فضل الهندسة على الطب، والإخوان على اليسار..
الشيخ صعتر للسياسية: ثقافة الإمام ما زالت موجودة في اليمن
31/7/2010 - الصحوة نت – صنعاء:
في حياة كل فرد منا شخصيتان مختلفتان: الأولى تلك التي يتعامل معها الناس ويعرفون مواقفها وأخبارها التي تخرج إلى الناس والصحافة، والثانية تلك المخفية التي لا يعرفها سوى قلة قليلة من المقربين والأصدقاء.
وفي هذه المساحة تحاول ’’السياسية’’ الدخول في الزاوية المخفية من حياة هذه الشخصية أو تلك، من خلال حديث ذكريات يشمل أسرار الطفولة والشباب والعمل، والتعرف عن قرب على العادات والتقاليد والظروف الصعبة التي عاشها اليمنيون قبل أن يروا النور بثورتي سبتمبر وأكتوبر ودولة الوحدة.
’’النصف الآخر’’ محاولة لإخراج ما خبأته السنوات في حياة اليمنيين، من خلال رصد الواقع الذي عاشوه ويعيشونه اليوم. كما أنها محاولة لمعرفة كيف يفكر من عايشناهم طوال سنوات ولا نعرف ما ذا يحبون، وماذا يكرهون، وكيف وصلوا إلى النجاح الذي وصلوا إليه.
تحاول ’’النصف الآخر’’ الابتعاد عن الخوض في الشأن السياسي، الذي يحبذ الكثير عدم الخوض فيه، وإن كانت السياسة حاضرة في بعض المواقف التي ضمها الحوار، لكن بشكل غير مباشر.
’’النصف الآخر’’ سلسلة لحوارات مع شخصيات يمنية مختلفة في السلطة والمعارضة، رجالاً ونساء على السواء، ومن كل مناطق البلاد. وستكون هذه الشخصيات حاضرة بتجاربها في الحياة هنا لتكون شاهدة على صور مختلفة من حياة اليمنيين.
*بعد أن أنهيتم مرحلة الابتدائية، إلى أين اتجهتم، كيف واصلتم الدراسة؟
-درست في صنعاء مرحلة الإعدادية في مدرسة ’’سيف بن ذي يزن’’، ثم في ثانوية الكويت، وهي أول دفعة في افتتاح مدرسة الكويت، وكانت في الصافية، ومدرسة سيف بن ذي يزن هي الأخرى كانت بدعم من الكويت، وأولى المدارس في اليمن كانت كمساعدات إما من السعودية أو من الكويت، وبعد ذلك انتقلت للدراسة في كلية الهندسة في الإسماعيلية بمصر في سنة 78، وتخرجت منها في سنة 83.
*أذهبتم لتدرسون مخصصاً معيناً؟
-كنت مُرشحاً لدراسة الطب، لكنني لم أكن أحب التشريح، وكنت كل ما اكتب رغبتي الأولى هندسة يخلوها ’’طب’’، ورغم ذلك أرسلوني إلى القاهرة لدراسة الطب، وعندما وصلت القاهرة كان الكل يقول لي إن الناس كلهم يبحثون عن هذا التخصص، وعندما تطلب تخصصاً آخر غير الطب يغيرونه لك بسرعة.
كان معدلي العالي يسمح لي بدخول أية كلية أريدها، وكانت الأوضاع في تلك الأيام ليست مثل اليوم، أي لم يكن يوجد مثل هذه الأعداد الكبيرة من الطلاب، كانت الأعداد محدودة للمنافسة، حينها اخترت تخصص الهندسة؛ لأنه كان عندي رغبة في دراسة المواد العلمية، خاصة العلوم والرياضيات، أما المواد الأدبية فإنني لا أتحمل ساعات في القراءة، لكنني محب للرياضيات، وهذا الحب موجود حتى اليوم، حتى أنني أشرح لأولادي الدروس كأستاذ في الرياضيات.
*كم ظللتم في مصر؟
-ظللت المُدة المحددة للدراسة، وهي خمس سنوات، ولم أرسب في حياتي إطلاقاً.
*هل أثرت فيكم الحياة في مصر، وبأي اتجاه؟
- طبيعي أن تكون حياة مصر قد غيّرت أموراً كثيرة في حياتي، لقد ذهبت من هنا بالثقافة المحدودة التي عندي والموجودة في الكتاب المدرسي، فلم تكن هناك وسائل ثقافية ولا منتديات ثقافية، لم نكن حينها نعرف أشياء، مثل: الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني، ولم نكن نعرف ما معنى حقوق دستورية، ولا معنى دستور، أو حقوق اجتماعية أو سياسية.
عندما وصلنا مصر كان الصراع السياسي على أشدّه بتغيير 180 درجة، تشعر أنك انتقلت من عالم إلى عالم آخر، في أواخر السبعينيات وفي عهد الرئيس المصري أنور السادات -غفر الله له- كان مستوى التعليم في مصر ممتازا، وإن لم تكن هناك حُرية واسعة.
