د. طارق البكري: جربنا أنماطاً كثيرة لكننا لم نبدأ بصياغة البنى التعليمية من أساسها
الاحد 06 جمادى الآخرة 1435 الموافق 06 إبريل 2014
أدب الطفل المسلم من الوسائط المهمة في التربية، والقراءة أفضل أسلوب للتنشئة، لأّنّ القراءة عامةً والقصص تحديداً، الحافز الأكبر لتفجير الطاقات الإبداعية، لكن هنالك الكثير من التحديات التي تحاصر الطفل المسلم من كل جانب، وفي هذا الحوار نلتقي الكاتب والإعلامي المتخصص بأدب الطفل الدكتور طارق البكري.. صاحب الكتب الكثيرة والأبحاث العديدة في مجال الطفولة.. وصاحب فكرة جريدة يومية للطفل وجامعة عربية لدراسات الطفولة في حديث عن أدب الطفل المسلم وأهميته في عالمنا المعاصر..
سؤال تقليدي نبدأ به اللقاء.. لماذا أدب الطفل.. وما سر اختيارك لهذا النوع من الأدب في الكتابة والبحث وحتى الدراسة؟
من الطفولة تكون البداية، والأمم التي ترقى بمفاهيمها ترقى بطفولتها.. ولنا في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الأسوة المثلى، ومن يتتبع حياة الرسول الكريم وعنايته بالطفولة يدرك مدى عمله الاستراتيجي البناء، وقدرته على التعاطي مع هذه الفئة الصغيرة البريئة، لأنه يعلم ما تعني هذه الفئة وما هي مقبلة عليه.. ولم تكن تلك العناية رفاهة، بل كانت من أس البناء الاجتماعي للدولة.. بل إن اعتناءه بالأطفال بلغ حد تقصير وقت الصلاة أو زيادته.. كما أنه رد بعض الفتيان عن الحرب رغم عزمهم، وحرص على تعليمهم وتوفير وسائل الترفيه والتسلية والثقافة الممكنة في ذلك الزمان.. وكان يستمع لهم، ويتودد إليهم، يمازحهم، يعطيهم بعض الأسرار، يمنحهم ثقته، حتى يكونوا قادة ونجوماً في المستقبل..
وأين نحن اليوم من ذلك؟
اليوم تغيرت كثير من المفاهيم، أصبحت الوسيلة أهم من الغاية، والأشياء باتت قيمتها ببريقها لا بمضامينها، لم تعد الطفولة هماً، بتنا نسمع بمؤتمرات وأبحاث هنا وهناك، يحضرها مكرمون، يخرجون بعد حصولهم على درع التكريم ويتركون القاعات خالية، معظم مؤسسات الطفولة أصبحت ديكورات، وأحلام الطفولة تسمرت أمام الشاشات الكبيرة والصغيرة، نسمع خطباً رنانة ولا نجد إلا تجارب محدودة تبدأ وتنتهي دون تأثير كبير وثمرة واضحة...
لكل دوره وخصوصيته؟
يهمني العمل للأطفال وليس معهم، الأولى تجربة أعمق ليست مزمنة ولا مرحلية، صحيح أن العمل للطفل مرهق وغير مجد في حينه.. لكنه يعطي ثماراً بعيدة الأمد.. أما لو عملنا من خلال منهجية عملية علمية تطبيقية جماعية واضحة، ليس كما نرى من فردية أو مستوردة، أو من خلال لجان مهمتها مؤقته، أو باستعارة برامج مدبلجة، وأفكار محنطة.. لأصبحت الأمور كلها مختلفة. وحتى ذلك الحين يبقى العمل الفردي أجدى نفعاً لأن مستلزمات العمل الجماعي الإبداعي غير متوفرة لدينا حتى الآن.
ماذا تقصد بذلك؟
أنا أقصد أشياء كثيرة.. لا تقتصر على جانب واحد.. أذكر مثلاً برنامجاً للأطفال، أكثر من ثلثه مستورد مع أن ميزانياته كبيرة جداً، كل شيء لدينا مستورد (من الطربوش إلى البابوج) كما يقولون.
ليس عندنا منتج فكري مميز يمكن اعتماده للطفل العربي المسلم في كل مكان، حتى الأفكار نستوردها من الخارج.. عندما يريد أحد ما أن ينشيء مؤسسة معينة معنية بالطفولة يبحث في الغرب.. الموثرات الغربية والرسوم الغربية.. وبات كثير من إنتاج العرب غربي الهوى.. وبعض بلادنا مناهجها معربة.. وحتى المساحة التي يسمح لنا بالتحرك خلالها لا نتقن فيها عملية التعليم، بل نرى أن التلقين هو الغالب.
