يعتبر موضوع القيم من الموضوعات ذات الأهمية الكبيرة بالنسبة للحياة الإنسانية، والتي تحظى باهتمام المتخصصين في شتى العلوم الإنسانية، مثل علم النفس وعلم الاجتماع والتربية والأدب والدراسات الأخلاقية ولقد جاءت المعالجة الفلسفية له ضمن فلسفة الأخلاق وفلسفة الجمال، وفلسفة السياسة… وغيرها.
والمجتمع الإسلامي في وقتنا الراهن بحاجة ماسة إلى بلورة قيمه الإسلامية الخاصة به؛ لمواجهة التيارات الغربية المتصارعة، البعيدة في معظمها عما أنزل الله تعالى في كتابه العزيز، وعما أرسل به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم. حيث إن كل حضارة لها ما يميزها عن غيرها عن طريق رسم خط هوياتي ينبني على مجموعة قيم وطرق التعامل مع تلك القيم، و “الجمال” يندرج ضمن فلسفة القيم؛ ذلك لأن الفرد يستوعب الجمال ويحس به من خلال معاييره الاجتماعية، فالجمال قيمة لو سلمنا ذلك لكنها ليست قيمة ملزمة، فمن ينظر إلى اللوحة الفنية فيستحسنها؛ لا يجب عليه أن يحاكيها؛ ذلك أن الحق والخير يتكونان من خلال العقيدة، أما الجمال فإن قيمته تنمو وتترعرع من خلال الحس المستقيم والذوق السليم.
والجمال من القيم الإنسانية العظيمة، حيث صاغها المفكرون والفلاسفة بالتحليل والتصورات الذهنية، حسب الرأي والفهم والتفسير، وقدمها الأدباء في مضامين شتى وصور متنوعة، والإنسان بشكل عام لا تخلو حياته من تجسيد الجمال في مظهره وأناقته، أو من خلال استمتاعه بكل ما هو جميل.
إلا أن قضية الجمال بصفته مفهوما قد يتغير معناه بين الحضارات وحسب كل زاوية لتتعدد تأويلاته وأشكال الإحاطة به حتى أصبح للجمال مدارس تختلف مشاربها وتتنوع غاياتها.
وما دعاني إلى الاشتغال على هذا الموضوع هو نوع الزخرفة التي شاهدتها في مسجد الهجرة بمدينة أمستردام، الذي بني في الأصل ليكون كنيسة للمسيحيين، وبعد أن هجرها أهلها وتم إغلاقها أزيد من عقدين، اقترح بعض المسلمين المهاجرين من شمال إفريقيا أن يستأجروها من أجل الاجتماع فيها وأداء صلاة التراويح في شهر رمضان، وقد تم هذا لهم ذلك، ثم بدا لهم أن يجمعوا التبرعات لشراء الكنيسة وجعلها مسجدا، فوافقت لهم بلدية أمستردام بشرط أن يحافظوا على شكلها الخارجي، وبعد أن قدر الله أن أقوم بمهمة الإمامة والخطابة هناك لفت انتباهي الزجاج الملون والهندسة باللمسة الجمالية حسب توجه الآخر ما جعلني أتساءل عن الجمال بصفته قيمة إنسانية تحمل أوجه تقاطعات و اختلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وهل الجمال كقيمة ثابتة أم متغيرة؟ وبأي صور تناولها المفكرون المسلمون؟ ونقط الالتقاء والاختلاف بين الإسلام وفلاسفة اليونان في قضية الجمال وما يترتب على ذلك الاختلاف من مظاهر ملموسة في الحضارة الإسلامية مقابل الحضارة الغربية؟
وانطلاقا من هذا الإشكال يمكن أن نطرح الفرضيات التالية: قيمة الجمال واحدة؛ الجمال بصفته قيمة، والقيم لا تتجزأ.
لكون القيم الإنسانية هي القواعد المؤسسة للمنظومة الأخلاقية المتكاملة، والتي تعارفت عليها الفطرة الإنسانية السليمة، والتي رسخت، وتم تأكيدها من الشرائع، والأفكار الإصلاحية، والأعمال الفنية، والأدبية.
