مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/17 20:12
محمد حامد الأحمري( 'الليبرالية' فُهِمَتْ في بلادنا
النص الكامل لحوار المفكر الأحمري مع صحيفة الحياة ’اللندنية’:
’الليبرالية’ فُهِمَتْ في بلادنا بشكل خاطئ... ولهذا كرهها ’المتدينون’
03-3-2009
الدوحة - خالد الباتلي ـ 03/03/09

الطائفية سوء استخدام للدين، وهي فساد خلقي وعقلي وسياسي واجتماعي، وهي سلاح استعماري ناجع يفري مجتمعاتنا، أما المشروع الإصلاحي الإسلامي الذي يساعد في استيعاب هذه المشكلة، فهو استعادة الإسلام صافياً قبل العبث به من الفرق، ومن المستفيدين من التقسيم، والإسلام قبل تقسيمه سيرفع الأمة ويجدد دينها، ويقلل توتراتها، ويفيد بعضها من بعض..ومشكلة فكرة الوسطية، أنها تبحث عن طرفين بجانبها، ولهذا فهي ترقص دائما باحثة عن وسط بين طرفين، فقد تهرب عن الحق بحثا عن الوسط المتخيل، وقد يكون التوسط الضياع، وفقدان اللون والطعم والموقف، ويكون الحق في طرف النزاع
* ما الذي تمنحه أجواء الأطراف للمبدع ، وتسلبه منها أجواء المحور ..؟


** الطرف يسبب الغرور، وتتسرب إليه تبعية لا يعيها، ولكنه ينعم باستقرار وثبات يحسد عليه، والأطراف التي تنتقل للمركز تثريه، وتهزه، فهي خارجة عن عرفه، تحمل طمأنينتها وقوتها، يسخر بها وتعديه بضعفها وخنوعها، وطريقة تمردها السلبية.

* بين القزعة وأبها..كيف كان تشكلك..؟

* درست في قرية القزعة إلى السنة الخامسة الابتدائية، في مدرسة الخليل بن أحمد التي فتحت أولا في بيتنا، فسبب أول اتصال بالمعرفة هجرة قريبة، وقد انتقلت المدرسة الآن إلى قرية أخرى، وفي القرية كان والدي إماما متطوعا للمسجد، فقد كان أقرأ أهل القرية، وكان شخصية لما أراه الآن من بعد خليطا من المتدين والمتمرد، إذا حضر المتدينون سخر منهم، وإذا شهد المجالس العامة علمهم الدين! وفي بيته وخلافا لمجايليه رائت مكتبه تقارب عشرة كتب.

* اختيارك لجامعة الإمام.. كان بالخيار أو الإجبار..؟


** لم يكن بالإجبار، ولم تكن هناك خيارات كثيرة في أبها ذلك الوقت، وخارجها لم يكن والداي يحبان البعد عنهم، وقد أغراني والدي آنذاك إنه إن بقيت في أبها فسوف يشتري لي سيارة، ولعله أصلا يفكر في الخلاص من خطف سيارته يوميا، فقد كنت آخذ سيارته بمجرد عودتي من المدرسة إلى وقت متأخر من الليل، فرغبتهما والسيارة وأشياء أخرى حسمت الموقف.

* هل أنت مرحب بك هنا في المؤسسات الرسمية؟

** قابلتني بعض الجهات الرسمية بمجرد وصولي بمواقف إيجابية، ودعيت للمشاركة في أول حوار وطني بعد وصولي، وكان الحوار الثالث في المدينة المنورة، أما أنا فلم أطلب عملا في أي مؤسسة رسمية، أما العمل كمستشار للنشر في العبيكان، فكان عرضا كريما منهم بعد أن عرضت عليهم كتابين للطباعة، ولم أكن أفكر في العمل هناك، ولما عرضوا فكّرت في الأمر أكثر من شهرين بعد العرض، ثم وافقت وبقيت فترة بعد ذلك، لأني عشت قبل هذا قريبا من عشرين عاما من قبل دون أن التزم بعمل عند حكومة أو شركة بل طالبا ثم كاتبا غير ملتزم بمكتب دائم ولا بدوام يومي ثم عملت في النشر ثم التجارة وقتا قصيرا ثم في النشر مرة ثانية، أو ثالثة، ثم في التجارة ولم أنجح في التجارة في أغلب المحاولات؛ فقد كانت العين على الكتب وهمّ المعرفة وأعمال ثقافية أخرى، ثم لما عرض علي العمل في النشر ففرحت بعمل أحبه، وتأخرت عنه بسبب أنه قيد لم أفكر في أن التزم به، ولعلي نجحت فيه في تلك الفترة، وقد قلت للمالك إني قد أعمل ثلاث سنوات ثم أترك، ولا أدري لم حددت هذا، وقد كنت آمل منذ سنين أن أجد فرصة للتفرغ للعمل الفكري، وكان ذلك غاية محاولات التجارة، و بعد ثلاث سنين كما وعدت كنت جاهزا نفسيا للتغيير ولترك العمل وقد تيسرت لي ظروف عمل في الخارج رأيتها أحسن وأقرب لاهتمامي فخرجت.