لكننا نرى كثيراً من المؤتمرات الكبرى الناجحة التي تخرج بتوصيات؟
صحيح.. لكنها بمعظمها تبقى بالأدراج.. لسنا بحاجة لمؤتمرات تصرف عليها مئات الألوف لنخرج بعشرة أو عشرين أو مئة توصية.. يمكننا الآن أن نضع ألف توصية.. معظم المؤتمرات عبارة عن علاقات عامة، أما النجاح فهو بمقياس من؟! أريد أن أسأل وبوضوح أكبر: من له الحق بتقييم المؤتمرات الخاصة بالطفل، وما المعيار المناسب لذلك.. بالنسبة لي، ومن واقع تجربتي أرى أن كثيراً من التجارب السابقة ليست سوى محطات لا ترقى إلى مستوى الطموح.. لنتحدث بصراحة.. ماذا قدمت كل هذه المؤسسات المعنية للنهوض بالطفل العربي.. لا جديد.. أين البرامج المناسبة.. أين المحطات المناسبة.. أين الكتب الناجحة.. أين المناهج التعليمية الموحدة.. ليس عندنا قصة عربية إسلامية واحدة مميزة يمكن أن تقرر على جميع الأطفال العرب.. ليس عندنا برنامجاً عربياً إسلامياً واحداً يمكن عرضه لكل الأطفال العرب ونقول إنه (كسَّر الدنيا).. الطفل العربي اليوم يحفظ حوارات (الرسوم المتحركة المدبلجة) ولا يعرف من هو ابن بطوطة..
وأين مكمن الخلل؟
قبل فترة كنت في دولة عربية.. التقيت وزيراً سابقاً، تحدثنا حول فكرة ما.. فوجدته مؤيداً ونصيراً، وكان هو على رأس المؤسسة المعنية بالفكرة.. طلبت منه أن يطرح الموضوع على الجهات الرسمية.. فقال: ’’لو كنت في منصبي القديم لن أوافق على الفكرة’’..هنا برأيي مكمن الخلل: يتولون المسؤولية ولا يؤمنون بها..
وكيف ترى الإصلاح؟
علينا أن نعود للأطفال أنفسهم.. جربنا كل شيء.. جربنا مناهج كثيرة، لكننا لم نفكر بأن نعيد صياغة البنى التعليمية من أساسها.. حكوماتنا العربية تنفق الملايين بل المليارات كل عام من أجل المسيرة التعليمية.. لكننا مع ذلك لا نجد النتائج المرجوة.. لم نجد جامعة عربية واحدة تكون ضمن الجامعات العربية الأكثر حضوراً بين الخمسمئة جامعة الكبرى في العالم، باستثناء بسيط ولأسباب غير علمية.. الخلل ليس في المباني لكن في المعاني.
ماذا تقصد بذلك؟
الطفل اليوم في حالة تغريب شبة شاملة ممنهجة، وبعض الاستثناءات مهمشة، لو سألنا مجموعة من الأطفال كيف يقضون أوقاتهم اليومية سنجدها موزعة بين فضائيات غربية، أو مستغربة، وبين ألعاب البلاي ستايشن والآيباد والشاشات المتنوعة.. وغير ذلك من الملهيات غير المجدية.. وحتى محطات الأطفال التي تريد أن تكون جادة نراها إمَّا متعثرة لا تكمل مشروعها، أو مضطربة ومضطرة لركوب الموجة واللجوء إلى البرامج الخفيفة المربحة سريعة الإنتاج، بسيطة التكاليف، فيظهر المشروع البناء تجارة..
