حوار مع المفكر العراقي الدكتور حسن مجيد العبيدي
نورالدين علوشقسم : حوارات ومقابلات 28-08-2014
حوار مع المفكر العراقي الدكتور حسن مجيد العبيدي
نورالدين علوش: بداية من هو الدكتور حسن مجيد العبيدي؟
د. حسن مجيد العبيدي:أنا أحد أساتذة الفلسفة في العراق، منذ عام 1987، تحصل على شهادة الماجستير في الفلسفة عام 1985، عن رسالته نظرية المكان في فلسفة ابن سينا، وقد طبعت بأكثر من طبعة عراقية وعربية، ونال الدكتوراه في الفلسفة عام 1993 عن أطروحته المادة والصورة والعدم في فلسفة ابن رشد، وقد طبعت هي الأخرى بعدة عناوين في دور نشر عربية، منها دار الطليعة تحت عنوان العلوم الطبيعية في فلسفة ابن رشد 1995، والمادة والصورة والعدم في فلسفة ابن رشد، دار نينوى، دمشق 2007، وما بعدها تمّ إنجاز عدة مشاريع فلسفية تحقيقية وترجمة، منها تحقيق كتاب ابن سينا، التعليقات، صدر أول مرة عن بيت الحكمة ببغداد عام 2002، وتلته عدة طبعات في دمشق، ومنها تحقيق كتاب الوجود والماهية للفيلسوف الإسلامي المحدث محمد مهدي النراقي (ت1798م)، ومنها تحقيق الأعمال الكاملة للفيلسوف العراقي المعاصر ياسين خليل (ت1986) وصدر منها خمسة أجزاء، الأجزاء الأربعة الأولى في التراث العلمي العربي، والخامس تحت عنوان الفيلسوف والتفلسف، عن المركز العلمي، العراق، عام 2011، كما صدرت لي عدة دراسات فلسفية، منها كتاب من الآخر إلى الذات، عن دار الطليعة، بيروت 2008، وكتاب جغرافية التفلسف، بيروت 2011، وكتاب آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي، قراءة من منظور مختلف، عام 2011، وهذا الأخير صدر عن المركز العلمي العراقي، بغداد، وقمت بالترجمة والتعليق على كتاب ابن رشد، تلخيص السياسة، صدرت طبعته الأولى1998 عن دار الطليعة بيروت، بمناسبة المئوية الثامنة لابن رشد، وقد نفدت وأعيد طباعتها بعد إصلاح بعض الهنات عام 2002، وأعيد طباعتها بأكثر من طبعة مع إضافات عن دور نشر دمشقية. ولي مشاريع بحثية كثيرة ومشاركات في مؤتمرات عراقية وعربية ودولية، والآن أنا متفرغ لإنجاز مشاريع بحثية منها في الفلسفتين اليونانية والإسلامية والفكر السياسي الإسلامي، وقد أنجزت تحقيق كتاب الفارابي آراء أهل المدينة الفاضلة مع دراسة موسعة جداً عن الكتاب وعن الفارابي العبري اللاتيني، وهو ينتظر النشر.
أعمل في قسم الفلسفة، كلية الآداب، الجامعة المستنصرية أستاذاً منذ عام 2000م، وكنت قبلها متفرغاً للتدريس أستاذاً للفلسفة ورئيساً لقسمها في جامعة الكوفة. ولمن يريد الاطلاع التفصيلي على سيرتي العلمية فليراجع صفحتي على الفيس.