* الحياة في أمريكا.. ماذا منحت عقلك وتفاصيلك..؟

* يصعب تحديد ماذا أعطت وماذا أخذت، بعض ذلك أراه وأفهمه وبعضه قد يراه غيري ولا أتنبه له أو لا أفكر فيه، ليس كل ما نأخذه من مجتمع يستحق وضعه في دائرة واحدة هي إما إيجاب أو سلب، فلا شك استفدت الكثير مما لا يتيسر للطالب الدارس هناك، ولا للموظف التابع لمؤسسة هنا، بسبب أن الطالب والموظف المقيم له علاقة ارتباط مالي ونفسي وثقافي وإداري يشعر دائما بأنه مرتبط وآمن ومكفول ومرتاح من مسؤلية نفسه، أما من حصل له خلاف ذلك فإنه يتعرض أحيانا لقسوة حياة أخرى، وظروف مختلفة لم يتخيل أن يواجهها، فلم يخطر ببالي ما حدث لي، ولم يكن من المفكر فيه.

مما منحت أمريكا وأتوقعه من أهم ما لاحظت في نفسي وفي نفوس بعض المثقفين من المهاجرين الذين كتبوا عن هذا الجانب هو أن أمريكا فكرة، أو مشبعة بأهمية الفكرة، وقد وجدت نفسي أكتب مقالات مطولة عن هذا الجانب، ومما منحت أمريكا النزعة الفردية للحكم على المواقف والأفكار، وكلفتتني مشقة محاولة الفهم لكثير مما يجري، ويخيل لي أن مجتمعنا الهادئ جدا ثقافيا يبعث على الراحة وعدم المسؤولية حتى عن فهم شيء مما يحدث، وهذا بسبب الحسم الفكري العام وراحة البال السائدة حيث لا يُستفز الفهم ولا يثار التفيكر وهذا مريح ومدمر في آن.


وقد كان الحسم الفكري للشيوعيين في روسيا واحدا من أسباب انهيار الجهد الفكري والأدبي، فلم يعد المثقف مسؤولا عن فهم شيء، لأن رجال الثورة والطبقة العاملة ’’البروليتاريا’’ حسمت المواقف والأفكار، وهكذا لو توهمنا أن الحكومة أو المشايخ أو رجال الصوفية حسموا كل شيء فسيكون هذا طريق العطالة العقلية والفكرية والفنية عموما.


وقد حدد المنتصرون في الثورة الروسية دور المثقفين في الترويج، وبث محاسن الثورة، وذكر عبقرية الثوار المؤسسين، أو بقرية ماركس ومن تبعه لمن ارتقى للنقاش الفكري!


* لولا 11 سبتمبر.. هل كنت ستقيم أكثر هناك؟


** كنت أفكر قبل أحداث سبتمبر في العودة أو الذهاب لبلد عربي آخر لم أكن حددت ولكني كنت قد عزمت على العودة للعالم العربي بسبب ولديّ، وبسبب أنني مللت، و وجدت أن عليّ إن بقيت هناك أن أختط طريقا آخر في أشياء كثيرة، أهمها الانقطاع عن الثقافة والمجتمع العربي والبعد عن الكتابة العربية، وكان هذا في الأربعين كان مزعجا وكنت كمن يلملم أشلاء ثقافية ونفسية قد بدأ يشك في صلاحيتها للغرب، ويعلم أنها قد لا تستعيد الوئام مع الشرق، كان خليطا متعبا، يعرفه من هاجر بعضه وبقي بعضه، ومن انقسمت مشاعره وعائلته، وكنت في زمن بعيد قرأت مذكرات أحمد سوسة المهندس الزراعي والمؤرخ العراقي الشهير فحزنت لبعض ما حدث له عازما الا يحدث لي بعض ما عاناه، ولما اقتربت من خطواته قررت الهرب، ونشرت قصة ’’كان هذا الدرب نهرا’’ في لحظة ما قبل قرار العودة، وقد قرأها أديب صديق فقال ’’أرواح’’ أي عد بهذا القلب المدمّى، حادث سبتمبر جعلني أكثر قناعة بأن الخروج أحسن، وخرجت بعد الحادثة بنحو ثمانية أشهر، وعدت مرة أخرى للزيارة ومتابعة بعض العمل في 2003 في وقت الاستعداد لحرب العراق، وكانت الحال على العرب والمسلمين صعبة جدا هناك.


* هل وجدت في التاريخ ضالتك..؟


** التاريخ من أخطر ما يتعامل معه الناس من مثقفين وغيرهم، وهو أساس الثقافة في كثير من بلدان العالم، حتى من لم يكن لهم عمق تاريخي حضاري بعيد، ويبقى أن الاهتمام منقسم بين مدرستين في متابعة التاريخ المدرسة التي تقول إنه هو تاريخ أحداث وبين من يرى أنه تاريخ أفكار، ولعل مما أضعف التاريخ وفائدته في حاضرنا العربي والإسلامي هو الفصل بين التاريخين وتصور أن أحدهما تاريخ، وأن الآخر أفكار منفصلة عنه، والانفصال هو غالبا في ذهن السامع والدارس، أما في الواقع فيصعب الفصل بينهما، إذ لا يمكن الفصل بين الإسلام والفتوحات الإسلامية، ولا بين الثورة الفرنسية وأفكار التنوير وعمل الموسوعيين، ولا بين أفكار الشيوعيين والثورة الشيوعية ولا بين فساد القيصر الروسي ونهاية حكمة! إن هناك علاقة وثقى بين التاريخ والفكر، لا يكاد يفصل بينهما شيء، إلا أن بعض الأحداث المادية تنتهي أسرع من الأحداث الفكرية، والأفكار أصعب وأبطأ تكوينا وأبقى أثرا من الأحداث المادية التاريخية، فيسهل تتبع الأحداث على الأرض ويصعب تتبعها في العقول، وأصعب من كليهما تتبعها معا.


