فضيلة الأستاذ عبد القادر الغازي: نرحب بكم على صفحات شبكة ضياء، ونشكركم على قبول هذه الدعوة.
- شكرا لكم على هذه المبادرة الطيبة التي تدل على الاهتمام بالبحث العلمي وبالباحثين والأكاديميين.
علمنا أنكم ستشاركون بورقة بحثية في موضوع النوازل الفقهية من الفقه إلى التاريخ: إمكانيات التوظيف وصعوباته. فما هو الهدف من وراء دراسة هذا الموضوع؟ وما أهم معالم الإشكالية؟
- الهدف هو المساهمة في رسم معالم أرضية منهاجية يستطيع من خلالها وفي إطارها المؤرخ التعامل مع النوازل الفقهية ليعبر بها من محطة الفقه إلى محطة التاريخ، ويتطلب هذا العبور والسفر أدوات ووسائل، وآليات ومعدات، كما لا بد أيضا من جوازات مرور، لكن مع كثير من الاحتياطات.
أما السؤال أو الأسئلة التي تمحورت حولها الورقة فيمكن صياغتها كما يلي: ما هي خصائص كتب النوازل، وما مميزاتها؟ ما هي أهم الصعوبات التي تكتنف التعامل مع هذا النوع من المصادر من قبل المؤرخ وتعرقل جهوده في اتجاه استعمالها وتوظيفها؟ كيف واجه الباحثون الذين تعاملوا معها في أبحاثهم مختلف هذه الصعوبات، وما هي الآليات والوسائل والأدوات التي استعملوها في ذلك؟ ما طبيعة الاحتياطات المنهاجية التي ينبغي أن تحاصر بها النوازل في سفرها من الفقه إلى التاريخ، وما هي جوازات المرور التي ينبغي أن يتوفر عليها المؤرخ لضمان سلامة العبور ونجاح الرحلة؟ وبصفة عامة، ما هي معالم وطبيعة الأرضية المنهاجية التي قد تساعد المؤرخ على وضع النوازل في حجمها الوثائقي؟
طيب، ما هي أهم محاور أطروحتكم؟
- في رحلة العبور التي أشرنا إليها، نتوقف في ثلاث محطات رئيسة هي، في نفس الآن، المحاور الثلاث المقسمة لمضامين هذه الورقة:
المحطة الأولى /المحور الأول: الأهمية التاريخية للنوازل الفقهية.
المحطة الثانية /المحور الثاني: الصعوبات المعرقلة لاستعمال النوازل في التاريخ.
المحطة الثالثة /المحور الثالث: نحو منهج لاستعمال النوازل في التاريخ: ملاحظات ومقترحات.
كيف تناولتم الأهمية التاريخية للنوازل الفقهية؟
- حاولت بيانها وفق العناصر والمقومات التالية:
1. النوازل الفقهية أو الأصل الفقهي للنوازل
إننا أمام مصادر لها منطق خاص، وأمام مستندات خاصة تنتمي إلى مجال الفقه. عندما جمعت نصوص النوازل كان ذلك من أجل الفقهاء والمشتغلين بالفقه، ولم توضع أصلا لكي يستعملها المؤرخ، وتنطوي على مجموعة من الخصائص التي يعتبر الوعي بها شرطا أساسيا في التعامل معها.
2. الخصوصيات التاريخية للنوازل: النصوص متناهية والوقائع غير متناهية
برغم طبيعة النوازل القانونية وصبغتها الفقهية، فإن لها أيضا خاصيات أخرى جعلتها تكتسي طابعا واقعيا وأكسبتها أهمية وسلطة تاريخية كبيرة، إذ غالبا ما تتخللها، من حين لآخر، مادة صالحة للاستغلال في استخراج معالم المجتمع. ويمكن أن نتلمس كل هذا من خلال التركيز على خصوصياتها التالية:
- تمثل النوازل الجانب المتطور باستمرار من الفقه.
- تتميز كتب النوازل بتجدد مضمونها.
- اعتمادها على أعراف الناس وتقاليدهم إلى جانب النصوص الشرعية والنصوص الفقهية.
نماذج:
المجموعة النوازلية الأولى: "المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب" لأبي العباس أحمد الونشريسي
المجموعة النوازلية الثانية: "الدرر المكنونة في نوازل مازونة" لأحمد بن يحيى المغيلي.
وهما مجموعتان نوازليتان أجمع المؤرخون –بمختلف توجهاتهم- على فائدتهما المعتبرة في تاريخ المغرب الإسلامي.
