مقاصد الشريعة والاعتدال
29/07/2010م
الموافق : 18/08/1431 هـ
وصفي عاشور أبوزيد
للتعمُّق في فهم مقاصد الشريعة دور كبير في التوجه نحو التوسط والاعتدال والتوازن في كل القضايا العلميَّة والفكريَّة، فمن شأنها أن تضبط حركة التفكير، وتقارب بين وجهات النظر، وتقلل مساحة الخلاف، وتعطي أفقًا رحيبًا للباحث، والفقيه والمفتي، والمجتهد عند بحث القضايا المستجدة المندرجة تحت مسألة معلومة المقصد والغاية.
فقه مقاصد الشريعة
وممَّا ينبغي أن يُعلم هنا أنَّ من مقاصد الشريعة الكبرى ومفاهيمها التأسيسيَّة: العمل على حفظ الأمن العام، وإرساء دعائمه في المجتمع، والضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه أن يُفكِّر في تقويضه أو تبديده أو تهديده؛ ولأجل هذا حرَّم الله تعالى الجرائم الكبرى، مثل: الحرابة، والسرقة، والقذف، والقتل، وغيرها، وشرَّع لها ما يُردع مرتكبيها، أو من يفكر في ارتكابها، مثل: حد الحرابة، وحد السرقة، وحد القذف، والقصاص، وغيرها.
ومن المقاصد الكليَّة التي يجب أن تُعلم هنا ويتم التأكيد عليها، والتشديد فيها: إنَّ النفس وحرمتها أمر خطير في شريعة الله، وأنَّ من أحياها فكأنَّما أحيا الناس جميعًا، ومن قتلها بغير حق فكأنَّما قتل الناس جميعًا، وكذلك حفظ المال وخاصةً المال العام، وحفظ النسل والعقل والدين والعرض.
وفي هذه الجرائم وعقوباتها جاء القرآن حاسمًا، ففي الحرابة يقول الله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)﴾ (المائدة). وفي السرقة: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)﴾ (المائدة). وفي القصاص قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فإتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)﴾ (البقرة). وفي القذف قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)﴾ (النور).
ومن المفاهيم الكبرى والمقاصد العليا: إيجاد الحريَّة والحفاظ عليها، ونشر العدالة، وتحقيق المساواة، وإشاعة التسامح، وكل الأخلاق والمبادئ الإنسانية التي اتفقت عليها البشرية، وتواضعت عليها الإنسانيَّة. ففي الحرية وبخاصة حرية العقيدة يقول القرآن: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: من الآية 256). وفي العدالة يقول: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: من الآية 25). وفي الأخلاق يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ’’إنَّما بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق’’ (1).
ولقد وجدت هذه المبادئ والمقاصد سبيلها التطبيقي في سير الخلفاء الراشدين، ومن سار على دربهم، ومدونات الحضارة الإسلامية مليئة بوقائع تمت فيها مراعاة هذه المقاصد، وتلك المبادئ والمفاهيم الكبرى، لا سيما في معاملة الأمم الأخرى حال السلم أو الحرب.
وحسبنا هنا ما قاله ’’جوستاف لوبون’’ في كلمته التي طبقت الآفاق: ’’فالحق أنَّ الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم’’ ، فلم يُكره أحدًا على اعتناق شيءٍ، ولا أسال دماء بغير حق، بل كان حريصًا عليها كل الحرص، وقد تمثلت الرحمة وقيم الإنسانيَّة في الحرب كما تمثلت في السلم سواءً بسواءٍ، وهذه القيم ـ قيم العدل والتسامح والمساواة- هي التي أدى انتشارها إلى انتشار الإسلام، واعتناق الناس له طوعًا دون أدنى إكراه.
فقه مقاصد الجهاد
وإذا كان الجهاد والغلو في فهمه وتطبيقه هو البوابة الرئيسة لأعمال العنف، وسلوكيَّات التطرف، ممَّا له الأثر الكبير على زعزعة الأمن وتهديد دعائم النسيج الوطني، فإنَّنا نكون بحاجة إلى وقفة أمام مقاصد الجهاد حتى تتجلى صورته، وتظهر أغراضه وغاياته ومقاصده.
فللجهاد عند المسلمين مكانة كبيرة؛ فهو ذروة سنام الإسلام، وارتبطت به عزة المسلمين في كل العصور، ولقد امتازت فلسفته في الإسلام عن الديانات والمذاهب والأفكار الأخرى، سواء كانت سماويَّة أو أرضيَّة، فقد ربطه القرآن الكريم والسنة النبوية بأنَّه ’’في سبيل الله’’، ومعنى ذلك أنَّه ليس لإشباع رغبات بشريَّة دنيئة، أو للتشفي وتفريغ مشاعر إنسانيَّة ذميمة، أو تحقيق مصالح شخصيَّة فاجرة، وإنَّما هو لبلوغ مقاصد شرعيَّة نبيلة، وتحقيق أهداف إنسانيَّة عظيمة، حددها الشارع الحكيم، ونصبها أمام القائمين به؛ وذلك لكي يكون ’’في سبيل الله’’ لا في سبيل غيره، ولتكون كلمة الله هي العليا، وتسعد البشرية في ظلال الإسلام العظيم.