* هل نصدق كل ما في تاريخنا.. ولماذا بعض الأحداث التاريخية في حكم المسكوت عنه..؟


** نعم نصدق في المجمل، لأن الماضي كالحاضر إلى حد كبير، إذا حذفت التغييرات الجديدة في الوسائل الحربية والاتصال، فأشكالها وأداؤها مختلف ولكن هناك وسائل تتطور، كأساليب القتال وأساليب الاتصالات، فيحاول المحاربون أن يبدعوا وأن يتغلبوا بطرق جديدة مفاجئة في كل الحروب القديمة، والحروب يبدع فيها الإنسان ويستفز عقله وحيلته أضعاف أحوال السلم.


والخبر التاريخي غالبا لا ينقل منه إلا غريبه، أو المبالغ فيه، فالحياة العادية لا تنقل، ولا يحرص عليها أحد، ولكنها هي الحال الطبيعية للبشر، التاريخ مقبرة عظمى بعضنا يعيش قيها، وبعضنا يسمم بها حاضرنا، وبعضنا يستخدمها بذكاء، وبعضنا يستخدمها بغباء، ولهذا كان يرى العقائدي أن من حقه أن تتحكم عقيدته في التاريخ، ماضيا وحاضرا، وكما في رواية: ’’1984’’ لجورج أورويل، إذ ينشئ المستبد وزارة لتصحيح التاريخ، ويرى بعض المفكرين، أن يستخدم التاريخ لقتل التاريخ؛ كما تقول مدرسة: (لا تفسير للتاريخ ولا فلسفة فيه ولا له) فيقبضون على التاريخ متلبسا بالتناقض وعدم الانسجام، وضياع الغاية، وعدم الفلسفة فيه.


وهناك مؤرخون يرون التاريخ علما مهما في ذاته، يحدث ويقرأ ويعاد، ولا يعبث به المفكرون ولا العقائديون، وهذه من الأماني اللذيذة التي يصعب تحقيقها. أو أن نتخيل مؤرخا متجردا عارضا فقط للماضي. أما السكوت عن بعض التاريخ، فلأن هذه طبيعته وطبيعة التعامل معه، فالمكان والزمان والحاجات مهمة ومتغيرة، إذ العصور المتتالية كزبائن متتالين يدخلون لصيدلية، فلا يعاني أحدهم كل الأمراض في كل الأوقات ليشتري أو ليستخدم كل العلاجات التي يتوقع أن تشفيه، والأمكنة أيضا لها دورها، أنظر لمكانة مالك في شمال إفريقيا، أو علي في العراق وإيران، وابن تيمية في نجد، وكربلاء، أو استعادة أخبار بلال عند فوز أوباما، أو صهيب الرومي عند ذكر الروم، وهكذا يهوّل المتأخرون من حدث وقت الحاجة له، ويمسحون عظيما لأنهم لا يحتاجونه الآن. فالسكوت بحسب الحاجة، وبحسب السياسة وبحسب العقيدة.


* يشعر البعض أننا لا نهتم بالتاريخ كما يجب..كيف ترى أنت ذلك..؟


** هذا صحيح نحن لا نهتم به، لأننا لا نهتم بأشياء مهمة كثيرة، ولأننا فهمناه خطأ، ولهذا فوفق الفهم الخاطئ للتاريخ هو لا يستحق الاهتمام، ولكن متى ما فهمناه وعلاقاته المؤثرة بالأفكار، عرفنا أثره علينا، أما ما دام تسجيلا من وجهة نظر واحدة بلا سجال ولا تعدد في الفهم، فسيبقى منقوصا ولا رغبة فيه.


* دارة الملك عبدالعزيز، هل هي حاضنة التاريخ المحلي..؟


** ليست لدي معرفة جيدة بعمل الدارة تخولني لتقييم دورها.


* حتى متى والتاريخ لا يكتبه إلا.. المنتصر؟


** ما دام المنتصر قادرا على حصار عقول المشاهدين والسامعين وإسكات المغلوبين، وما دام المهزوم مكسوف من نتائج معركته، وهذا الزمن خفف من الهزيمة وفتح نوافذ للرافضين للهزيمة.


* رحلتك مع الكتابة ممتدة لأكثر من عقود.. ما أبرز انكساراتك مع قلمك..؟


** بدأت أنشر المقالات بشكل شبه مستمر منذ نحو عقدين، ولا أدري ماذا تقصد بالانكسارات، فإن كنت تعني تقلب القناعات، وتعدد الاهتمامات، فهذا صحيح، ولأن السن والنضج وتعدد الأحداث الكثيرة لها أثرها على الإنسان، وتلك نعمة أن تتغير رؤية الإنسان وهذا علامة خير، أما الثبات على رؤية وفكرة واحدة وإغلاق الذهن دون سماع الحق فهي كارثة أتمنى ألا تحيق بي.