وهذا بحث في القرآن الكريم عن مفهوم الجمال وفق منهج الدراسة المصطلحية؛ التي تعنى بالبحث الموضوعي لمصطلحات ومفاهيم قرآنية وتتبع آثارها في ضوء لغة القرآن الكريم، قصد الخروج بنتائج وخلاصات قد لا ينتبه لها عالم التفسير، أو لا تسعفه الفرص لتحقيق تلك النتائج، إضافة إلى تحليل مفهوم الجمال في الحضارة اليونانية، وذلك عن طريق دراسة مقارنة بين الرؤيتين لقيمة واحدة.
وقد جاء وفق مقدمة، ومطلبين اثنين:
المطلب الأول: تعريف مفهوم الجمال في القرآن الكريم.
المطلب الثاني: الجمال وفق التصور اليوناني.
خاتمة: خلاصات واستنتاجات من خلال المقارنة بين التصوير القرآني، والتصور اليوناني لقيمة الجمال لدى الحضارات.
مفهوم “الجمال” في اللغة والاصطلاح:
- في اللغة:
الجمال مصدر الجميل، والفعل منه: جمل يَجمل. قال الفراهيدي: (جمال) أي: بهاء وحسن. ويقال: جاملت فلانا مجاملة: إذا لم تصف له المودة. ويقال: أجملت في الطلب”[2] وجمل الشيء جملا: جمعه عن تفرق. وجمُل فهو جميل، والجمع: جملاء وجمائِل. وجامله: عامله بالجميل. وجملَه: حسنه وزينه].[3]
وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: “الجيم والميم واللام أصلان، أحدهما: عظم الخلق، والآخر: حسن، وهو ضد القبح. وتجمل: تزين. فالجمال تدور معانيه –في اللغة-حول الزينة والحسن والبهاء والنضرة”.[4]
- في الاصطلاح:
يصعب وضع تعريف محدد للجمال، يكون بمثابة الحد له؛ لأن ميادين الجمال مختلفة ومتنوعة، ولأن من الجمال ما هو إلا صفة عينية في الشيء الجميل، بحيث يمكن إدراكه من الناس جميعا. ومنه ما يتوقف إدراك جماليته على تذوق الإنسان له، وما يبعثه فيه من مشاعر السرور والبهجة، ولذا يتفاوت الناس في الحكم عليه بالجمال أو عدمه. ومن هنا اختلفت وجهات نظر الفلاسفة حول مفهوم الجمال، تبعا لاختلاف الأذواق والمشاعر والمناهج المعرفية، والمواقف الميتافيزيقية.
إن مفهوم الجمال متناول في دراسات عديدة منذ القدم وحتى الآن؛ فقد جاء في: “التعريفات” للجرجاني:” أن الجمال من الصفات ما يتعلق بالرضا واللطف”[5]. والحق والخير والجمال قيم في ذاتها، لا وسائل لتحقيق غايات؛ فجمال الزهرة قيمة ذاتية. فالقيم ليست ذاتية خالصة، ولا موضوعية صرفة، ففيها عنصر ذاتي، لكن مردها إلى صفة في الموضوع توجب الحكم عليه بأنه حق أو خير أو جميل[6].
وخلاصة القول في تعريف الجمال أن هناك صعوبة في تعريفه لأن له معـان متعددة، فهو لا يقوم بنفسه، وإنما يقوم بغيره، حيث نستطيع رؤيته في الإنسان، وفي الأشياء، وفي الأفعال والتصرفات، وهذا يعني أنه قد يكون في الشكل والمظهر، وقد يكون في الفعل والخلق، فإن كان في الشكل كان الجمال مقابلا للقبح وضدا ونقيضا له، وإن كان في الفعل والخلق كان بمعنى الرضا واللطف، والجمال بمعنـى عـدم القبح، وفي كلا المعنيين للجمال عدم القبح والرضا واللطـف يجتمـع البهـاء والحسن والخلق الرفيع، وما دام ) الجمال) معنى فليس بالإمكان ضبطه بالوصـف أو الكم أو الكيف، الأمر الذي يحولُ دون إنتاج تعريف له، إضـافة إلـى اخـتلاف الأفراد في تقديرهم للجمال، وكذلك في درجة تذوقهم له.