كان الواحد يتعجّب وهو يُشاهد أشياء لم يكن يشاهدها من قبل هنا في اليمن، ولا يسمع عنها. ثقافتنا –للأسف- كانت وما زالت تسير على قاعدة ’’من تزوج أُمّنا هو عمنا’’، لم نكن نعرف شيئاً اسمه انتخابات، ولا ماذا تعني هذه الكلمة، كما لم نكن نعرف نقابات ولا أحزاباً، يعني الواحد منا يبقي رعوياً ’’من المهد إلى اللحد’’؛ فالمزارع في حقله يبقى في حقله إلى أن يموت، والحلاق يبقى حلاقاً إلى أن يموت، والجزار جزاراً ويورث مهنته إلى ابنه وابن ابنه، ربطونا منذ زمن بثقافة أن هذه هي قسمة من الله، يعني إذا كان نصيبك أن تكون حلاقاً تبقى حلاقاً أبد الدهر، ولا يحق لك أن ترفض هذه القسمة، وإذا كنت مزارعاً تبقى مزارعاً مدى الحياة، ولا يجب أن تتدخل في شؤون الآخرين، فلا يحق لك أن تزاحم الفقهاء في أرزاقهم، وابن الفقيه يسمى فقيها حتى ولو كان أمياً، المهم أن أباه فقيه.
صحيح أن النظام الذي جاء بعد الثورة كان يقول إن الحكم أصبح بيد الشعب؛ لأن الإمام لم يعد يحكم، إلا أن ثقافة الإمام ما زالت موجودة، فما زالت عندنا القناعة من أنه ’’من تزوج أُمّنا هو عمنا’’.
في مصر، تغيّرت أشياء كثيرة في قناعاتنا، حصلنا على جو منفتح، كانت هناك صحافة وأحزاباً ونقابات، كُنّا داخل الكلية نستمع لنقاشات عجيبة لا نسمعها هنا، ومن الأشياء الغريبة عندما كنا نذهب إلى المسجد كنا نشاهد خطيب المسجد طبيباً، وكنت أتساءل كيف يكون الطبيب خطيباً، ألا يوجد عندهم فقيه ليخطب فيهم؟! يومها أدركت أن ’’القسمة’’ التي كانت لدينا وفي عقولنا ليست موجودة لديهم، من هنا بدأت أمور كثيرة تتغيّر في أذهاننا، وبشكل كبير جداً.
حياتي في مصر
*ما الذي أدهشك في المجتمع المصري؟
-المجتمع المصري فيه تمايز واضح، فعندما تجد شخصاً متديناً، فإنه يكون متديناً حقيقياً، وعندما تجد شخصاً بلطجياً فإنه يكون بلطجياً بحق وحقيق، بعض الناس يأخذون على المجتمع المصري بأنه مجتمع مادي، لكن عندما تعيش في أوساط أبنائه ستجد فيهم مجتمعاً مختلفاً، فأفراده يعاملونك معاملة طيبة.
عندما كانت زوجتي تضع مولودها يأتي الجيران المصريون فيقدمون لها خدمات لا تعملها والدتها أو والدتي، لا تستطيع أن تتخيّل الطيبة والرقّة والرحمة التي فيهم، عندما تعيش مع المصريين تشعر وكأنك داخل بيتك وتعيش بأمان وبدون شعور بغربة، وبحالة مستقرة.
الذي يعجبني في المصريين أنهم حريصون على أن يكونوا منتجين، والتعليم عندهم جاد، في امتحانات الثانوية العامة يعلن المصريون حالة الطوارئ، والأسرة كلها تتفرغ للطالب، العامل المصري عندما يشتغل في مهنة يؤديها بإتقان، والمعلم المصري عندما يدرّس فإنه يؤدي رسالته بأمانة.
المصريون جبابرة في العمل، وفي الإنتاج؛ فهم أصحاب طاقات لو تم توظيفها في الطريق الصحيح لوجدت مجتمعاً مختلفاً عن المجتمع. اليوم –للأسف- يستفيد من هذه الطاقات الأجانب، فالأساتذة والعلماء المصريون موجودون في إيطاليا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وفي الجامعات الغربية والأميركية، هذه حقيقة واضحة ويتميّز بها المجتمع المصري أكثر من غيره من المجتمعات العربية.
*كيف قضيت أول يوم في القاهرة؟
-عند وصولي القاهرة نزلت عند أحد جيراننا من صنعاء القديمة، لهذا لم أرتبك؛ لأنه عندما يأتي لاستقبالك أحد معارفك تختلف الأمور عندما تكون فيه لوحدك، شعرت مع جاري وكأنني في بيتي، بعد ذلك نزلت عند زملاء الدراسة وسكنّا مع بعض فكانت طبائعنا متقاربة، وتزوجنا وكان عددنا 18 شخصاً، واتفقنا على أن نعمل ما يشبه ’’الحارة اليمنية’’ في الإسكندرية، كان هناك تقارباً بين نسائنا، وبالتالي حتى الأكلات المصرية ما تعودنا عليها كثيراً لأنني نقلت أم العيال إلى مصر، ونقلنا نفس الأكلات التي كُنا نأكلها في صنعاء مثل: ’’السلتة’’، وغيرها.
بمعنى آخر، نمط حياتنا في مصر لم تتغيّر عما كان عليه نمط الحياة في اليمن، وحتى الملابس ظللنا متمسكين بها، صحيح كنت البس البنطلون، لكن في أوقات الدراسة أو في أوقات السفر إلى الخارج.
