د. سعيد البوسكلاوي: باحث في حقل الفلسفة الإسلاميّة، يشتغل أستاذا مؤهّلا بشعبة الدراسات الإسلاميّة، كلّية الآداب، جامعة محمّد الأوّل بوجدة، المغرب. نشر أعمالا عديدة في ميدان تخصّصه، لعلّ أبرزها ’’مفهوم الإرادة في الفلسفة الإسلاميّة المشّائية’’ (بيروت: دار المشرق، 2010).
بداية نرحب بكم فضيلة الأستاذ سعيد البوسكلاوي على صفحات ’’شبكة ضياء’’، ونشكركم على قبول الدعوة.
من المعهود في المجال الأكاديمي أن المؤتمرات والندوات تعد فرصة مهمة لفتح آفاق واعدة للبحث العلمي، ولتبادل الخبرات والمعارف. ما رأيكم فضيلة الأستاذ في طبيعة هذه الفعاليات وقيمتها في الفضاء الأكاديمي العربي؟
أودّ في البداية أن أعبّر عن امتناني وشكري لكم، ولمنبركم الأكاديمي الرائد في العالم الإسلامي، بما يوفّره من خيط تواصل رفيع بين الباحثين الناطقين بالعربيّة. فهو يسمح بالتفاعل المفيد في ربط أواصر التعاون الذي يبدأ دائما من التواصل وتبادل الخبر. وهو أمر حيويّ جدّا بالنسبة إلى الباحثين، وخاصّة الشباب منهم الذين يعانون كثيرا في جامعاتنا من أجل أمر هو في غاية البساطة عند الغربيين مثلا؛ وهو الحصول على فرصة المشاركة في ندوة، والاحتكاك بالباحثين الذين سبقوهم، أو بنظرائهم من جامعات أخرى. ولا تخفى أهمّية الملتقيات العلميّة ودورها في فتح آفاق جديدة للباحثين والبحث العلمي على السواء. وفي كلّ الأحوال، إنّها فرصة للنقاش والاستفادة والأخذ والردّ والحوار.. وهي شروط جوهرية في تقدّم البحث العلمي، وتطوّر مستوى الباحثين.
وأحسب أنّ قيمة الندوات والمؤتمرات توزن بقيمة الجهات التي تنظّمها والغايات الحقيقية، لا المعلنة، التي تسعى إلى تحقيقها. والسؤال الذي يفرض نفسه هو التالي: ما درجة حضور همّ العلم والبحث العلمي في ندواتنا ومؤتمراتنا العلميّة؟ وبالتالي ما درجة حضور العلم في ما نكتب وننشر من أوراق نطلق عليها ’’أوراقا بحثية’’ أو ’’أبحاثاً’’ أو ’’مقالات علميّة’’، في ظل غياب مؤسّسات علميّة حقيقيّة، ومجلات علميّة حقيقية، ولجان قراءة حقيقيّة. هل حقّا أنّ الهاجس العلميّ هو الذي يقف غالبا وراء تنظيم نشاط نسمّيه ’’علميّاً’’؟ إنّ المتأمِّل في عناوين الندوات والمؤتمرات العلميّة في العالم العربي لا يمكن إلا أن ينبهر لعددها وتنوعّها وتغطيّتها لمجالات كانت بالأمس لامفكّرا فيها أصلا. وبعضها جيّد للغاية فكرة وتطبيقا ونتائج. غير أنّه لا بدّ من الاعتراف بأنّ هذه الجودة قليلة جدّا، واستثمار نتائج الأبحاث أقلّ. صحيح أنّ ثمّة حركيّةً وتبادلاً ومؤلّفاتٍ منشورةً، وهو أمْرٌ حسن، غير أنّه لا يغيب عن الملاحِظ النبيه أنّ الإطار الثقافيّ العامّ محدود، والأفق العلميّ ضيّق، والاستثمار فيه أضيق. وهذا يجعل الجدّة العلميّة نادرة في كثير من الملتقيات ’’العلميّة’’؛ لمكان ندرة المشاريع البحثيّة الحقّة، وغياب النقد الحقيقيّ والمنافسة الحقيقيّة ومسايرة ما ينتج في الجامعات المتقدّمة. ولعلّ لهذا الأمر علاقة بغياب مفهوم المؤسّسة عندنا، وانحسار ثقافة الكتاب. فنحن نتكلّم كثيرا، وفي كلّ شيء. نكتب كثيرا، وفي كلّ شيء. طبعا نقرأ قليلا، ونقرأ أقلّ بلغات العالم. فماذا تنتظرون أن تكون النتيجة؟!