مفهوم الجمال في القرآن الكريم
يهدف هذا البحث، لبيان أن كل ما يمكن أن يقال عن الجمال فهو موجود في كتاب الله تعالى مفصلا، ولما لهذا الموضوع من أهمية كبرى في حيـاة الإنـسان، أحببت الكتابة فيه لأنه يتحدث عن جمال الخالق سبحانه وتعالى وجمال مخلوقاته.وقد تبين لي بعد الطواف حول هذه الدراسة عن الجمال في القـرآن الكـريم الشيء الكثير ألخصه في أن كلمة الجمال في اللغة قد أصابها التطور والتبدل، وقـد ذكرت في القرآن الكريم ثماني مرات، وأن هناك عبارات مقاربة لها مثـل الزينـة والحسن استخدمت للتعبير عن المعاني الجمالية، وعبارات النضارة والسرور والعجب للتعبير عن آثار الجمال كعبارات الحلية والريش والزخرف للتعبير عن بعض وسائل الجمال، وترجيح عدم الترادف بين هذه الألفاظ، وأن كل لفظة منهـا لهـا مـدلولها الخاص بها، وأن للجمال حقيقة قائمة موجودة وليست مجرد شعور نفسي تجاه شيء ما، وله ميادين كثيرة لو تحدثت عنها كلها لما أوفيتها حقها، وخلصت إلى أنه توجد ألفاظ مقاربة لكلمة الجمال مثل الزينة والحسن من الممكن أن تطرح هـذه الألفـاظ كبحث علمي لنيل درجة علمية على سبيل المثال: الزينة في القرآن الكـريم دراسـة موضوعية، الحسن في القرآن الكريم دراسة موضوعية في إطار مشروع الدراسات المصطلحية للقرآن الكريم.
في كتاب الله تعالى ورد لفظ ” جميل” مسندا إسناد وصف لتصرفات معينة، وسلوك خاص سبع مرات هي:
1) الموضع الأول في سورة يوسف قول الله تعالى: [وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ، بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ]18
2) الموضع الثاني قوله تبارك وتعالى في سورة يوسف: [قَالَ، بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]83
3) الموضع الثالث: من سورة الحجر؛ في قوله تبارك وتعالى: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ]85
4) الموضع الرابع: من سورة الأحزاب قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً]28
5) الموضع الخامس: سورة الأحزاب، قوله سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا]49
6) الموضع السادس: سورة المعارج، قوله تبارك وتعالى: [فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا]5
7) الموضع السابع: قوله جل شأنه: [وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا]10
انطلاقا من هذا الجرد يتبين أن اللافت للنظر، في سبعة مواضع ذكر الله تعالى الجمال بلفظ (الجميل)، وليس (الجمال)، وهذا في الحقيقة يلفت النظر، وقد حاولت تتبع الآيات التي فيها هذا المعنى فوجدت مثلاً: في قول الله تعالى: [وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا]، خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، إذن: هنا هجر للمعاندين والمستكبرين والمعادين، ومع ذلك وصف الهجر بأنه جميل، أي: هو ذلك الهجر الذي ليس فيه جفاء، وليس فيه إغلاظ، وليس فيه اعتداء ولا بغي وإنما نوع من المتاركة، والمباعدة الجميلة التي تهيئ لمصالحة؛ ويلاحظ في “الصفح الجميل” كلمة الصفح يعني: العفو والتجاوز، وفتح صفحة أخرى، وإعطاء صفحة أخرى للناس، ووصف الصفح أيضاً بأنه جميل؛ إشارة إلى أن الله تعالى يحب العفو فهذه من المعاني الجميلة أنه في حالة المخالطة هناك الصفح الجميل، وهناك الصبر الجميل، وفي حالة المتاركة هناك الهجر الجميل؛ بل يوجد في القرآن الكريم قول الله سبحانه وتعالى:[ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا] ، فنلاحظ هنا كيف أنه فيما يتعلق بحالة الانفصال بين الزوج والزوجة:[ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا] هنا ليس في الأمر سب، ولا عيب، ولا نقد، ولا تعيير، ولا استذكار للماضي، ولا شيء من هذا القبيل، وإنما سراح جميل؛ فيه إجمال، وفيه أخلاق، فإذا كان هذا في حالة السراح الجميل، فينبغي أن نسأل أنفسنا: في حالة الإمساك، كيف سيكون الأمر؟ سيكون أكثر جمالاً، وأكثر أخلاقاً؛ بحيث يكون حالة العلاقة الزوجية هي من المعاني التي يطلق عليها لفظ الجمال، طبعاً هنا الجمال الحسي معروف، لكنه السياق سياق الجمال الأخلاقي؛ فالصفح، والعفو، والتجاوز عن المخطئين، هذه المعاني الثلاثة كلها مدرجة في ضمن هذه الآيات الكريمة، والقرآن الكريم في الحقيقة كتاب الجمال؛ لأنه تضمن جمال اللغة، وجمال التعبير، جمال التشريع.
