مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/17 20:12
حوار مع المفكر الإسلامي الدكتور محمد الاحمري
في حوار مع المفكر د. محمد الأحمري: الذي حدث في تونس ومصر هي الثورة العظمى في تاريخ العرب، والمحتل لا يوثق ولكنه أقل أذى من احتلال القذافي
14-4-2011
تبين للثوار الليبيين أنهم لا يملكون في مواجهة إرهاب المستبد إلا أيديهم العارية، وأنه ليس إنسانا حريصا على أي شيء غير نفسه، شعاره أنا ومن بعدي الدمار، أما البلاد والسكان فتوعد أن يدمرها وأن يقتلهم إلا أن تعود سلطته، ولم يكن لهؤلاء من مخرج سوى هذا، فهو إما موت محقق تحت إرهاب الديكتاتور أو بحث من معين، فكان هذا الشر أقل الشرين..الذي حدث في تونس ومصر هي الثورة العظمى في تاريخ العرب منذ قرون بعيدة، فهي الثورة الثانية بعد الثورة العباسية، فليس لها مثيل قريب في حياة العرب،
حيرة وقلق القراء والمتابعين وعموم المهتمين بالشأن الليبي وما أحدثته مسألة طلب الثوار دعما عسكريا من دول احتلال، وقضايا ملحة أخرى هذه الثورات، عرضنا بعض جوانبها وأسئلتها على المفكر الموسوعي د. محمد حامد الأحمري، فكان معه هذا الحوار:

العصر: هل ما حدث في بعض الدول العربية ثورات حقيقية، أم إسقاط أشخاص؟ ذلك أن إسقاط الحكام مع بقاء بنية الدولة من دون تغيير هو انقلاب لا أكثر، أما الثورة فهي تغيير بعيد الأثر يعيد بناء النظام الاجتماعي، وعلى هذا فإن ما تحقق ـ في نتائجه ـ ليس أكثر من انقلاب، وعليه، فإن ما تحقق إلى الآن ليس إلا بعض الثورة، فما تعليقكم؟

د. محمد الأحمري:الذي حدث في تونس ومصر هي الثورة العظمى في تاريخ العرب منذ قرون بعيدة، فهي الثورة الثانية بعد الثورة العباسية، فليس لها مثيل قريب في حياة العرب، فالثورة العربية في مطلع القرن العشرين كانت احتجاجات عربية على التتريك وقبر الخلافة العثمانية التي كانت تترنح وتحتاج من يطلق عليها رصاصة الرحمة. والثورة العباسية ستكون أقل في ميزان التاريخ من هذه الثورة.


وكما كتبت في ’’ملامح المستقبل’’ قبل أكثر من ست سنوات: إننا مقبلون على الفجر الثاني للأمة العربية، بعد فجر الدعوة الإسلامية الأول، وفي العام الماضي حاصرني جمع من الشباب يتساءل بعد كتابة نص متفائل جدا أليس من المناسب أن تتنازل عن هذا التفاؤل، وتسير على طريق العرب المعاصرين في درب التشاؤم؟

وكدت أنصاع لرؤيتهم بعد شدة الحلكة، ولكن جاء الفجر من المغرب الإسلامي، من تونس، وفي منطقة المغرب الأكبر عموما حيوية واسعة، أرجو لها السداد والاستمرار إلى أن تسير على اللحظة العملية، فالوضع المتجه لمزيد من الحريات، ومزيد من الثقة بالذات، مع ارتفاع الكثير من المؤهلات جعل الكثير من شروط النهضة متوفرة.

ونعم هذه بدايات الثورة وكسرت الحواجز النفسية المعيقة للنهضة، وهي الخوف والاستبداد، وعدم المبادرة، وتحميل الآخرين المسؤولية، فلما بدأت الأمة تشعر بأنها المسؤولة عن نفسها وعن تحقيق تطلعاتها وكسر القيود المانعة بدأت التحديات الذاتية خلقية وعملية داخلية. وما النماذج التي تحدث الآن في مصر من توجه خلقي عزيز، ورفض للرشوة والفساد -حتى من الموظف الذي كان يفعل أمس- إلا شعور بالتغير الأخلاقي الضروري للثورة، وانتفاضة الضمير والكرامة الذاتية.