* هل نحن أمه تقرأ.. أم تسمع أكثر..؟


** لا يمكن مقارنة السماع بالقراءة، فكمية المسموع كانت أغلب، واليوم تغلبت ثقافة الصورة، وهي مرحلة رائعة ومروّعة، فالخداع مستمر فيها أكثر من ثقافة السماع والقراءة، والتوجه الثقافي يكثر نحو الصورة، وكنت في مؤتمر منذ فترة، فقال أحد المتحدثين إن البريد الاليكتروني أصبح قديما، وإن الوسائل الجديدة ـ كنت أتوقعه جديدا ـ فالرسائل والصور السريعة بدأت تنهيه!


أما مستوى القراءة فهو في تحسن، والتلذذ بذم العرب، وأنهم لا يقرأون أمر لا يخلو من مبالغة، ولعل من أسباب ضعف القراءة ضعف التعليم، وانتشار الأمية بين الجامعيين، والفقر وصعوبة تداول الكتاب.


* لا أحد يستطيع تصنيف قلمك.. هل تلك نعمة أم انسلاخ هوية..؟


** يجب أن يتخلى بعض الناس عن هم التصنيف، فلا يهمه من صنفه وأين وضعه، والنعمة أن أستطيع الكتابة كما أو قريبا مما أود كتابته، لأنني لا أستطيع الكتابة كما أحب، أما الهوية فهي ما أصنعه لنفسي ولمن تقنعه فكرتي، فكل خلع للباس توجه نحو آخر؛ من الطريف الخلط بين الملابس والأفكار تذكرت هنا كارلايل في كتابه: ’’الملابس’’.


* حركة النشر.. هل تعاني اعوجاجا في العالم العربي..؟


** حركة النشر في العالم العربي تتجه للتوسع وأرجو أن تكون نحو النضج أيضا، أما عللها فكثيرة، بسبب ضعف المتلقي، وجهل السوق، وتحكم الحكومات، ولا ننسى أن مؤسسات عريقة قامت بادوار رائعة في الماضي، مثل بولاق، ثم المعارف، ثم مركز دراسات الوحدة، وعالم المعرفة في الكويت، و، كمؤسسات حكومية أو وقفية، ثم جاء ناشرون مستقلون كانت لهم أدوار مشكورة.


* عملت لفترة كمستشار لإحدى المكتبات.. كيف تقيم الأفكار التي تنزع إليها مؤسسات النشر عندنا..؟


** مؤسسات النشر الربحية تسعى للربح، فليست أوقافا ولا جمعيات خيرية، ولديها مشكلة كبيرة في أن النصوص التافهة والسريعة والدعائية لها سوق أكبر من النصوص الجيدة، وكانت المعاناة في اتخاذ القرار بين كتاب جيد بل مهم جدا لا سوق له، وبين نص رديء له سوق كبير، وهناك مشكلة أخرى أن المجتمع العربي للأسف يفتقد كثيرا لعملية التثاقف، ونقد الكتب، فليس لدينا مجلة واحدة مهمة وذات أثر في نشر الكتب، تكتب مراجعات وتعريف ونقد للمنشور موثوق بها، والصحافة يصعب جرها للكتاب ولعالمه، لندرة المثقفين بين الصحفيين. أيضا علاقات الجامعات بالنشر فمكتبات الجامعات ومكتبات المدارس لا تكاد تتابع ولا تعرف عن الكتب شيئا، بل وللأسف العاقة كأنها عدائية بين المؤسسات التعليمية وسوق الكتب، والحكومات أحيانا تشتري وتروج الكتب التافهة والأقل قيمة وأهمية بسبب نفوذ الوساطة.


* ما الفرق بين تجربة النشر في الداخل والخارج..؟


** كالفرق بين الصناعات الأخرى عندنا وعندهم، فهي هناك كبيرة وقديمة ومستمرة ومتنوعة، ونحن نقلنا عنهم وبدأنا فنحسن مرة ونسقط أخرى.


* معارض الكتاب عندنا هل تنافس مثيلاتها.. أم تغرق في تفاصيل تعيق نجاحاتها..؟


** معارض الكتب العربية التي تبيع الكتب للناس معارض جيدة وناجحة، وعائداتها كبيرة، لأنه في الخارج كثيرا ما تكون المعارض متخصصة، للناشرين أو للإعلام أو للأطفال، أو للصحة أو للتعليم، ولأن القارئ العام هناك له طرق عديدة جدا للوصول للكتاب الذي يهممه، فالبريد والمكتبات الجامعية والعامة والسوق يوفر لك الكتاب الذي تريد من أي مكان وبدون فرق في السعر غالبا، ولا تكلفة البريد زائدة عن الكتاب الموجود على الرف أمامك، فقط يأخذ نسبة الموزع المعروفة لأي كتاب، أما التفاصيل المعيقة فللأسف أجواؤنا متوترة في كل شيئ، وبالتالي أصبح الكتاب من ضحايا الجو العام.