وأتذكر قصة حصلت لي في مجلس النواب عن تغيير العادات، وكنت في لجنة التنمية وشكلي هكذا كان مثل رعوي، فالذي يراني يقول عني: ’’رعوي من جهة القبائل’’. وكان هناك تقرير عن سد مارب، ومن أن هناك تسرباً للمياه من السد، وطلبنا مندوب وزارة الزراعة في مجلس الشورى أيام القاضي العرشي -رحمه الله- وكان كل الذين معي في اللجنة من أبناء القبائل، وكنت المهندس الوحيد. وكان رئيس اللجنة محمد حزام الشوحطي -رحمه الله- في المالية، فرآنا مندوب الزراعة، وكان شكلنا كلنا شكل قبائل؛ فبدأ يتكلم كلاماً ليس له علاقة بالهندسة لا من قريب ولا من بعيد، فقلت يجب أن يكتب محضرا، وأن يكون المحضر رسمياً؛ فسأل الأخ محمد حزام من هذا؟ فقال له هذا المهندس فلان بن فلان؛ فقال له هذا مهندس؟! قبحك الله، ضحكت عليً وجئت بي إلى عنده، أنا لا لي علاقة بالوزارة ولا أمثل الوزارة.
الشاهد أن المعيشة والحياة في مصر خلال الخمس السنوات في مصر أحدثت تغيراً في حياتي، لكن التغيّر في العادات وغيرها لم يحصل كثيراً.
*حافظت على لهجتك إذن، لكن كيف كنت تتعامل مع المصريين؟
-نعم، حافظت على لهجتي، لكنني بالنسبة للمصريين كنت مصرياً أيضاً، لأن أساتذتنا هنا في المدارس الإعدادية وفي الثانوية كانوا مصريين، وبالتالي فقبل أن أذهب إلى مصر كنت متعوداً على اللهجة المصرية.
*وبالنسبة لأسرتك، هل تعودت على المعيشة في مصر؟
-طبيعي؛ لأننا كنا 18 أسرة، يعني لم يتغيّر شيء.
*ألم تحصل مواقف طريفة في مصر، ما زلتم تتذكرونها حتى اليوم؟
-في إحدى المرات، وأنا في أحد مساجد القاهرة، رآني أحد المصريين المتأثرين بالصوفية وأنا بجلابية وذقن، وقال لي: لو سمحت يا مولانا، هل يمكن أن تلقي كلمة في المولد النبوي؟ يومها لم أكن قد تمرّست على شيء كهذا، ولم أعرف كيف أعمل. قال لي: نريدك أن تلقي كلمة حلوة عن المناسبة؟ وقُمت ألقي كلمة، ولم أعرف كيف أختمها. قام الناس وخرجوا، وأنا في مكاني لم أعرف كيف اختم كلمتي. وكان هذا داخل المسجد. يعني الواحد عندما لا يكون مدرباً على مواقف كهذه لا يعرف كيف يتصرف.
*ألم يربكك هذا الموقف ويجعلك توقف خطابك؟
-لا، واصلت الخطابة، لأنني لم أعرف كيف أنهي الموضوع إلا بصعوبة.
خط الإخوان المسلمين
*هل تأثرت بحركة الإخوان المسلمين في مصر؟
-طبيعي، التعامل مع الدعاة في مصر غير التعامل عندنا في اليمن، عندما يأتيك داعية يقول لك البعض هذا ابن حلاق أو ابن جزار، لا تستمع إليه، فهو ليس من قبائل معروفة، عندنا نوع من ’’التكبّر’’، لكن الوضع في مصر مختلف. والحقيقة أنهم في هذا الجانب حكماء، المصري مثلاً لا ينهرك ولا يعطيك كلاماً جلفاً. في الدعوة يصبر عليك ويسمع منك حتى ولو كان الذي تتحدث به خطأ، يسمع منك، ويجعلك تقول ما تريده. يمكنك أن تخطئ مرة وعشر ومائة، ولا أحد يتضايق أو يزعل منك، هذا هو الأسلوب والبداية للتعليم.
لم نعرف شيئا اسمه التنظيم إلا في مصر، عندنا الأمور ’’قَبْيَلَة’’، عندما وصلنا كانت توجد رابطة الطلاب، وكان فيها الناصريون، كنا حوالي ستة شباب، وقلنا لازم نغيّرها ونشكل اتحاداً، وكان عند الإسلاميين اتحاداً في جامعة صنعاء في ذلك الحين مع الصراع مع الجبهة الوطنية ومع الانقلاب الناصري، كانت الحكومة في تلك الفترة تشجع الذي يزيح الناصريين؛ فنجحنا وأخذنا الرابطة وشكّلنا اتحاداً، لكن النفسية المصرية مؤثرة؛ لم تكن هناك عداوة، كنا نتناقش فيما بيننا في كل شيء، ورغم اختلافاتنا كُنّا نزورهم ويزورونا، ونجلس مع بعض ونلتقي، فهذا تعزمه إلى بيتك، وذاك يعزمك إلى بيته، يعني أن الخلاف لم يكن يؤدي إلى قطيعة ولا إلى عداوة، وبكلمة أخرى كان الطلاب اليمنيون في تلك الفترة في قمة التفاهم فيما بينهم البين.
