حوار مع الشيخ يحيى اليحيى
الثلاثاء:10/02/2009
حفَّاظ السنَّة النبوية يعودون من جديد
في كل عام وحين يشتد الصيف تبترد القلوب برؤية حفّاظ السنة النبوية، يتوزَّعون بقاع المسجد الحرام والمسجد النبوي، ويتناثرون عند أعمدتها، ويمسكون بدفتي كتاب يجرعون منه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إنها «دورات حفظ السنة في الحرمين»، التي أعادت التذكير بأهمية حفظ السنَّّة النبوية، وبدأنا نرى - ولله الحمد - حفَّاظ الصحيحين، وحفَّاظ السنن، وحفَّاظ المسانيد.
والشيخ يحيى بن عبد العزيز اليحيى، المشرف العام على الدورات من مواليد بريدة عام (1380هـ)، طلب العلم على ثلة من علماء عصره؛ كالشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ عبد الله الدويش وكانت له معهم ملازمة خاصة، وله مشاركات علمية ودعوية مختلفة.
سكن بريدة، وتخلل ذلك إقامة يسيرة في الرياض، ثم انتقل للسكنى في المدينة النبوية، واشتغل بالتدريس في التعليم العام، ثم تفرَّغ بعدها لتحفيظ السنة والتدريس في المسجد النبوي ولإتمام مشاريعه العلمية. كان معه الحوار التالي للاطِّلاع على هذه الدورات وما تقدِّمه للأمة الإسلامية من خير عميم والوقوف عند أهدافها وغاياتها:
* لا شك أنّ هذه الدورات مشروع يبهج كل مؤمن، فهلّا حدثتمونا - حفظكم الله - عن هذا المشروع؟
الحمد لله. المشروع مؤلَّف من دورات سنوية مكثفة لحفظ أصول الأحاديث النبوية، وتقام في بيت الله الحرام في مكة المكرمة، ومسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة النبوية.
وتعتني الدورات بحفظ أصول السنة الحديثية ومعرفة غريبها وبيان مشكلها. وتشتمل الدورات على فروع؛ كل فرع في جزء من كتب السنة؛ ولا يكون دخول فرع جديد حتى يتم تجاوز ما قبله.
والدورات تحت رعاية الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وعملي فيها - بحمد الله - هو الإشراف عليها، مستنداً - بعد عون الله - إلى لفيف من المشايخ وطلبة العلم.
* متى بدأت هذه الدورات؟
يسَّر الله - تعالى - لي القيام ببرنامج شخصي في تحفيظ السنة في بريدة، واستمر هذا البرنامج عدة سنين، وتخرَّج منه ثلة من المشايخ والقضاة وأساتذة الجامعات.
ثم بدا لي مع بعض المشايخ القيام بدورة عالمية مكثفة في مكة المكرمة في حفظ الجمع بين الصحيحين خلال شهرين، ولقيت هذه الدورة في البداية معارضة في الفكرة لصعوبتها، إلا أن الله - تعالى - يسَّر العزم وقدمنا لها بتجربة، ثم قمنا بأول دورة في صيف عام 1422هـ، تعاون فيها مجموعة من المشايخ، وحققت - بحمد الله - نجاحاً باهراً في فكرتها ونتائجها.
واستمرت على ذلك بحمد الله، مع تعديل في مدة الدورة، وتطوير تدريجي في الإدارة وطريقة الاختبارات وغيرها، وجرى فتح فروع أخرى، وها هي الدورة الثامنة تقام الآن بشكل إداري جديد فيما نرجو إن شاء الله تعالى.
* هل تقتصر الدورة على تحفيظ السنة النبوية؟
تقتصر الدورات بحكم طبيعتها على تحفيظ أصول السنة الحديثية، التي نرى أنها من الأولويات العلمية لطلبة العلم ولغير طلبة العلم أيضاً، ومع ذلك فهي تحثُّ طلابَها على العناية بباقي أنواع العلوم الشرعية؛ لسببين:
1 - أن في حفظ السنة علماً كثيراً، لكنه لا يكفي لمطلق الفتوى أو الاستنباط ما لم تعضده معرفة بمعاني القرآن والأصول واللغة والناسخ والمنسوخ، ونحو ذلك من الآلات.
2 - أن الدورات لا تشكل من العام إلا جزءاً من عشرة أجزاء منه؛ مما يدفع إلى استثمار باقي العام في المراجعة والتفقُّه.
* إذن؛ فاقتصار الدورات على تحفيظ السنة هو من باب التخصص؟
تماماً؛ فهو اقتصار عملي لا منهجي، تقتضيه الظروف العلمية وغيرها، فعلاقتها مع باقي الدورات العلمية والدروس علاقة تكاملية تساندية تتمِّم إحداها الأخرى.
والدورة تمثِّل نفسها ببرنامجها، وهي بذلك تتسع لعموم طلاب العلم الراغبين في الانتفاع بها، ولهم أن يكملوا طريقهم في العلم بحسب ما يرونه.
* هلّا ذكرتم لنا - حفظكم الله - أهداف هذه الدورات؟
تهدف الدورات إلى:
1 - تفعيل الاهتمام بكتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والابتعاد عن الأُغلوطات.
2 - قطع شوط مهم من طريق العلم في مدة وجيزة.
3 - تربية طالب العلم على الجِدِّية والحافظة على الوقت.
4 - الإثبات الواقعي أن هذه الأمة أمة نصٍّ ونَقْل وحفظ، ينقله المتأخر عن المتقدم.