وأين يقف أدب الطفل المسلم من كل ذلك؟
أدب الطفل المسلم هو اليوم مثل أي موضوع يتعلق بالطفل، لكنه أكثر تهميشاً نظراً للعديد من الأسباب.. أولا أين هم الأدباء المسلمون المهتمون بالأطفال.. أطلعت أخيراً على دراسة علمية في مصر قالت إن عدد أدباء الأطفال العرب المعاصرين لا يتجاوزون المئتين.. وبعضهم ذهب إلى رحمة الله.. والمقصود طبعاً الأدباء المحترفين وليس الهواة، ثم ما هو معيار أدب الطفل.. أعرف بعض الأشخاص ممن جاوز الخمسين.. وليس عنده أي تجربة وأي علاقة بأدب الطفل ومفاهيمه.. فجأة يريد كتابة قصة للطفل.. حتى إني مرة اطلعت على قصة فائزة في جائزة إقليمية كبرى.. فوجدت فيها عشرات المشكلات حتى مع دون ذكر الأخطاء اللغوية لأنه يمكن تجاوز وتعديل الخطأ اللغوي أما الخطأ المعنوي فلا يمكن تعديله..
ومن المسؤول عن وضع هذه المعايير.. أليس أدباء الطفل أنفسهم؟
المسألة باعتقادي هي ليست مقتصرة على أدب الطفل وحدة.. هي منظومة متكاملة.. الفكرة في مجتمعنا ليست ناضجة حتى اليوم، مثل أي عمل نقوم به ونستهدف الطفل، حتى بات الطفل ساحة للتجارب الفاشلة، وأصبح لدينا اليوم على امتداد العالم العربي نماذج مشوهة، نراها يومياً على التلفزيون، حتى تبدلت المفاهيم والقيم، ولم تعد الأمور مجرد نزهة، هي معركة طويلة الأمد، هي محنة حقيقية، وليست كما يقول البعض ويتكلم، الطفولة تعاني إما من جاهل لا يعي خطورة الواقع، أو من لا مبالي بالواقع نفسه، أو من منشغل بهموم أخرى... والأخطر من كل هؤلاء من يريد أن يطبق مفاهيم الآخرين على صغارنا، ليشيع بينهم أفكاراً أخرجت الكثير من أبنائنا عن قيمهم، وباتت مساجدنا مهجورة إلا في أوقات محددة، وباتت مدارسنا مجرد مستوعبات بشرية تؤقت لفترة محددة، وبات الكتاب مصدر هم لا للطالب وحده بل للمسؤول والتاجر والكاتب..
هل توضح ذلك؟
ليست المسألة هي مجرد قصة أو كتاب أو موضوع.. المسألة هي في البناء التعليمي العام.. عندما نسمع من بعض التربويين أنه لا بد من نسف البناء التعليمي من أساسه وأن اصلاح التعليم غير ممكن، نتلمس عمق القضية.. وعلينا أن نسأل أنفسنا ونسأل هؤلاء لماذا لم تقدموا على إيجاد البدائل وأنتم تتحملون المسؤولية.. مثلا الوزير الكريم السابق الذي تكلمت عنه قبل قليل وأشرت إليه بالنسبة لمشروع ما، هو كان يتولى مؤسسة معينة لكنه لو كان في موقع آخر فهو يرفض تلك المؤسسة.. أليس في هذا تناقض كبير.. هو خلل.. بل ربما أكثر من ذلك، أن نعمل بما لا نؤمن، كيف هذا لا أفهم.. وفي يوم كنت أشارك في مؤتمر عربي كبير خاص بالطفل.. لم أجد مسؤولاً من الحاضرين له أي اهتمام بالطفل.. كان الأمر مجرد استراحة واستجمام.. لأن الطفل قضية مؤجلة.. أو بالأحرى مهملة..
انتقالا لموضوع آخر ما علاقة الأدب بالخيال؟
أجمل ما في أدب الطفل أنه خيالي.. والأدب على العموم يميل إلى الخيال.. هناك دراسات كبرى تتكلم عن الخيال في الشعر والنثر.. ولولا الخيال لما تطور الواقع.. والطفل في خياله يتحرى الحقيقة.. والواقع يؤكد حقيقة هذا الأدب.. وأن هنالك عمالقة في هذا الفن.. وليست المسألة في الواقع النقدي.. فكثير من واقعنا يمشي على غير تماس مع الواقع.. فكيف نحكم على أن أدب الطفل العربي لا يناسب هذا الطفل المعاصر. والأدب بشكل عام لا يعرف زمناً.. فهذه قصائد المتنبي وأبو فراس والفرزدق.. ومن قبلهم النابغة وامرؤ القيس.. وغيرهم.. ما زالت قصائدهم تزهر وتنبت.. وأعتقد أنّ الفن القصصي الطفولي احتراف وعالم من خيال مثل غيره من صنوف الإبداع، وهو لا يسـتسلم للواقع ويعمل على التغييـــر للأفضل.