العصر:من جدل الديمقراطية إلى صناعة الثورات العربية، هل نشهد تاريخا جديدا للمنطقة العربية؟

د. محمد الأحمري: نعم، إن مسألة التغيير الديمقراطي على أنه هو الخيار الوحيد للشعوب نحو السيادة والنهضة لم يعد مكانا للتساؤل، فليس هناك من بديل للديكتاتورية والاستغلال والعمالة واللصوصية التي قام بها نموذج بن علي ومبارك إلا وجود أمة مسؤولة تختار ممثليها للقيام بتحقيق مطالبها، ولا سبيل إلا الانتخاب، وتكراره كدليل لتقييم عمل الأفراد والمؤسسات. والتاريخ يبدأ يوم يحصل تغيير في قلوب وعقول الأفراد.

العصر:ما الذي تغير اليوم: الإنسان العربي، أم الظروف، أم الوعي، أم ماذا؟

د. محمد الأحمري: تغير الوعي أولا، وكانت عملية تعليمية وجهود توعية وتثقيف كبيرة، وأحزاب وجماعات، وإعلام واحتلال، ومستبدون مُجلِّحون، وغزو ومآس كبيرة، جعلت حتى البليد يحس بالمأساة، ثم الظروف المتاحة، فالإمبراطورية الأوروبية والأمريكية خفّت قبضتها على المستعمرات، وعرفت أن المستبدين يخدعونها أيضا، ويكذبون في التخويف من الإسلام ومن الشعوب، وأنهم يبالغون في قصة الإرهاب، وفي التخويف من الإسلام ومن التحرر؛ ليستمر استبدادهم ونهبهم وعمالتهم، ثم شعوب ترى الغبن بين عينيها، شخص يسرق سبعين مليار دولار والمسروق لا يكاد يجد طعام يومه. فالتفاوت مرض اجتماعي، وانحطاط أخلاقي، فالمجتمع الذي يشكو جمع منه من ترف مغيّب عن الواقع، وجمع آخر في جوع مذل يعيش انحطاطا أخلاقيا، والانحطاط الأخلاقي هذا ظهر في المجتمعات الإسلامية المرهقة باللصوص أكثر من الغربية.

العصر:تحدثتم عن سرقة الثورة، فهل لا يزال الهاجس قائما؟

د. محمد الأحمري:نعم، خطر سرقة الثورات لم يزل قائما، وقد يستمر على الأقل لعقد من الزمن حتى تمر الانتخابات الثانية، وربما أكثر من دورة انتخابية، حتى يحصل التمرين والتشبع بالديمقراطية وثقافتها، وما لم تترسخ فالخطر قائم، ومصدره جدة التجربة، وخطر الديكتاتوريات العربية التي تكره أي عدالة وكرامة للشعوب المجاورة، والاحتلال الصهيوني الذي عاش في حب ومودة مع ديكتاتوريات خاضعة ومطيعة له، وخطر نزق الشعوب وتجاوز فرحتها بالنصر للآفاق الممكنة.


هذا إلى جانب الخطر الذي لم يحسم بعد، وهو عصابات الفساد القديم المنتشرة في الحكومات والجيوش ورجال المال، وأيضا النفوذ الغربي الذي يبحث عن عبيد في بلداننا، فالأحرار سوف يقللون من نفوذه. ولا ننسى أن شركات كانت تقيم انقلابات في أمريكا الجنوبية لتستقر عقودها، كشركة ’’آي تي أند تي’’ الهاتفية، فما بالك بشركات السلاح والنفط والاتصالات الكبرى لو ضعف سوقها ونفوذها؟ ماذا تصنع لو رأت إدارة هشة ويمكن تدميرها وتنصيب أوليائها؟ لا أريد تخويفا معيقا، ولكن من الوعي التنبه لهذه الجيوب الاستبدادية التي تترقب لصناعة ثورة مضادة.
العصر:في سابقة نادرة ونازلة جديدة، يطلب ثوار ليبيا الدعم من المحتل لمواجهة جرائم القذافي، فهل من تعليق؟

د. محمد الأحمري:تبين للثوار الليبيين أنهم لا يملكون في مواجهة إرهاب المستبد إلا أيديهم العارية، وأنه ليس إنسانا حريصا على أي شيء غير نفسه، شعاره أنا ومن بعدي الدمار، أما البلاد والسكان فتوعد أن يدمرها وأن يقتلهم إلا أن تعود سلطته، ولم يكن لهؤلاء من مخرج سوى هذا، فهو إما موت محقق تحت إرهاب الديكتاتور أو بحث عن معين، فكان هذا الشر أقل الشرين. والمحتل لا يوثق ولكنه أقل أذى من احتلال القذافي لو احتل.

