الشيخ محمد الحسن الددو
العلماء هم أمناء الله على وحيه، ولم يكن سبحانه ليأتمن المفلسين
حاوره في البحرين: خباب بن مروان الحمد
وهكذا... كان لقائي مع فضيلة الشيخ الحافظ: محمد الحسن الددو الشنقيطي ـ حفظه الله ـ على هامش مؤتمر البحرين لنصرة رسول الله #. وحقاً كان حديث الشيخ وأجوبته ممتعاً، كما قال الشاعر:
في متعة الأقوال بثَّ شجونه فحديثه وكلامه إمتاعُ
ولمن لا يعرف فإنَّ الشيخ: محمد الحسن الددو، يشغل مدير مركز تكوين العلماء في نواكشوط بموريتانيا، وله باع طويل في تعليم العلم ونشره، والله نسأل أن يبارك في جهود الشيخ، ويجعلها مكلَّلة بالنجاح والفلاح والتوفيق... والآن أدع القـارئ لمـتابعة هـذا الحـوار مـع الشـيخ الـددو، حيـث كان أول سؤال لفضيلته:
^: حبا الله شيخنا الكريم باعاً واسعاً في علوم الشريعة؛ فكيف كان طلبكم للعلم؟
< بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
مسـتواي في العـلم ليـس كما ذكـرتم وإنَّـما هـذا مـن حـسـن ظنِّكم، وإنَّما أنا من المتوسطين في طلب العلم، وقد ابتـدأت الطـلب وأنا صغير بالدراسة على والدتي وجدتي، وحفـظت القرآن في الصبا قبل أن أتم الإدراك ببلوغ ثماني سنـين، وقـرأت مبـادئ بـعض العلوم، ثمَّ بعد أن بلغت العاشرة من عمري صحـبت جـدي العلاَّمة الشيخ محمد بن عبد الودود الهـاشـمي ـ رحـمة الله عليه ـ ولازمـتـه حـوالـي إحـدى عشـرة ســنـة، وسمـعـت منــه فيـهـا أكـثــر ما تعلمـته، ودرســت علـيـه بعــض الكـتـب، وحـفظت علـيه وبحضـرته بعض ما حفظت، وكنــت خـلال ذلك أدرس علـى جــدتـي وأمـي وأبي وأخوالي، وبعد وفاة جدي ـ رحـمة الله عليه ـ درست على خالي الشيخ محمد يحيى، والشـيخ محمد فـالـي بعـض العـلوم، وهم أحياء إلى الآن ـ بحمد الله ـ.
^: شيخنا ـ أحسن الله إليكم ـ تُعَدُّ بلادكم شنقيط قلعة شامخة من قلاع تلقي العلم في المغرب العربي؛ فما أبرز الأساليب التعليمية التي تُشتهر بها في نشر العلم وتعليمه؟
< اشتهرت هذه البلاد بحفظ العلوم وتنوع المعارف؛ فهم يدرِّسـون من العـلوم الشـرعيَّة تقريبـاً خمسة وأربـعين علـماً؛ فلا يكون الإنسان عالماً حتى يكون حافظاً للكتب في تلك العلوم، ويكون متقناً لتـدريسـها، وقـبل ذلك قد يكون فقيهاً، أو مدرساً، أو يكون طـالب علـم، ولـكـن لا يكون عالماً، إلاَّ إذا كان محـيطاً بهذه العلوم، مستطيعاً لتدريسها جميعاً، وطريقتهم في ذلك هي البداية من الصبا، وإتقان الحفظ والمذاكرة والمراجعة، وإتقان مهارات التدريس؛ فهي مراحل كلها لهم فيها اجتهادات وآراء، ومقرراتهم تختلف من مَحْضَرَة إلى محضرة، والمحضرة مكان التعليم، كالكتاتيب.
^: لفضيلتكم باع في تأويل الرؤى؛ فما الضوابط الشرعية لتأويلها، وما مدى جواز بناء الأحكام والمواقف ونظم التصورات وَفقها؟
< بالنسبة للرؤى، فهي على خمسة أنواع:
النوع الأول: رؤيـا مـن الله ـ سبحانه وتعـالى ـ وهي الرؤيـة الصالحة التي يراها الرجـل الصالح، أو تُرى له وهي من المبشِّرات التي تسر ولا تغر، وهذا النوع عادة يكون تبشيراً أو إزالة حزن أو إدخال سرور أو نحو ذلك، وهذا النوع هو جزء من ستة وأربعين جزءاً من أجزاء النبوَّة في حق من هو أصدق الناس، وجزء منه أقل من ذلك إلى أن يصل إلى جزء من ثلاثة وسبعين جزءاً من أجزاء النبوَّة في حق أقلِّ الناس صدقاً.