كيف تفسر إذن فشل أدب الطفل العربي في تحقيق العالمية؟
علينا أولاً أن نحقق ’’العربية’’.. قبل أن نفكر بالعالمية.. نحن لدينا مهمة تخص طفلنا العربي المسلم ولا نستطيع منافسة الغرب في كثير من الأشياء.. فكيف نطلب من الأضعف أن ينافس.. وبخاصة أنّ بيئاتنا العربية ليست بيئات حاضنة لمثل هذا الأدب.. كأشياء كثيرة في عالمنا العربي..
إذن أنت متفق مع من يرى بتراجع أدب الأطفال العرب عن غيره من الشعوب؟
هذا التراجع خارج من رحم الواقع.. هل كل شيء في العالم العربي ’’متقدم’’ بينما أدب الأطفال المسلمين متأخر!.. أدب الطفل المسلم جزء بسيط جداً من منظومة متكاملة.. لو صلحت المنظومة صلح حال هذا الأدب.. وليس العكس.
أريد أن أسالك سؤالاً يطرح دائماً حول أهمية أدب الطفل، في زمن إغواء الشاشة، وأفلام الكرتون الساحرة والتي تجذب الكبار والصغار على السواء لاستفادتها من التطور الهائل في تقنيات الصورة والحركة والموسيقا والإخراج؟
هذا سؤال مشروع.. له ما يبرره.. لكنه لا يتوقف عند أدب الصغار.. بل يمتد إلى الكبار أيضاً.. في زمن الشاشات على أنواعها: التلفزيون.. السينما.. ال(بي أس بي).. الكمبيوتر.. وغيرها من الشاشات التي بات الناس من مختلف الأعمار يُصلبون عكسياً عليها. لكن هذا لا يعني أن نشارك بهدم قدسية القراءة..
ألّا تعتقد أن ثقافة الصورة المتحركة أصبحت مؤثرة أكثر من الكلمة المكتوبة في تنشئة الطفل، وفي ترسيخ القيم الأخلاقية والسلوكية لديه!
الصور المتحركة مهمة جداً، ومثلها الأفلام والبرامج المنوعة مما يعرض على التلفاز.. لكننا حتى اليوم لا نملك زمامها.. لذلك فإنّ الكتّاب يظل في صدارة الاهتمام..
أين المشكلة إذن؟
المشكلة واضحة جداً.. لدينا مُشكلة إبداع.. الكلّ يتكلم عن الإبداع.. وقد أصبح الإبداع موضة.. ولكنّ عندما نستعرض الواقع نجد الحقيقة مختلفة.. نحن نحتاج إلى مؤسسة كبرى للإنتاج الفني للأطفال.. أين هذه المؤسسة؟.. هنالك محاولات طيبة.. لكنّها دائماً ما تصطدم بالواقع.
ما هي أحلى اللحظات في عالم الكتابة للطفل؟
عند صدور كتاب جديد لي.. أتلقفه كهدية طفل لم يتلق هدية منذ زمن بعيد..
تحدثت سابقاً عن جريدة يومية للأطفال وجامعة لدراسات الطفولة.. أين نحن منهما الآن؟
لا جديد.. الفكرة تظل فكرة.. حتى يأذن الله بانطلاقها إلى الواقع..
ماذا تعني قصصك بالنسبة لك؟
الطفل يكتب قصصي.. أحيا الطفولة كل يوم.. وهذا ما يمتعني.. وليس في الوجود ما هو أجمل من طفل.
أصدرت مؤخراً سلسلة عندما.. ومن بينها قصة (عندما مات أخي).. فهل القصة حقيقية؟
كل قصص سلسلة عندما حقيقية.. وهي موجودة على الإنترنت بكاملها لمن يرغب بقراءتها..
أنت تنشر كل قصصك على الإنترنت.. ألا تخشى السرقات الأدبية؟
بالعكس تماماً.. أرحب بالسرقات الأدبية.. وأقصد طبعاً ما أكتبه للطفل.. ولطالما تمت طباعة قصصي هنا وهناك دون إذني.. وبعض القصص.. بل كثير منها وجدت عليها اسم شخص آخر..
ألا يزعجك ذلك؟
على الإطلاق.. بل يفرحني.. المهم عندي أن تصل الفكرة إلى الطفل.. وهذا أفضل شيء عندي.. فمرحى بالسرقات الأدبية.. كرمى لعيون الأطفال.