نورالدين علوش: هناك اهتمام كبير بالفلسفة الإسلامية في العراق، فما هي الأسباب والدواعي؟
د. حسن مجيد العبيدي:إنّ هذا الاهتمام بالفلسفة الإسلامية في العراق يعود إلى بداية تأسيس قسم الفلسفة فيه عام 1949م، وقد قام تأسيسه على يد متفلسف لبناني مهتم بالفلسفة الإسلامية، وكتب فيها أطاريح وتحقيقات معروفة، ألا هو المرحوم ألبير نصري نادر، ومن بعده قَدِمَ مجموعة من أساتذة الفلسفة العرب الكبار وعلى رأسهم المرحوم علي سامي النشار، فأرسى هؤلاء الاهتمام بالفلسفة الإسلامية ومناهجها ونصوصها، وما أن ذهبت أول بعثة عراقية لدراسة الفلسفة في إنكلترا وألمانيا وأمريكا، حتى كان توجههم من قبل أساتذتهم لدراسة الفلسفة الإسلامية وتحقيق نصوصها، ومنهم المرحوم جعفر آل ياسين الذي حقق ودرس كتاب الطبيعة من شفاء ابن سينا فضلاً عن تحقيقه لنصوص الفارابي الفلسفية والمنطقية، والمرحوم مدني صالح الذي كتب عن ابن طفيل وفلسفته، والمرحوم حسام الآلوسي الذي كتب عن مشكلة الخلق في الفكر الإسلامي وحقق نصوصاً للعلامة الحلي، والمرحوم عرفان عبد الحميد فتاح الذي كتب عن أثر المعتزلة في التشيع واشتغل في التصوف الإسلامي، والمرحوم كامل مصطفى الشيبي الذي كتب عن التصوف والتشيع وحقق نصوص الحلاج وأبو بكر الشبلي والسهروردي من كبار المتصوفة المسلمين، وناجي التكريتي الذي كتب عن يحيى بن عدي، وحقق كتابه تهذيب الأخلاق، وكتب في الفلسفة الأخلاقية الإسلامية، وعبد الأمير الأعسم الذي كتب عن ابن الراوندي وحقق نصوصه ونصوص المصطلح الفلسفي الإسلامي وبعض رسائل الفارابي الفلسفية، والمرحوم محسن مهدي الذي اهتم بفلسفة ابن خلدون التاريخية، وحقق نصوص الفارابي الفلسفية، وهي كثيرة ومعروفة لدى الباحثين، فهذا الجيل انعكس عمله فيما بعد في الاهتمام بالمنجز الفلسفي الإسلامي بخاصة في العصر الوسيط تدريساً وتحقيقاً وتوجيهاً لطلبتهم فيما عد للكتابة عنه، حتى إنّ هذا الجيل الأول وما تلاه من جيل ثانٍ وثالث من المشتغلين بالفلسفة في العراق استمر على النهج ذاته في دراسة الفلاسفة المسلمين ومناهجهم وتحقيق كتبهم، وها أنذا أمامك اشتغلت في هذا المجال تأليفاً وتحقيقاً وترجمة ودراسات وتدريساً وإشرافاً على طلبة الدراسات العليا في المجال والتخصص ذاته، وهناك غيري كثير ممّا لا يسع المجال لذكرهم هنا.
أمّا الأسباب والدواعي فتكمن في أنّ حظ الفلسفة في العراق ذو تاريخ مديد يمتد إلى ما قبل اليونان، إلى أيام الملاحم وأساطير الخلق السومرية والبابلية والأكدية وإلى قوانين حمورابي وغير ذلك، وهذا ما أثبته في كتابي جغرافية التفلسف، بنصوص وأدلة استحضرت فيها شتى العلوم المعاصرة، وحتى نصوص الفلاسفة أنفسهم وعلى رأسهم الفارابي وابن رشد، في إثبات أنّ أصل التفلسف عراقي صميمي كوني، وليس يونانياً محلياً، فالبيئة العراقية بيئة فلسفية بامتياز، ظهرت منها كل الفرق والعقائد والمذاهب الكلامية والفقهية والمدارس الصوفية والفلسفات التي نحن بصدد دراستها والتعليق عليها حتى يومنا هذا، والى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولو أتيح لك أن تعيش في العراق لعرفت هذا السبب الذي جعل الفلسفة في العراق مديدة وعميقة ومتميزة بأطروحاتها الوسطية العقلانية المنفتحة ذات الطابع الكوني الكوسموبولوتي بمفهومه المتجاوز على المدينة الفلسفية اليونانية. وليس بالمفهوم الغنوصي العرفاني المشرقي الذي صرّح به محمد عابد الجابري، وناصره من ناصره عن عدم دراية بأصل التفلسف وطرائقه المعرفية والميتافيزيقية في العراق.