النوع الثاني: اللَّمَّة الملَكيَّة في نوم الإنسان أو يقظته، فيقذف في روعه أمراً وينصحه بشيء، من حيث لا يشعر؛ فهذه مثل الرؤيا السابقة تقريباً.
النوع الثالث: الرؤيا التي هي من النفس؛ فنفس الإنسان ترى ما تهواه، فإذا نام وهو عطشان أو ظمآن أو جائع، رأى الطعام والشراب، وإذا نام وهو يهوى شخصاً معيناً رآه في نومه؛ فهذا نوع من تخيلات النفوس.
النـوع الرابع: الرؤيـا بسبب مرض أو الأخلاط مثل ما يحصل لمن هو مصاب بغلـواء فـي صفراء أو قحـط فـي المعـدة أو زيادة حموضة فيها، فيرى الحرائق ويرى الألوان الصفراء بسبب انطباعه، ومن يرى الأمطار والمياه، وهذه حسب الأمزجة.
النوع الخامس: ما كان من الشيطان وهو المسمَّى بالحلم، وهو ما كان عادة يرجع لثلاث علامات:
الأولى: أنَّه يخالف العقل، كما ثبت فـي صحيح مســلم أن رجــلاً قـال للنـبي #: رأيت كأنَّ رأسي قُطِع فتدحرج فتبعته. فقال: «لا تقصص عليَّ ألاعيب الشـيـطان بـك». فـهذا مخالف للعـقل؛ لأنَّ الرأس إذا قطع لا يتبعه صاحبه.
الثانية: أن يكون مخالفاَ للشرع كمن يـرى أنـه يفعل محرَّماً، أو أنَّه يؤمر به، أو يترك واجباً.
الثالثة: أنَّه لا يضبطه الإنسان ضبطاً كاملاً، بل يستيقظ على جزء منه فقط، فهذه علامة الحلم الذي هو من الشيطان. وعلامة الذي هو من النفس أنَّه تنبثق عنه لـذَّة وشـهوة، فيـجد الإنسان احتلاماً، أو ألماً كذلك، فيستيقظ الإنسان ويجد نفسه يبكي ونحو ذلك، فهذا من النفس غالباً.
فهذه الرؤيا عموماً كلها لا ينبني عليها أي حكم ولا تصوُّر، بل هي إذا كانت صحيحة فهي من المبشرات: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64] وهي تسر ولا تغر، والإنسان لا يدري تفسيرها بذاته، ومع ذلك كثير من الناس يبني عليها أموراً، يظنُّ أنَّها تقتضيها وهي لا تقتضيها أصلاً، حتى لو قُدِّر أنَّها يمكن أن تدل على شيء، فإنَّها لا تكفي بمفردها لأن يُبنى عليها خطط وأعمال، حتَّى للعابرين والذين يدرون معاييرها؛ لأنـهم قـد لا يـدركون معناها تماماً؛ فالـنبي # قال لأبـي بكر ـ رضي الله عنه ـ: «أصبتَ بعضاً وأخطأتَ بعضاً» فدلَّ ذلك على أنَّ المعبِّر قد يصيب في بعض تعبيره وقد يخطئ في بعضها الآخر.
وإذا كان أبو بكر الصديق وهو من هو في صدقه وإيمانه، أصاب بعضاً وأخطأ بعضاً بحضرة النبي #؛ فكيف بنا نحن ومن دونه من المعبِّرين؟ فإذا أصاب أحدنا في أي جزئيَّة فإن هذا يعتبر خيراً كثيراً، إذا قورن بغيره؛ فلذلك لا بدَّ من التريُّث فيها.
وعليه فإنَّ الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم أنَّ رسول الله # قال: «إنَّ الرؤيـا معلقـة على جناحي طـائر؛ فإن فُسِّرت وقعت» فالتفسير المقصود هنا أنَّه لا بدَّ أن يكون من معبِّر للرؤيا، وعلى مقتضى التفسير الصحيح.