يقول الإمام الغزالي في الإحياء: “الجمال يختلف-في صفاته وشروطه- باختلاف الأشياء، فكل شيء جماله وحسنه في أن يحضر كماله اللائق به الممكن له، فإذا كان جميع كمالاته الممكنة حاضرة؛ فهو في غاية الجمال، وإن كان الحاضر بعضها؛ فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر، فالفرس الحسن هو الذي يجمع كل ما يليق بالفرس، من: هيئة، وشكل، ولون، وحسن عدو. والخط الحسن هو كل ما جمع ما يليق بالخط، متناسب الحروف، وتوازيها، وحسن تنظيمها، واستقامة ترتبيها”…..[7]
ولعل الجمال هو أكثر ما دعا الإنسان إلى إدراك عظمة خالقه، وكمال خلقه؛ فهو من أبلغ لغات الكون، ومن أكثرها دعوة لتأصيل القيم الإنسانية. يقول الشامي: “الظاهرة الجمالية في هذا الدين بناء متكامل، يشد بعضه بعضا، في تناسق منتظم بديع، إنها ليست فلسفة فردية استحسنها الآخرون فأضحت مذهبًا، ولا مذهب مدرسة فكرية تعاونت العقول على إنتاجها؛ فأصبحت فلسفة مذهبية. إنها كيان قائم في ذاتية هذا الدين، تدخل في لُحمته، وتظهر من خلال التناسق والتنظيم، ومن خلال المواءمة والتعاون…. فكل ما يأمر به هذا الدين يوصل إلى الجمال”[8]
وقفة مع اسم الله “الجميل”، فقد ورد هذا الاسم في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((لا يَدْخُل الجَنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، فقال رجلٌ: إن الرجلَ يُحبّ أن يكون ثوبُه حسناً ونعلُه حسنةً، قال عليه الصلاة والسلام: إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ)) [9].
وقد وردة الإشارة في القرآن الكريم إلى الجمال من خلال الأسماء الحسنى، وانتبه إلى ذلك المستشرق السويسري باتريك رينغبيرغ Patrick Ringgenberg فحاول التأسيس لنظرية الجماليات الإسلامية من خلال مفاهيم القرآن الكريم، ومن خلال أسماء الله الحسنى التي رأى أنها منبع كل حسن ووجود جمالي، وذلك ما تحدث عنه طه عبد الرحمن في معرض كلامه عن نظرية الأسماء الحسنى، “فطابق بينها وبين الصفات الإلهية الكمالية باعتبارها مصدر كل القيم الوجودية والجمالية”[10].
هذا الحديث جعلني أبحث عن معاني الجمال الإلهي؛ فقادني البحث إلى علماء الكلام، لأجد عندهم هذه الإشارات المتنوعة تنوع منطلقات الفكر بين المعتزلة والسنة. والجمال الإلهي عبارة عن أوصافه المشتملة على الرحمة واللطف والجود…. أما[11]جلاله فهو ما يتعلق بالربوبية والقدرة والعظمة والكبرياء، فالجميل يبعث على البهجة والرضا، والجليل يبعث على الخشية والدهشة والرهبة.[12]
الجمال وفق التصور اليوناني
يعتبر الاهتمام بالقيمة الجمالية من أقدم اهتمامات الإنسان منذ فجر التاريخ وحتى قبل وصول المجتمعات إلي أطوارها المتقدمة. “وقد كان اهتمام الحضارات القديمة بالفن تعبيرا عن أهمية القيمة الجمالية، وذلك كما حدث لدى البابليين وفي الهند والصين، ثم عند اليونانيين حيث كان الجمال قيمة بارزة من القيم الثلاثة الحق والخير والجمال”[13]
افلاطون وموقفه من الجمال ان أفلاطون “هو أول فيلسوف يهتم بتسجيل موقف من ظاهرة الجمال، فأقام للجمال مثالا هو الجمال بالذات، ذلك الذي يحتذ به الصانع في خلقه لموجودات العالم المحسوس إن “أفلاطون أولى اهتماما بالغا باكتشاف سمات الجمال في الموجودات الحسية، وفي الأفراد، ولكنه أخذ يصعد تدريجيا من هذا الجمال الفردي المحسوس لكي يكتشف علته في الأفراد جميعا، وهكذا إلي أن أكتشف مصدر الجمال المحسوس في مثال “الجمال بالذات “في العالم المعقول وذلك الذي يشارك فيه الجمال المحسوس، ثم إنه ربط بعد هذا بين الحق، والخير، والجمال”[14].