* لكن لماذا الاقتصار على حفظ الأحاديث؛ أليس فهمها أَوْلى؟
هذا السؤال يُطرَح أيضاً على من حفظ القرآن؛ فيقال: أليس فهمه أَوْلى؟ والجواب على الأمرين أن يقال:
ليس هناك تعارض؛ فالمعارضة إنما تكون بين المتنازعين على المحلِّ الواحد لا بين الواقعين في المحلّين المختلفين، فالفهم يقابل (العيَّ أو غير الفهم)، والحفظ يقابل (النسيان أو غير الحفظ)، ولا يتقابلان أصلاً.
ثم إن الحفظ سبيل للفهم؛ فإن الحفظ يأتي بالتكرار، والتكرار من أقوى سبل الفهم؛ فهذه واحدة، وأغلب الحفَّاظ إنما يتأتَّى لهم الحفظ بفهم المحفوظ؛ وهذه ثانية، ثم إن فهم المسألة الواحدة يستلزم استحضاراً لما يُحفَظ من أدلة مختلفة في أبواب مختلفة بتفاعلات ذهنية؛ وهذه ثالثة.
صدرك جنة الفردوس فيه ثمار الخلد تجني ما تريدُ
مع أن الذي يقتصر على حفظ الحديث بغير فهم قد حصَّل خيراًً، ولكنه قصَّر.
فالغلط ليس في الحفظ، بل هو ترك الفهم مع تيسُّر أعظم سُبُله، وإن كون الرجل لا يحفظ أو ينتقد من يحفـظ لا يدل على أنه في حيِّز من يفهم.
* لكـن الحاجـة إلى فهـم الـحديث تبقى ضرورية؟
- هذا صحيح، ولكن فهم الحديث فهمان:
الأول: فهم الدلالة المباشرة للحديث؛ بفكِّ تركيبه وإيضاح غريبه، فهذه قاعدة أساس، والدورات تقوم بذلك عن طريق تقريب كتب الغريب، والشروح، واستضافة طلاب العلم. غير أن عامة الأحاديث ظاهرة الدلالة، وإن حديثاً كقوله - صلى الله عليه وسلم - : «المسلم من سلم المسلمــون من لســانه ويــده»؛ لا يحتاج عامة الحفاظ إلى غريب ابن الأثير أو أعلام السنن لفهمه.
الثاني: فهم متعلقات الحديث؛ من مفاهيمه والخلافات المندرجة في أحكامه والكلام على إسناده ورواته وأصول ألفاظه ونحو ذلك، فهذا باب آخر زائد على منهجية الحفظ، وليس من المناسب إقحام حفَّاظ السنة به؛ لأن دراسته تأتي في مرحلة لاحقة.
* ألا يوجد في الأحاديث عمومٌ يحتاج إلى تخصيص، ومطلَقٌ يحتاج إلى تقييد؛ فكيف تُحفَظ بغير شرح؟
إن طالـب العلـم لا يفتي في المسألة إلا وعنـده آلتها مــن جمـع النـصـوص الــواردة فــي البـاب الـواحــد، ونحو ذلك.
ثم إن العموم - عند جماهير الأصوليين - من عوارض الألفاظ، فإذا كان جارياً على كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهو كذلك في القرآن الكــريم؛ فهــل نتــوقف عن قراءته وتدبُّره - بَلْهَ حفظه - للعمــوم الذي فيه؟
ثم إن كلام العلماء بل كلام البشر قاطبة فيه العموم والإطلاق والإجمال؛ لأن العموم من عوارض النطق؛ فهل نتوقف عن معرفته حتى نعرف بيان العموم الذي فيه؟ مآل هذا إلى الدور.
* وهذه العلة موجودة أيضاً في القراءة.
صحيح؛ فالعلة التي يمنعون بها حفظ الحديث جارية على القراءة كما هي جارية على الحفظ، والعلة أيضاً جارية على القرآن والمتون الاصطلاحية وكلام كل عالم كما هي جارية على حفظ الحديث.
وأما الذين يحفظون ويتكلمون بغير علمٍ فهم صنفٌ من خلق الله تقحَّموا ما ليس لهم؛ وهم موجودون فيمن حفظ الحديث كما هم موجودون فيمن حفظ القرآن، وفيمن حفظ المتون العلمية، بل هم موجودون فيمن قرأ وحضر الدروس، وكل واحد من هؤلاء يمثِّل نفسه وقصوره، ولا يمثل البرنامج الذي انتفع به.
ولا يمتنع العاقل عن هذا ولا عن هذا.
* ما المتون المحفوظة في الدورة؟
للدورة خمسة فروع هي بمنزلة مستويات؛ كل مستوى يتبع ما قبله:
الفرع الأول: حفّاظ المتفق عليه: يحفظ فيه الطالب الذي حفظ القرآن: الجمع بين الصحيحين – أي المتفق عليه وهو (4 أجزاء)، وذلك بحفظ عشرين وجهاً يومياً تقريباً.
الفرع الثاني: حفّاظ المفردات: يراجع فيه الطالب محصل المتفق عليه مع ضبط الحاشية الخاصة بلفظ مسلم؛ وذلك بمراجعة أربعين وجهاً يومياً، ثم يحفظ المفردات (جزأين)، بحفظ عشرين وجهاً يومياً.
الفرع الثالث: حفّاظ السنن: يحفظ من حفظ الصحيحين زوائد محصلِ السنن الأربعة ومالك والدارمي (4 أجزاء)، وذلك بحفظ عشرين وجهاً يومياً.