^: للعلماء دور بارز في الإصلاح والبناء، ولا بدَّ لذلك أن يكونوا من الربَّانيين؛ فما الملامح الرئيسة للعلماء الربَّانيين من وجهة نظر فضيلتكم؟
< بالنسبة للعلماء هم أمناء الله على هذا الوحي الذين ائتمنهم الله على هذا الدين، الذي هو أشرف ما في الأرض، ولم يكن الله ليأتمن على وحيه المفلسين؛ فأحدنا الآن إذا كان رشيداً، لا يمكن أن يأتمن المفلسين على ما يحبه مثل أمواله، لأنَّه يعلم أنَّهم مفلسون، والله ـ تعالى ـ هو علاَّم الغيوب، وهو يعلم السرَّ وأخفى، فلذلك لا يمكن أن يأتمن على وحيه المفلسين؛ فالذين يؤتمنون على هذا الوحـي هم أمـنـاء الله علـى دينه، ولكن لا بدَّ أن يكونوا مستكملين لحقيقة الائتمان بأن يكونوا عاملين بعلمهم، ويخشون الله ـ تعالى ـ حقَّ خشيته كما قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وإذا كان الإنسان من هذا النوع فعليه مسؤوليات كثيـرة وكبـيرة، مـنها: الصدق بالقول. قـال ـ تعـالـى ـ: {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، ومنها: أن يقوم ويقول بالحـق حيـث كـان لا يخـاف فـي الله لومـة لائم كما قال الله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب: 39].
^: كيف ترون حاجة العالم إلى فهم واقعه؟ وهل قيام العلماء بواجبهم شرط في حصول التغيير؟
< العلماء لا بدَّ أن يدرسوا واقعهم وأن يستشعروا حال أمَّتهم، ويسهروا على مصالحها، وأن يعطوها جزءاً من اهتمامهم؛ فكل قضية شرعية هي مؤكدة من قضيتين؛ فالقضية الكبرى من الوحي، والقضية الصغرى من الواقع الذي يعيشه الناس؛ فالترتيب بينهما يحتاج إلى مهارة وإتقان، ولذلك أحال الله إلى فهم الذين يستنبطونه فقال: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْـخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ولم يقل: لعلموه جميعاً.
وبالنسبة لدور العلماء في التغيير فإنَّه مـا حصـلت نهـضة قـط في هـذه الأمَّـة ولا في غيرها من الأمم إلاَّ بجهد العلماء الربَّانيين الذين يقومون لله بالحق، ويقدِّمون النماذج للناس فيهتدي بهم المصلحون.
^: من يتأمِّل الواقع عقب أحداث 11/9/2001م يلحظ هجمة شرسة ومغرضة على منهج أهل السنة والجماعة في أصقاع المعمورة، بغرض تشويهه وإفقاده كافة المواقع والمكتسبات الواقعية والمعنوية التي يمتلكها. وفي المقابل يرى عملاً دؤوباً لتمكين الصوفية المغالية ذات النهج البعيد عن هموم الأمة، وجعلها التيار المؤثر في واقع الأمة العلمي والدعوي والتعليمي؛ فما قراءة فضيلتكم للواقع في بلاد أفريقيا في هذا الجانب؟
< نحـن لا نعيش في بروج عاجية، بل نعيش فيما يعيشه الناس؛ وما تذكره من الأمور الواقعيَّة لا يختلف فيها بلد عن آخر؛ فالعالَم اليوم يراد له أن يكون قرية واحدة، والمؤامرة على الدين هي هي في كل مكان، وأعداء الإسلام لا يريدون الإسلام الحي المتحرك والفعَّال الذي يدافع عن نصرة دينه، ويتشبَّث بصفائه ونقائه، وإنَّما يبحثون عن الإسلام الوديع الذي يكيَّف بكيفهم، ويقيسونه على مقاسهم وتبعاً لأهوائهم، وهذا ما لا يكون ولا يتحقق أبداً؛ فالإسلام لن يكون ولن يتجدد إلاَّ بما كان به من قبل، كما قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ: إنَّ آخر هذا الأمر لا يصلح إلاَّ بما صلح به أوله، وما سوى ذلك من البدع والمحدثات، تذهب جفاء كغثاء السيل.
^: هل تعد هذه الكلمة أصلاً ملزماً، أم اجتهاداً غير ملزم، فيسع تجاوزه، كما قد يُدّعى؟
< لا، يا أخي! لكنَّ القضيَّة هنا هي قضيَّة الدين؛ فما يتعلَّق بالدين قطعاً فنجتمع عليه جميعاً، ولا يمكن أن يُختلَف في ذلك؛ فالدين أفضله وأكمله هو ما كان على منهج السلف الصالح؛ فقد أحال الله على اعتقادهم فقال: {فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137] وأحال النبي # إلى تقواهم وعملهم فقال: «خـير أمتـي القـرن الذين بُعـثت فيهم، ثم الـذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وأحال # إلى جهادهم وكفاحهم، فقال: «يغزو فئام من الناس، فيقال: هل كان فيكم من رأى محمداً رسول الله؟ فيقولون: نعم! فيُفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من رأى من رأى محـمداً؟ فيقولون: نعم! فيُفتح لهم، ثـمَّ يغــزو فـئام من النـاس فيقـولـون: هل فيكم من رأى، من رأى، من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم! فيُفتح لهم» وهذا يؤكِّد أهميَّة الأخذ بمنهاج السلف الصالح حيث أُكِّدت لهم الخيريَّة.