* الكتب الإسلامية خاصة الموجهة للغرب.. ألا تشعر أن لغتها بالية..؟


** صحيح ولكن الذي يحدث الآن أن اللغات الغربية أصبح فيها مؤلفون قديرون وذوو مستوى عال في أغلب القضايا، فلم تعد لهم حاجة كبيرة للكتب المتوفرة لدينا، لأن الكتب الإسلامية الأولى الأساسية كترجمات القرآن والسنة وكثير من كتب كبار المفكرين المسلمين السابقين والمعاصرين سبق أن ترجمت وتوفرت، والذين قرأوها يكتبون بلغاتهم الآن. التحدي يكمن في نشوء ثقافة إسلامية جديدة في الغرب والشرق تختلف عن ثقافتنا الإسلامية، لها سمات خاصة، فهل نفيد منها، أم نخافها وتخالفنا، هل تعود علينا بتجديد أم تبديد؟ إن ثقافة إسلامية غربية حقيقية قادمة بل بدأ وصولها منذ زمن محمد أسد وتابعه مراد هوفمان، وآخرون من أصول هندية وعربية وأوروبية لهم أتباع وحضور ثقافي مشهود، ويتمتعون بمميزات لا يجدها المثقف المقيم في البلاد العربية.


* هل تشعر أننا نبالغ كثيرا في تناول مجريات حياتنا وقضايانا..؟


** لا أشعر بهذا، بل نسكت عن أكثرها إلحاحا وأهمية، والمشكلة في تقارب مستويات التناول وقلة تنوعه، ولو تنوع لأثرى وطور.


* الطائفية ومشكلاتها.. ألا يستوعبها مشروع إصلاحي إسلامي..؟


** الطائفية سوء استخدام للدين، وهي فساد خلقي وعقلي وسياسي واجتماعي، وهي سلاح استعماري ناجع يفري مجتمعاتنا، أما المشروع الإصلاحي الإسلامي الذي يساعد في استيعاب هذه المشكلة فهو استعادة الإسلام صافيا قبل العبث به من قبل الفرق، ومن قبل المستفيدين من التقسيم، والإسلام قبل تقسيمه سيرفع الأمة ويجدد دينها، ويقلل توتراتها، ويفيد بعضها من بعض. إنه تحرر من أثقال التاريخ، ومن مساوئ الماضي، ولن يمسح أحد ماضيه ولا تاريخه ولكن يعطي للتاريخ حجمه، ويفصله عن الدين، ويوجد قطيعة مع عيوب التاريخ ومشكلاته التي يعتز بها البعض فيعطل الحاضر لصالح التاريخ!


* لماذا أصبحت السلفية في معركة مع كل أحد؟


** بسبب طبيعتها، فالسلفية في القرن الثاني عشر الهجري فكرة وحركة إسلامية داخلية محتجة على الفساد والانحراف الإسلامي الداخلي، فكانت مشكلتها في الأصل مع المسلمين المخالفين والمبتدعين، ثم تشعّبت بحسب الأماكن والأفكار والأزمان والأشخاص، وبمستوى هؤلاء، فمنهم من يعالج قضايا كبرى، ومنهم من ينقّر بالمجهر عن مشكلة في المجتمع تصادم جزئية كبرت في رأسه، ثم أصابتها عدوى من خصومتها مع التصوف والتشيع فدخلت أفكارهم في تكوينها، وبسبب مهم آخر وهو خروجها لمواجهة العالم الذي لم تعرفه ولم تتسلح لمواجهته، فكانت حالة الرفض للاضطهاد العام الذي يعانيه المسلمون في العالم، فهي تحتج على الحالة العامة، فسبب هذا رفضا ومواجهة عمياء، وهي أحيانا ـ أو بعض مدارسها ـ تكفّر المسلمين وتتبرأ منهم فكيف تتوقع أن تسلك مع غيرهم؟ ثم إن غالب فرق السلفية تحمل الاسم القديم لمسمى مختلف وجديد تماما.


* الكتاب الإسلاميون، هل يجيدون الكتابة بالمفردة والرؤية الغربية؟


* الإسلاميون في الغرب نعم هم منسجمون مع همومهم، أما الكتاب هنا فليس مطلوبا من شخص يعيش في البلاد العربية أو آسيا أن يكتب بلغة وثقافة مجتمع آخر، ولو أجاد اللغة وكتب بها، فإنه لا يعيش قضاياهم، فلو كانت هذه المقابلة في مجتمع عربي آخر ـ فضلا عن إسلامي ـ لكانت أسئلة أخرى، فضلا عن أن تكون هموم الغرب والشرق واحدة، ولو كانت همومنا لكانت الرؤية لكثير منها مختلفة، فمثلا عند المسلمين في الغرب مشكلات الاعتراف بهم اجتماعيا وسياسيا، وعندهم مطالب للإجابة على أفكار ليست عندنا، بل داخل الدولة نفسها يصعب أحيانا تنسيق موقف واحد، كمواقف شهدتها من ترشيح شاذ مساند للقضايا العربية، مقابل سوي ولكن حزبه مضاد، أو مجهول التوجه! وهكذا في كل بيئة تحديات خاصة، لا يحلها من يجهل البيئة.