الفرع الرابع: حفّاظ المسانيد: يراجع فيه محصل السنن، وذلك بمراجعة أربعين وجهاً يومياً، ثم يحفظ محصلَ زوائد المسند (جزأين)، وذلك بحفظ عشرين وجهاً يومياً.
الفرع الخامس: استظهار المعاجم والمصنفات والزهديات والأدبيات.
* لماذا هذه الكتب حصراً؟
الكتب التي اعتنت باختصار أحاديث السنة كثيرة، وبعضها مصنَّف بأيدي أئمة جهابذة، ولكن الغالب عليها أنها لم تصنَّف للحفظ؛ فكانت الحاجة إلى جمعٍ للأحاديث يهتم بالصناعة الحفظية قبل اهتمامه بالصناعة الإسنادية أو الفقهية، فكانت هذه الكتب المذكورة.
غير أن النسخة الحالية هي في صورتها الأولية، ولم تخرج للمكتبات بعدُ، وهي قابلة للتنقيح والتعديل ولإبداء الملحوظات العلمية.
* لماذا لم يجرِ اختيار الكتب المتعلقة بأحاديث الأحكام فقط؟
إذا اتفقنا على حفظ كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فالحمد لله، وتأتي المفاضلة بين الأولويات بعدُ.
ولا ينبغي أن نجعل طرق الاجتهاد في حفظ السُّنة – التي أمرت بالائتلاف - طرقاً للاختلاف، ومن أثقل الأشياء أن يتنازع طلاب العلم كما يتنازع تجار البضاعة الواحدة.
فكان المقصد جمع أصول الحديث في الأبواب المختلفة؛ دون الاقتصار على الأحكام الاصطلاحية، والمسلم - فضلاً عن طالب العلم - بحاجة إلى مجموع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبواب الفقه والتفسير والأدب والرقائق والسيرة وغيرها؛ لأن صلاح النفس بمجموع ذلك، كما أن كمال العلم بمجموع ذلك، خاصة أن طلاب العلم لا يقتصرون على طلاب الفقه الاصطلاحي.
حتى الفقه - مثلاً - لا يختص بأحاديث؛ بل يؤخذ من أحاديث المغازي كما يؤخذ من أحاديث التفسير وأحاديث الرقائق... وهكذا التفسير والتوحيد؛ فمواطن الاستدلال تتعدد.
ثم إنه لا يشترط حفظ جميع الحديث النبوي من قِبَل جميع طلبة العلم، بل نقول: إن القدرات تتفاوت كما أن الهمم تتفاوت، وقد يعجز طالب العلم عن حفظ الجميــع لشغــل أو كسل أو ضعف، لكن ما دام حفَّاظ الدورة في نشاط الشباب وفي الهمم العجاب فلماذا نثبِّطهم عن حفظ الحكمة البالغة؟ بل هي من أَنْفس ما بُذِلت فيه الأنفاس.
* لكن ألا ترى أن حفظ عشرين وجهاً في اليوم صعب جداً؟
هناك حاجز وهمي، ولكل طريق مائة عقبة؛ تسعون منها قبل البداية، والأمر كما قال أبو الطيب:
كل ما لم يكن من الصعب في الأن فس؛ سهل فيها إذا هو كانا
وقد أثبتت التجربة إمكانية ذلك لمن وفَّقه الله للحرص، وقد حفظ في الدورات المئات ومنهم من هو دون البلوغ، ومنهم من هو فوق الخمسين! من قضاة وأساتذة في الجامعات وأطباء ومشرفين تربويين وأساتذة فضلاً عن طلاب الجامعات.
وحِفْظُ عشرون وجهاً ممكن مع الحرص والتفرغ والبيئة المشجعة، بل كثير من الحفاظ يزيدون على العشرين وجهاً في اليوم إلى ثلاثين وأربعين، ومنهم من يصل إلى الستين ويزيد؛ مع الضبط التام، وكل هذا رأيناه.
وحديث صدق عنك أفرط حسنه حتى ظننا أنه موضوعُ
* لكن ربما كان هؤلاء أصحاب نبوغ.
أعتقد أن نبوغهم الحقيقي هو في استعانتهم بالله تعالى، وكسرهم حاجز الوهم، وتجاوزهم عقبة التثبيط، وأما قدراتهم فلن أقول: إنها عادية؛ لكن أقول: إنها لا تزيد عن كثير من محبي العلم الذين رهبوا.
وعامة من شارك في الدورة يتوهم أن الأمر صعب وأنه لا يقدر؛ ويخرج من الدورة ولسان حاله يقول:
ومن لم يجرِّب ليس يعرف قدره فجرِّب تجد تصديق ما قد ذكرناهُ
* ماذا عن الكلمة المشهورة: ما حُفظ سريعاً نُسي سريعاً؟
ما حُفظ سريعاً ثم رُوجع سريعاً ثبت سريعاً بإذن الله، فلا غنى للحافظ عن المراجعة؛ بل ينبغي له أن يحفظ محفوظه بالتكرار، وأن يعود عليه مع كرِّ الليل والنهار.
نعم! لن تكفي الدورة للحفظ، كما لا تكفي من يحفظ خارج الدورة خلال سنة وسنتين وخمس، وسواء حفظ الحديث في شهر أو حفظه في قرن؛ لا بد له من المراجعة.
وليس كل ما حُفظ سريعاً نُسي سريعاً؛ والمرء يرى من نفسه تفاوت محفوظاته، ومنها ما حُفظ سريعاً وثبت طويلاً، ومنها ما حُفظ بطيئاً وذهب سريعاً.