^: منَّ الله ـ تعالى ـ عليكم ـ أنتم وبعض إخوانكم ـ بالتخرج في (مدرسة يوسف عليه السلام) وتجاوزتم مرحلة كان ظلمكم فيها ظاهراً؛ فما أبرز ما تعلمه فضيلتكم من تلك المرحلة؟
< بالنسبة للسجن فيه كثير من الدروس والعبر، والإنسان فيه يشعر براحـة كبـيرة وسـعادة حين يخلو بالله ولا ينتظر فرجاً إلاَّ من عنده، وحين يخلو بالقرآن وهو ممنوع من الكتب، وممنوع مـن كلام النـاس، فيلجأ إلى كلام الباري جلَّ وعلاً. ومن أهم ذلك: ما يفتح الله به في الاستنباط بالقرآن والتلذذ به واكتشاف بدائعه وعجائبه، وقد ظهر لنا في السـجن كثير من بدائع القرآن التي لو جُمعت لكانت كتاباً، في مختلف الجوانب، منها ما يتعلق بالإعجاز العلمي، ومنها ما يتعلق بالإعجاز العددي، ومنها ما يتعلق بترتيب الآيات، ومنـها مـا يتعـلق بترتيب السور، ومنها ما يتعلق بالمعاني، ومنها ما يتعلق بالإعراب والنحو.
وهناك أمر آخر يتعلمه المسجون وهو أنَّ الوقـت أهـم مـا يـواجـه السـجين؛ فـإذا شغـله لم يكـن لديه أي مشـكلة؛ فإذا وضع برنامجاً لليل وبرنامجاً للنهار، فستبادر غروب الشمس لتكمل برنامجك قبل أن يتم غروب الشمس، وتبادر طلوع الفجر حتى لا يأتيك طلوع الفجر ولم تكن قد أنجزت عملك، فتبقى مشغولاً لا تحس بتعب ولا نصب ولا إعياء؛ فلذلك كان البرنامج المكثف دائماً، من الختم بالصلاة كل ست ليال، والختم بالقراءة كل ثلاثة أيام، والصلاة مائتي ركعة في أربعة وعشرين ساعة، ووِرد الذكر ومراجعة ما يحفظه الإنسان من الحديث في الصباح وما يحفظه من المتون في المساء ونحو ذلك، ومن المنظومات والأشعار في المساء أيضاً. وهذا كله يقضي على الفراغ؛ فلهذا ما كنَّا نحس بتعب ولا نصب، بل يسوؤنا حين يُسمَع الباب يحرَّك؛ لأننا نعلم أن في ذلك قطعاً لبرنامجنا، ولذلك تمضي الشهور دون أن يشعر الإنسان بالفراغ.
وأمر آخر، وهو أن المسلم إذا تذكَّر أنَّ بجنبه كثيراً من السجناء الذين منهم من هو متَّهم بالقتل، ومن هو متهم بالخمور والمخدرات؛ فمن هو متَّهم بنصرة دين الله، فإنَّه من باب أوْلى أحق أن يثبت، ونحـن كانـت تهمـتنا: التـهمة الأولى: أنَّنا لسنا مالكيين ولسنا أشعريين ولسنا جنيديِّين، بل نحن خارجون من هذا الثالوث؛ لأنَّا سلفيُّون، وفي كل وسائل الإعلام كانوا يشيرون لنا بأنَّنا وهابيُّون خارجون من الملَّة، ونحن صدَّقناهم وقلنا لهم: نعم! نحن خارجون مـن المـلَّة التي انحرفت عما جاء به محـمـد #! كما قال شعيب ـ عليه السلام ـ: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 89] ومن التهم كذلك: أنَّنا وراء بناء سبعة آلاف وخمسمائة مسجد! ومن وراء نشر الحجاب بين النساء! وهي تهم لا نتوب منها، ونسـأل الله أن يتحقق مرادنا منها.
^: هل من كلمة أخيرة توجهونها لمجلة البيان؟
< أشكر مجلة البيان وأهلها الذين أعـد نفسـي منهم، وألحظ أن بين كل عدد وآخـر تطـوراً ملحوظاً إيجابياً، وأسـأل الله أن يوفقهم لكل خير، ويبارك فـي جهودهـم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حـين يمـنُّ الله علـى المـرء بالجـلوس إلى هـؤلاء الأعـلام من رجالات الأمَّة، فإنَّه لا محالة سيـشعر بأنَّ وقت اللقاء الذي دام قليلاً من الزمن، مضى كأنَّه نظم خرز انفرط فلم يشعر كم هي مدَّة الوقت الذي تساقطت فيه حبيبات الخرز!