* يخبر البعض انك تختزن في كوامنك مشروعا يرتقي بفكر الأمة.. لكنك تتريث في التبشير به..هل سيطول انتظارنا..؟


** أرجو أن يكون لدي خير أنفع به، وأشكر لمن يحسن الظن بي.


* لماذا تسير الليبرالية بخطوات خجولة في طرقات المجتمع السعودي؟


** أسئلتك كثيرة وكبيرة لمكان محدود، ولكن من الإجابة على هذا، أن الليبرالية المحببة عند فئات في الغرب هي مفهومة عندهم، وإن كانت أحيانا تختلف في المعنى والموقف منها من بلد لآخر، فهي في فرنسا معيبة ويهاجمها المتحررون جدا، وهي غالبا ما تلتصق بجانبها الاقتصادي الحديث وتخدم مسألة خصخصة للخدمات وهيمنة الشركات، وتعني في أمريكا الجانب الأخلاقي والفكري أكثر من الاقتصادي، وليس الجانب الاقتصادي غائبا تماما ولكن له شعارات أخرى، تهتم بجوانب توسيع الحكومة،


أما عندنا، ففهمت الليبرالية بأنها الخلاعة، وما اقترب منها، ولا تعني الحرية للجميع، ولا تعني المعاني الأصلية لفكرة الليبرالية الاقتصادية ولا الفكرية ولا الدينية، فأصبح لدينا منتج خاص بنا لا يشاركنا فيه الغرب ولا الشرق، وسميناه ليبرالية، ولهذا فإن هذا المنتج المعروض مكروه من قبل المتدين والمحافظين ومن قبل دعاة التحرر، بسبب ما علق به واندرج تحته من تصرفات، ومرفوض من قبل المثقف الذي يعرف الفرق بين المسميين، ولهذا فإني أرثي للجدل القائم حول منتج يحمل اسما خادعا وموهما. أما إن استقر المعنى على شيء محدد عندنا يعرفه طرفا القضية وغيرهم فهذا جيد لأنه سوف يتلوه بعد ذلك شرح ونقد للمواقف.


* ألا ترى أن مجتمعنا يتجه نحو الليبرالية بمضمون إسلامي..؟


** هذا موضوع طريف، وهو دلالة على أن المقصود بالسؤال غالبا الجانب السلوكي اللبرالي وليس المضمون الفكري، وقد صدرت في الغرب منذ أكثر من عشرين سنة أبحاث وكتب هامة تتحدث عن هذا المفهوم ، ولكنها تهتم بالجانب الليبرالي السياسي والفكري المقارن بين نوعين المجتمعات ماذا تقبل وماذا ترفض، ويبقى المسمى يختلف هنا عن هناك، فمثلا درسوا جذور الليبرالية الإسلامية أو ما يمكن أن نبعثه حاضرا ثم نسميه ليبرالية.


أما موضوع المجتمع، وأنه يتجه نحو ليبرالية إسلامية، فقد تحدثت في كتاب ’’ملامح المستقبل’’ عن خط وسيط تتجه له الأمور بين طرفين، وما يمكن أن أسميه خطا إسلاميا منفتحا فهذا موجود، ولكنه ضعيف ومنفي من متطرفين على الجهتين، ومن أسباب ضعفه أنه لا يشرح ما هو، ولا كيف يفكر، أو أنه لم يستطع الخروج برؤية واضحة تكشف للناس عن منافعه وبرامجه وبالتالي تكشف عن صوابه وعن أخطائه كما يرى خصومه، مع أن مؤهلات الغلبة له دون غيره.


* كيف نتخلص من الوصاية على المجتمعات والتسلط على خيارات الأفراد؟ ومن يمارسها أكثر اليد الدينية، أم السلطوية؟


** الإنسان والحيوان لديهما نزعة تسلط خالدة، تتهذب بمقدار ارتفاع القدرة الإنسانية والمعرفية والعقلية للشخص، فكل فرد يرى في نفسه وصيا على ما تمتد إليه سلطته، ثم تزيد أو تقوى هذه الوصاية بحسب قدرته وتوفر وسائل التسلط لديه، ولهذا وجدت حكمة تفتيت هذه السلطات، وحرية نقدها، وبالتالي تنظيم العلاقات بينها، فالمشكلة لا تكمن فقط في من يتسلط، ولكن أيضا ما هي الفكرة المتسلطة. إن بقاء الانسياح الذي يمكّن فردا أو مجموعة أو فكرة من السيطرة والاستبداد بالمجتمع، مع بقاء غالبية الناس دون أي وسيلة لإبداء القبول أو الرفض، لعلامة على ضعف العقل ضعف إنسانيته وتواريها خلف المشاعر الحيوانية البدائية. أما الجهات التي ذكرتها فقد تعمل كل منها ويظهر أنها تعمل لنفسها بينما هي في الحقيقة أو في الغاية تعمل لتسلط آخر حينما لا تسمح برؤية أخرى ةلا تحترمها، فالمجتمع المغلق يقطع الطريق على معرفة مصلحته.