*لماذا اختار الشيخ عبدالله صعتر هذا الطريق ولم يختر الوجهة الأخرى، أي الفكر القومي أو اليساري مثلاً؟
-بالنسبة لي، كُنت أنظر إلى المسألة من جانب إنساني، الفكر القومي لا يستوعب إلا قومية واحدة ولا يجعلك تنطلق إلى العالم، وهذا يعني أنه فكر منغلق، واليسار كذلك، لهذا لا يوجد وعاء يستوعب العالم كله إلا الإسلام، إذا قلت وطنية فإنها تستوعب اليمن مثلا، وإذا قلت قومية فإنها تستوعب العرب، وإن قلت مذهبية فإنها تستوعب المكان الذي يوجد فيه المذهب، لكنك إذا تريد أن تكون معك علاقة مع جميع بني البشر في العالم فلا يوجد أمامك سوى الإسلام، فوجدت أن الإخوان المسلمين يتميزون بأنهم ليسوا جماعة دراويش، بل هم جماعة فكر ومشروع حضاري وجماعة تؤمن بالحوار وتؤمن بالعمل المنظّم، وبالتالي كانت هذه القضايا من العوامل التي أدت إلى اختياري هذا الاتجاه.
بالنسبة للقوميين في مصر كان هناك دعماً لهم؛ لأن منبع القومية في مصر، بالنسبة لي لم أكن أفكر في دعم، فكرتي هذه لي وحدي، ولا أقدر أن أظهر بصورة غير الصورة الحقيقية، صورتي هي صورتي ولا أقدر أتقمص صورة أخرى من أجل الحصول على دعم أو من أجل مصلحة، فكرتي هي أنني أريد أن أحافظ على حُريّتي بأي ثمن كان.
*هل عُرض عليك الانضمام إلى تيار القومية أو اليسار؟
-نعم، عرضوا كثيرا، لكنني كُنت متمسكاً برؤيتي وبقناعتي. وقُلت لهم: حتى لو أعطيتوني ذهباً بوزن الأرض فحُريتي أغلى. كنت ولا زلت أريد النور، ولا أريد أن أكون صورة غير الصورة الحقيقية التي أريدها. لا يشترى إلا العبد، أما الحر لا يشترى، هناك أسواق لبيع الغنم أو البقر، لكن لا يوجد سوق لبيع بني آدم، بالتالي هذه أثرت نوعا ما في التوجه الذي أنا عليه اليوم، أي أنني بقيت في خط الإخوان المسلمين، حيث التدين عندهم موجود والعلم الذي أنا أرغب فيه موجود والتنظيم الذي أحبه موجود على أرض الواقع.
*منذ متى بدأ الشيخ عبدالله ينفصل من التدين المباشر إلى العمل الحزبي والسياسي في حركة الإخوان؟
-من زمان، أي في بداية الثمانينيات؛ وأنا أدرس في القاهرة.
*متى كان ذلك؟
-كان ذلك في السنة الثانية من دراستي في مصر، أي من سنة 79 - 80.
*يعني بدأت تتأطّر حزبيا في تلك السنة؟
-نعم، لكن المجموعة الذي لدينا كانت مجموعة قليلة وتجاربهم في العمل لم تكن كبيرة.
*بمن تأثرت من الإخوان المسلمين في مصر؟
-كان هناك شخص اسمه الشيخ محمود عيد، وآخر اسمه محمد عبد المنعم، وبعض الشباب الذين كانوا يدرسون في كلية الهندسة، كان من بينهم شخص اسمه مدحت الحداد، وكذلك المرشد العام للإخوان المسلمين في ذلك الحين عمر التلمساني -رحمه الله- كان رقيق التعامل، حتى لما تحصل مشكلة مع الأقباط يجلس مع البابا شنودة ويجلسوا مع بعض تهدأ الأمور. شنودة كان في الإسكندرية، لكن عندما يأتي عمر التلمساني تهدأ الأمور، فتجد التلمساني رجلاً عاقلاً وحكيماً، وخطاباته كان لها وقع غير عادي عند الناس، لا يوجد فيها تشنجات، فثقافته كانت واسعة، وكان هادئاً بشكل غريب ومحبب للنفس، تعرف الإنسان عندما تكون أعصابه متشنجة تخرج منه كلمات قاسية ويخسر حب الآخرين.
*ما هو أهم كتاب قرأته، وأثّر فيك حتى اليوم؟
-كتاب ’’ظلال القرآن’’ لسيد قطب -رحمه الله. وفي الثقافة، كتاب ’’الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة’’، وهذا كتاب ممتاز يعطيك مراجع للمذاهب المختلفة للأحزاب وللجماعات، وما يعجبني في الكتاب أنه مختصر، فأنا لا يعجبني الكتاب المطوّل، ما عدا كتاب ’’ظلال القرآن’’، حيث أبقى أقرأ فيه أجزاءً بسيطة.
وهناك كتاب للإمام الشوكاني تحت عنوان ’’نيل الأوطار’’، وهذا الكتاب يعجبني؛ لأنه ليس مصبوغاً بأي مذهب نهائيا، فهو يأخذ من جميع الناس، ثم يقول هذا الدليل صحيح وهذا الدليل ضعيف، وهذا الدليل موضوع، وهذا ليس له دليل خالص، يعني رجل باحث، أسلوب التحرِّي والبحث هو الذي يعجبني ولا يعجبني الذي لا يوجد فيه دليل، فمثل هذا لا أهتم به.