*مجلة البيان
العلماء هم أمناء الله على وحيه، ولم يكن سبحانه ليأتمن المفلسين
حاوره في البحرين: خباب بن مروان الحمد
وهكذا... كان لقائي مع فضيلة الشيخ الحافظ: محمد الحسن الددو الشنقيطي ـ حفظه الله ـ على هامش مؤتمر البحرين لنصرة رسول الله #. وحقاً كان حديث الشيخ وأجوبته ممتعاً، كما قال الشاعر:
في متعة الأقوال بثَّ شجونه فحديثه وكلامه إمتاعُ
ولمن لا يعرف فإنَّ الشيخ: محمد الحسن الددو، يشغل مدير مركز تكوين العلماء في نواكشوط بموريتانيا، وله باع طويل في تعليم العلم ونشره، والله نسأل أن يبارك في جهود الشيخ، ويجعلها مكلَّلة بالنجاح والفلاح والتوفيق... والآن أدع القـارئ لمـتابعة هـذا الحـوار مـع الشـيخ الـددو، حيـث كان أول سؤال لفضيلته:
^: حبا الله شيخنا الكريم باعاً واسعاً في علوم الشريعة؛ فكيف كان طلبكم للعلم؟
< بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
مسـتواي في العـلم ليـس كما ذكـرتم وإنَّـما هـذا مـن حـسـن ظنِّكم، وإنَّما أنا من المتوسطين في طلب العلم، وقد ابتـدأت الطـلب وأنا صغير بالدراسة على والدتي وجدتي، وحفـظت القرآن في الصبا قبل أن أتم الإدراك ببلوغ ثماني سنـين، وقـرأت مبـادئ بـعض العلوم، ثمَّ بعد أن بلغت العاشرة من عمري صحـبت جـدي العلاَّمة الشيخ محمد بن عبد الودود الهـاشـمي ـ رحـمة الله عليه ـ ولازمـتـه حـوالـي إحـدى عشـرة ســنـة، وسمـعـت منــه فيـهـا أكـثــر ما تعلمـته، ودرســت علـيـه بعــض الكـتـب، وحـفظت علـيه وبحضـرته بعض ما حفظت، وكنــت خـلال ذلك أدرس علـى جــدتـي وأمـي وأبي وأخوالي، وبعد وفاة جدي ـ رحـمة الله عليه ـ درست على خالي الشيخ محمد يحيى، والشـيخ محمد فـالـي بعـض العـلوم، وهم أحياء إلى الآن ـ بحمد الله ـ.
^: شيخنا ـ أحسن الله إليكم ـ تُعَدُّ بلادكم شنقيط قلعة شامخة من قلاع تلقي العلم في المغرب العربي؛ فما أبرز الأساليب التعليمية التي تُشتهر بها في نشر العلم وتعليمه؟
< اشتهرت هذه البلاد بحفظ العلوم وتنوع المعارف؛ فهم يدرِّسـون من العـلوم الشـرعيَّة تقريبـاً خمسة وأربـعين علـماً؛ فلا يكون الإنسان عالماً حتى يكون حافظاً للكتب في تلك العلوم، ويكون متقناً لتـدريسـها، وقـبل ذلك قد يكون فقيهاً، أو مدرساً، أو يكون طـالب علـم، ولـكـن لا يكون عالماً، إلاَّ إذا كان محـيطاً بهذه العلوم، مستطيعاً لتدريسها جميعاً، وطريقتهم في ذلك هي البداية من الصبا، وإتقان الحفظ والمذاكرة والمراجعة، وإتقان مهارات التدريس؛ فهي مراحل كلها لهم فيها اجتهادات وآراء، ومقرراتهم تختلف من مَحْضَرَة إلى محضرة، والمحضرة مكان التعليم، كالكتاتيب.
^: لفضيلتكم باع في تأويل الرؤى؛ فما الضوابط الشرعية لتأويلها، وما مدى جواز بناء الأحكام والمواقف ونظم التصورات وَفقها؟
< بالنسبة للرؤى، فهي على خمسة أنواع:
النوع الأول: رؤيـا مـن الله ـ سبحانه وتعـالى ـ وهي الرؤيـة الصالحة التي يراها الرجـل الصالح، أو تُرى له وهي من المبشِّرات التي تسر ولا تغر، وهذا النوع عادة يكون تبشيراً أو إزالة حزن أو إدخال سرور أو نحو ذلك، وهذا النوع هو جزء من ستة وأربعين جزءاً من أجزاء النبوَّة في حق من هو أصدق الناس، وجزء منه أقل من ذلك إلى أن يصل إلى جزء من ثلاثة وسبعين جزءاً من أجزاء النبوَّة في حق أقلِّ الناس صدقاً.