الدكتور طارق أحمد البكري
الاحد 06 جمادى الآخرة 1435 الموافق 06 إبريل 2014
أدب الطفل المسلم من الوسائط المهمة في التربية، والقراءة أفضل أسلوب للتنشئة، لأّنّ القراءة عامةً والقصص تحديداً، الحافز الأكبر لتفجير الطاقات الإبداعية، لكن هنالك الكثير من التحديات التي تحاصر الطفل المسلم من كل جانب، وفي هذا الحوار نلتقي الكاتب والإعلامي المتخصص بأدب الطفل الدكتور طارق البكري.. صاحب الكتب الكثيرة والأبحاث العديدة في مجال الطفولة.. وصاحب فكرة جريدة يومية للطفل وجامعة عربية لدراسات الطفولة في حديث عن أدب الطفل المسلم وأهميته في عالمنا المعاصر..
سؤال تقليدي نبدأ به اللقاء.. لماذا أدب الطفل.. وما سر اختيارك لهذا النوع من الأدب في الكتابة والبحث وحتى الدراسة؟
من الطفولة تكون البداية، والأمم التي ترقى بمفاهيمها ترقى بطفولتها.. ولنا في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الأسوة المثلى، ومن يتتبع حياة الرسول الكريم وعنايته بالطفولة يدرك مدى عمله الاستراتيجي البناء، وقدرته على التعاطي مع هذه الفئة الصغيرة البريئة، لأنه يعلم ما تعني هذه الفئة وما هي مقبلة عليه.. ولم تكن تلك العناية رفاهة، بل كانت من أس البناء الاجتماعي للدولة.. بل إن اعتناءه بالأطفال بلغ حد تقصير وقت الصلاة أو زيادته.. كما أنه رد بعض الفتيان عن الحرب رغم عزمهم، وحرص على تعليمهم وتوفير وسائل الترفيه والتسلية والثقافة الممكنة في ذلك الزمان.. وكان يستمع لهم، ويتودد إليهم، يمازحهم، يعطيهم بعض الأسرار، يمنحهم ثقته، حتى يكونوا قادة ونجوماً في المستقبل..
وأين نحن اليوم من ذلك؟
اليوم تغيرت كثير من المفاهيم، أصبحت الوسيلة أهم من الغاية، والأشياء باتت قيمتها ببريقها لا بمضامينها، لم تعد الطفولة هماً، بتنا نسمع بمؤتمرات وأبحاث هنا وهناك، يحضرها مكرمون، يخرجون بعد حصولهم على درع التكريم ويتركون القاعات خالية، معظم مؤسسات الطفولة أصبحت ديكورات، وأحلام الطفولة تسمرت أمام الشاشات الكبيرة والصغيرة، نسمع خطباً رنانة ولا نجد إلا تجارب محدودة تبدأ وتنتهي دون تأثير كبير وثمرة واضحة...
لكل دوره وخصوصيته؟
يهمني العمل للأطفال وليس معهم، الأولى تجربة أعمق ليست مزمنة ولا مرحلية، صحيح أن العمل للطفل مرهق وغير مجد في حينه.. لكنه يعطي ثماراً بعيدة الأمد.. أما لو عملنا من خلال منهجية عملية علمية تطبيقية جماعية واضحة، ليس كما نرى من فردية أو مستوردة، أو من خلال لجان مهمتها مؤقته، أو باستعارة برامج مدبلجة، وأفكار محنطة.. لأصبحت الأمور كلها مختلفة. وحتى ذلك الحين يبقى العمل الفردي أجدى نفعاً لأن مستلزمات العمل الجماعي الإبداعي غير متوفرة لدينا حتى الآن.
ماذا تقصد بذلك؟
أنا أقصد أشياء كثيرة.. لا تقتصر على جانب واحد.. أذكر مثلاً برنامجاً للأطفال، أكثر من ثلثه مستورد مع أن ميزانياته كبيرة جداً، كل شيء لدينا مستورد (من الطربوش إلى البابوج) كما يقولون.
ليس عندنا منتج فكري مميز يمكن اعتماده للطفل العربي المسلم في كل مكان، حتى الأفكار نستوردها من الخارج.. عندما يريد أحد ما أن ينشيء مؤسسة معينة معنية بالطفولة يبحث في الغرب.. الموثرات الغربية والرسوم الغربية.. وبات كثير من إنتاج العرب غربي الهوى.. وبعض بلادنا مناهجها معربة.. وحتى المساحة التي يسمح لنا بالتحرك خلالها لا نتقن فيها عملية التعليم، بل نرى أن التلقين هو الغالب.