نورالدين علوش: ما موقع الفارابي في المشهد الفلسفي العراقي بصفة خاصة وفي المشهد الفلسفي العربي بصفة عامة؟
د. حسن مجيد العبيدي:إن كنت تقصد موقع الفارابي في الدراسات الفلسفية العراقية المعاصرة، فجوابه أنّ الفارابي يحتل مكانة مميزة فيها، من حيث تحقيق النصوص الفارابية أو إقامة الدراسات الفلسفية حوله أو عقد المؤتمرات الدولية عن فكره وفلسفته، إذ أقيم عنه أول مؤتمر دولي في بغداد عام 1975، وحضره عدد من كبار فلاسفة ومفكري العالم غرباً وشرقاً ومنهم باحثون عرب كبار، وكان محمد عابد الجابري من ضمنهم، وقد طرح موضوعه في حينه عن الفلسفة المشرقية والفلسفة المغربية وتأويلاته المتعسفة في فلسفة الفارابي، وقد طبعت أعمال هذا المؤتمر فيما بعد في كتاب وصدر على هامشه كتابان: الأول عن مؤلفات الفارابي في العالم، والثاني حول ببلوغرافيا الدراسات عن الفارابي، وصدر عدد خاص من مجلة المورد التراثية البغدادية الشهيرة ضمّ أبحاثاً مميزة عنه، وصدر في ضوء هذا المؤتمر قرار بجمع مخطوطات الفارابي في العالم ونقلها أو صورها إلى العراق، وهو ما قام به المرحوم جعفر آل ياسين وحسين علي محفوظ، ومن جراء ذلك حققت بعض رسائل الفارابي من قبل جعفر آل ياسين ومحسن مهدي وعبد الأمير الأعسم، كما كتبت رسائل جامعية وأطاريح ودراسات عراقية عن فلسفة الفارابي، حتى لم تترك شاردة أو واردة فيه إلا وحللتها. وكان آخرها كتابنا عن الفارابي من منظور مختلف الذي على ضوئه عملت تلميذتنا هديل سعدي أطروحتها عن الفارابي في الدراسات العراقية المعاصرة، حتى عُدّ المنجز العراقي عن الفارابي يوازي المنجز العربي والاستشراقي عنه. وإن أردت أن أكلمك عن موقع الفارابي في المشهد الفلسفي العربي فهذا موضوع يطول شرحه، وإن كان للمرحوم إبراهيم مدكور دور الريادة في الكشف عن أهمية الفارابي في العالم العربي، من خلال أطروحته عن فلسفة الفارابي المنطقية، إذ فتح مدكور الطريق للباحثين العرب من بعده لإتمام هذه المهمة ببيان مكانة الفارابي في الدراسات الفلسفية الإسلامية، ومن جراء هذا الاهتمام توالت الدراسات الفلسفية عن هذا الفيلسوف، والطاغي عليها آراؤه في الميتافيزيقا ونظرية الفيض والمدينة الفاضلة دون الجوانب الأخرى من فلسفته مثل المنطق ونظرية المعرفة والأخلاق والفلسفة الطبيعية، وإن كان هناك من نبّه أخيراً لفلسفته الطبيعية ودرسها من الباحثات المصريات المرموقات وهي الدكتورة زينب عفيفي. ولكن يبقى الفارابي بنظرنا منجماً ما يزال يزوّد الباحثين بالطاقة المعرفية والفلسفية الرصينة، وقد تتبعت من جانبي دور هذا الفيلسوف في الفلسفة الإسلامية بعده حتى الوقت الراهن، وكذلك أثره في الفلسفتين اليهودية والمسيحية في العصر الوسيط، بنصوص ووثائق تظهر أنّ هذا الفيلسوف لعب دوراً مميزاً لا يقل عن دور ابن سينا أو ابن طفيل أو ابن رشد في هاتين الفلسفتين الوسيطتين. ولربما هناك من يشمّر عن ساعد الجد في إتمام مشروعي هذا عن الفارابي.