النوع الثاني: اللَّمَّة الملَكيَّة في نوم الإنسان أو يقظته، فيقذف في روعه أمراً وينصحه بشيء، من حيث لا يشعر؛ فهذه مثل الرؤيا السابقة تقريباً.
النوع الثالث: الرؤيا التي هي من النفس؛ فنفس الإنسان ترى ما تهواه، فإذا نام وهو عطشان أو ظمآن أو جائع، رأى الطعام والشراب، وإذا نام وهو يهوى شخصاً معيناً رآه في نومه؛ فهذا نوع من تخيلات النفوس.
النـوع الرابع: الرؤيـا بسبب مرض أو الأخلاط مثل ما يحصل لمن هو مصاب بغلـواء فـي صفراء أو قحـط فـي المعـدة أو زيادة حموضة فيها، فيرى الحرائق ويرى الألوان الصفراء بسبب انطباعه، ومن يرى الأمطار والمياه، وهذه حسب الأمزجة.
النوع الخامس: ما كان من الشيطان وهو المسمَّى بالحلم، وهو ما كان عادة يرجع لثلاث علامات:
الأولى: أنَّه يخالف العقل، كما ثبت فـي صحيح مســلم أن رجــلاً قـال للنـبي #: رأيت كأنَّ رأسي قُطِع فتدحرج فتبعته. فقال: «لا تقصص عليَّ ألاعيب الشـيـطان بـك». فـهذا مخالف للعـقل؛ لأنَّ الرأس إذا قطع لا يتبعه صاحبه.
الثانية: أن يكون مخالفاَ للشرع كمن يـرى أنـه يفعل محرَّماً، أو أنَّه يؤمر به، أو يترك واجباً.
الثالثة: أنَّه لا يضبطه الإنسان ضبطاً كاملاً، بل يستيقظ على جزء منه فقط، فهذه علامة الحلم الذي هو من الشيطان. وعلامة الذي هو من النفس أنَّه تنبثق عنه لـذَّة وشـهوة، فيـجد الإنسان احتلاماً، أو ألماً كذلك، فيستيقظ الإنسان ويجد نفسه يبكي ونحو ذلك، فهذا من النفس غالباً.
فهذه الرؤيا عموماً كلها لا ينبني عليها أي حكم ولا تصوُّر، بل هي إذا كانت صحيحة فهي من المبشرات: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64] وهي تسر ولا تغر، والإنسان لا يدري تفسيرها بذاته، ومع ذلك كثير من الناس يبني عليها أموراً، يظنُّ أنَّها تقتضيها وهي لا تقتضيها أصلاً، حتى لو قُدِّر أنَّها يمكن أن تدل على شيء، فإنَّها لا تكفي بمفردها لأن يُبنى عليها خطط وأعمال، حتَّى للعابرين والذين يدرون معاييرها؛ لأنـهم قـد لا يـدركون معناها تماماً؛ فالـنبي # قال لأبـي بكر ـ رضي الله عنه ـ: «أصبتَ بعضاً وأخطأتَ بعضاً» فدلَّ ذلك على أنَّ المعبِّر قد يصيب في بعض تعبيره وقد يخطئ في بعضها الآخر.
وإذا كان أبو بكر الصديق وهو من هو في صدقه وإيمانه، أصاب بعضاً وأخطأ بعضاً بحضرة النبي #؛ فكيف بنا نحن ومن دونه من المعبِّرين؟ فإذا أصاب أحدنا في أي جزئيَّة فإن هذا يعتبر خيراً كثيراً، إذا قورن بغيره؛ فلذلك لا بدَّ من التريُّث فيها.
وعليه فإنَّ الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم أنَّ رسول الله # قال: «إنَّ الرؤيـا معلقـة على جناحي طـائر؛ فإن فُسِّرت وقعت» فالتفسير المقصود هنا أنَّه لا بدَّ أن يكون من معبِّر للرؤيا، وعلى مقتضى التفسير الصحيح.
^: للعلماء دور بارز في الإصلاح والبناء، ولا بدَّ لذلك أن يكونوا من الربَّانيين؛ فما الملامح الرئيسة للعلماء الربَّانيين من وجهة نظر فضيلتكم؟
< بالنسبة للعلماء هم أمناء الله على هذا الوحي الذين ائتمنهم الله على هذا الدين، الذي هو أشرف ما في الأرض، ولم يكن الله ليأتمن على وحيه المفلسين؛ فأحدنا الآن إذا كان رشيداً، لا يمكن أن يأتمن المفلسين على ما يحبه مثل أمواله، لأنَّه يعلم أنَّهم مفلسون، والله ـ تعالى ـ هو علاَّم الغيوب، وهو يعلم السرَّ وأخفى، فلذلك لا يمكن أن يأتمن على وحيه المفلسين؛ فالذين يؤتمنون على هذا الوحـي هم أمـنـاء الله علـى دينه، ولكن لا بدَّ أن يكونوا مستكملين لحقيقة الائتمان بأن يكونوا عاملين بعلمهم، ويخشون الله ـ تعالى ـ حقَّ خشيته كما قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وإذا كان الإنسان من هذا النوع فعليه مسؤوليات كثيـرة وكبـيرة، مـنها: الصدق بالقول. قـال ـ تعـالـى ـ: {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، ومنها: أن يقوم ويقول بالحـق حيـث كـان لا يخـاف فـي الله لومـة لائم كما قال الله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب: 39].