ثم إن حفظهم «السريع» كحفظ باقي الناس؛ فإذا كان عامة الحفاظ في أثناء العام يجلسون يحفظون الصفحة فإذا ختموها سمَّعوها؛ فحفاظ الدورة كذلك سواء بسواء، فالزمن الذي بذلوه في حفظ الصفحة متقارب. وليس من الإنصاف أن نستنكر على من حفظ محصل المتفق عليه في شهرين؛ مع أنه يبذل كل يوم بضع عشرة ساعة بمجموع يزيد على 600 ساعة، ولا نستنكر على من حفظ في سَنَة ولو لم يبذل إلا نصف هذا الوقت، مع أن التركيز على نمطية الحفظ يعطي قوة حفظ إضافية؛ مع ما في الدورة من التفرغ الذهني والزمني والبيئة المشجعة.
ثم إن الأمر نسبي؛ فمن حفظ في أسبوع قال له من حفظ في شهر: من حفظ بسرعة نسي بسرعة. ومن حفظ في شهر قال له من حفظ في شهرين: من حفظ بسرعة نسي بسرعة، والذين حفظوا في شهرين يقول لهم من يريد أن يحفظ في سنة وسنتين وعشر وعشرين سنة: من حفظ بسرعة نسي بسرعة!
ثم لو افتُرض في سيِّئ الأحوال أنهم سينسون نصف المحفوظ أو ثلثيه ويبقى الثلث؛ فإن الثلث من ملخص الصحيحين أكثر من بلوغ المرام، والثلث كثير!
فحفظ السنة مكسب علمي كبير جداً، والنظر الشرعي والمنهجي يدعو إلى بذل أضعاف هذا الوقت له.
* هــل الكثيــر مــن محفوظــاتهــم يبقى؟ أعنــي: لو سألناهم عن الأحاديث فهل تبقى في ذاكرتهم؟
أولاً: يبقى لهم الأجر إن شاء الله، وعسى أن تشملهم المغفرة ولو كان فيهم الخطّاء الذي جاء لحاجة، فلو افترض أنه نسي كل ما حفظه في الدورة ولم يبق منه حرف ففي سلوك طريق العلم خير كثير.
وثانياً: إن العلة نفسها جارية على كل الدورات العلمية، بل على كـــل قــراءة، فأنــت لو ســألت عامة الذين يحضرون الدروس العلمية أو يقرؤون الكتب بعد مدة يسيرة؛ لخفيت عليه كثير من المسائل التي تلقاهــا؛ بل تلك التي كتبهـــا في دفتــره؛ ولا يكون هذا مانعاً من حضور الدروس وقراءة الكتب؛ فليس مــن الإنصاف أن تُسقِط أي دورة لأنك سألت أحداً شارك فيها عن حديث أو مسألة فلم يضبط ذلك.
وثالثاً: إن كثيراً مما حفظه يبقى في الذاكرة.
ورابعاً: إن من أتقن حفظه في الدورة فإن أدنى مراجعة تسترجع له محفوظه الغائب؛ حتى لو كانت هذه المراجعة على سبيل القراءة المركَّزة.
فالأمر يعود - بعد توفيق الله - إلى شيئين: الحفظ المتقن أثناء الدورة، والمراجعة المتكررة - ولو قراءةً - بعد الدورة، والنماذج الضابطة من هذه موجودة.
والمقصود معرفة أكبر قدر من السنة ليُعمَل بها، وحفظها ليُتفقَّه بها، للناس عامة؛ بَلْهَ طلبة العلم، ويبقى الأمر في الطريقة متسعاً للاجتهاد، مع بقاء التعاون بين الجميع، فالعلم رحم موصول بين أهله.
* ما أبرز الصعوبات التي تواجه هذه الدورة؟
الدورة نسيج وحدها؛ وهذا يزيد الثقل من جهتين:
1 - من جهة العملية الإدارية؛ فهي لجدَّتها تحتاج إلى أن تصنع لنفسها رؤية إدارية مستقلة؛ وأن تستنبت المدرِّسين والمشرفين من داخلها، مما يبطئ عملية التطوير، خاصة مع قلة جمهورها؛ لأن حفظ السنة بل الاطلاع عليها أصبح - للأسف - مرحلة متقدمة لطلاب العلم؛ مع أنه مطلوب من كل مسلم.
2 - ومن جهة انضمامها إلى الحركة العلمية؛ فهي لجدَّتها تحتاج إلى مزيد تعريف وتطوير، وهذه مسؤولية تقع على منسوبي الدورة، وتقع على رواد التعليم الشرعي بأن يتعرفوا على الدورة وأهميتها في ذاتها وفي دعمها للحركة العلمية، وأن يساهموا في تصحيحها وارتقائها، وأن يحكموا عليها من الرؤية لا من السماع أو النماذج الفردية.
* أخيراً: هل من شروط لراغب المشاركة في الدورة؟ وكيف يمكن التواصل معها؟
يشترط لحفّاظ المتفق عليه: حفظ القرآن الكريم، ويشترط لكل مستوى تالٍ: تجاوزُ المستوى السابق بنجاح في اختبار شفوي وتحريري.
وتتكفل إدارة الدورات بتكاليف السكن قرب المسجد الحرام والمسجد النبوي، مع التغذية وتوفير المادة العلمية والمدرِّسين.
ويمكن التواصل معها عبر موقعها الشبكي (حفاظ الوحيين) أو الاتصال بالرقم المخصص أو بأحد مشرفيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة البيان 252، بتصرف.