نورالدين علوش: طرحتم منظوراً مختلفاً لكتابه العمدة آراء أهل المدينة الفاضلة، فما هي أسس تلك المقاربة؟
د. حسن مجيد العبيدي:كان هدفي من قراءة الفارابي من منظور مختلف هو بيان أنّ الفارابي لم يكن همّه الفلسفي متوجهاً لإظهار موقفه الميتافيزيقي من الوجود والكون وعلاقة الله بالعالم والإنسان وتسلسل الموجودات، بقدر ما كانت قراءتي تهدف إلى أنّ مشروع الفارابي هو مشروع سياسي بامتياز، إصلاحي يهدف لإصلاح وضع السياسة من خلال الفلسفة، تلك السياسة الممارسة على أرض الواقع في عصره وأوانه، تلك السياسة التي يراها قد ابتعدت عن الهدف العام لها في تحقيق العدالة والسعادة سواء في منظورها النبوي الديني أو الفلسفي المثالي، ولهذا قلت في كتابي هذا إنّ الفارابي يجب أن يُقرأ على أنّه فيلسوف سياسة، وظف الميتافيزيقا والمنطق لصالحها، ودخل منها مدخلاً لغاية هي المدينة الفاضلة التي يرأسها فيلسوف ملك إمام، وقد تتبعت هذا المنهج لدى الفارابي من خلال نصّه في الآراء، وجلبت نصوصه الأخرى في السياسة، وأظهرت مدى جدية الموقف عند الفارابي في رفضه الواقع المعاش في زمانه ومدينته، وهنا يمكن أن نسمّي تلك المدينة الواقع (بغداد) وما كان فيها من صراعات عقيدية وكلامية وفقهية وسياسية، جعلت الفارابي يصف هؤلاء أنهم هم النوابت جميعاً، ويجب اقتلاعهم من المدينة لأنّهم شوك ضار في الزرع، والسبب في ذلك وفق الفارابي هو أنهم مثيرو الفتن والشغب والاحتراب والتنازع والبغضاء بين أهل المدينة، فمدينة الفارابي مدينة فاضلة لا مكان فيها للنوابت ولا الجند، بل فيها فقط الجمهور والملك رئيس المدينة الفاضلة، وهنا تُسجّل للفارابي أصالة في هذا الجانب بإزاء أفلاطون من قبل وابن رشد من بعد، في أنّه جعل الجند خارج منظومته في المدينة الفاضلة لأنّه رأى فيهم خراب المدينة الواقعية، فكيف لا يخربون مدينته الفاضلة، هذا كان هدفي من قراءة الفارابي من منظور مختلف، أي جعل الخطاب السياسي غاية نهائية، مقدماته الميتافيزيقا والمنطق والمعرفة والنبوة وغير ذلك. إنّ الفارابي فيلسوف مهموم بالمدينة منغمس بها إلى حد النخاع، لا يريدها كما عاشها بل يريدها كما هي بالمثال، مدينة تبحث عن السعادة والفضيلة.
نورالدين علوش: وهل تتفقون مع المفكر الجابري بأنّ الفارابي عمل على دمج الدين في السياسة والسياسة في الدين؟
د. حسن مجيد العبيدي:إنّ قراءة الجابري للفارابي على قيمتها المعرفية الكبيرة الرائعة كانت مغلفة برؤية ومنهج وأيدلوجية تتحكم بها، لا بنص وواقع معاش زمان الفارابي مطلوب قراءته والسفر إليه ومناقشة الدوافع التي أنتجت النص وما يقف خلف النص من أسباب، أراد الجابري جلب الفارابي لزمانه لا لزمان الفارابي، وأراد قراءة الفارابي بأدوات منهجية غريبة عن عقل وذهن الفارابي وأرضه، وإن نجح في ذلك من خلال عرضه وأسلوبه المميز، إلا أنّ النتائج التي توصل إليها ليست بالضرورة ناجعة وناجحة، اشتغلت لمدة في الوسط الفكري العربي الراهن إلا أنّه سرعان ما تبين أنها قاصرة منهجياً ومعرفياً شأنها شأن المناهج التاريخية والماركسية والقومية والدينية السياسية، حاول الجابري أن يستعين بأدوات ومناهج ورؤى حضرت في ساحة فكرية وأيدلوجية وعقيدية وثقافية خارج منظومتنا، وجلبها ليشرح منها نص الفارابي، حتى يظهر أنّ الفارابي عمل على دمج الدين بالسياسة والعكس، الفارابي فيلسوف بامتياز، نظر للدين واقعاً معاشاً في عصره، وهو يشكل جزءاً من موقف الإنسان الكوني والوجودي والقيمي والسياسي، كيف يتعامل معه؟ هل يتعامل معه بموقف الرفض أم الإدماج بالفلسفة والسياسة؟ ولهذا جعل رئيس المدينة الفاضلة ملكاً فيلسوفاً إماماً، لاحظ هذه العبارات الثلاث ومعانيها المتعددة في استعمالات الفلاسفة زمان الفارابي واستعمالات فقهاء السياسة واللغويين والمتكلمين وغيرهم ممن يهتمون بأمور الدين والفلسفة، لكن تبقى نظرة الفارابي للدين غير نظرته للسياسة، وهذا يتضح من موقفه من مكانة النبي في المنظومة المعرفية ومكانة الفيلسوف في المدينة.