^: كيف ترون حاجة العالم إلى فهم واقعه؟ وهل قيام العلماء بواجبهم شرط في حصول التغيير؟
< العلماء لا بدَّ أن يدرسوا واقعهم وأن يستشعروا حال أمَّتهم، ويسهروا على مصالحها، وأن يعطوها جزءاً من اهتمامهم؛ فكل قضية شرعية هي مؤكدة من قضيتين؛ فالقضية الكبرى من الوحي، والقضية الصغرى من الواقع الذي يعيشه الناس؛ فالترتيب بينهما يحتاج إلى مهارة وإتقان، ولذلك أحال الله إلى فهم الذين يستنبطونه فقال: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْـخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ولم يقل: لعلموه جميعاً.
وبالنسبة لدور العلماء في التغيير فإنَّه مـا حصـلت نهـضة قـط في هـذه الأمَّـة ولا في غيرها من الأمم إلاَّ بجهد العلماء الربَّانيين الذين يقومون لله بالحق، ويقدِّمون النماذج للناس فيهتدي بهم المصلحون.
^: من يتأمِّل الواقع عقب أحداث 11/9/2001م يلحظ هجمة شرسة ومغرضة على منهج أهل السنة والجماعة في أصقاع المعمورة، بغرض تشويهه وإفقاده كافة المواقع والمكتسبات الواقعية والمعنوية التي يمتلكها. وفي المقابل يرى عملاً دؤوباً لتمكين الصوفية المغالية ذات النهج البعيد عن هموم الأمة، وجعلها التيار المؤثر في واقع الأمة العلمي والدعوي والتعليمي؛ فما قراءة فضيلتكم للواقع في بلاد أفريقيا في هذا الجانب؟
< نحـن لا نعيش في بروج عاجية، بل نعيش فيما يعيشه الناس؛ وما تذكره من الأمور الواقعيَّة لا يختلف فيها بلد عن آخر؛ فالعالَم اليوم يراد له أن يكون قرية واحدة، والمؤامرة على الدين هي هي في كل مكان، وأعداء الإسلام لا يريدون الإسلام الحي المتحرك والفعَّال الذي يدافع عن نصرة دينه، ويتشبَّث بصفائه ونقائه، وإنَّما يبحثون عن الإسلام الوديع الذي يكيَّف بكيفهم، ويقيسونه على مقاسهم وتبعاً لأهوائهم، وهذا ما لا يكون ولا يتحقق أبداً؛ فالإسلام لن يكون ولن يتجدد إلاَّ بما كان به من قبل، كما قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ: إنَّ آخر هذا الأمر لا يصلح إلاَّ بما صلح به أوله، وما سوى ذلك من البدع والمحدثات، تذهب جفاء كغثاء السيل.
^: هل تعد هذه الكلمة أصلاً ملزماً، أم اجتهاداً غير ملزم، فيسع تجاوزه، كما قد يُدّعى؟
< لا، يا أخي! لكنَّ القضيَّة هنا هي قضيَّة الدين؛ فما يتعلَّق بالدين قطعاً فنجتمع عليه جميعاً، ولا يمكن أن يُختلَف في ذلك؛ فالدين أفضله وأكمله هو ما كان على منهج السلف الصالح؛ فقد أحال الله على اعتقادهم فقال: {فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137] وأحال النبي # إلى تقواهم وعملهم فقال: «خـير أمتـي القـرن الذين بُعـثت فيهم، ثم الـذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وأحال # إلى جهادهم وكفاحهم، فقال: «يغزو فئام من الناس، فيقال: هل كان فيكم من رأى محمداً رسول الله؟ فيقولون: نعم! فيُفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من رأى من رأى محـمداً؟ فيقولون: نعم! فيُفتح لهم، ثـمَّ يغــزو فـئام من النـاس فيقـولـون: هل فيكم من رأى، من رأى، من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم! فيُفتح لهم» وهذا يؤكِّد أهميَّة الأخذ بمنهاج السلف الصالح حيث أُكِّدت لهم الخيريَّة.