الثلاثاء:10/02/2009
حفَّاظ السنَّة النبوية يعودون من جديد
في كل عام وحين يشتد الصيف تبترد القلوب برؤية حفّاظ السنة النبوية، يتوزَّعون بقاع المسجد الحرام والمسجد النبوي، ويتناثرون عند أعمدتها، ويمسكون بدفتي كتاب يجرعون منه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إنها «دورات حفظ السنة في الحرمين»، التي أعادت التذكير بأهمية حفظ السنَّّة النبوية، وبدأنا نرى - ولله الحمد - حفَّاظ الصحيحين، وحفَّاظ السنن، وحفَّاظ المسانيد.
والشيخ يحيى بن عبد العزيز اليحيى، المشرف العام على الدورات من مواليد بريدة عام (1380هـ)، طلب العلم على ثلة من علماء عصره؛ كالشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ عبد الله الدويش وكانت له معهم ملازمة خاصة، وله مشاركات علمية ودعوية مختلفة.
سكن بريدة، وتخلل ذلك إقامة يسيرة في الرياض، ثم انتقل للسكنى في المدينة النبوية، واشتغل بالتدريس في التعليم العام، ثم تفرَّغ بعدها لتحفيظ السنة والتدريس في المسجد النبوي ولإتمام مشاريعه العلمية. كان معه الحوار التالي للاطِّلاع على هذه الدورات وما تقدِّمه للأمة الإسلامية من خير عميم والوقوف عند أهدافها وغاياتها:
* لا شك أنّ هذه الدورات مشروع يبهج كل مؤمن، فهلّا حدثتمونا - حفظكم الله - عن هذا المشروع؟
الحمد لله. المشروع مؤلَّف من دورات سنوية مكثفة لحفظ أصول الأحاديث النبوية، وتقام في بيت الله الحرام في مكة المكرمة، ومسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة النبوية.
وتعتني الدورات بحفظ أصول السنة الحديثية ومعرفة غريبها وبيان مشكلها. وتشتمل الدورات على فروع؛ كل فرع في جزء من كتب السنة؛ ولا يكون دخول فرع جديد حتى يتم تجاوز ما قبله.
والدورات تحت رعاية الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وعملي فيها - بحمد الله - هو الإشراف عليها، مستنداً - بعد عون الله - إلى لفيف من المشايخ وطلبة العلم.
* متى بدأت هذه الدورات؟
يسَّر الله - تعالى - لي القيام ببرنامج شخصي في تحفيظ السنة في بريدة، واستمر هذا البرنامج عدة سنين، وتخرَّج منه ثلة من المشايخ والقضاة وأساتذة الجامعات.
ثم بدا لي مع بعض المشايخ القيام بدورة عالمية مكثفة في مكة المكرمة في حفظ الجمع بين الصحيحين خلال شهرين، ولقيت هذه الدورة في البداية معارضة في الفكرة لصعوبتها، إلا أن الله - تعالى - يسَّر العزم وقدمنا لها بتجربة، ثم قمنا بأول دورة في صيف عام 1422هـ، تعاون فيها مجموعة من المشايخ، وحققت - بحمد الله - نجاحاً باهراً في فكرتها ونتائجها.
واستمرت على ذلك بحمد الله، مع تعديل في مدة الدورة، وتطوير تدريجي في الإدارة وطريقة الاختبارات وغيرها، وجرى فتح فروع أخرى، وها هي الدورة الثامنة تقام الآن بشكل إداري جديد فيما نرجو إن شاء الله تعالى.
* هل تقتصر الدورة على تحفيظ السنة النبوية؟
تقتصر الدورات بحكم طبيعتها على تحفيظ أصول السنة الحديثية، التي نرى أنها من الأولويات العلمية لطلبة العلم ولغير طلبة العلم أيضاً، ومع ذلك فهي تحثُّ طلابَها على العناية بباقي أنواع العلوم الشرعية؛ لسببين:
1 - أن في حفظ السنة علماً كثيراً، لكنه لا يكفي لمطلق الفتوى أو الاستنباط ما لم تعضده معرفة بمعاني القرآن والأصول واللغة والناسخ والمنسوخ، ونحو ذلك من الآلات.
2 - أن الدورات لا تشكل من العام إلا جزءاً من عشرة أجزاء منه؛ مما يدفع إلى استثمار باقي العام في المراجعة والتفقُّه.
* إذن؛ فاقتصار الدورات على تحفيظ السنة هو من باب التخصص؟
تماماً؛ فهو اقتصار عملي لا منهجي، تقتضيه الظروف العلمية وغيرها، فعلاقتها مع باقي الدورات العلمية والدروس علاقة تكاملية تساندية تتمِّم إحداها الأخرى.
والدورة تمثِّل نفسها ببرنامجها، وهي بذلك تتسع لعموم طلاب العلم الراغبين في الانتفاع بها، ولهم أن يكملوا طريقهم في العلم بحسب ما يرونه.
* هلّا ذكرتم لنا - حفظكم الله - أهداف هذه الدورات؟
تهدف الدورات إلى:
1 - تفعيل الاهتمام بكتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والابتعاد عن الأُغلوطات.
2 - قطع شوط مهم من طريق العلم في مدة وجيزة.
3 - تربية طالب العلم على الجِدِّية والحافظة على الوقت.
4 - الإثبات الواقعي أن هذه الأمة أمة نصٍّ ونَقْل وحفظ، ينقله المتأخر عن المتقدم.