نورالدين علوش: الجزء الثاني اسمح لي سيدي أن أنتقل بكم إلى المجال السياسي، فما دور المثقف بعد الربيع العربي؟ وهل ثقافتنا قادرة على تجذير قيم الاختلاف والديمقراطية؟
د. حسن مجيد العبيدي:إنّ ما يقال عن الربيع وما هو موقع ودور المثقف العربي فيه، فإنّ دوره اختلف من بلد عربي إلى آخر، فدور المثقف العربي في تونس أو مصر أو سوريا أو ليبيا غير ما هو في العراق، إذ نشأت ثقافات جديدة ومفاهيم جديدة بعد هذه الثورات التي تسميها بثورات الربيع العربي، عبّر عنها المثقفون العرب كلّ عن بلده ومشكلات بلده، وظهرت مفاهيم واصطلاحات خاصة لدى المثقفين في بلدانهم لا تتناغم مع بلدان العالم العربي الأخرى، خذ مثلاً بلدي العراق، ما عاد المثقف العراقي يهتم بالمنجز المعرفي العربي أو العالم من فكر وفلسفة وفنون وغيرها، ولا يهتم بما يجري من تحولات سياسية أو اجتماعية في هذه البلدان بقدر ما يهتم بما يجري في بلده من نزاعات وصراعات عرقية وقومية ومذهبية ودينية، حتى أخذ هذا المثقف يدافع عن وجهة نظر معينة تعطي له هوية إثنية أو مذهبية أو قومية أو غير ذلك، وأصبح عنوان الدفاع عن هذه الهويات الفرعية بديلاً أهم من الهوية الأم (العراق)، وأصبحنا نسمع في لغة التخاطب بين المثقفين وفي الصحف ووسائل الإعلام عبارات وألفاظاً جاءت مع المحتل الأمريكي بعد عام 2003م للعراق، منها لفظ مكونات الشعب العراقي بدلاً من الشعب العراقي، أو أنّ العراق يتألف من مكونات هي السنة والشيعة والكرد، فغاب العراقي العربي وظهر بدلاً عنه العراق السني والشيعي، في مقابل العراق الكوردي، وظهرت لدينا عبارات الأكثرية والأقلية من الناحية المذهبية والعرقية، مثل أنّ الشيعة هم الأكثرية والسنة أقلية، وبالتالي فلا رئيس وزراء إلا من المكون الشيعي ولا رئيس مجلس نواب إلا من السنة ولا رئيس جمهورية إلا من الكورد، وغاب مفهوم المواطنة الذي أسس عليه الدستور ليحل محله هذه العبارات والألفاظ والجمل، إذن ما هو دور المثقف في بلدنا من هذا كله؟ هل يصطف مع هذه الألفاظ والاصطلاحات السياسية التي ظهرت بعد عام 2003، أم ماذا؟ وإن لم يتفاعل معها ويرفضها فماذا يجري له؟ هل يصاب بالإحباط أم يعتبر غير مواكب لمنطق العولمة الربيعية التي جاءت بعد عام 2003 ومن جرائها؟ هذا السؤال ليس ببريء، وأنا واحد من هؤلاء أصبحت أعتقد أنّ ثقافتي التي تربيت عليها ونشأت ودرست وتعلمت وكتبت فيها لا تواكب هذا المنطق، فأصبحت شأن الفيلسوف المغربي الكبير ابن باجة. أعيش في ظل مدينة كاملة في رأسي، وأعيش بواقع في وحل من المشاكل التي لا عد لها ولا حصر، من فساد مالي وطائفية سياسية وفكر منغلق وتاريخ مضى عليه أربعة عشر قرناً، وثقافة تستحضر هذا التاريخ بقوة وتريد منا نحن أن نشارك في أحداثه وصنعها، هذا دور المثقف في بلدنا بعد عام 2003.