في سياق تطوير مستوى الأبحاث العلمية وجودتها، قررتم عقد ندوة علميّة دوليّة بشأن موضوع ’’الكندي ومدرسته’’، وما يرتبط به من قضايا وإشكالات كبرى. ما هي الأهداف والمقاصد التي تطلعت كلية الآداب بجامعة محمد الأول إلى تحقيقها؟
لا تختلف مقاصد هذه الندوة كثيرا عن مقاصد أنشطتنا السابقة أو المقبلة. وإن تباينت الموضوعات، إلا أنّ الغاية واحدة؛ وهي الإسْهام في دراسة جزء من تراثنا العلميّ والفلسفيّ، وبالتالي المساهمة في تقدّم البحث العلميّ عامّة، وفي بلاد الإسلام خاصّة. ولعلّه من المفيد التذكير بأنّنا نظّمنا عدة ندوات وملتقيات دراسيّة سابقة، منها ندوة ’’آليات الاستدلال في الفكر الإسلامي الوسيط’’، بتعاون مع مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة عام 2010، وندوة ’’العلم والتعليم في بلاد المغرب من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر الهجريّين’’، بتعاون مع المركز نفسِه عام 2011، و’’قضايا في علم الكلام’’ بكلية الآداب، التابعة لجامعة محمّد الأوّل، عامَ 2012، و’’قضايا في الفلسفة - عُروض في كتب’’، بكلّية الآداب نفسِها عامَ 2012، و’’قضايا في التصوّف’’، بكلية الآداب، يومي 2-3 أكتوبر 2013. وآخرُها ندوة ’’الكندي ومدرسته’’، بتعاون مع المركز الوطنيّ للبحث العلميّ والتقنيّ، يوم 23 أكتوبر 2013.
ولعلّ الجديد مع ندوة الكندي انتقالنا من التركيز على القضايا، العامّة أحيانا، إلى التركيز على أعلام الفكر الإسلاميّ مشرقا ومغربا، قديما وحديثا. ويتضمّن ذلك دعوتين: الأولى دعوة إلى التخصيص والتخصّص، والابتعاد عن الندوات الفكرية العامّة، التي يكثر فيها الكلام، ولاشيء تقريبا غير الكلام!والثانية دعوة إلى تكريم علمائنا الأجلاء، والتعريف بهم، علاوة على الحرص على اختيار موضوعات دقيقة وجديدة تضيف شيئا إلى البحث العلميّ مهما كان صغيرا. هكذا برزت فكرة ندوة الكندي أوّلا في شكل مشروع يروم تنظيم ندوة سنويّة عن علم من أعلام الفلسفة والعلم في بلاد الإسلام، والبداية كانت من الكندي ومدرسته، ويليه الفارابي ومدرسته في السنة المقبلة بحول الله، ثمّ ابن سينا، وهكذا. وذلك في إطار طموح أكبر يروم تنظيم ندوتين في السنة؛ إحداهما عن علم مشرقي، والثانية عن علم مغربي، وإهداء أعمال كلّ ندوة إلى أحد الأساتذة المعاصرين المشتغِلين بالميدان نفسِه، والمشهود لهم بالاجتهاد والتجديد. وفكرة الإهداء - كما لا يخفى - تنمّ عن حضور، أو بالأحرى استحضار ثقافة الاعتراف والسند العلميّ التي تغيب أو تكاد عن جامعاتنا. وأنا مقتنع بواجب الحرص على التعريف بأعلام الفكر في ديارنا. ومع ندوة ’’الكندي ومدرسته - أعمال مهداة إلى الأستاذ محمد المصباحي’’، ندشّن تقليدا سوف نحاول أن نلتزم به في برامج فريقنا (فريق البحث في الفلسفة الإسلاميّة) السنويّة المقبلة. وعلى سبيل التذكير، فإنّ ندوتنا المقبلة ستكون في موضوع ’’ملامح الفكر العمليّ عند محمد بن عبد الكريم الخطابي - أعمال مهداة إلى الأستاذ علي الإدريسيّ’’، وسوف ندرس فيها علما من أعلام المغرب اشتهر أكثر بوصفه رجل سياسة، ونحن سنحاول إبراز الجانب الفكريّ عنده. وقد سبق أن تفضّلتم، مشكورين، بنشر إعلان هذه الندوة وورقتها على صفحات منبركم الجامعي المتميّز.