* لكن لماذا الاقتصار على حفظ الأحاديث؛ أليس فهمها أَوْلى؟
هذا السؤال يُطرَح أيضاً على من حفظ القرآن؛ فيقال: أليس فهمه أَوْلى؟ والجواب على الأمرين أن يقال:
ليس هناك تعارض؛ فالمعارضة إنما تكون بين المتنازعين على المحلِّ الواحد لا بين الواقعين في المحلّين المختلفين، فالفهم يقابل (العيَّ أو غير الفهم)، والحفظ يقابل (النسيان أو غير الحفظ)، ولا يتقابلان أصلاً.
ثم إن الحفظ سبيل للفهم؛ فإن الحفظ يأتي بالتكرار، والتكرار من أقوى سبل الفهم؛ فهذه واحدة، وأغلب الحفَّاظ إنما يتأتَّى لهم الحفظ بفهم المحفوظ؛ وهذه ثانية، ثم إن فهم المسألة الواحدة يستلزم استحضاراً لما يُحفَظ من أدلة مختلفة في أبواب مختلفة بتفاعلات ذهنية؛ وهذه ثالثة.
صدرك جنة الفردوس فيه ثمار الخلد تجني ما تريدُ
مع أن الذي يقتصر على حفظ الحديث بغير فهم قد حصَّل خيراًً، ولكنه قصَّر.
فالغلط ليس في الحفظ، بل هو ترك الفهم مع تيسُّر أعظم سُبُله، وإن كون الرجل لا يحفظ أو ينتقد من يحفـظ لا يدل على أنه في حيِّز من يفهم.
* لكـن الحاجـة إلى فهـم الـحديث تبقى ضرورية؟
- هذا صحيح، ولكن فهم الحديث فهمان:
الأول: فهم الدلالة المباشرة للحديث؛ بفكِّ تركيبه وإيضاح غريبه، فهذه قاعدة أساس، والدورات تقوم بذلك عن طريق تقريب كتب الغريب، والشروح، واستضافة طلاب العلم. غير أن عامة الأحاديث ظاهرة الدلالة، وإن حديثاً كقوله - صلى الله عليه وسلم - : «المسلم من سلم المسلمــون من لســانه ويــده»؛ لا يحتاج عامة الحفاظ إلى غريب ابن الأثير أو أعلام السنن لفهمه.
الثاني: فهم متعلقات الحديث؛ من مفاهيمه والخلافات المندرجة في أحكامه والكلام على إسناده ورواته وأصول ألفاظه ونحو ذلك، فهذا باب آخر زائد على منهجية الحفظ، وليس من المناسب إقحام حفَّاظ السنة به؛ لأن دراسته تأتي في مرحلة لاحقة.
* ألا يوجد في الأحاديث عمومٌ يحتاج إلى تخصيص، ومطلَقٌ يحتاج إلى تقييد؛ فكيف تُحفَظ بغير شرح؟
إن طالـب العلـم لا يفتي في المسألة إلا وعنـده آلتها مــن جمـع النـصـوص الــواردة فــي البـاب الـواحــد، ونحو ذلك.
ثم إن العموم - عند جماهير الأصوليين - من عوارض الألفاظ، فإذا كان جارياً على كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهو كذلك في القرآن الكــريم؛ فهــل نتــوقف عن قراءته وتدبُّره - بَلْهَ حفظه - للعمــوم الذي فيه؟
ثم إن كلام العلماء بل كلام البشر قاطبة فيه العموم والإطلاق والإجمال؛ لأن العموم من عوارض النطق؛ فهل نتوقف عن معرفته حتى نعرف بيان العموم الذي فيه؟ مآل هذا إلى الدور.
* وهذه العلة موجودة أيضاً في القراءة.
صحيح؛ فالعلة التي يمنعون بها حفظ الحديث جارية على القراءة كما هي جارية على الحفظ، والعلة أيضاً جارية على القرآن والمتون الاصطلاحية وكلام كل عالم كما هي جارية على حفظ الحديث.
وأما الذين يحفظون ويتكلمون بغير علمٍ فهم صنفٌ من خلق الله تقحَّموا ما ليس لهم؛ وهم موجودون فيمن حفظ الحديث كما هم موجودون فيمن حفظ القرآن، وفيمن حفظ المتون العلمية، بل هم موجودون فيمن قرأ وحضر الدروس، وكل واحد من هؤلاء يمثِّل نفسه وقصوره، ولا يمثل البرنامج الذي انتفع به.
ولا يمتنع العاقل عن هذا ولا عن هذا.
* ما المتون المحفوظة في الدورة؟
للدورة خمسة فروع هي بمنزلة مستويات؛ كل مستوى يتبع ما قبله:
الفرع الأول: حفّاظ المتفق عليه: يحفظ فيه الطالب الذي حفظ القرآن: الجمع بين الصحيحين – أي المتفق عليه وهو (4 أجزاء)، وذلك بحفظ عشرين وجهاً يومياً تقريباً.
الفرع الثاني: حفّاظ المفردات: يراجع فيه الطالب محصل المتفق عليه مع ضبط الحاشية الخاصة بلفظ مسلم؛ وذلك بمراجعة أربعين وجهاً يومياً، ثم يحفظ المفردات (جزأين)، بحفظ عشرين وجهاً يومياً.
الفرع الثالث: حفّاظ السنن: يحفظ من حفظ الصحيحين زوائد محصلِ السنن الأربعة ومالك والدارمي (4 أجزاء)، وذلك بحفظ عشرين وجهاً يومياً.