وقد تكلم أفلاطون عن الجمال في محاورتين بطريقة تفصيلية المحاورة الأولى هي: [أيون] ثم محاورة [هبياس الأكبر] فذهب إلى أن “الجمال هو الهدف الدائم للحب، حيث يتجه الحب أول ما يتجه إلى جمال الأجسام الأشكال عند هذا الجمال يقف الأكثرون ظانين أنه الغاية، ولكن النفس الحكيمة تدرك أنه زائف زائل؛ وأن هذا الجمال في الجسم هو أخ للجمال المتحقق في سائر الإنسان”[15]
وقد ربط أفلاطون بين الجمال والفن في مساحات المحاكاة بتلاوينها وأصنافها المختلفة، ولا يقبل الشعر والفن في مدينته الفاضلة إلا ما كان في خدمة النشء وتوجيهه، وحب الخير والعلم.
موقف أرسطو من الجمال.
اهتم “أرسطو” في كتابه [فن الشعر] بالمفاهيم الجمالية فكان يري أن الموضوع الجمالي سواء كان كائنا حيا، أو أي شيء آخر يتكون من أجزاء، “لكي يكون جميلا فإنه يجب أن ينطوي على نظام لأجزائه، ويجب أن يكون له شكل معين؛ لأن الجمال يعتمد علي الشكل والنظام”[16]. وأرسطو يلتقي مع افلاطون في قضية المحاكاة إلا أنه يختلف معه حيث يمنح أرسطو هامشا أكبر للمحاكاة قصد تقديم الجمال عن طريق “الفن وهو يتحدث عن الشعر فيقسمه إلى قسمين كما هو الشأن عند العرب عندما وصفوا الشعر بالعذري في مقابل الشعر الإباحي … فإذا تناولنا الشعر الجيد مثلا، فإننا نجد أنه يترفع عن المعاني المحسوسة الملموسة المبتذلة، فلا يصف الأمور كما تجري في واقعها السهل، ولكنها يسمو بها إلى مستوى عال من الأداء العقلي والفني. ويرى أرسطو أن الشعر بذلك يكون أكثر جدية”[17]
قال الفيلسوف “برايس إن الجمال حالة في الشيء الجميل، تلازمه، وتقوم فيه، ولو لم يوجد عقل يقوم بإدراكها؛ فالشيء الجميل يقوم بالقياس إلى ما فيه من خصائص تثير الإعجاب بجماله”[18].
فالجمال حينئذ صفة عينية لا تتغير؛ وهذا بخلاف من رأى أن الجمال معنى عقلي، وليس صفة عينية، وبالتالي فهو يتغير من فرد لآخر، ليكون بذلك مرهونا بالتأثير الذي يحدثه في نفوس الذين يتصلون بآثاره، فهو نسبي.
ومن دعاة هذا الرأي “تولستوي” وبناء على ذلك، يرى أصحاب الوضيعة المنطقية أن “الجمال والقبح كالخير والشر في أنهما لا يعبران عن وقائع، ولكنهما يعبران عن عواطف ومشاعر وانفعالات ومن ثم، فلا توصف العبارات الجميلة بالصواب أو الخطأ، وإن كان من الممكن دراسة “الجمال” دراسة موضوعية، لا من حيث النظر إلى ما ينبغي أن يكون عليه الشيء، بل لبيان علة الشعور بالجمال عند الفرد أو الجماعة، وتفسير التذوق الجمالي، وأسباب اختلافه.[19]
والجمال يراد به فلسفة الوجدان؛ لأنه يعرض لدراسة الذوق الجمالي سيكلوجيا، وتاريخيا، واجتماعيا، وميتافيزيقيا. وقيل: “إنه علم الجمال، وفلسفة الفنون الجميلة، وهو يتناول أحكام الجمال التي تعبر عن اللذة والألم، ويتعرض لدراسة الفن وآثاره. وبهذا تصبح غايته وضع معايير للتمييز بين الجمال والقبح، ورسم قواعد بمقتضاها يتحقق الجمال في الآثار الفنية”[20]
“وقد قال عنه [كانط] بأنه هو الذي يبعث السرور بصورة كلية، وبدون تصور محدد. وقال [جورج سنتايانا]: إن الجمال قيمة إيجابية باطنية ذات موضوع محسوس، أو هو المتعة لنابعة من صفة شيء من الأشياء “[21]
فالجمال بصفته قيمة جمالية موجودة في ثنايا الكون، وآثاره مبثوثة في أرجائه واحد لا اختلاف فيه، لكن الاختلاف إنما يكون في تذوقه والإحساس به، وذلك بسبب التفاوت الطبيعي في إدراكات البشر وأحاسيسهم واختلاف أذواقهم. فالجمال مفهوم نسبي تتفاوت معاييره من شخص لآخر، ومن بيئة لأخرى؛ وفق تصورات عقدية تعكس تصرفات سلوكية واجتماعية.