من فضلكم، نود أن تعرفوا السادة الباحثين ببعض محاور تلك الندوة العلمية المهمة التي عقدت في شهر أكتوبر من هذه السنة؟ وما هي الخلاصات والتوصيات التي انتهت إليها جهود المشاركين فيها؟
تناولت ندوة الكندي قضايا كثيرة؛ بدءا بأعماله، ومكانته في الثقافة الإسلاميّة، ومصادر فلسفته، وبعض الأسئلة التي يثيرها متنه، ونظريته في الخيال، وأدلّته على حدوث العالم، وفلسفته الأخلاقيّة، ونظريته في الموسيقى والتنجيم والميتافيزيقا وعلم الكلام، وغير ذلك. وقد شارك في الندوة باحثون متخصّصون من بلاد المغرب الكبير، وتمّ تكريم الأستاذ محمد المصباحي من كلّية الآداب بالرباط. وقد أنار هذا الأخير في مداخلته جوانب مهمّة من اللحظة التأسيسيّة لنظرية الخيال في الفلسفة العربيّة الإسلامية، من خلال دراسته موضوعَ’’الخيال وقوى الحسّ الداخلي لدى الكندي’’، والكشف عن قوى الخيال المختلفة عنده، وتبيان مدى تميّزها ودورها في إنتاج المعرفة والرؤيا. ورصدتُ في ورقتي البحثية بعض معالم حضور يحيى النحوي لدى الكندي، مركّزا بالأساس على أدلّة الفيلسوفين على حدوث العالم؛ ومبرزا كيف يستعيد الكندي أدلّة المتكلّمين التي يجد كثير منها أصله عند الفيلسوف المتكلّم اليونانيّ يحيى النحوي. وخَلَصتُ، عبر مقارنات دقيقة، إلى حضور جزئيّ أو كلّي لثلاثة أدلّة على الأقلّ من أدلّة النحوي لدى الكندي: دليل قوّة الجسم المتناهيّة، ودليل التركيب، ودليل امتناع التسلسل إلى ما لا نهاية له.وكشف محمد مساعد، من المدرسة العليا للأساتذة بمكناس، عن صورة الكندي في الثقافة الإسلاميّة، وملامح شخصيّته العلميّة والفلسفيّة، انطلاقا من نصوص المؤرّخين وكتاب السير والطبقات. وانتهى إلى أنّ للكندي أكثر من صورة واحدة. ومن جهته، عرّف أحمد موسى، أستاذ اللغة الفارسيّة بكلّية الآداب بالجديدة، بترجمات نصوص الكندي، والدراسات التي أنجزت عنه باللغة الفارسية أو المترجمة إليها، وكذا منزلة حضوره في الفضاء الثقافي الإسلاميّ الشيعيّ، لاسيما وأنّ الشيعة يعتبرونه فيلسوفا شيعيّا. وتوقف المهدي سعيدان، من كلّية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، عند ’’تأثير الكواكب من خلال كتاب ’’De Radiis’’ المنسوب للكندي’’، وفحص مسألة صحّة نسبة هذا الكتاب إلى الكندي من خلال السؤال عن مدى توافق ما ورد فيه بشأن الأجرام السماويّة وكيفية تأثيرها في الأجسام الأرضية مع ما ثبت من آراء للكندي بشأن هذا الموضوع في مواضع أخرى من رسائله، وخاصة رسالة ’’في العلّة التي لها يبرد أعلى الجوّ ويسخن ما قرب من الأرض’’، ورسالة ’’في العلّة الفاعلة للمدّ والجزر’’. وقدّم أنس غراب، من المعهد العالي للموسيقى بسوسة، ’’قراءة في نصوص الكندي الموسيقيّة وعلاقتها بالنّصوص الإغريقيّة’’؛ إذ عرّف بالنصوص الموسيقية المنسوبة إلى الكندي وتحقيقاتها والدراسات التي انصبّت عليها، وقدّم نقدا لها مركّزا على ثلاثة موضوعات، وهي: مدى تكامل نصوص الكندي، ومدى وجود نظريّة موسيقيّة موحّدة، ومدى تلاؤم نظريّاته مع ما تمّ تقديمه في ما يخصّ النّظريّات الموسيقيّة في عصره، لينتهي إلى الكشف عن كثير من عناصر التّرابط بين نصوص الكندي والنّصوص الإغريقيّة. ودرس محمد وزار، من جامعة أبي بكر بلقايد بتلمسان،’’إشكالية الزمان في فلسفة الكندي’’؛ فرصد مصادرها الرئيسة في التراث العربيّ الإسلاميّ، كما في الفكر اليونانيّ، وتوقّف عند طبيعة المنهج في فلسفة الكندي وأهمّيته، كما قدّم دراسة تفصيليّة لطبيعة الزمان ومفهومه في دراسة مقارنة مع اتّجاهات فلسفيّة وكلاميّة. أمّا يس عماري، من كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس، فقد أبرز معالم ’’نظريّة الكندي في دفع الأحزان وتطوّراتها لدى اللاّحقين’’، محدّدا أهمّ دلالات الأحزان عند الكندي، وكيفيّة دفعها، وبالتالي تحصيل السعادة. كما بحث في تطوّرات نظريّة الكندي لدى بعض اللاّحقين، ولاسيما في رسالة ’’في دفع الغمّ عن الموت’’ المنسوبة إلى ابن سينا، وكذا أثر الكندي في الفلسفة اللاّحقة. وتساءل إبراهيم بورشاشن، من أكاديمية القنيطرة، ’’هل كان الكندي أرسطيّا؟’’، وحاول الإجابة بالتأكيد على أنّ مزج الفلسفة بالكلام كان سمة مميّزة للكندي وللنشاط الفلسفيّ بعده. فالكندي الذي أتى من الكلام إلى الفلسفة حمل معه إشكالات علم الكلام، وتمّ توظيف أرسطو للإجابة عن القضاياالتيولوجيّة. وهكذا انتهى إلى أنّ أرسطو أعطى للكندي الإطار النظري والنظر المنهجيّ للدفاع عن قضايا العقيدة التي حملها معه من ممارسته الكلاميّة،لكن حدود الأرسطيّة عند الكندي لا تتجلّى فقط في المجال الكلاميّ الذي كان يتحرّك فيه، والذي لم يكن يقدر على تجاوزه، بل تتجلّى أيضا في أفلاطونيّة الكندي الذي لا يتحرّج من إبداع قول جديد، بعيد عن الروحين الأرسطيّة والأفلاطونية، إذا كان ذلك يخدم مقاصدة الكلاميّة. أمّا حسن المنوزي، من كلّية الآداب بمكناس، فقد تناول ’’سؤال الميتافيزيقا عند الكندي’’؛ من حيث روابطه ودلالاته اعتمادا على نصوص من رسائله الفلسفية، وروابطه مع السياسة والعلم والسيكولوجيا والأخلاق والإنسان من جهة، لينتهي إلى تحديد التوجّه الميتافيزيقي عند الكندي في ميتافيزيقا الفاعل والنهاية. وعمل عمر مبركي، من مؤسسّة دار الحديث الحسنيّة بالرباط، على دراسة ’’موقف الكندي من الإلهيات من خلال رسائله الفلسفية’’؛ ففصّل في بعض المقدّمات المنهجيّة لفهم الرؤية الكِنْدية للخالق، ومسالك الكندي في إثبات وجود الله تعالى ووحدانيّته وصفاته. وأخيرا، درس مصطفى العارف، من كلّية الآداب بالمحمدية، ’’مفهوم الأيس عند الكندي’’، مؤكّدا أنّ لحظة الكندي تمثّل تأسيسا للأنطولوجيا. وسوف تنشر أعمال الندوة قريبا لتعميم الفائدة في كتاب جماعيّ يضمّ مساهمات أخرى، لم يتمكّن أصحابها من الحضور، في موضوعات جديدة وطريفة تتناول جوانب أخرى؛ كالطبّ والمنطق والرياضيات والتعميّة وغير ذلك.