نورالدين علوش: ما دور الفلسفة في مواكبة التحولات التي تعرفها المجتمعات العربية؟
د. حسن مجيد العبيدي:ليس لها دور فاعل ومؤثر، لأنّ الميديا الجديدة طغت في كل شيء على الفلسفة وحولتها إلى هامشية في المجتمع والقيم والثقافة والسياسة وغير ذلك، وأصبح الفيلسوف في المجتمع العربي بعد ثورات الربيع العربي واحتلال العراق من قبل ينتمي إلى طائفته أو مذهبه الديني أو عقيدته السياسية قبل أن ينتمي إلى المدينة الكوسموبولتية الفلسفية التي شرع لها أفلاطون والفارابي وابن باجة وابن رشد وجان جاك روسو وتوما مور وكانت وهيجل وهابرماس، أصبحت الفلسفة هامشية الدور في عالمنا العربي وأصبح المشتغل بها لا يبغي أكثر من التدريس في الجامعات وكسب لقمة العيش منها، لأنّ المجتمع والاجتماع السياسي أخذ ينظر لها نظرة غير مريحة، بل أصبح الاتهام للمشتغل بها أنه يشتغل في علوم لا تتناسب مع ما هو عليه وضع الإسلام السياسي ودولته التي يقودها، بل هو متهم في عقيدته ودينه وكل هذه تؤدي إلى التهلكة، وما تراه من منجز فلسفي على مستوى النشر العربي، إنما هو منجز لا يعبر عن الواقع العربي بقدر ما يترجم وينشر للآخر الغربي منجزه، أمّا العقل العربي ومواقفه الكونية والسياسية والقيمية فغائبة. فكتّاب الفلسفة عندنا اليوم يذهبون للآخر لإثبات هويتهم منه، لا هويتهم من داخل معاناة شعوبهم.
نورالدين علوش: في الأخير ما هي مشاريعكم المستقبلية؟
د. حسن مجيد العبيدي:هناك عدة مشاريع أعمل عليها الآن، أتمنى أن أنجزها هذه السنة، منها إنجاز موسوعة المكان في الفلسفتين اليونانية والإسلامية، تبدأ من الفكر اليوناني ما قبل أفلاطون حتى الفلسفة الإسلامية الحديثة، وهي إتمام لمشروعي الفلسفي عن نظرية المكان في فلسفة ابن سينا عام 1987، وقد خصصت العمل في هذا المشروع الآن للفلسفة النظرية دون علم الكلام والتصوف، لأنّ هذا الأخير بحد ذاته يحتاج أيضاً إلى أجزاء أخرى، والغاية من ذلك هي تقديم نصوص للباحثين والدارسين العرب وغيرهم عن المنجز الفلسفي في المكان وما يتصل به من مفاهيم أخرى مثل الحركة والخلاء والزمان، حتى يطلعوا على ما فعله فلاسفتنا في هذا المجال الذي يقع تحت ما يسمى بالفلسفة الطبيعية، وما هي الإسهامات الفاعلة في هذا الجانب المميزة لهم دون اليونان، ومن مشاريعي الأخرى جمع وتقديم وتعليق على نصوص الفارابي السياسية ومحاولة ربطها بواقعنا العراقي اليوم، إذ أنّ التشابه قائم إلى حد كبير بين زمن الفارابي وزماننا هذا الذي نعيشه الآن في العراق. وهناك مشاريع أخرى ما زالت قيد الإنجاز.