صحيفة السياسية
الشيخ صعتر للسياسية: ثقافة الإمام ما زالت موجودة في اليمن
31/7/2010 - الصحوة نت – صنعاء:
في حياة كل فرد منا شخصيتان مختلفتان: الأولى تلك التي يتعامل معها الناس ويعرفون مواقفها وأخبارها التي تخرج إلى الناس والصحافة، والثانية تلك المخفية التي لا يعرفها سوى قلة قليلة من المقربين والأصدقاء.
وفي هذه المساحة تحاول ’’السياسية’’ الدخول في الزاوية المخفية من حياة هذه الشخصية أو تلك، من خلال حديث ذكريات يشمل أسرار الطفولة والشباب والعمل، والتعرف عن قرب على العادات والتقاليد والظروف الصعبة التي عاشها اليمنيون قبل أن يروا النور بثورتي سبتمبر وأكتوبر ودولة الوحدة.
’’النصف الآخر’’ محاولة لإخراج ما خبأته السنوات في حياة اليمنيين، من خلال رصد الواقع الذي عاشوه ويعيشونه اليوم. كما أنها محاولة لمعرفة كيف يفكر من عايشناهم طوال سنوات ولا نعرف ما ذا يحبون، وماذا يكرهون، وكيف وصلوا إلى النجاح الذي وصلوا إليه.
تحاول ’’النصف الآخر’’ الابتعاد عن الخوض في الشأن السياسي، الذي يحبذ الكثير عدم الخوض فيه، وإن كانت السياسة حاضرة في بعض المواقف التي ضمها الحوار، لكن بشكل غير مباشر.
’’النصف الآخر’’ سلسلة لحوارات مع شخصيات يمنية مختلفة في السلطة والمعارضة، رجالاً ونساء على السواء، ومن كل مناطق البلاد. وستكون هذه الشخصيات حاضرة بتجاربها في الحياة هنا لتكون شاهدة على صور مختلفة من حياة اليمنيين.
*بعد أن أنهيتم مرحلة الابتدائية، إلى أين اتجهتم، كيف واصلتم الدراسة؟
-درست في صنعاء مرحلة الإعدادية في مدرسة ’’سيف بن ذي يزن’’، ثم في ثانوية الكويت، وهي أول دفعة في افتتاح مدرسة الكويت، وكانت في الصافية، ومدرسة سيف بن ذي يزن هي الأخرى كانت بدعم من الكويت، وأولى المدارس في اليمن كانت كمساعدات إما من السعودية أو من الكويت، وبعد ذلك انتقلت للدراسة في كلية الهندسة في الإسماعيلية بمصر في سنة 78، وتخرجت منها في سنة 83.
*أذهبتم لتدرسون مخصصاً معيناً؟
-كنت مُرشحاً لدراسة الطب، لكنني لم أكن أحب التشريح، وكنت كل ما اكتب رغبتي الأولى هندسة يخلوها ’’طب’’، ورغم ذلك أرسلوني إلى القاهرة لدراسة الطب، وعندما وصلت القاهرة كان الكل يقول لي إن الناس كلهم يبحثون عن هذا التخصص، وعندما تطلب تخصصاً آخر غير الطب يغيرونه لك بسرعة.
كان معدلي العالي يسمح لي بدخول أية كلية أريدها، وكانت الأوضاع في تلك الأيام ليست مثل اليوم، أي لم يكن يوجد مثل هذه الأعداد الكبيرة من الطلاب، كانت الأعداد محدودة للمنافسة، حينها اخترت تخصص الهندسة؛ لأنه كان عندي رغبة في دراسة المواد العلمية، خاصة العلوم والرياضيات، أما المواد الأدبية فإنني لا أتحمل ساعات في القراءة، لكنني محب للرياضيات، وهذا الحب موجود حتى اليوم، حتى أنني أشرح لأولادي الدروس كأستاذ في الرياضيات.
*كم ظللتم في مصر؟
-ظللت المُدة المحددة للدراسة، وهي خمس سنوات، ولم أرسب في حياتي إطلاقاً.
*هل أثرت فيكم الحياة في مصر، وبأي اتجاه؟
- طبيعي أن تكون حياة مصر قد غيّرت أموراً كثيرة في حياتي، لقد ذهبت من هنا بالثقافة المحدودة التي عندي والموجودة في الكتاب المدرسي، فلم تكن هناك وسائل ثقافية ولا منتديات ثقافية، لم نكن حينها نعرف أشياء، مثل: الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني، ولم نكن نعرف ما معنى حقوق دستورية، ولا معنى دستور، أو حقوق اجتماعية أو سياسية.
عندما وصلنا مصر كان الصراع السياسي على أشدّه بتغيير 180 درجة، تشعر أنك انتقلت من عالم إلى عالم آخر، في أواخر السبعينيات وفي عهد الرئيس المصري أنور السادات -غفر الله له- كان مستوى التعليم في مصر ممتازا، وإن لم تكن هناك حُرية واسعة.