فضيلة الأستاذ سعيد البوسكلاوي، بوصفكم منسقا لأعمال الندوة ما هي التحديات والعقبات التي تواجه المؤسسات الأكاديمية في تنظيم الملتقيات العلمية؟
أشكركم على هذا السؤال. إنّ الصعوبة مزدوجة أو مضاعفة، ولها مناح كثيرة. غير أنّني سأجمل القول، باختصار، فيما يلي: إنّ تنظيم ندوة علميّة واحدة في جامعاتنا في المغرب بالإمكانات المتاحة، أو التي يتيحها المسؤولون، يعني باختصار أن لا تعيد الكرّة مرّة أخرى. أنت مطالب بأن تحرق أعصابك ووقتك، وتقف شحاذا أمام مكاتب مسؤولين ومؤسّسات وموظّفين آخرُ شيءٍ يهمّهم هو البحث العلميّ والأنشطة العلميّة والتربويّة. إنّ الأنشطة الجامعيّة، كما البحث العلميّ عندنا، مبادرة فردية يقوم بها أفراد، وفي الغالب فرد واحد سرعان ما يجد نفسه وحيدا يحارب الطواحين، قد يصمد إلى حين أو يهاجر إلى آفاق أخرى أرحب، يحاول ويقاوم، يترنّح، وقد يسقط ويفرح لسقوطه من تهمّهم أمور أخرى غير العلم. وهو الأمر الغالب في جامعاتنا ومجتمعاتنا مع الأسف!
كلمة أخيرة:
أعتقد أنّ السبيل الأمثل للنهوض بجامعاتنا هو انفتاحها على الجامعات المتقدّمة، وكذا على اللغات التي ينتج بها العلم، والمجلات المتخصّصة لاستثمار نتائج الأبحاث الجديدة من أجل المسايرة والنهوض بالبحث العلميّ. أرجو منكم في ’’شبكة ضياء’’ الإسهام أكثر في توسيع هذا الأفق الضيّق للبحث العلميّ عندنا بنشر إعلانات ندوات وملتقيات وتقارير بلغات أورُبّية أيضا (والإنجليزية بالخصوص)، وكذا التعريف - إن أمكن - بأنشطة مخابر البحث والجمعيّات العلميّة هنا وهناك وإصداراتها السنويّة. كما أدعو إلى تشجيع التبادل الحقيقيّ بين الباحثين والجامعات، وتشجيع تنقل الباحثين إلى الخزانات والجامعات عبر إنشاء منح بحث متخصّصة. وأرجو أن نؤسّس لتعاون مثمر بين جامعات الجنوب، أو بينها وبين الجامعات الغربيّة؛ من خلال التنسيق بين مخابر البحث، وتقديم مشاريع بحثيّة مشتركة، وغير ذلك. فالملاحظ أنّ التعاون بين جامعات الجنوب يكاد يكون منعدما، والتعاون بين جامعاتنا وجامعات الشمال والغرب يغلب عليه عموما شرّ الانتهازيّة، والنظر إلى إمكانياتها الماديّة وما تمنحه من فرص السياحة، لا إلى علمها وما تمنحه من فرص تطوير طرائق التدريس والبحث. ولأنّ كثيرا من ’’المسؤولين’’ و’’الباحثين’’ لا يرون في هذه الجامعات الغربيّة سوى الجانب الماليّ والسياحيّ، لا نرى نتائج حقيقيّة لكثير من الاتّفاقيات ومذكّرات التفاهم والشراكات في التكوين والبحث، بل إنّ مشاريع البحث تبقى حبرا على ورق، أو لا تحقّق غاياتها العلميّة المرجوة. والحقّ أنّ ثمّة بعض الإنجازات المهمّة، غير أنّها قليلة جدّا، ولا تناسب حجم الإمكانات المتاحة ولا الغايات المسطّرة ولا الآمال المعقودة على الجامعة والجامعيّين في رفع قاطرة التنميّة والتقدّم.