3. المؤرخ والنوازل والكتابة التاريخية
إن الوعي بالخصوصيات المذكورة هو الذي جعل المؤرخ ينفتح على المدونات النوازلية، غير أن هذا الوعي لا يكفي وحده باعتبار أن تناولها يضع أمام الباحث أسئلة، ويفرض عليه صعوبات منهاجية في قراءتها وتحليلها. وعلى المؤرخ أن يعمل كل ما هو في جهده لكي يتغلب على هذه الصعوبات إذا ما أراد أن يحترم السياق المحدد للنازلة دون أن يسقط في التعميم، وإذا ما رغب أيضا في سلامة العبور بها من محطتها الأول/ المنطلق، وهي الفقه إلى مبتغاه ومجاله أو التاريخ، وإذا ما يود تطويع نصوصها الفقهية لتصبح نصوصا تاريخية وجعل نصوصها ذو "طبيعة فقهية" تتحول إلى "وثيقة تاريخية".
فضيلة الأستاذ، هل يمكن توضيح بعض الصعوبات المعرقلة لاستعمال النوازل في التاريخ؟
- بالرغم من أهمية النوازل الفقهية وقيمتها وسلطتها التاريخية، فإن توظيفها واستغلالها في البحث التاريخي يطرح أمام الباحث جملة من المشاكل، ويضع أمامه صعوبات منهجية عديدة.
1. البنية اللغوية وإشكال المصطلحات والمفاهيم المستعملة في النوازل
إن المشتغل بالنوازل يجد نفسه وجها لوجه مع فضاء شاسع يعج بمفاهيم واصطلاحات وتراكيب لغوية ذات امتدادات قانونية واجتماعية يختلط فيها المعياري بالواقعي
ولعل من أهم ما يواجه عادة الباحثين في التاريخ الراغبين في استعمال كتب النوازل في الدراسات التاريخية، اضطرارهم إلى ولوج عالم آخر هو عالم الفقه، بمصطلحاته ومفاهيمه وخطابه. وصعوبة التعامل مع هذه المصطلحات لا تكمن فقط في كونها تنتمي إلى عالم الفقه، بل وتخضع أيضا للاختلاف والتطور، مما يزيد من صعوبة فهمها.
2. إشكالية الافتراضي والواقعي في النوازل
- نعني بالواقعي تلك النوازل التي توفرت لنا عنها مجموعة من القرائن تؤكد أن مشكلة ما اعترضت حياة فرد أو جماعة ما، فرفعت إلى المفتي الذي عالجها بما أوتي من المؤهلات العلمية.
- نعني بالافتراضي تلك النوازل التي يصعب التحقق من واقعيتها، أي أنها تنطوي على مجموعة من المؤشرات التي تؤكد على أنها كانت افتراضية، أي عبارة عن أسئلة من ابتكار أشخاص معنيين طرحت على المفتي ليدلي فيها برأيه.
3. النوازل وإشكالية التوطين الزماني والمكاني
· مشكل التأطير الزمني
يطرح هذا المشكل فيغياب أية مؤشرات أو علامات تاريخية في النازلة يمكن أن تؤدي إلى معرفة المفتي وتأطيرها في الزمان.
· مشكل التوطين المكاني
إذا كانت بعض النوازل -وهي قليلة- قد حددت بصورة مباشرة، المكان الذي وقعت به، فإن معظمها لا تشير بتاتا إلى هذا العنصر.
4. الخاص والعام في النوازل الفقهية
حدود البنيوي والظرفي في القضايا التي تتناولها النوازل الفقهية غير واضحة.
بخصوص المحور الثالث في ورقتكم البحثية، ما هو المنهج الذي اقترحتموه لاستعمال النوازل في التاريخ؟
- ضرورة الفصل بين "الخطاب الفقهي" و"الخطاب التاريخي"
- الأمر الأول، وهو ضرورة الانتباه إلى طبيعة كتب النوازل باعتبارها مستندات فقهية قانونية صرفة، وإلى اللغة المستعملة في النوازل باعتبارها لغة قانونية فقهية، ويبدو هنا أن التمكن من اللغة العربية أمر بالغ الأهمية.
- الأمر الثاني، وهو ضرورة الانصهار في العالم الفقهي بكل تعاريجه.
- الأمر الثالث، وهو عدم الغفلة عن مهنته الأصلية.
2. ضرورة الانتباه إلى ما هو واقعي وما هو افتراضي في النوازل
مؤشرات النوازل الواقعية
- ذكر المستفتي أو الفقيه مكان أو زمان النازلة، أو هما معا، أو الأشخاص المتنازعين حول قضية ما.
- ورود في سياق السؤال أو الجواب عبارة صريحة.
- البنية اللغوية للسؤال.
- إلحاق المستفتي سؤاله بمجموعة من الوثائق كالعقود والرسوم يوضح بها قضيته.
- تعدد الإجابات حول مشكلة اجتماعية معينة.