الفرع الرابع: حفّاظ المسانيد: يراجع فيه محصل السنن، وذلك بمراجعة أربعين وجهاً يومياً، ثم يحفظ محصلَ زوائد المسند (جزأين)، وذلك بحفظ عشرين وجهاً يومياً.
الفرع الخامس: استظهار المعاجم والمصنفات والزهديات والأدبيات.
* لماذا هذه الكتب حصراً؟
الكتب التي اعتنت باختصار أحاديث السنة كثيرة، وبعضها مصنَّف بأيدي أئمة جهابذة، ولكن الغالب عليها أنها لم تصنَّف للحفظ؛ فكانت الحاجة إلى جمعٍ للأحاديث يهتم بالصناعة الحفظية قبل اهتمامه بالصناعة الإسنادية أو الفقهية، فكانت هذه الكتب المذكورة.
غير أن النسخة الحالية هي في صورتها الأولية، ولم تخرج للمكتبات بعدُ، وهي قابلة للتنقيح والتعديل ولإبداء الملحوظات العلمية.
* لماذا لم يجرِ اختيار الكتب المتعلقة بأحاديث الأحكام فقط؟
إذا اتفقنا على حفظ كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فالحمد لله، وتأتي المفاضلة بين الأولويات بعدُ.
ولا ينبغي أن نجعل طرق الاجتهاد في حفظ السُّنة – التي أمرت بالائتلاف - طرقاً للاختلاف، ومن أثقل الأشياء أن يتنازع طلاب العلم كما يتنازع تجار البضاعة الواحدة.
فكان المقصد جمع أصول الحديث في الأبواب المختلفة؛ دون الاقتصار على الأحكام الاصطلاحية، والمسلم - فضلاً عن طالب العلم - بحاجة إلى مجموع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبواب الفقه والتفسير والأدب والرقائق والسيرة وغيرها؛ لأن صلاح النفس بمجموع ذلك، كما أن كمال العلم بمجموع ذلك، خاصة أن طلاب العلم لا يقتصرون على طلاب الفقه الاصطلاحي.
حتى الفقه - مثلاً - لا يختص بأحاديث؛ بل يؤخذ من أحاديث المغازي كما يؤخذ من أحاديث التفسير وأحاديث الرقائق... وهكذا التفسير والتوحيد؛ فمواطن الاستدلال تتعدد.
ثم إنه لا يشترط حفظ جميع الحديث النبوي من قِبَل جميع طلبة العلم، بل نقول: إن القدرات تتفاوت كما أن الهمم تتفاوت، وقد يعجز طالب العلم عن حفظ الجميــع لشغــل أو كسل أو ضعف، لكن ما دام حفَّاظ الدورة في نشاط الشباب وفي الهمم العجاب فلماذا نثبِّطهم عن حفظ الحكمة البالغة؟ بل هي من أَنْفس ما بُذِلت فيه الأنفاس.
* لكن ألا ترى أن حفظ عشرين وجهاً في اليوم صعب جداً؟
هناك حاجز وهمي، ولكل طريق مائة عقبة؛ تسعون منها قبل البداية، والأمر كما قال أبو الطيب:
كل ما لم يكن من الصعب في الأن فس؛ سهل فيها إذا هو كانا
وقد أثبتت التجربة إمكانية ذلك لمن وفَّقه الله للحرص، وقد حفظ في الدورات المئات ومنهم من هو دون البلوغ، ومنهم من هو فوق الخمسين! من قضاة وأساتذة في الجامعات وأطباء ومشرفين تربويين وأساتذة فضلاً عن طلاب الجامعات.
وحِفْظُ عشرون وجهاً ممكن مع الحرص والتفرغ والبيئة المشجعة، بل كثير من الحفاظ يزيدون على العشرين وجهاً في اليوم إلى ثلاثين وأربعين، ومنهم من يصل إلى الستين ويزيد؛ مع الضبط التام، وكل هذا رأيناه.
وحديث صدق عنك أفرط حسنه حتى ظننا أنه موضوعُ
* لكن ربما كان هؤلاء أصحاب نبوغ.
أعتقد أن نبوغهم الحقيقي هو في استعانتهم بالله تعالى، وكسرهم حاجز الوهم، وتجاوزهم عقبة التثبيط، وأما قدراتهم فلن أقول: إنها عادية؛ لكن أقول: إنها لا تزيد عن كثير من محبي العلم الذين رهبوا.
وعامة من شارك في الدورة يتوهم أن الأمر صعب وأنه لا يقدر؛ ويخرج من الدورة ولسان حاله يقول:
ومن لم يجرِّب ليس يعرف قدره فجرِّب تجد تصديق ما قد ذكرناهُ
* ماذا عن الكلمة المشهورة: ما حُفظ سريعاً نُسي سريعاً؟
ما حُفظ سريعاً ثم رُوجع سريعاً ثبت سريعاً بإذن الله، فلا غنى للحافظ عن المراجعة؛ بل ينبغي له أن يحفظ محفوظه بالتكرار، وأن يعود عليه مع كرِّ الليل والنهار.
نعم! لن تكفي الدورة للحفظ، كما لا تكفي من يحفظ خارج الدورة خلال سنة وسنتين وخمس، وسواء حفظ الحديث في شهر أو حفظه في قرن؛ لا بد له من المراجعة.
وليس كل ما حُفظ سريعاً نُسي سريعاً؛ والمرء يرى من نفسه تفاوت محفوظاته، ومنها ما حُفظ سريعاً وثبت طويلاً، ومنها ما حُفظ بطيئاً وذهب سريعاً.