في نهاية هذا الحوار العلمي، وباسم أعضاء وزوار ’’شبكة ضياء’’، نشكركم على الاستجابة وحسن التفاعل.
*شبكة الضياء
بداية نرحب بكم فضيلة الأستاذ سعيد البوسكلاوي على صفحات ’’شبكة ضياء’’، ونشكركم على قبول الدعوة.
من المعهود في المجال الأكاديمي أن المؤتمرات والندوات تعد فرصة مهمة لفتح آفاق واعدة للبحث العلمي، ولتبادل الخبرات والمعارف. ما رأيكم فضيلة الأستاذ في طبيعة هذه الفعاليات وقيمتها في الفضاء الأكاديمي العربي؟
أودّ في البداية أن أعبّر عن امتناني وشكري لكم، ولمنبركم الأكاديمي الرائد في العالم الإسلامي، بما يوفّره من خيط تواصل رفيع بين الباحثين الناطقين بالعربيّة. فهو يسمح بالتفاعل المفيد في ربط أواصر التعاون الذي يبدأ دائما من التواصل وتبادل الخبر. وهو أمر حيويّ جدّا بالنسبة إلى الباحثين، وخاصّة الشباب منهم الذين يعانون كثيرا في جامعاتنا من أجل أمر هو في غاية البساطة عند الغربيين مثلا؛ وهو الحصول على فرصة المشاركة في ندوة، والاحتكاك بالباحثين الذين سبقوهم، أو بنظرائهم من جامعات أخرى. ولا تخفى أهمّية الملتقيات العلميّة ودورها في فتح آفاق جديدة للباحثين والبحث العلمي على السواء. وفي كلّ الأحوال، إنّها فرصة للنقاش والاستفادة والأخذ والردّ والحوار.. وهي شروط جوهرية في تقدّم البحث العلمي، وتطوّر مستوى الباحثين.
وأحسب أنّ قيمة الندوات والمؤتمرات توزن بقيمة الجهات التي تنظّمها والغايات الحقيقية، لا المعلنة، التي تسعى إلى تحقيقها. والسؤال الذي يفرض نفسه هو التالي: ما درجة حضور همّ العلم والبحث العلمي في ندواتنا ومؤتمراتنا العلميّة؟ وبالتالي ما درجة حضور العلم في ما نكتب وننشر من أوراق نطلق عليها ’’أوراقا بحثية’’ أو ’’أبحاثاً’’ أو ’’مقالات علميّة’’، في ظل غياب مؤسّسات علميّة حقيقيّة، ومجلات علميّة حقيقية، ولجان قراءة حقيقيّة. هل حقّا أنّ الهاجس العلميّ هو الذي يقف غالبا وراء تنظيم نشاط نسمّيه ’’علميّاً’’؟ إنّ المتأمِّل في عناوين الندوات والمؤتمرات العلميّة في العالم العربي لا يمكن إلا أن ينبهر لعددها وتنوعّها وتغطيّتها لمجالات كانت بالأمس لامفكّرا فيها أصلا. وبعضها جيّد للغاية فكرة وتطبيقا ونتائج. غير أنّه لا بدّ من الاعتراف بأنّ هذه الجودة قليلة جدّا، واستثمار نتائج الأبحاث أقلّ. صحيح أنّ ثمّة حركيّةً وتبادلاً ومؤلّفاتٍ منشورةً، وهو أمْرٌ حسن، غير أنّه لا يغيب عن الملاحِظ النبيه أنّ الإطار الثقافيّ العامّ محدود، والأفق العلميّ ضيّق، والاستثمار فيه أضيق. وهذا يجعل الجدّة العلميّة نادرة في كثير من الملتقيات ’’العلميّة’’؛ لمكان ندرة المشاريع البحثيّة الحقّة، وغياب النقد الحقيقيّ والمنافسة الحقيقيّة ومسايرة ما ينتج في الجامعات المتقدّمة. ولعلّ لهذا الأمر علاقة بغياب مفهوم المؤسّسة عندنا، وانحسار ثقافة الكتاب. فنحن نتكلّم كثيرا، وفي كلّ شيء. نكتب كثيرا، وفي كلّ شيء. طبعا نقرأ قليلا، ونقرأ أقلّ بلغات العالم. فماذا تنتظرون أن تكون النتيجة؟!
في سياق تطوير مستوى الأبحاث العلمية وجودتها، قررتم عقد ندوة علميّة دوليّة بشأن موضوع ’’الكندي ومدرسته’’، وما يرتبط به من قضايا وإشكالات كبرى. ما هي الأهداف والمقاصد التي تطلعت كلية الآداب بجامعة محمد الأول إلى تحقيقها؟
لا تختلف مقاصد هذه الندوة كثيرا عن مقاصد أنشطتنا السابقة أو المقبلة. وإن تباينت الموضوعات، إلا أنّ الغاية واحدة؛ وهي الإسْهام في دراسة جزء من تراثنا العلميّ والفلسفيّ، وبالتالي المساهمة في تقدّم البحث العلميّ عامّة، وفي بلاد الإسلام خاصّة. ولعلّه من المفيد التذكير بأنّنا نظّمنا عدة ندوات وملتقيات دراسيّة سابقة، منها ندوة ’’آليات الاستدلال في الفكر الإسلامي الوسيط’’، بتعاون مع مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة عام 2010، وندوة ’’العلم والتعليم في بلاد المغرب من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر الهجريّين’’، بتعاون مع المركز نفسِه عام 2011، و’’قضايا في علم الكلام’’ بكلية الآداب، التابعة لجامعة محمّد الأوّل، عامَ 2012، و’’قضايا في الفلسفة - عُروض في كتب’’، بكلّية الآداب نفسِها عامَ 2012، و’’قضايا في التصوّف’’، بكلية الآداب، يومي 2-3 أكتوبر 2013. وآخرُها ندوة ’’الكندي ومدرسته’’، بتعاون مع المركز الوطنيّ للبحث العلميّ والتقنيّ، يوم 23 أكتوبر 2013.