* الحديث عن مشاريع النهضة في عالمنا الإسلامي.. هل تسكنه خرافة ما..؟


** الحقيقة إن هنا مفارقة عجيبة، فنحن نزعم أننا تحسنّا كثيرا، واتسعت علومنا ومداركنا، وتعقد بالتوسع والتطور عالمنا، وتجاوزنا دور الأفراد، إلى دور الأمة، بل إلى ما هو أبعد من ذلك، فالحضارة اليوم صناعة عالمية ساهم فيها البابليون والآشوريون والمصريون القدماء اليونانيون والمسلمون والصينيون والهنود والأوربيون والأمريكيون واليابانيون، كل يساهم بشيء، ثم إذا التفتنا إلى طريقة المثقفين العرب، رأيناهم يتجهون لشخص لديه مشروع نهضة، هذا اختزال عجيب للمشروع وتصنيم مبالغ فيه للشخص، فالمسلمون منذ أيام الشافعي، قالوا إن التجديد في الدين بعد الشافعي لا يمكن أن يقوم به شخص، بل جماعة من العلماء أو المصلحين، واليوم نتخيل مشروعا عظيما لكل مجالات الحياة، ثم نكلف به شخصا واحدا تختزل في شخصه المعارف والأدوار، ولو كان في عبقرية الشافعي الشرعية واللغوية والمنهجية لما أمكنه ملاحقة العصر المختلف المتوسع، إنها ثلة من الخرافات تسكن المخيلة العربية، نعم لم يزل ولن يزول دور الفرد، ولكنه لا يحول التاريخ وحده، ويبني على ما قبله، والحلول تحديات واستجابات يساعد في إيجادها الخصم، كما الصديق والفرد الموهوب الجاد والجماعة.


* العلاقات والأنظمة الدولية المعاصرة، الاتصالات والإعلام، قضايا البيئة.. الإنتاج الفقهي الإسلامي لماذا لم يتطور ليعالج إشكالاتها.؟


** واحد من هذه القضايا ينوء به عالمنا كاملا ويجد نفسه عاجزا عن حله، مثل مسألة البيئة، ثم تجد من يتخيل فردا يعالجه، والعالم لم يستطع تفعيل اتفاقيات كيوتو في جانب من مشكلات البيئة فكيف نحمل أصحاب المشاريع حل كل هذا، ولكني اعتبر سؤالك فيما يتوقع من الفرد ويبقى في ذلك أمل وتكليف لا تساعد في انجاز شيء منه البيئة الفكرية، وسيكون من أسباب نجاح الإنتاج الفقهي، إغناؤه وتشجيعه، ورفع اليد الرسمية عنه، ومن هنا سوف يبدع إذا وجد أيضا من يقدره ويوفر له جو الحوار العلمي من خلال منشورات ومجلات مقارنة ولقاءات غير استعراضية وتبقى جودة البحوث وإخلاص الباحثين.


* يُتوجس خيفة عندما يطرح مصطلح مثل ’’العقلانية’’ ’’العقلانيون’’ ’’العقلانية الإسلامية’’؟ هل المصطلحات تشكل أزمة في الفكر الإسلامي؟


** هذا من شنيع ما انتشر في خطاب بعض الإسلاميين، (الخوف من العقل والعقلانية)، فنحن نعلم أن العقل شرط التكليف في الشرع، وفي كل مجتمعات العالم، أن المسؤولية منوطة بالعاقل، فلا يعير بالعقل عاقل، ولكنهم قصدوا بهذا نقد العقل الذي يوضع في مقابل الشرع، وهذا افتراض مزيف فعلى صاحب الشرع العاقل أن يقنع عقول الآخرين بصحة قوله، وعلى صاحب العقل أن يلاحظ المصالح التي يجلبها الدين لبيئة عاقلة وإن لم تكن مؤمنة. ومن قرأ سير من نسميهم عقلانيين من المؤمنين ومن غيرهم فإنك تجدهم أكثر الناس تقديرا لدور الدين في صلاح المجتمع وإن لم يؤمنوا به، وفي نهاية مفكر شهير كزكريا نجيب محمود عبرة من موقفه من مؤتمر الفلسفة العربية في آخر أيامه، وفي مواقف عبد الرحمن بدوي ’’الذي رفع شعار الوجودية، ثم كتب يدافع عن القرآن في آخر أيامه، والمدرسة الإسلامية الغربية الصاعدة الآن، وآخر مثل بعيد لهؤلاء الذين رأوا فائدة الدين أوباما في كتابه: ’’جرأة الأمل’’، كان صريحا في بيان دور الدين في المجتمع، ومن قبل ذلك لا أقول مثقفين بل فلاسفة تحدثوا بوضوح عن فوائد العقل المؤمن، وأول فوائده السلام العقلي، أما من اصطنع أزمة مع العقل فإنه يعود بهدم العقل والدين في مجتمعه.


* الفكر الغربي..هل نملك الأدوات لمنافسته أم نكتفي بتراثنا لمقارعته..؟


* * إن كنّا أصحاب همة للتقدم الفكري والتنموي، فسيكون الفكر الغربي من مكونات العقل الإسلامي القادم، فقد ساهمت البيئة العربية قبل الإسلام، والحضارات المعاصرة له، بخيرها وشرها في بناء العقل المسلم، فالصفاء أمنية صعبة التحقيق، تكاد ألا تكون ممكنة، والتفريق بين الوسائل والأفكار في زماننا بات أصعب، فمستقبل ثقافتنا ـ شئنا أم أبينا ـ لن يكون ذا شأن حتى تكون الثقافة الغربية والفكر المنتشر في العالم من مكونات نهضتنا، نبتلع منها ونتضرر ونتقوى ونستفيد ونصفّي ونبعد، وفي النهاية، المشروع الغالب يتقوى بمفردات ومكاسب الإنسانية الواسعة، وهناك مثل شعبي وهو صالح في لحظتنا يقول: ’’اللقمة التي لا تغصّ بها تقويك’’، وهذا أيضا في الأفكار، فالفكرة التي لا تستعبدك ولا تحرفك عن ذاتك ومرادك تقويك، وتوسع ذهنك.