ثم إن حفظهم «السريع» كحفظ باقي الناس؛ فإذا كان عامة الحفاظ في أثناء العام يجلسون يحفظون الصفحة فإذا ختموها سمَّعوها؛ فحفاظ الدورة كذلك سواء بسواء، فالزمن الذي بذلوه في حفظ الصفحة متقارب. وليس من الإنصاف أن نستنكر على من حفظ محصل المتفق عليه في شهرين؛ مع أنه يبذل كل يوم بضع عشرة ساعة بمجموع يزيد على 600 ساعة، ولا نستنكر على من حفظ في سَنَة ولو لم يبذل إلا نصف هذا الوقت، مع أن التركيز على نمطية الحفظ يعطي قوة حفظ إضافية؛ مع ما في الدورة من التفرغ الذهني والزمني والبيئة المشجعة.
ثم إن الأمر نسبي؛ فمن حفظ في أسبوع قال له من حفظ في شهر: من حفظ بسرعة نسي بسرعة. ومن حفظ في شهر قال له من حفظ في شهرين: من حفظ بسرعة نسي بسرعة، والذين حفظوا في شهرين يقول لهم من يريد أن يحفظ في سنة وسنتين وعشر وعشرين سنة: من حفظ بسرعة نسي بسرعة!
ثم لو افتُرض في سيِّئ الأحوال أنهم سينسون نصف المحفوظ أو ثلثيه ويبقى الثلث؛ فإن الثلث من ملخص الصحيحين أكثر من بلوغ المرام، والثلث كثير!
فحفظ السنة مكسب علمي كبير جداً، والنظر الشرعي والمنهجي يدعو إلى بذل أضعاف هذا الوقت له.
* هــل الكثيــر مــن محفوظــاتهــم يبقى؟ أعنــي: لو سألناهم عن الأحاديث فهل تبقى في ذاكرتهم؟
أولاً: يبقى لهم الأجر إن شاء الله، وعسى أن تشملهم المغفرة ولو كان فيهم الخطّاء الذي جاء لحاجة، فلو افترض أنه نسي كل ما حفظه في الدورة ولم يبق منه حرف ففي سلوك طريق العلم خير كثير.
وثانياً: إن العلة نفسها جارية على كل الدورات العلمية، بل على كـــل قــراءة، فأنــت لو ســألت عامة الذين يحضرون الدروس العلمية أو يقرؤون الكتب بعد مدة يسيرة؛ لخفيت عليه كثير من المسائل التي تلقاهــا؛ بل تلك التي كتبهـــا في دفتــره؛ ولا يكون هذا مانعاً من حضور الدروس وقراءة الكتب؛ فليس مــن الإنصاف أن تُسقِط أي دورة لأنك سألت أحداً شارك فيها عن حديث أو مسألة فلم يضبط ذلك.
وثالثاً: إن كثيراً مما حفظه يبقى في الذاكرة.
ورابعاً: إن من أتقن حفظه في الدورة فإن أدنى مراجعة تسترجع له محفوظه الغائب؛ حتى لو كانت هذه المراجعة على سبيل القراءة المركَّزة.
فالأمر يعود - بعد توفيق الله - إلى شيئين: الحفظ المتقن أثناء الدورة، والمراجعة المتكررة - ولو قراءةً - بعد الدورة، والنماذج الضابطة من هذه موجودة.
والمقصود معرفة أكبر قدر من السنة ليُعمَل بها، وحفظها ليُتفقَّه بها، للناس عامة؛ بَلْهَ طلبة العلم، ويبقى الأمر في الطريقة متسعاً للاجتهاد، مع بقاء التعاون بين الجميع، فالعلم رحم موصول بين أهله.
* ما أبرز الصعوبات التي تواجه هذه الدورة؟
الدورة نسيج وحدها؛ وهذا يزيد الثقل من جهتين:
1 - من جهة العملية الإدارية؛ فهي لجدَّتها تحتاج إلى أن تصنع لنفسها رؤية إدارية مستقلة؛ وأن تستنبت المدرِّسين والمشرفين من داخلها، مما يبطئ عملية التطوير، خاصة مع قلة جمهورها؛ لأن حفظ السنة بل الاطلاع عليها أصبح - للأسف - مرحلة متقدمة لطلاب العلم؛ مع أنه مطلوب من كل مسلم.
2 - ومن جهة انضمامها إلى الحركة العلمية؛ فهي لجدَّتها تحتاج إلى مزيد تعريف وتطوير، وهذه مسؤولية تقع على منسوبي الدورة، وتقع على رواد التعليم الشرعي بأن يتعرفوا على الدورة وأهميتها في ذاتها وفي دعمها للحركة العلمية، وأن يساهموا في تصحيحها وارتقائها، وأن يحكموا عليها من الرؤية لا من السماع أو النماذج الفردية.
* أخيراً: هل من شروط لراغب المشاركة في الدورة؟ وكيف يمكن التواصل معها؟
يشترط لحفّاظ المتفق عليه: حفظ القرآن الكريم، ويشترط لكل مستوى تالٍ: تجاوزُ المستوى السابق بنجاح في اختبار شفوي وتحريري.
وتتكفل إدارة الدورات بتكاليف السكن قرب المسجد الحرام والمسجد النبوي، مع التغذية وتوفير المادة العلمية والمدرِّسين.
ويمكن التواصل معها عبر موقعها الشبكي (حفاظ الوحيين) أو الاتصال بالرقم المخصص أو بأحد مشرفيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة البيان 252، بتصرف.