ولعلّ الجديد مع ندوة الكندي انتقالنا من التركيز على القضايا، العامّة أحيانا، إلى التركيز على أعلام الفكر الإسلاميّ مشرقا ومغربا، قديما وحديثا. ويتضمّن ذلك دعوتين: الأولى دعوة إلى التخصيص والتخصّص، والابتعاد عن الندوات الفكرية العامّة، التي يكثر فيها الكلام، ولاشيء تقريبا غير الكلام!والثانية دعوة إلى تكريم علمائنا الأجلاء، والتعريف بهم، علاوة على الحرص على اختيار موضوعات دقيقة وجديدة تضيف شيئا إلى البحث العلميّ مهما كان صغيرا. هكذا برزت فكرة ندوة الكندي أوّلا في شكل مشروع يروم تنظيم ندوة سنويّة عن علم من أعلام الفلسفة والعلم في بلاد الإسلام، والبداية كانت من الكندي ومدرسته، ويليه الفارابي ومدرسته في السنة المقبلة بحول الله، ثمّ ابن سينا، وهكذا. وذلك في إطار طموح أكبر يروم تنظيم ندوتين في السنة؛ إحداهما عن علم مشرقي، والثانية عن علم مغربي، وإهداء أعمال كلّ ندوة إلى أحد الأساتذة المعاصرين المشتغِلين بالميدان نفسِه، والمشهود لهم بالاجتهاد والتجديد. وفكرة الإهداء - كما لا يخفى - تنمّ عن حضور، أو بالأحرى استحضار ثقافة الاعتراف والسند العلميّ التي تغيب أو تكاد عن جامعاتنا. وأنا مقتنع بواجب الحرص على التعريف بأعلام الفكر في ديارنا. ومع ندوة ’’الكندي ومدرسته - أعمال مهداة إلى الأستاذ محمد المصباحي’’، ندشّن تقليدا سوف نحاول أن نلتزم به في برامج فريقنا (فريق البحث في الفلسفة الإسلاميّة) السنويّة المقبلة. وعلى سبيل التذكير، فإنّ ندوتنا المقبلة ستكون في موضوع ’’ملامح الفكر العمليّ عند محمد بن عبد الكريم الخطابي - أعمال مهداة إلى الأستاذ علي الإدريسيّ’’، وسوف ندرس فيها علما من أعلام المغرب اشتهر أكثر بوصفه رجل سياسة، ونحن سنحاول إبراز الجانب الفكريّ عنده. وقد سبق أن تفضّلتم، مشكورين، بنشر إعلان هذه الندوة وورقتها على صفحات منبركم الجامعي المتميّز.
من فضلكم، نود أن تعرفوا السادة الباحثين ببعض محاور تلك الندوة العلمية المهمة التي عقدت في شهر أكتوبر من هذه السنة؟ وما هي الخلاصات والتوصيات التي انتهت إليها جهود المشاركين فيها؟
تناولت ندوة الكندي قضايا كثيرة؛ بدءا بأعماله، ومكانته في الثقافة الإسلاميّة، ومصادر فلسفته، وبعض الأسئلة التي يثيرها متنه، ونظريته في الخيال، وأدلّته على حدوث العالم، وفلسفته الأخلاقيّة، ونظريته في الموسيقى والتنجيم والميتافيزيقا وعلم الكلام، وغير ذلك. وقد شارك في الندوة باحثون متخصّصون من بلاد المغرب الكبير، وتمّ تكريم الأستاذ محمد المصباحي من كلّية الآداب بالرباط. وقد أنار هذا الأخير في مداخلته جوانب مهمّة من اللحظة التأسيسيّة لنظرية الخيال في الفلسفة العربيّة الإسلامية، من خلال دراسته موضوعَ’’الخيال وقوى الحسّ الداخلي لدى الكندي’’، والكشف عن قوى الخيال المختلفة عنده، وتبيان مدى تميّزها ودورها في إنتاج المعرفة والرؤيا. ورصدتُ في ورقتي البحثية بعض معالم حضور يحيى النحوي لدى الكندي، مركّزا بالأساس على أدلّة الفيلسوفين على حدوث العالم؛ ومبرزا كيف يستعيد الكندي أدلّة المتكلّمين التي يجد كثير منها أصله عند الفيلسوف المتكلّم اليونانيّ يحيى النحوي. وخَلَصتُ، عبر مقارنات دقيقة، إلى حضور جزئيّ أو كلّي لثلاثة أدلّة على الأقلّ من أدلّة النحوي لدى الكندي: دليل قوّة الجسم المتناهيّة، ودليل التركيب، ودليل امتناع التسلسل إلى ما لا نهاية له.