- إدماج المفتي، ضمن جوابه، أمثلة ملموسة مستمدة من محيطه الاجتماعي.
- مراسلة القضاة لكبار الفقهاء يستفتونهم فيما هم بصدده من قضايا.
3. علامات النوازل الافتراضية
- كثيرا ما تأخذ هذه النوازل صورة استشكالات حول جانب من جوانب الفقه، أو حول بعض المفاهيم المستعملة من قبل كبار الفقهاء الأوائل.
- كثيرا ما تقدم النازلة وهي محملة ومطعمة بمجموعة من المقولات والآراء والافتراضات الفقهية.
- كثيرا ما تكثر فيها المنازعات والمطارحات الفقهية بين طلاب العلم، وعادة ما يبدي فيها المستفتي معرفة كبيرة بالمذاهب الأخرى، والإحالات على فتاوى معروفة وقع الخلاف بشأنها بين الفقهاء.
4. ضرورة وضع النوازل في إطارها الزماني والمكاني
· عناصر التأطير الزماني للنازلة
يتعرف المؤرخ على زمان النازلة الفقهية عن طريق عدة عناصر:
- أن يأتي ضمن النازلة إشارة إلى سنة وقوعها، وتاريخ مصادقة القاضي أو المفتي على تحرير حكمه.
- بعض النوازل تذكر –عرضا- أنها وقعت إبان حادثة ما يمكن تحقيقها بالرجوع إلى المصادر الإخبارية.
- يمكن تحديد زمن النوازل تبعا لزمن المفتي.
- تعتبر الاستشهادات من أمهات الفقه المالكي وبالمفتين المشهورين مؤشرات تقرب من زمن النازلة.
· عناصر التوطين المكاني للنوازل
من أهم الأدوات التي قد تساعد على تحديد الإطار الجغرافي للنوازل:
- بعض النوازل تحدد، بصورة مباشرة، المكان الذي وقعت به.
- الاعتماد على الانتماء الجغرافي للمفتي.
5. ضرورة الميز بين الخاص والعام في النوازل
لا يمكن التعامل مع كتب النوازل وتوظيفها في التاريخ على أساس أنها تتضمن أخبارا، ولا يمكن تفسير قضاياها ومشاكلها انطلاقا مما ورد في المصادر الإخبارية، وكأن هناك تطابقا بين ما أخبرنا به المؤرخون وما أفتى فيه الفقهاء، وهو أمر لا يحصل إلا ناذرا.
6. كما أن ثمة إجراءات منهجية أخرى نذكر منها:
· تكامل المصادر
إن إمكانية استعمال المصادر النوازلية في التاريخ وضرورتها أيضا لا تعني أنه ينبغي للمؤرخ أن يذوب فيها، بل ينبغي له أن يتحاشى ذلك، ويعمل على تنويع مصادره، ويبحث عما يسند مادته، ويسد تغراتها، ويمكنه من تأمين فهم قضايا النوازل التي يتداخل فيها القانون والفقه مع التاريخ. وفي هذا الإطار لابد له أن ينفتح ويتعامل مع مصادر تنتمي إلى حقول معرفية مختلفة وتتكامل مع مصادره النوازلية، وفي مقدمتها المصادر الإخبارية، والجغرافية، والرحلات، وكتب التراجم...
· الانفتاح على علوم أخرى
يفرض التعامل مع المصنفات النوازلية وضرورة تكاملها مع مصنفات أخرى على المؤرخ الانفتاح على علوم تنتمي إلى حقول معرفية أخرى، وبالتالي القيام بقراءات في اللغة العربية وعلومها، وفي مجال الفقه الإسلامي، وعلوم القانون، والجغرافية، والرحلات...، وذلك بهدف تأمين اعتماده على النوازل الفقهية.
الأستاذ الكريم: في ختام هذا الحوار، هل لكم أن تقدموا بعض الخلاصات التي انتهى إليها بحثكم في الموضوع؟
- ينبغي التأكيد على أنه حتى بعد القيام باتخاذ مختلف هذه الإجراءات، وتهيئ هذه الأرضية المنهاجية، فإنه من الصعوبة بمكان القول بأن هذه المادة أصبحت صافية للاستعمال، بل الملاحظ أن نصوص النوازل والفتاوى المرفقة بها تستمر في طرح مشاكل منهجية لأنها إجراءات منهجية ذات بعد فردي، ربما حملنا فيه المؤرخ مسؤوليات هي ليست بالضرورة من اختصاصاته ولا من مهماته ومهنته. ولا يمكن أن نوفر مختلف هذه الإجراءات إلا في إطار جماعي. إن مستقبل البحث التاريخي رهين بالعمل الجماعي في إطار مختبرات متعددة الاختصاصات.
^شبكة الضياء