابن منظور (5/ 404)، «تاج العروس» للزبيدي (3/ 461).
[33] أخرجه: البخاري (2367)، ومسلم (249)، هذا لفظه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[34] انظر: تفسير ابن كثير (5/ 225).
[35] أخرجه: البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[36] أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 171) وصححه، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 114) من طريق عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً.
[37] «التعالم وأثره على الفكر والكتاب»، لفضيلة الدكتور بكر أبو زيد، مكتبة دار الراية، الرياض، ط3، (1412هـ - 1992م) (ص55).
[38] «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/ 14).
[39] انظر: كتاب «تغير الفتوى» لمحمد بن عمر بازمول ص32-33، و«إغاثة اللهفان» لابن القيم (1/ 330).
[40] «المدخل الفقهي العام» (2/ 924-925).
[41] يراجع «ثبات الأحكام الشرعية وضوابط تغير الفتوى» للشيخ/ محمد بن شاكر الشريف.
[42] «الفروق»، للقرافي (1/ 176).
[43] «إعلام الموقعين» (3/ 14).
[44] «فتح الباري» لابن حجر (4/ 405، 406).
[45] «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/ 23، 24).
[46] انظر:«تغير الفتوى: مفهومه وضوابطه وتطبيقاته في الفقه الإسلامي» د/ عبدالله الغطيمل، ص50-51، من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 35/ 1418هـ.
[47] «إعلام الموقعين» (3/ 23).
[48] انظر:«السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها»، د/ يوسف القرضاوي، ص176.
[49] انظر:«ضوابط الخلاف في ميزان السنة»، د/ عبدالله شعبان، ص184-187.
[50] «فتح الباري» لابن حجر (2/ 9).
[51] الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم، ج3/ 1481.
[52] «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/ 15-16).
[53] «شرح مسلم»، للنووي (9/ 89).
[54] «فتح الباري» لابن حجر، (3/ 448).
[55] «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/ 16).
[56] انظر:«ضوابط الخلاف في ميزان السنة» د/ عبدالله شعبان، ص209.
[57] «الموافقات»، للشاطبي (2/ 8-11).
[58] «السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها» د/ يوسف القرضاوي، ص327-328.
[59] «الموافقات»، للشاطبي (2/ 93، 94).
[60] المرجع السابق (2/ 94).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/38096/#ixzz2w2q4Ktbr