وكشف محمد مساعد، من المدرسة العليا للأساتذة بمكناس، عن صورة الكندي في الثقافة الإسلاميّة، وملامح شخصيّته العلميّة والفلسفيّة، انطلاقا من نصوص المؤرّخين وكتاب السير والطبقات. وانتهى إلى أنّ للكندي أكثر من صورة واحدة. ومن جهته، عرّف أحمد موسى، أستاذ اللغة الفارسيّة بكلّية الآداب بالجديدة، بترجمات نصوص الكندي، والدراسات التي أنجزت عنه باللغة الفارسية أو المترجمة إليها، وكذا منزلة حضوره في الفضاء الثقافي الإسلاميّ الشيعيّ، لاسيما وأنّ الشيعة يعتبرونه فيلسوفا شيعيّا. وتوقف المهدي سعيدان، من كلّية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، عند ’’تأثير الكواكب من خلال كتاب ’’De Radiis’’ المنسوب للكندي’’، وفحص مسألة صحّة نسبة هذا الكتاب إلى الكندي من خلال السؤال عن مدى توافق ما ورد فيه بشأن الأجرام السماويّة وكيفية تأثيرها في الأجسام الأرضية مع ما ثبت من آراء للكندي بشأن هذا الموضوع في مواضع أخرى من رسائله، وخاصة رسالة ’’في العلّة التي لها يبرد أعلى الجوّ ويسخن ما قرب من الأرض’’، ورسالة ’’في العلّة الفاعلة للمدّ والجزر’’. وقدّم أنس غراب، من المعهد العالي للموسيقى بسوسة، ’’قراءة في نصوص الكندي الموسيقيّة وعلاقتها بالنّصوص الإغريقيّة’’؛ إذ عرّف بالنصوص الموسيقية المنسوبة إلى الكندي وتحقيقاتها والدراسات التي انصبّت عليها، وقدّم نقدا لها مركّزا على ثلاثة موضوعات، وهي: مدى تكامل نصوص الكندي، ومدى وجود نظريّة موسيقيّة موحّدة، ومدى تلاؤم نظريّاته مع ما تمّ تقديمه في ما يخصّ النّظريّات الموسيقيّة في عصره، لينتهي إلى الكشف عن كثير من عناصر التّرابط بين نصوص الكندي والنّصوص الإغريقيّة. ودرس محمد وزار، من جامعة أبي بكر بلقايد بتلمسان،’’إشكالية الزمان في فلسفة الكندي’’؛ فرصد مصادرها الرئيسة في التراث العربيّ الإسلاميّ، كما في الفكر اليونانيّ، وتوقّف عند طبيعة المنهج في فلسفة الكندي وأهمّيته، كما قدّم دراسة تفصيليّة لطبيعة الزمان ومفهومه في دراسة مقارنة مع اتّجاهات فلسفيّة وكلاميّة. أمّا يس عماري، من كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس، فقد أبرز معالم ’’نظريّة الكندي في دفع الأحزان وتطوّراتها لدى اللاّحقين’’، محدّدا أهمّ دلالات الأحزان عند الكندي، وكيفيّة دفعها، وبالتالي تحصيل السعادة. كما بحث في تطوّرات نظريّة الكندي لدى بعض اللاّحقين، ولاسيما في رسالة ’’في دفع الغمّ عن الموت’’ المنسوبة إلى ابن سينا، وكذا أثر الكندي في الفلسفة اللاّحقة. وتساءل إبراهيم بورشاشن، من أكاديمية القنيطرة، ’’هل كان الكندي أرسطيّا؟’’، وحاول الإجابة بالتأكيد على أنّ مزج الفلسفة بالكلام كان سمة مميّزة للكندي وللنشاط الفلسفيّ بعده. فالكندي الذي أتى من الكلام إلى الفلسفة حمل معه إشكالات علم الكلام، وتمّ توظيف أرسطو للإجابة عن القضاياالتيولوجيّة. وهكذا انتهى إلى أنّ أرسطو أعطى للكندي الإطار النظري والنظر المنهجيّ للدفاع عن قضايا العقيدة التي حملها معه من ممارسته الكلاميّة،لكن حدود الأرسطيّة عند الكندي لا تتجلّى فقط في المجال الكلاميّ الذي كان يتحرّك فيه، والذي لم يكن يقدر على تجاوزه، بل تتجلّى أيضا في أفلاطونيّة الكندي الذي لا يتحرّج من إبداع قول جديد، بعيد عن الروحين الأرسطيّة والأفلاطونية، إذا كان ذلك يخدم مقاصدة الكلاميّة. أمّا حسن المنوزي، من كلّية الآداب بمكناس، فقد تناول ’’سؤال الميتافيزيقا عند الكندي’’؛ من حيث روابطه ودلالاته اعتمادا على نصوص من رسائله الفلسفية، وروابطه مع السياسة والعلم والسيكولوجيا والأخلاق والإنسان من جهة، لينتهي إلى تحديد التوجّه الميتافيزيقي عند الكندي في ميتافيزيقا الفاعل والنهاية. وعمل عمر مبركي، من مؤسسّة دار الحديث الحسنيّة بالرباط، على دراسة ’’موقف الكندي من الإلهيات من خلال رسائله الفلسفية’’؛ ففصّل في بعض المقدّمات المنهجيّة لفهم الرؤية الكِنْدية للخالق، ومسالك الكندي في إثبات وجود الله تعالى ووحدانيّته وصفاته. وأخيرا، درس مصطفى العارف، من كلّية الآداب بالمحمدية، ’’مفهوم الأيس عند الكندي’’، مؤكّدا أنّ لحظة الكندي تمثّل تأسيسا للأنطولوجيا. وسوف تنشر أعمال الندوة قريبا لتعميم الفائدة في كتاب جماعيّ يضمّ مساهمات أخرى، لم يتمكّن أصحابها من الحضور، في موضوعات جديدة وطريفة تتناول جوانب أخرى؛ كالطبّ والمنطق والرياضيات والتعميّة وغير ذلك.