كان الواحد يتعجّب وهو يُشاهد أشياء لم يكن يشاهدها من قبل هنا في اليمن، ولا يسمع عنها. ثقافتنا –للأسف- كانت وما زالت تسير على قاعدة ’’من تزوج أُمّنا هو عمنا’’، لم نكن نعرف شيئاً اسمه انتخابات، ولا ماذا تعني هذه الكلمة، كما لم نكن نعرف نقابات ولا أحزاباً، يعني الواحد منا يبقي رعوياً ’’من المهد إلى اللحد’’؛ فالمزارع في حقله يبقى في حقله إلى أن يموت، والحلاق يبقى حلاقاً إلى أن يموت، والجزار جزاراً ويورث مهنته إلى ابنه وابن ابنه، ربطونا منذ زمن بثقافة أن هذه هي قسمة من الله، يعني إذا كان نصيبك أن تكون حلاقاً تبقى حلاقاً أبد الدهر، ولا يحق لك أن ترفض هذه القسمة، وإذا كنت مزارعاً تبقى مزارعاً مدى الحياة، ولا يجب أن تتدخل في شؤون الآخرين، فلا يحق لك أن تزاحم الفقهاء في أرزاقهم، وابن الفقيه يسمى فقيها حتى ولو كان أمياً، المهم أن أباه فقيه.
صحيح أن النظام الذي جاء بعد الثورة كان يقول إن الحكم أصبح بيد الشعب؛ لأن الإمام لم يعد يحكم، إلا أن ثقافة الإمام ما زالت موجودة، فما زالت عندنا القناعة من أنه ’’من تزوج أُمّنا هو عمنا’’.
في مصر، تغيّرت أشياء كثيرة في قناعاتنا، حصلنا على جو منفتح، كانت هناك صحافة وأحزاباً ونقابات، كُنّا داخل الكلية نستمع لنقاشات عجيبة لا نسمعها هنا، ومن الأشياء الغريبة عندما كنا نذهب إلى المسجد كنا نشاهد خطيب المسجد طبيباً، وكنت أتساءل كيف يكون الطبيب خطيباً، ألا يوجد عندهم فقيه ليخطب فيهم؟! يومها أدركت أن ’’القسمة’’ التي كانت لدينا وفي عقولنا ليست موجودة لديهم، من هنا بدأت أمور كثيرة تتغيّر في أذهاننا، وبشكل كبير جداً.
حياتي في مصر
*ما الذي أدهشك في المجتمع المصري؟
-المجتمع المصري فيه تمايز واضح، فعندما تجد شخصاً متديناً، فإنه يكون متديناً حقيقياً، وعندما تجد شخصاً بلطجياً فإنه يكون بلطجياً بحق وحقيق، بعض الناس يأخذون على المجتمع المصري بأنه مجتمع مادي، لكن عندما تعيش في أوساط أبنائه ستجد فيهم مجتمعاً مختلفاً، فأفراده يعاملونك معاملة طيبة.
عندما كانت زوجتي تضع مولودها يأتي الجيران المصريون فيقدمون لها خدمات لا تعملها والدتها أو والدتي، لا تستطيع أن تتخيّل الطيبة والرقّة والرحمة التي فيهم، عندما تعيش مع المصريين تشعر وكأنك داخل بيتك وتعيش بأمان وبدون شعور بغربة، وبحالة مستقرة.
الذي يعجبني في المصريين أنهم حريصون على أن يكونوا منتجين، والتعليم عندهم جاد، في امتحانات الثانوية العامة يعلن المصريون حالة الطوارئ، والأسرة كلها تتفرغ للطالب، العامل المصري عندما يشتغل في مهنة يؤديها بإتقان، والمعلم المصري عندما يدرّس فإنه يؤدي رسالته بأمانة.
المصريون جبابرة في العمل، وفي الإنتاج؛ فهم أصحاب طاقات لو تم توظيفها في الطريق الصحيح لوجدت مجتمعاً مختلفاً عن المجتمع. اليوم –للأسف- يستفيد من هذه الطاقات الأجانب، فالأساتذة والعلماء المصريون موجودون في إيطاليا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وفي الجامعات الغربية والأميركية، هذه حقيقة واضحة ويتميّز بها المجتمع المصري أكثر من غيره من المجتمعات العربية.
*كيف قضيت أول يوم في القاهرة؟
-عند وصولي القاهرة نزلت عند أحد جيراننا من صنعاء القديمة، لهذا لم أرتبك؛ لأنه عندما يأتي لاستقبالك أحد معارفك تختلف الأمور عندما تكون فيه لوحدك، شعرت مع جاري وكأنني في بيتي، بعد ذلك نزلت عند زملاء الدراسة وسكنّا مع بعض فكانت طبائعنا متقاربة، وتزوجنا وكان عددنا 18 شخصاً، واتفقنا على أن نعمل ما يشبه ’’الحارة اليمنية’’ في الإسكندرية، كان هناك تقارباً بين نسائنا، وبالتالي حتى الأكلات المصرية ما تعودنا عليها كثيراً لأنني نقلت أم العيال إلى مصر، ونقلنا نفس الأكلات التي كُنا نأكلها في صنعاء مثل: ’’السلتة’’، وغيرها.
بمعنى آخر، نمط حياتنا في مصر لم تتغيّر عما كان عليه نمط الحياة في اليمن، وحتى الملابس ظللنا متمسكين بها، صحيح كنت البس البنطلون، لكن في أوقات الدراسة أو في أوقات السفر إلى الخارج.