العصر:أليست الدول التي قصفت العراق وأفغانستان هي نفسها التي تضرب دولة عربيةبأسلحة متقدمة تحت ذريعة حماية المدنيين، وأنها تصر -مثل الحالة العراقية والأفغانية- على أنالدوافع وراء العملية إنسانية، ما الذي تغير بالنسبة للتدخل العسكري لدول الاحتلال في ليبيا؟

د. محمد الأحمري:الحالة في أفغانستان والعراق احتلال خارجي لمصلحة الخارج فقط، فمهما قيل من كلام لمنافع محلية فلم يكن معروفا ولا واضحا أو هو أقل أثرا من غيره، بينما ليبيا الدافع والسبب داخلي أولا وأخيرا، ولهذا فالخارج يحب ’’القذافي الجديد’’، وهو ليس جديدا بل متلون، خضع بعد سقوط صدام لكل شهوة غربية، فأعطى الغرب كل شيء، النفط وتصدير الثروة ’’ثمن النفط’’ إلى بنوك الغرب، مقابل أن يبقى، ولكن تاريخه الأسود معهم، وعدم الثقة به هو ما أعطى فرصة للتنازل عنه، وبعضهم لم يزل يرى فيه خيرا لنهب ليبيا من أي بديل ليبي غير معروف مهما بدى معتدلا، ولهذا لم تحسم كثير من حكومات الغرب الموقف منه.

كما أن من المهم ملاحظة المتغيرات في وعي الشعوب، وهي وإن لم تكن كبيرة ولكنهم سائرون على طريق المعرفة والإدراك، وتجنب الاحتلال الجارح.

العصر:هل يمكننا الحديث بعد التدخل العسكري في ليبيا عن ’’احتلال مقبول’’ وآخر ’’بغيض’’؟ وهل الاحتلال يتجزأ، نقبل منه جوانب ونرفض أخرى؟

د. محمد الأحمري:من السابق لأوانه القول بأن في ليبيا احتلال الآن، فليس هناك من قوات غربية على الأرض، وقد تبين أن الاحتلال الداخلي من عساكر أو حكومة فاسدة عربية لشعبها قد يكون شرا من احتلال خارجي، ولو قارنت بين الاحتلال البريطاني في مصر واحتلال آل مبارك لرأيت أن الإنجليز في عهدهم رغم بؤسهم كان لديهم مظاهر ديمقراطية شعبية وانتخاب ’’محسوب’’ خير من عهد مبارك. والاحتلال الفرنسي في تونس كان أقل شناعة من احتلال بن علي في جانب الحريات المدنية. والاحتلال كله مرفوض داخليا - يمارسه حاكم محلي باسم الشعب - أو خارجيا باسم محتل باسم قوة غربية أو شرقية.

العصر:هل تغيرت طبائع المحتل في ليبيا، أم ظهر ’’ثوار جدد’’، أم هي ’’الحساسية’’ المفرطة تجاه المحتل؟

د. محمد الأحمري:المتغير هو الفرق بين المحتل الشرير الداخلي الأفظع مدة تقارب نصف قرن، وبين أمل في التحرر منه، ولو وقع شر أثر غربي لكان أقل خطرا وحرمانا للإنسان من إنسانيته من احتلال القذافي، وقد قتل إلى وقت إجراء المقابلة حوالي عشرة آلاف ويَعِد بالمزيد، ومن هنا ليست حساسية بل واقع من جوره مرعب.

العصر:ننتقل إلى موضوع آخر في عالم الثورات.. حركة الاحتجاج في البحرين كشفت مجددا عن معضلة المواطنة، والأغلبية والأقلية المذهبية هل تعني بالضرورة أغلبية أو أقلية سياسية، فما رأيكم؟

د. محمد الأحمري:في الحكومات غير الديمقراطية لا يوجد شيء اسمه مواطنة، فهي مجرد خداع لفظي، فالمواطنة تعني مشاركة في مغانم ومغارم ومصائر الوطن، والعرب في بلادهم مجرد سكان يجاورون مستبدا يتفضل عليهم بما فضل لديه من مال أو سلطة، ولا يفضل عن شهواته من السلطة شيء، وهو جشع يمتص آخر قطرة من مال ومن قرار.