لكننا نرى كثيراً من المؤتمرات الكبرى الناجحة التي تخرج بتوصيات؟
صحيح.. لكنها بمعظمها تبقى بالأدراج.. لسنا بحاجة لمؤتمرات تصرف عليها مئات الألوف لنخرج بعشرة أو عشرين أو مئة توصية.. يمكننا الآن أن نضع ألف توصية.. معظم المؤتمرات عبارة عن علاقات عامة، أما النجاح فهو بمقياس من؟! أريد أن أسأل وبوضوح أكبر: من له الحق بتقييم المؤتمرات الخاصة بالطفل، وما المعيار المناسب لذلك.. بالنسبة لي، ومن واقع تجربتي أرى أن كثيراً من التجارب السابقة ليست سوى محطات لا ترقى إلى مستوى الطموح.. لنتحدث بصراحة.. ماذا قدمت كل هذه المؤسسات المعنية للنهوض بالطفل العربي.. لا جديد.. أين البرامج المناسبة.. أين المحطات المناسبة.. أين الكتب الناجحة.. أين المناهج التعليمية الموحدة.. ليس عندنا قصة عربية إسلامية واحدة مميزة يمكن أن تقرر على جميع الأطفال العرب.. ليس عندنا برنامجاً عربياً إسلامياً واحداً يمكن عرضه لكل الأطفال العرب ونقول إنه (كسَّر الدنيا).. الطفل العربي اليوم يحفظ حوارات (الرسوم المتحركة المدبلجة) ولا يعرف من هو ابن بطوطة..
وأين مكمن الخلل؟
قبل فترة كنت في دولة عربية.. التقيت وزيراً سابقاً، تحدثنا حول فكرة ما.. فوجدته مؤيداً ونصيراً، وكان هو على رأس المؤسسة المعنية بالفكرة.. طلبت منه أن يطرح الموضوع على الجهات الرسمية.. فقال: ’’لو كنت في منصبي القديم لن أوافق على الفكرة’’..هنا برأيي مكمن الخلل: يتولون المسؤولية ولا يؤمنون بها..
وكيف ترى الإصلاح؟
علينا أن نعود للأطفال أنفسهم.. جربنا كل شيء.. جربنا مناهج كثيرة، لكننا لم نفكر بأن نعيد صياغة البنى التعليمية من أساسها.. حكوماتنا العربية تنفق الملايين بل المليارات كل عام من أجل المسيرة التعليمية.. لكننا مع ذلك لا نجد النتائج المرجوة.. لم نجد جامعة عربية واحدة تكون ضمن الجامعات العربية الأكثر حضوراً بين الخمسمئة جامعة الكبرى في العالم، باستثناء بسيط ولأسباب غير علمية.. الخلل ليس في المباني لكن في المعاني.
ماذا تقصد بذلك؟
الطفل اليوم في حالة تغريب شبة شاملة ممنهجة، وبعض الاستثناءات مهمشة، لو سألنا مجموعة من الأطفال كيف يقضون أوقاتهم اليومية سنجدها موزعة بين فضائيات غربية، أو مستغربة، وبين ألعاب البلاي ستايشن والآيباد والشاشات المتنوعة.. وغير ذلك من الملهيات غير المجدية.. وحتى محطات الأطفال التي تريد أن تكون جادة نراها إمَّا متعثرة لا تكمل مشروعها، أو مضطربة ومضطرة لركوب الموجة واللجوء إلى البرامج الخفيفة المربحة سريعة الإنتاج، بسيطة التكاليف، فيظهر المشروع البناء تجارة..
وأين يقف أدب الطفل المسلم من كل ذلك؟
أدب الطفل المسلم هو اليوم مثل أي موضوع يتعلق بالطفل، لكنه أكثر تهميشاً نظراً للعديد من الأسباب.. أولا أين هم الأدباء المسلمون المهتمون بالأطفال.. أطلعت أخيراً على دراسة علمية في مصر قالت إن عدد أدباء الأطفال العرب المعاصرين لا يتجاوزون المئتين.. وبعضهم ذهب إلى رحمة الله.. والمقصود طبعاً الأدباء المحترفين وليس الهواة، ثم ما هو معيار أدب الطفل.. أعرف بعض الأشخاص ممن جاوز الخمسين.. وليس عنده أي تجربة وأي علاقة بأدب الطفل ومفاهيمه.. فجأة يريد كتابة قصة للطفل.. حتى إني مرة اطلعت على قصة فائزة في جائزة إقليمية كبرى.. فوجدت فيها عشرات المشكلات حتى مع دون ذكر الأخطاء اللغوية لأنه يمكن تجاوز وتعديل الخطأ اللغوي أما الخطأ المعنوي فلا يمكن تعديله..