الخلاصة:
بعد تقديم هذا البحث أستطيع القول: إن الجمال بوصفه قيمة موجودة في ثنايا الكون، وآثاره مبثوثة في أرجائه- واحد لا اختلاف فيه، لكن الاختلاف إنما يكون في تذوقه والإحساس به، وذلك بسبب التفاوت الطبيعي في إدراكات البشر واختلاف أذواقهم، ولكن شتان بين من يتذوق الجمال وفق ما سطره الوحي الإلهي فالتزم بما شرعه الله؛ فبحث عن مكامن الجمال في النفس وأسندها للصبر والهجر والصفح… وقرأ الكون بعين تتبع مواطن الجمال في الظلال وكل أشكال الحياة؛ واعتمد على الفطرة التي فطر الله الناس عليها فسلم ذوقه، وسمت تصوراته؛ شتان بين هذا وذلك الذي ينحت تماثيل لذوات الأرواح ويثبتها في الحدائق العمومية والساحات المفتوحة كما هو الشأن في الدول الغربية، وبعض تلك التماثيل قد تعرض خادشة للحياء ورغم ذلك فمن أقر تثبيتها اعتمد على تصور فلسفي، وتوجه مذهبي فكري غابر بعدت بوصلته عن الوحي وشردت فطرته عن الجادة، وطريق الحق.
لائحة المصادر والمراجع:
1 _ القرآن الكريم برواية ورش عن نافع
2 – المسند الصحيح المختصر من السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي الناشر: دار إحياء التراث العربي بيروت.
3_ علم الكلام: د. أحمد محمود صبحي، مؤسسة الثقافة الجامعية، ط 1997 م
4_ المعجم الفلسفي، جميل صليبا،
5_ الأحكام التقويمية في الجمال والأخلاق، رمضان الصباغ، ط: دار الإسكندرية، 1998م
6_ فلسفة الجمال، ونشأة الفنون الجميلة، محمد علي أبو ريان،
7 _ تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، ط: مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.
8_ فلسفة الجمال، أميرة حلمي مطر.
9_ أسس الفلسفة، توفيق الطويل، ط: 7ـ دار النهضة العربية، القاهرة، 1979م
10_ الظاهرة الجمالية في الإسلام، صالح أحمد الشامي، ط: المكتب الإسلامي سوريا، 1986م،
11_ ثغور المرابطة، مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية، طه عبد الرحمن، ط: 1، مركز مغارب، 2018م
12 _ معجم العين، للفراهيدي ط: وزارة الثقافة والإعلام 1982م
13 _ معجم مقاييس اللغة، لابن فارس ط: بيروت 1420هـ
14 _ مختار الصحاح، للرازي ط-بيروت-لبنان 1989م
15 _ المعجم الوسيط، تصدير: د. إبراهيم مدكور-القاهرة 1960م
16 _ التعريفات، لعلي الجرجاني/ عالم الكتب-بيروت، ط: الأولى،1407هـ/1987م، تحقيق: عبد الرحمن عميرة.
17 _ مدخل إلى فلسفة الجمال للدكتور مصطفى عبده محمد خير/ دار النشر مكتبة مدبولي القاهرة
18 – إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي مكتبة الإيمان 1417هـ / 1996م، تحقيق: الشحات الصحان وعبد الله المنشاوي.
19 – الظاهرة الجمالية في الإسلام، لصالح أحمد الشامي/ المكتب الإسلامي-بيروت.
[1] أستاذ السلك الثانوي التأهيلي في تخصص مادة اللغة العربية، باحث بسلك الدكتوراه.