وأتذكر قصة حصلت لي في مجلس النواب عن تغيير العادات، وكنت في لجنة التنمية وشكلي هكذا كان مثل رعوي، فالذي يراني يقول عني: ’’رعوي من جهة القبائل’’. وكان هناك تقرير عن سد مارب، ومن أن هناك تسرباً للمياه من السد، وطلبنا مندوب وزارة الزراعة في مجلس الشورى أيام القاضي العرشي -رحمه الله- وكان كل الذين معي في اللجنة من أبناء القبائل، وكنت المهندس الوحيد. وكان رئيس اللجنة محمد حزام الشوحطي -رحمه الله- في المالية، فرآنا مندوب الزراعة، وكان شكلنا كلنا شكل قبائل؛ فبدأ يتكلم كلاماً ليس له علاقة بالهندسة لا من قريب ولا من بعيد، فقلت يجب أن يكتب محضرا، وأن يكون المحضر رسمياً؛ فسأل الأخ محمد حزام من هذا؟ فقال له هذا المهندس فلان بن فلان؛ فقال له هذا مهندس؟! قبحك الله، ضحكت عليً وجئت بي إلى عنده، أنا لا لي علاقة بالوزارة ولا أمثل الوزارة.
الشاهد أن المعيشة والحياة في مصر خلال الخمس السنوات في مصر أحدثت تغيراً في حياتي، لكن التغيّر في العادات وغيرها لم يحصل كثيراً.
*حافظت على لهجتك إذن، لكن كيف كنت تتعامل مع المصريين؟
-نعم، حافظت على لهجتي، لكنني بالنسبة للمصريين كنت مصرياً أيضاً، لأن أساتذتنا هنا في المدارس الإعدادية وفي الثانوية كانوا مصريين، وبالتالي فقبل أن أذهب إلى مصر كنت متعوداً على اللهجة المصرية.
*وبالنسبة لأسرتك، هل تعودت على المعيشة في مصر؟
-طبيعي؛ لأننا كنا 18 أسرة، يعني لم يتغيّر شيء.
*ألم تحصل مواقف طريفة في مصر، ما زلتم تتذكرونها حتى اليوم؟
-في إحدى المرات، وأنا في أحد مساجد القاهرة، رآني أحد المصريين المتأثرين بالصوفية وأنا بجلابية وذقن، وقال لي: لو سمحت يا مولانا، هل يمكن أن تلقي كلمة في المولد النبوي؟ يومها لم أكن قد تمرّست على شيء كهذا، ولم أعرف كيف أعمل. قال لي: نريدك أن تلقي كلمة حلوة عن المناسبة؟ وقُمت ألقي كلمة، ولم أعرف كيف أختمها. قام الناس وخرجوا، وأنا في مكاني لم أعرف كيف اختم كلمتي. وكان هذا داخل المسجد. يعني الواحد عندما لا يكون مدرباً على مواقف كهذه لا يعرف كيف يتصرف.
*ألم يربكك هذا الموقف ويجعلك توقف خطابك؟
-لا، واصلت الخطابة، لأنني لم أعرف كيف أنهي الموضوع إلا بصعوبة.
خط الإخوان المسلمين
*هل تأثرت بحركة الإخوان المسلمين في مصر؟
-طبيعي، التعامل مع الدعاة في مصر غير التعامل عندنا في اليمن، عندما يأتيك داعية يقول لك البعض هذا ابن حلاق أو ابن جزار، لا تستمع إليه، فهو ليس من قبائل معروفة، عندنا نوع من ’’التكبّر’’، لكن الوضع في مصر مختلف. والحقيقة أنهم في هذا الجانب حكماء، المصري مثلاً لا ينهرك ولا يعطيك كلاماً جلفاً. في الدعوة يصبر عليك ويسمع منك حتى ولو كان الذي تتحدث به خطأ، يسمع منك، ويجعلك تقول ما تريده. يمكنك أن تخطئ مرة وعشر ومائة، ولا أحد يتضايق أو يزعل منك، هذا هو الأسلوب والبداية للتعليم.
لم نعرف شيئا اسمه التنظيم إلا في مصر، عندنا الأمور ’’قَبْيَلَة’’، عندما وصلنا كانت توجد رابطة الطلاب، وكان فيها الناصريون، كنا حوالي ستة شباب، وقلنا لازم نغيّرها ونشكل اتحاداً، وكان عند الإسلاميين اتحاداً في جامعة صنعاء في ذلك الحين مع الصراع مع الجبهة الوطنية ومع الانقلاب الناصري، كانت الحكومة في تلك الفترة تشجع الذي يزيح الناصريين؛ فنجحنا وأخذنا الرابطة وشكّلنا اتحاداً، لكن النفسية المصرية مؤثرة؛ لم تكن هناك عداوة، كنا نتناقش فيما بيننا في كل شيء، ورغم اختلافاتنا كُنّا نزورهم ويزورونا، ونجلس مع بعض ونلتقي، فهذا تعزمه إلى بيتك، وذاك يعزمك إلى بيته، يعني أن الخلاف لم يكن يؤدي إلى قطيعة ولا إلى عداوة، وبكلمة أخرى كان الطلاب اليمنيون في تلك الفترة في قمة التفاهم فيما بينهم البين.