وحين نتحدث عن مقاصد الجهاد هنا لا نعني به الجهاد بمفهومه الشامل الذي يشمل جهاد النفس وجهاد المنافقين وجهاد الشيطان، والأنواع الأخرى من الجهاد التي ذكر العلماء منها أكثر من ثلاثة عشر نوعًا، وإنَّما نعني به معناه المباشر وهو القتال، ولأن الغلو في هذا المعنى هو الذي جر الوباء والوبال على البشرية كلها عن طريق أحداث العنف والتفجيرات التي تحدث في عواصم عربية وغربية.
وعند التأمل في أحكام الجهاد- وتدابيره الشرعية التي شرعها الإسلام بنصوصه الشرعية الشريفة وبالتطبيق العملي لهذه النصوص- وجدنا أنَّ الله شرعه لمقاصد، وأوجده لأهداف وحكم وآثار، يمكن عند التأمل أن نقسمها إلى قسمين: مقاصد وآثار لازمة أو فرديَّة، ومقاصد وآثار متعديَّة أو جماعيَّة.
ونعني بالمقاصد والآثار الفرديَّة أو اللازمة التي تتحقق للفرد وتعود على ذاته ولا تروم غيره، ومن ذلك:
1- نيل الدرجات والفوز بمرتبة الشهادة.
2- إصلاح النفس.
3- ابتلاء المؤمن وتمحيصه.
4- ابتغاء مرضاة الله تعالى.
أما المقاصد والآثار الجماعية، أو المتعديَّة فهي التي يتجاوز نفعها الفرد إلى المجتمع والأمة والبشريَّة كلها، باعتبار الإسلام دينًا للإنسانيَّة جميعًا.
1- تخليص المستضعفين، وتحرير الناس ورفع الظلم عنهم.
2- حماية الدين ومنع الفتنة.
3- بسط قيم الإسلام ونشر هدايته.
4- حفظ حريَّة الاعتقاد ودُور العبادة، وممارسة الشعائر.
5- حفظ الأمن العام.
6- تحقيق التمايز في صفوف الأمة (3).
خطورة إهمال فقه المقاصد
إذا لم نراع هذا الفقه سواء المقاصد عامة، أو مقاصد الجهاد خاصة، فسوف نوقع أنفسنا ومجتمعاتنا في مخاطر وأزمات وبلاء كبير وشر مستطير.
ومن هذه المخاطر:
1- قصور في الفهم والرؤية للقضايا التي تُعرض وتُتصور.
2- التحجُّر والتشدُّد والتنطُّع في الفهم والسلوك.
3- توسيع هوة الخلاف لا سيما في القضايا الخلافيَّة.
4- إظهار الشريعة على أنَّها قانون تاريخي، دون القدرة على التفاعل مع النوازل المعاصرة.
5- التهوين من أمر النفوس البشريَّة والأرواح، والإقدام على إتلافها دون مبالاة.
6- نشر الفتنة وزعزعة أمن المجتمعات.
7- إرهاق الدولة بمعالجة قضايا جانبية عن التخطيط المستقبلي والتنموي.
8- تخريب مؤسسات المجتمع وإتلاف المال العام.
ثمار مراعاة فقه المقاصد
ومن شأن المعرفة والتفقُّه بمقاصد الشريعة، ومقاصد الجهاد أن يؤتي ثمارًا عظيمة، وينتج نتائج مهمة، ومن ذلك:
1- تلافي كل السلبيات السابقة الناتجة عن إهمال هذا الفقه.
2- فهم النصوص ومقتضياتها على ما أراده الشارع منها.
3- ضبط حركة التفكير والانتقاء في التعامل مع تراثنا قديمًا وحديثًا بما يمنع من الانحراف.
4- يتمثل للشباب المسلم- فضلاً عن العلماء- أفق شرعي رحيب، ومشروع يعصمهم من الوقوع في براثن العنف، ومهاوي التطرف على مستوى المدارسة والممارسة.
5- ترشيد الخطاب الدعوي الذي يؤدي بدوره لترشيد عقل الأمة الإسلاميَّة الخادم لصحوتها.
6- الوقاية من أحداث المتفجرات والعنف التي تقع هنا وهناك.
7- تصحيح الصورة الذهنيَّة، والنمطيَّة عن الإسلام والمسلمين لدى غير المسلمين.
8- ترغيب غير المسلمين في الإسلام.
ولأجل تحقيق هذه المقاصد نحتاج إلى جهد كبير، سواء على مستوى المدارسة أو مستوى الممارسة، فإنَّ تغيير الفكر يحتاج لوقت طويل، وتغيير النفوس يحتاج لوقت أطول، والزمن جزء من العلاج، لكن ذلك أفضل- بلا شك- من التمادي فيما نعاني ونشكو منه..!.
_________________
الإخوان المسلمون