* مفهومنا للوسطية ألا تشعر أنه يجعلنا بلا ملامح واضحة..؟


** مشكلة فكرة الوسطية، أنها تبحث عن طرفين بجانبها، ولهذا فهي ترقص دائما باحثة عن وسط بين طرفين، فقد تهرب عن الحق بحثا عن الوسط المتخيل، وقد يكون التوسط الضياع، وفقدان اللون والطعم والموقف، ويكون الحق في طرف النزاع، وبعضهم يحمل النصوص أكثر مما تحتمل في فهم: ’’أمة وسطا’’، لأن بعض بحوث المعاصرين ردة فعل عجلة على تهم التطرف.


* المسلم الحاضر يهيم بماضيه.. ويعجز عن التواصل مع مستقبله، ما السبب؟


** لأننا غارقون في التسلي بأمجاد قديمة نحبها، ونكره مواجهة المسؤولية الحاضرة، فلا الماضي أنقذ ولن ينقذ إلا خيال الشعراء ومؤرخي الحضارة، فتذاع قصائدهم وتنتشر كتبهم، والتواصل مع الحاضر مجلبة للخطأ، وللّوم وللتشنيع، ولكن لا مفر منه، لمن أراد أن يفعل خيرا، فالهاربون من عصرهم للماضي يتميزون بالجبن فلا يواجهون احتمال الخطأ والنقد، كما أنهم يتميزون أو يحنون إلى الصفاء الصوفي وعزلة العباد والكسالى.


* ألا ترى أن التفكير في الذات دون الجماعة والأمة عطّل محركات النمو لمجتمعاتنا؟


** الإنسان جماعي وأناني في الوقت نفسه، فالمجاهد في الفتوح له نزعتان حب الشهادة، وهذا موقف قد يفسر بأنه أناني، وحب نصرة الجماعة، وهذا موقف جماعي أو أممي، وقد يدخل في الدوافع أشياء كثيرة مما يعلمها العامة، ومما يهتم بتفصيل البحث فيها الخاصة وعلماء النفس، ولا أرى أن الحق مع علماء النفس وحدهم في تفسير دوافع السلوك، بل الإنسان الفرد يدرك كل أو بعض دوافعه، دون إيغال في التفسير، وهناك ثلاث مدارس في بحث هذه الفكرة تفسر السلوك، وخيرها ما يحترم النظر لمحركات الأفراد والجماعة، فقد تحركنا مكاسب ذاتية أو مكاسب جماعية، ونطالب الإنسان بأن يكون سويا محترما لمجتمعه، فلا تنمو ذاته بسرقة مجتمعه ولا باستعباده لهم ولا لطائفة منهم، فأن تكون عضوا في مجتمع حر نزيه خيرا من أن تكون سيدا في مجتمع فاسد أو مستعبد، فالأول العضوية فيها تكريم والثاني السيادة فيه مهانة.


* هناك من يثبت المتغير وهناك من يغير الثابت.. والأمة بين هؤلاء وأولئك تتأرجح!.. إلى متى هذا التأرجح؟


** سيبقى التأرجح والشك في فهم ذلك وفي من فعله، حتى تتقدم طائفة عالمة وشجاعة، ولو كانت قليلة، فتقلل أو تقضي على الخطأ والوهم من الجانبين، وتعمل على تجديد الدين والحياة، ليس قسرا من الخارج بل رغبة من القلوب والعقول من الداخل.


* الحرية..لماذا نوصد في وجهها الأبواب..؟


** لأن من يحاربها يجهلها ومن جهل شيئا عاداه، فهو معذور بجهله، ولو عرفوا الحرية حق معرفتها لما قدم الإنسان عليها شيئا إلا التوحيد، هذا إن لم تكن هي منه بل لبه؛ وهي في قلب خطاب السلف ورجال التصوف الأول، كالقشيري والجنيد، والفرق بين ما تعلقوا به وبعض الحرية المعاصرة ليس كبيرا، بل فذلكة ذلك وذكاء التقديم للفكرة يقضي على معاداتها.


* التمجيد المفرط لعلمائنا ومفكرينا يخيف البعض من نقدهم أو الاعتراض عليهم خوفاً من خسران الجماهير!


** هذا محزن حقا، فقد وجدتني وأنا أسكت عن الحق خوفا من شعبية مع أو ضد شخص أو فكرة، وهذه علة العلماء والمثقفين في شتى المجتمعات، وليس عندنا فقط، فكثير من كتاب عصر التنوير لم يكونوا يستطيعون الكتابة بأسمائهم الصريحة، فـ’’فولتير’’، اسم قلمي لفرانسوا.. وغيره كثيرون، وإنما نصيبنا في هذا الموضوع زائد، وللسياسة دور غير مباشر في هذا الموضوع، فهي ليست مسألة دينية ولا عقلية فقط، ولدينا أيضا مشكلة الحرص الشديد على التماثل وتطابق الآراء، فهذا يسبب فقرا فكريا وعقليا مرعبا.
رئيس التجمع الإسلامي في أميركا الشمالية
*عن مجلة العصر
أضافة تعليق