*لماذا اختار الشيخ عبدالله صعتر هذا الطريق ولم يختر الوجهة الأخرى، أي الفكر القومي أو اليساري مثلاً؟
-بالنسبة لي، كُنت أنظر إلى المسألة من جانب إنساني، الفكر القومي لا يستوعب إلا قومية واحدة ولا يجعلك تنطلق إلى العالم، وهذا يعني أنه فكر منغلق، واليسار كذلك، لهذا لا يوجد وعاء يستوعب العالم كله إلا الإسلام، إذا قلت وطنية فإنها تستوعب اليمن مثلا، وإذا قلت قومية فإنها تستوعب العرب، وإن قلت مذهبية فإنها تستوعب المكان الذي يوجد فيه المذهب، لكنك إذا تريد أن تكون معك علاقة مع جميع بني البشر في العالم فلا يوجد أمامك سوى الإسلام، فوجدت أن الإخوان المسلمين يتميزون بأنهم ليسوا جماعة دراويش، بل هم جماعة فكر ومشروع حضاري وجماعة تؤمن بالحوار وتؤمن بالعمل المنظّم، وبالتالي كانت هذه القضايا من العوامل التي أدت إلى اختياري هذا الاتجاه.
بالنسبة للقوميين في مصر كان هناك دعماً لهم؛ لأن منبع القومية في مصر، بالنسبة لي لم أكن أفكر في دعم، فكرتي هذه لي وحدي، ولا أقدر أن أظهر بصورة غير الصورة الحقيقية، صورتي هي صورتي ولا أقدر أتقمص صورة أخرى من أجل الحصول على دعم أو من أجل مصلحة، فكرتي هي أنني أريد أن أحافظ على حُريّتي بأي ثمن كان.
*هل عُرض عليك الانضمام إلى تيار القومية أو اليسار؟
-نعم، عرضوا كثيرا، لكنني كُنت متمسكاً برؤيتي وبقناعتي. وقُلت لهم: حتى لو أعطيتوني ذهباً بوزن الأرض فحُريتي أغلى. كنت ولا زلت أريد النور، ولا أريد أن أكون صورة غير الصورة الحقيقية التي أريدها. لا يشترى إلا العبد، أما الحر لا يشترى، هناك أسواق لبيع الغنم أو البقر، لكن لا يوجد سوق لبيع بني آدم، بالتالي هذه أثرت نوعا ما في التوجه الذي أنا عليه اليوم، أي أنني بقيت في خط الإخوان المسلمين، حيث التدين عندهم موجود والعلم الذي أنا أرغب فيه موجود والتنظيم الذي أحبه موجود على أرض الواقع.
*منذ متى بدأ الشيخ عبدالله ينفصل من التدين المباشر إلى العمل الحزبي والسياسي في حركة الإخوان؟
-من زمان، أي في بداية الثمانينيات؛ وأنا أدرس في القاهرة.
*متى كان ذلك؟
-كان ذلك في السنة الثانية من دراستي في مصر، أي من سنة 79 - 80.
*يعني بدأت تتأطّر حزبيا في تلك السنة؟
-نعم، لكن المجموعة الذي لدينا كانت مجموعة قليلة وتجاربهم في العمل لم تكن كبيرة.
*بمن تأثرت من الإخوان المسلمين في مصر؟
-كان هناك شخص اسمه الشيخ محمود عيد، وآخر اسمه محمد عبد المنعم، وبعض الشباب الذين كانوا يدرسون في كلية الهندسة، كان من بينهم شخص اسمه مدحت الحداد، وكذلك المرشد العام للإخوان المسلمين في ذلك الحين عمر التلمساني -رحمه الله- كان رقيق التعامل، حتى لما تحصل مشكلة مع الأقباط يجلس مع البابا شنودة ويجلسوا مع بعض تهدأ الأمور. شنودة كان في الإسكندرية، لكن عندما يأتي عمر التلمساني تهدأ الأمور، فتجد التلمساني رجلاً عاقلاً وحكيماً، وخطاباته كان لها وقع غير عادي عند الناس، لا يوجد فيها تشنجات، فثقافته كانت واسعة، وكان هادئاً بشكل غريب ومحبب للنفس، تعرف الإنسان عندما تكون أعصابه متشنجة تخرج منه كلمات قاسية ويخسر حب الآخرين.
*ما هو أهم كتاب قرأته، وأثّر فيك حتى اليوم؟
-كتاب ’’ظلال القرآن’’ لسيد قطب -رحمه الله. وفي الثقافة، كتاب ’’الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة’’، وهذا كتاب ممتاز يعطيك مراجع للمذاهب المختلفة للأحزاب وللجماعات، وما يعجبني في الكتاب أنه مختصر، فأنا لا يعجبني الكتاب المطوّل، ما عدا كتاب ’’ظلال القرآن’’، حيث أبقى أقرأ فيه أجزاءً بسيطة.
وهناك كتاب للإمام الشوكاني تحت عنوان ’’نيل الأوطار’’، وهذا الكتاب يعجبني؛ لأنه ليس مصبوغاً بأي مذهب نهائيا، فهو يأخذ من جميع الناس، ثم يقول هذا الدليل صحيح وهذا الدليل ضعيف، وهذا الدليل موضوع، وهذا ليس له دليل خالص، يعني رجل باحث، أسلوب التحرِّي والبحث هو الذي يعجبني ولا يعجبني الذي لا يوجد فيه دليل، فمثل هذا لا أهتم به.
صحيفة السياسية