وفيما يتعلق بالأغلبية السياسية في أي بلد لها حق توجيه سياسة بلدها، وعليها واجب احترام حقوق الأقلية، وهذا القول لا يصح معه التقلب والاختيار من مكان لآخر، فكما نقول عن مجتمع سني بأنه صاحب الحق كأغلبية، يجب أن ننسجم مع ما نقول في كل مكان. ثم هل كانت السلطة هي سبب أزمة المواطنة أم الشعب؟ نحن نثق بأن الشعوب لو مارست حريتها لاتخذت القرار الصحيح لها.

العصر: انتفاضة البحرين (التي تُتهم بتشيعها) وتدخل قوات خليجية (سنية) لمواجهتها، مما يجهض أي محاولة للتلاحم بين السنة والشيعة في ساحات التدافع السياسي، فهل فشلنا مرة أخرى في تجاوز التركة الموجعة والإرث التاريخي؟

د. محمد الأحمري:أزمة البحرين ليست كلها بحرينية، بل هي أزمة في المنطقة سببها الأهم هو الاستبداد الذي يوقد المذهبية ليبقي على الفساد السياسي والمالي، وكذلك الخوف من الحرية، فلو نال الشعب البحريني حريته لما أصبح إيرانيا كما يروج المروجون، وهم قد جربوا استفتاء سابقا ولم يختاروا إلا الاستقلال، وليس عند إيران ما تقدمه لهم، والقوة السنية التي دخلت البحرين ستوقد الانتقام مستقبلا والحقد، وتسيء أكثر للناس، وتنشر العداء والقلق والحقد المذهبي في بقية الجزيرة العربية، وهذا فشل سياسي جديد لحكومات الخليج تجاه مواطنيها، وكان بالامكان الحل بأقل من هذا، وتجنب إيقاد الفتن والتخوين المتبادل.

العصر: لماذا ينتصر الخنوع على المذهبية والطائفية بينما تعجز الثورات والاحتجاجات عن ذلك، يعني في الخضوع تنتظم الصفوف وتستوي، وفي حركة الاحتجاجات تفرض الانقسامات (الطائفية والمذهبية) حضورها بقوة، كما في حالة البحرين؟

د. محمد الأحمري:هناك طرفان نافذان يوقدان المذهبية كشرط ضروري لبقائهما، وهما: الاحتلال، والاستبداد. فكما في العراق تعاملت أمريكا مع العراق على قاعدة ’’فرق تسد’’، وأن الشعب العراقي ليس بشرا بلا أشياء مختلفة نمتلكها ونحدد أدوارها لنا، وكيف تخدم مصالحنا، فهم شيعة وسنة وعرب وأتراك، وتقسيم مناطقي، ثم تطرفوا في التقسيم فانفجر نيرانا عليهم. ولكن السيطرة على العراق تقتضي من المحتل ذلك، وكذا البشتون والهزارة والأوزبك في أفغانستان.

وعلى طريقة المحتل الخارجي، يفعل المحتل الداخلي أو المستبد، فلا قرار له إلا بتقسيم الشعب الواحد مذاهب ومناطق وعائلات وقبائل مع وضد، ويوقد خلافاتها ويتظاهر بأنه يوحدها ويصلحها، بينما خلافها والرعب من خلافها شرط بقاء سيطرته أو احتلاله.

والاحتجاج في البحرين لم يبدأ مذهبيا، ولكنه تصاعد مذهبيا بتصرفات خاطئة مذهبية للمحتجين، ويبدو أن منهم من المتطرفين من جنح بغاية صحيحة للاحتجاج، وكذا مصلحة حكومية في تحويره ليكون مذهبيا، فلو لم يصبح مذهبيا لنجح في تحقيق بعض مطالبه.

العصر: سوريا على الطريق، فماذا تتوقع للانتفاضة الشعبية في الشام؟

د. محمد الأحمري:إن نجحت الثورة في سوريا في كسر بؤس الاستبداد المقيم منذ أربعين عاما فذلك خير ما يصبو إليه الناس في المنطقة وسكان سوريا خصوصا، وإلا فإنها ستخفف من قسوة الاستبداد، فلم تعد سوريا الآن سوريا الثمانينيات في عهد حافظ، وعهد الحرب الباردة.