ومن المسؤول عن وضع هذه المعايير.. أليس أدباء الطفل أنفسهم؟
المسألة باعتقادي هي ليست مقتصرة على أدب الطفل وحدة.. هي منظومة متكاملة.. الفكرة في مجتمعنا ليست ناضجة حتى اليوم، مثل أي عمل نقوم به ونستهدف الطفل، حتى بات الطفل ساحة للتجارب الفاشلة، وأصبح لدينا اليوم على امتداد العالم العربي نماذج مشوهة، نراها يومياً على التلفزيون، حتى تبدلت المفاهيم والقيم، ولم تعد الأمور مجرد نزهة، هي معركة طويلة الأمد، هي محنة حقيقية، وليست كما يقول البعض ويتكلم، الطفولة تعاني إما من جاهل لا يعي خطورة الواقع، أو من لا مبالي بالواقع نفسه، أو من منشغل بهموم أخرى... والأخطر من كل هؤلاء من يريد أن يطبق مفاهيم الآخرين على صغارنا، ليشيع بينهم أفكاراً أخرجت الكثير من أبنائنا عن قيمهم، وباتت مساجدنا مهجورة إلا في أوقات محددة، وباتت مدارسنا مجرد مستوعبات بشرية تؤقت لفترة محددة، وبات الكتاب مصدر هم لا للطالب وحده بل للمسؤول والتاجر والكاتب..
هل توضح ذلك؟
ليست المسألة هي مجرد قصة أو كتاب أو موضوع.. المسألة هي في البناء التعليمي العام.. عندما نسمع من بعض التربويين أنه لا بد من نسف البناء التعليمي من أساسه وأن اصلاح التعليم غير ممكن، نتلمس عمق القضية.. وعلينا أن نسأل أنفسنا ونسأل هؤلاء لماذا لم تقدموا على إيجاد البدائل وأنتم تتحملون المسؤولية.. مثلا الوزير الكريم السابق الذي تكلمت عنه قبل قليل وأشرت إليه بالنسبة لمشروع ما، هو كان يتولى مؤسسة معينة لكنه لو كان في موقع آخر فهو يرفض تلك المؤسسة.. أليس في هذا تناقض كبير.. هو خلل.. بل ربما أكثر من ذلك، أن نعمل بما لا نؤمن، كيف هذا لا أفهم.. وفي يوم كنت أشارك في مؤتمر عربي كبير خاص بالطفل.. لم أجد مسؤولاً من الحاضرين له أي اهتمام بالطفل.. كان الأمر مجرد استراحة واستجمام.. لأن الطفل قضية مؤجلة.. أو بالأحرى مهملة..
انتقالا لموضوع آخر ما علاقة الأدب بالخيال؟
أجمل ما في أدب الطفل أنه خيالي.. والأدب على العموم يميل إلى الخيال.. هناك دراسات كبرى تتكلم عن الخيال في الشعر والنثر.. ولولا الخيال لما تطور الواقع.. والطفل في خياله يتحرى الحقيقة.. والواقع يؤكد حقيقة هذا الأدب.. وأن هنالك عمالقة في هذا الفن.. وليست المسألة في الواقع النقدي.. فكثير من واقعنا يمشي على غير تماس مع الواقع.. فكيف نحكم على أن أدب الطفل العربي لا يناسب هذا الطفل المعاصر. والأدب بشكل عام لا يعرف زمناً.. فهذه قصائد المتنبي وأبو فراس والفرزدق.. ومن قبلهم النابغة وامرؤ القيس.. وغيرهم.. ما زالت قصائدهم تزهر وتنبت.. وأعتقد أنّ الفن القصصي الطفولي احتراف وعالم من خيال مثل غيره من صنوف الإبداع، وهو لا يسـتسلم للواقع ويعمل على التغييـــر للأفضل.