فضيلة الأستاذ سعيد البوسكلاوي، بوصفكم منسقا لأعمال الندوة ما هي التحديات والعقبات التي تواجه المؤسسات الأكاديمية في تنظيم الملتقيات العلمية؟
أشكركم على هذا السؤال. إنّ الصعوبة مزدوجة أو مضاعفة، ولها مناح كثيرة. غير أنّني سأجمل القول، باختصار، فيما يلي: إنّ تنظيم ندوة علميّة واحدة في جامعاتنا في المغرب بالإمكانات المتاحة، أو التي يتيحها المسؤولون، يعني باختصار أن لا تعيد الكرّة مرّة أخرى. أنت مطالب بأن تحرق أعصابك ووقتك، وتقف شحاذا أمام مكاتب مسؤولين ومؤسّسات وموظّفين آخرُ شيءٍ يهمّهم هو البحث العلميّ والأنشطة العلميّة والتربويّة. إنّ الأنشطة الجامعيّة، كما البحث العلميّ عندنا، مبادرة فردية يقوم بها أفراد، وفي الغالب فرد واحد سرعان ما يجد نفسه وحيدا يحارب الطواحين، قد يصمد إلى حين أو يهاجر إلى آفاق أخرى أرحب، يحاول ويقاوم، يترنّح، وقد يسقط ويفرح لسقوطه من تهمّهم أمور أخرى غير العلم. وهو الأمر الغالب في جامعاتنا ومجتمعاتنا مع الأسف!
كلمة أخيرة:
أعتقد أنّ السبيل الأمثل للنهوض بجامعاتنا هو انفتاحها على الجامعات المتقدّمة، وكذا على اللغات التي ينتج بها العلم، والمجلات المتخصّصة لاستثمار نتائج الأبحاث الجديدة من أجل المسايرة والنهوض بالبحث العلميّ. أرجو منكم في ’’شبكة ضياء’’ الإسهام أكثر في توسيع هذا الأفق الضيّق للبحث العلميّ عندنا بنشر إعلانات ندوات وملتقيات وتقارير بلغات أورُبّية أيضا (والإنجليزية بالخصوص)، وكذا التعريف - إن أمكن - بأنشطة مخابر البحث والجمعيّات العلميّة هنا وهناك وإصداراتها السنويّة. كما أدعو إلى تشجيع التبادل الحقيقيّ بين الباحثين والجامعات، وتشجيع تنقل الباحثين إلى الخزانات والجامعات عبر إنشاء منح بحث متخصّصة. وأرجو أن نؤسّس لتعاون مثمر بين جامعات الجنوب، أو بينها وبين الجامعات الغربيّة؛ من خلال التنسيق بين مخابر البحث، وتقديم مشاريع بحثيّة مشتركة، وغير ذلك. فالملاحظ أنّ التعاون بين جامعات الجنوب يكاد يكون منعدما، والتعاون بين جامعاتنا وجامعات الشمال والغرب يغلب عليه عموما شرّ الانتهازيّة، والنظر إلى إمكانياتها الماديّة وما تمنحه من فرص السياحة، لا إلى علمها وما تمنحه من فرص تطوير طرائق التدريس والبحث. ولأنّ كثيرا من ’’المسؤولين’’ و’’الباحثين’’ لا يرون في هذه الجامعات الغربيّة سوى الجانب الماليّ والسياحيّ، لا نرى نتائج حقيقيّة لكثير من الاتّفاقيات ومذكّرات التفاهم والشراكات في التكوين والبحث، بل إنّ مشاريع البحث تبقى حبرا على ورق، أو لا تحقّق غاياتها العلميّة المرجوة. والحقّ أنّ ثمّة بعض الإنجازات المهمّة، غير أنّها قليلة جدّا، ولا تناسب حجم الإمكانات المتاحة ولا الغايات المسطّرة ولا الآمال المعقودة على الجامعة والجامعيّين في رفع قاطرة التنميّة والتقدّم.
في نهاية هذا الحوار العلمي، وباسم أعضاء وزوار ’’شبكة ضياء’’، نشكركم على الاستجابة وحسن التفاعل.
*شبكة الضياء