العالم اليوم يتجه لكثير من الحرية والانفتاح، وكل كسر في الزجاج لا يلحم، حتى الصين خافت من ثورات المجتمع العربي، فكيف به في الداخل؟! ثم إن موجة التحرر هذه ستصيب مستبدي المنطقة جميعا بلا استثناء، فمنهم من بادر وعقل، ومنهم من وزع هبات أو رشاوى، ومنهم من قال نختلف عن غيرنا، وسيعلمون أن الإنسان واحد.

أما إن لم تواصل الثورة المصرية تحرير الشعب المصري، وقُذفت على الحرية أموال لإطفاء جذوتها، فقد يتأخر المد التحرري قليلا ولكنه آت لا ريب فيه، وستكسب سوريا من الانتفاضة كسبا كاملا وإلا فجزئي إلى وقت قريب تحسم قضيتها.

العصر: هل عززت الثورات الشعبية العربية حالة التفاؤل التي تغلب على كتاباتك، كما في كتاب ’’ملامح المستقبل’’؟

د. محمد الأحمري:كثيرون يقولون: ما هي الملامح القادمة؟ وكأن الكتابة في المستقبليات ضرب من الكهانة، وهي ليست كذلك، وسبب الاهتمام بكتابي في هذا الموضوع قلة من يهتمون ويستقرؤون منا، وأرجو أن أكون قد وفقت لبعض ما أردت، والمستقبليات بجانب المطلوب من المعرفة - وهي قليلة فيما سقت في الكتاب - نوع من تعلق القلب بالحل ولم يخل من تمنيات، وكثيرا ما تكتب المستقبليات بنزعة عقلية صارمة، ولهذا فقد توردها مورد التشاؤم، والكتابات المستقبلية هي من التوسع عند غيرنا بحيث لا يقبل نص كالذي كتبت إلا في تخصيصه بموضوع دقيق لا بكتابة عامة.

وكان ردة فعل لما حدث في العراق، وجوابا لما شعرت به من حالة يأس، وأنا أرى العراق يرجع قرنا للوراء لزمن الاحتلال البريطاني في العشرية الثانية من القرن العشرين ليدخل سرداب الاحتلال في القرن الحادي والعشرين مرة أخرى، والذي أدخله الاحتلال الغربي الثاني هو الاستبداد المحلي أو الاحتلال الداخلي.

أما هل عززت من حالة التفاؤل؟ فنعم؛ لأنها أعطت دليلا واقعيا عمليا جديدا وأكثر وضوحا، ولكن ميلاد التحرر لا يعفيه من عقبات، ولكن عالمنا العربي والإسلامي متجهل لما هو خير، وبعكس ذلك الحاقدون عليه، فقد كان من طريف ما يحدث على جبهة الإرهاب الصهيوني قول أحدهم أخيرا: ’’إن إسرائيل يخنقها غياب الأمل في المستقبل كما’’ وهذا لم يحدث في ماضيها إلا لحظات ما بعد 1967م حين رأت أنها بلغت أبعد من شأوها. واليوم لن تجد معسكر عملاء قوي في الداخل كما كان.

العصر: لماذا عزز العلماء والمفكرون والمؤثرون حضورهم في المسألة المصرية والتونسية، وغابوا عن ثورات ليبيا واحتجاجات البحرين، إلا من فتاوى عزلاء؟

د. محمد الأحمري:ما حدث في تونس كان رائعا بدرجة لم تكد تصدق، وكان يمكن أن ينهى من قبل معسكر الاستبداد والاحتلال الخارجي والداخلي في العالم العربي، وتوقعوا أن يعاني لكون تونس صغيرة في بحر استبداد، ولكن التحاق مصر بها عزز الموقف والقضية وحملها إلى دائرة اليقين بالتغيير، ثم بسبب نجاح سريع في تونس ومصر دون ضحايا كبيرة، ولكن عقدة ليبيا مع العقيد المعقد، والحقد الذي قرر به أن يقتل أكبر قدر من الناس -وأعلنه وولده- سبب تراخيا كبيرا، وخوفا وتشاؤما منه، ثم تاريخ العنف والجهل الذي أسس له مرعب للجميع، ولكن كما ترون في حال ليبيا لو انتصر إرهاب القذافي -لا قدر الله- فسيكون موعودا بهزيمة، ولذا فسوف يكون شر أقل من شره، وإلا لقي هو ومن بعده شرا مما قدموه للناس.