^: منَّ الله ـ تعالى ـ عليكم ـ أنتم وبعض إخوانكم ـ بالتخرج في (مدرسة يوسف عليه السلام) وتجاوزتم مرحلة كان ظلمكم فيها ظاهراً؛ فما أبرز ما تعلمه فضيلتكم من تلك المرحلة؟
< بالنسبة للسجن فيه كثير من الدروس والعبر، والإنسان فيه يشعر براحـة كبـيرة وسـعادة حين يخلو بالله ولا ينتظر فرجاً إلاَّ من عنده، وحين يخلو بالقرآن وهو ممنوع من الكتب، وممنوع مـن كلام النـاس، فيلجأ إلى كلام الباري جلَّ وعلاً. ومن أهم ذلك: ما يفتح الله به في الاستنباط بالقرآن والتلذذ به واكتشاف بدائعه وعجائبه، وقد ظهر لنا في السـجن كثير من بدائع القرآن التي لو جُمعت لكانت كتاباً، في مختلف الجوانب، منها ما يتعلق بالإعجاز العلمي، ومنها ما يتعلق بالإعجاز العددي، ومنها ما يتعلق بترتيب الآيات، ومنـها مـا يتعـلق بترتيب السور، ومنها ما يتعلق بالمعاني، ومنها ما يتعلق بالإعراب والنحو.
وهناك أمر آخر يتعلمه المسجون وهو أنَّ الوقـت أهـم مـا يـواجـه السـجين؛ فـإذا شغـله لم يكـن لديه أي مشـكلة؛ فإذا وضع برنامجاً لليل وبرنامجاً للنهار، فستبادر غروب الشمس لتكمل برنامجك قبل أن يتم غروب الشمس، وتبادر طلوع الفجر حتى لا يأتيك طلوع الفجر ولم تكن قد أنجزت عملك، فتبقى مشغولاً لا تحس بتعب ولا نصب ولا إعياء؛ فلذلك كان البرنامج المكثف دائماً، من الختم بالصلاة كل ست ليال، والختم بالقراءة كل ثلاثة أيام، والصلاة مائتي ركعة في أربعة وعشرين ساعة، ووِرد الذكر ومراجعة ما يحفظه الإنسان من الحديث في الصباح وما يحفظه من المتون في المساء ونحو ذلك، ومن المنظومات والأشعار في المساء أيضاً. وهذا كله يقضي على الفراغ؛ فلهذا ما كنَّا نحس بتعب ولا نصب، بل يسوؤنا حين يُسمَع الباب يحرَّك؛ لأننا نعلم أن في ذلك قطعاً لبرنامجنا، ولذلك تمضي الشهور دون أن يشعر الإنسان بالفراغ.
وأمر آخر، وهو أن المسلم إذا تذكَّر أنَّ بجنبه كثيراً من السجناء الذين منهم من هو متَّهم بالقتل، ومن هو متهم بالخمور والمخدرات؛ فمن هو متَّهم بنصرة دين الله، فإنَّه من باب أوْلى أحق أن يثبت، ونحـن كانـت تهمـتنا: التـهمة الأولى: أنَّنا لسنا مالكيين ولسنا أشعريين ولسنا جنيديِّين، بل نحن خارجون من هذا الثالوث؛ لأنَّا سلفيُّون، وفي كل وسائل الإعلام كانوا يشيرون لنا بأنَّنا وهابيُّون خارجون من الملَّة، ونحن صدَّقناهم وقلنا لهم: نعم! نحن خارجون مـن المـلَّة التي انحرفت عما جاء به محـمـد #! كما قال شعيب ـ عليه السلام ـ: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 89] ومن التهم كذلك: أنَّنا وراء بناء سبعة آلاف وخمسمائة مسجد! ومن وراء نشر الحجاب بين النساء! وهي تهم لا نتوب منها، ونسـأل الله أن يتحقق مرادنا منها.
^: هل من كلمة أخيرة توجهونها لمجلة البيان؟
< أشكر مجلة البيان وأهلها الذين أعـد نفسـي منهم، وألحظ أن بين كل عدد وآخـر تطـوراً ملحوظاً إيجابياً، وأسـأل الله أن يوفقهم لكل خير، ويبارك فـي جهودهـم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حـين يمـنُّ الله علـى المـرء بالجـلوس إلى هـؤلاء الأعـلام من رجالات الأمَّة، فإنَّه لا محالة سيـشعر بأنَّ وقت اللقاء الذي دام قليلاً من الزمن، مضى كأنَّه نظم خرز انفرط فلم يشعر كم هي مدَّة الوقت الذي تساقطت فيه حبيبات الخرز!
*مجلة البيان