[2] أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي: معجم العين، ط: وزارة الثقافة والإعلام 1982م، تحقيق: د. مهدي
المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، ج: ،6 ص: ،143 -142، وأبو منصور محمد بن أحمد الأزهري: تهذيب
اللغة، الدار المصرية للتأليف 1975م، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مراجعة: ذ علي محمد البيجاوي، ص: 106
[3]إبراهيم مصطفى وآخرون: المعجم الوسيط، تصدير: د. إبراهيم مدكور-القاهرة 1380هـ / 1960م، ج: ،1
مادة (ج م ل) ص: .1
[4]ابن فارس (ت 395هـ) أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا: معجم مقاييس اللغة، بيروت 1420هـ، ج: ،1
ص: .481والرازي محمد بن أبي بكر الرازي: مختار الصحاح، ط-بيروت-لبنان 1989م، مادة (ج م ل)
[5]الجرجاني: علي بن محمد بن علي: التعريفات، عالم الكتب-بيروت، ط: الأولى، 1407هـ / 1987م،
تحقيق: عبد الرحمن عميرة، ص: 72
[6] د. مصطفى عبده محمد خير: مدخل إلى فلسفة الجمال، ص: .25وتوفيق الطويل: أسس الفلسفة، ص:
.473
[7] الإمام أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، مكتبة الإيمان 1417هـ / 1996م، تحقيق: الشحات الصحان، وعبد الله المنشاوي، ص: .254
[8]صالح أحمد الشامي: الظاهرة الجمالية في الإسلام، المكتب الإسلامي-بيروت، ص: 25
[9]مسلم بن الحجاج بن مسلم النيسابوري: المسند الصحيح المختصر من السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، كتاب الإيمان باب تحريم الكبر وبيانه، ج/1 ص93
[10] طه عبد الرحمن ثغور المرابطة، مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية، ط: 1، مركز مغارب، 2018م، ص:209.
[11]جميل صليبا: المعجم الفلسفي، ج1ص: .407/408
[12]اختلف علماء الكلام في وجه الحكم على الفعل بأنه حسن أو قبيح، فالمعتزلة-بمقتضى الأصل الثاني عندهم، وهو “العدل الإلهي،” والذي هو صفة للفعل الإلهي، من حيث صلته بالإنسان؛ لذا فهم يقولون بالحسن والقبح العقليين، وأن الأفعال إنما توصف بالحسن أو القبح لصفات تخصها وذاتية في الفعل، وترتبط نظرتهم في الحسن والقبح بنظريتهم الأخلاقية، ولذا فقد نفوا عن الله “تعالى” صدور القبح عنه.
انظر: في علم الكلام: د. أحمد محمود صبحي، مؤسسة الثقافة الجامعية 1997م، ج: ،1ص:.]154
أما الأشاعرة، فالحسن أو القبح-عندهم- شرعيان، بناء على إثبات القدرة المطلقة، والإرادة الإلهية الحرة العامة والشاملة لله “سبحانه وتعالى”، فلا مجال للحكم على أفعال الله “تعالى” بالتحسين والتقبيح؛ حيث لا يجب على الله “تعالى” شيء، والشر إنما هو بالعرض لا بالذات، أما الشر المحض أو الشر الكلي فغير موجود.
ينظر في: المرجع السابق، ج: ،2ص: 352بالإضافة إلى آراء أخرى عديدة لفلاسفة وعلماء الكلام وغيرهم.
[13] رمضان الصباغ، الأحكام التقويمية في الجمال والأخلاق، ط: دار الإسكندرية، 1998م، ص:99
[14] محمد علي أبو ريان، فلسفة الجمال، ونشأة الفنون الجميلة، ص:1
[15] يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ط: مكتبة النهضة المصرية، القاهرة (د.ت) ص:98
[16] أميرة حلمي مطر، فلسفة الجمال، ص: 78.
[17] محمد علي أبو ريان، فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة، مرجع سابق، ص:21
[18] توفيق الطويل أسس الفلسفة، ط: 7ـ دار النهضة العربية، القاهرة، 1979م، ص: 459
[19] توفيق الطويل، أسس الفلسفة، ص:459
[20] المرجع السابق نفسه، ص: 571.
[21] صالح أحمد الشامي، الظاهرة الجمالية في الإسلام، ط: المكتب الإسلامي سوريا، 1986م، ص: 116.