كيف تفسر إذن فشل أدب الطفل العربي في تحقيق العالمية؟
علينا أولاً أن نحقق ’’العربية’’.. قبل أن نفكر بالعالمية.. نحن لدينا مهمة تخص طفلنا العربي المسلم ولا نستطيع منافسة الغرب في كثير من الأشياء.. فكيف نطلب من الأضعف أن ينافس.. وبخاصة أنّ بيئاتنا العربية ليست بيئات حاضنة لمثل هذا الأدب.. كأشياء كثيرة في عالمنا العربي..
إذن أنت متفق مع من يرى بتراجع أدب الأطفال العرب عن غيره من الشعوب؟
هذا التراجع خارج من رحم الواقع.. هل كل شيء في العالم العربي ’’متقدم’’ بينما أدب الأطفال المسلمين متأخر!.. أدب الطفل المسلم جزء بسيط جداً من منظومة متكاملة.. لو صلحت المنظومة صلح حال هذا الأدب.. وليس العكس.
أريد أن أسالك سؤالاً يطرح دائماً حول أهمية أدب الطفل، في زمن إغواء الشاشة، وأفلام الكرتون الساحرة والتي تجذب الكبار والصغار على السواء لاستفادتها من التطور الهائل في تقنيات الصورة والحركة والموسيقا والإخراج؟
هذا سؤال مشروع.. له ما يبرره.. لكنه لا يتوقف عند أدب الصغار.. بل يمتد إلى الكبار أيضاً.. في زمن الشاشات على أنواعها: التلفزيون.. السينما.. ال(بي أس بي).. الكمبيوتر.. وغيرها من الشاشات التي بات الناس من مختلف الأعمار يُصلبون عكسياً عليها. لكن هذا لا يعني أن نشارك بهدم قدسية القراءة..
ألّا تعتقد أن ثقافة الصورة المتحركة أصبحت مؤثرة أكثر من الكلمة المكتوبة في تنشئة الطفل، وفي ترسيخ القيم الأخلاقية والسلوكية لديه!
الصور المتحركة مهمة جداً، ومثلها الأفلام والبرامج المنوعة مما يعرض على التلفاز.. لكننا حتى اليوم لا نملك زمامها.. لذلك فإنّ الكتّاب يظل في صدارة الاهتمام..
أين المشكلة إذن؟
المشكلة واضحة جداً.. لدينا مُشكلة إبداع.. الكلّ يتكلم عن الإبداع.. وقد أصبح الإبداع موضة.. ولكنّ عندما نستعرض الواقع نجد الحقيقة مختلفة.. نحن نحتاج إلى مؤسسة كبرى للإنتاج الفني للأطفال.. أين هذه المؤسسة؟.. هنالك محاولات طيبة.. لكنّها دائماً ما تصطدم بالواقع.
ما هي أحلى اللحظات في عالم الكتابة للطفل؟
عند صدور كتاب جديد لي.. أتلقفه كهدية طفل لم يتلق هدية منذ زمن بعيد..
تحدثت سابقاً عن جريدة يومية للأطفال وجامعة لدراسات الطفولة.. أين نحن منهما الآن؟
لا جديد.. الفكرة تظل فكرة.. حتى يأذن الله بانطلاقها إلى الواقع..
ماذا تعني قصصك بالنسبة لك؟
الطفل يكتب قصصي.. أحيا الطفولة كل يوم.. وهذا ما يمتعني.. وليس في الوجود ما هو أجمل من طفل.
أصدرت مؤخراً سلسلة عندما.. ومن بينها قصة (عندما مات أخي).. فهل القصة حقيقية؟
كل قصص سلسلة عندما حقيقية.. وهي موجودة على الإنترنت بكاملها لمن يرغب بقراءتها..
أنت تنشر كل قصصك على الإنترنت.. ألا تخشى السرقات الأدبية؟
بالعكس تماماً.. أرحب بالسرقات الأدبية.. وأقصد طبعاً ما أكتبه للطفل.. ولطالما تمت طباعة قصصي هنا وهناك دون إذني.. وبعض القصص.. بل كثير منها وجدت عليها اسم شخص آخر..
ألا يزعجك ذلك؟
على الإطلاق.. بل يفرحني.. المهم عندي أن تصل الفكرة إلى الطفل.. وهذا أفضل شيء عندي.. فمرحى بالسرقات الأدبية.. كرمى لعيون الأطفال.
الدكتور طارق أحمد البكري