العصر: ما نقاط القوة والضعف في الثورات الشعبية العربية الأخيرة؟

د. محمد الأحمري:نقاط القوة: وضوح المطالب؛ بسبب وضوح المظالم، ثم إنها تمت في بلدين أحدهما أكبر البلاد العربية دون خسائر عظمى، ثم عدم تحزبها لجماعة ولا فئة، وكون أصحابها شباب لم تقرع قلوبهم عقد السلطات واليأس، وأنه لم يكن لهم قادة يملكون القوة الجماهيرية ويوجهونها فتصبح مرهونة لأشخاصهم، ولعلاقاتهم وأمزجتهم، وصوابهم وخطئهم، بل تسمح بفائدة الموقف النابغ، وتتجنب الأثر السيء للزعماء، وكونهم متسامحين، وبعيدا عن الأحقاد ضد قيم الأمة، من دين أو قومية ولم يقوموا على أساس مناطقي ولا مذهبي ولاعرقي. وعلاقة التقنية بالتغيرر والثورات جعلت الناس يرون للتقنية بعين الاحترام للمستقبل المعرفي والتقني.

من نقاط الضعف:أنها تمت دون تحديد مسبق لتفصيلات ما يراد، وكانت المطالب صغيرة في البدء، وأن التجربة الثورية غير مستوعبة لما تعنيه، بل الثورة عفوية في جوانب عديدة منها، وأحيانا لم تقدم شخصيات مؤثرة على الجميع، والرمزية مفيدة جدا في تحديد المطلوب ومواجهة القوى المعادية للثورة، ولكنها مضرة في الآن نفسه عندما تغلب عليها مزاجات الأشخاص ورؤاهم.

ولا ننسى شخصيات كانت ملهمة جدا بمواقف جذرية، ودعت من قبل للثورات السلمية والحشد الجماهيري والحلول الديمقراطية، فأشخاص مثل الشيخ ’’راشد الغنوشي’’ و’’منصف المرزوقي’’ ثبتا وتفاءلا حتى كاد ينفض من حولهم حتى المحبون المخلصون لقضاياهم، بل شهدت تونس نقاشات حاسمة في السنوات الأخيرة، ورجعت مجموعة لتونس أغلبهم بتنسيق مع النهضة وغيرها، ولكن كان لليأس وطول الزمان واستقرار الاستبداد دور في التساؤل أو التراجع، مع أن من دخلوا لتونس من المعارض ورجعوا لا يقلون جهدا وجهادا عن غيرهم.

فالتفاؤل والصبر وطول المدى ثبت أنه ينتج، بل وينضج الشعوب والقيادات، وهذا يجدي مع وجود رؤية صادقة صارمة في معرفة الواقع وتحديد ما يجب أن يكون.

العصر: ما دليل نجاح الثورات، وهل يمكن الحديث عن حالة ثورية دائمة؟

د. محمد الأحمري:الإصرار على السلمية -كما في تونس ومصر واليمن-، ورؤية واضحة لما يريد الناس، ديمقراطية حقيقية لا لبس فيها، نهاية الاستبداد ومحاكمة رموزه، استعادة كرامة الشعب من سالبيها، إعادة ترتيب العلاقات الشعبية، فالجيمع أحرار متساوون أمام القانون، ومتساوون في حقوقهم وواجباتهم.

أما الحالة الثورية الدائمة، فللثائر الشهير ’’جيفرسون’’ مقولة معروفة، وهي ’’أن أمريكا تحتاج للثورة كل عشرين عاما’’، ولأن ثقافة الثورة قد تغيب قريبا، فيجب تجديدها، وتجديد قيمها. وبسبب من رسوخ مصطلحات وثقافة الثورات يتوقع الناس لكل ثورة تحولات في عقدين أو نحوها، ولعل أقرب ثورة يمكن دراستها الثورة الإيرانية، وقد توقعوا ثورة في الثورة بعد ’’خاتمي’’ أو في عهده لم تتحقق كما أرادوا، بل حصل أن أنتج شباب الثورة وثقافة المحافظين في شبابهم ثورة محافظة لما اكتهلوا، وهذا تراجع، ولكن حماسة الشباب وجنات الثورة الدينية الموعودة رأوها في تدين رسمي صارم، سبب ردة قادمة للثورة الإيرانية ضد الدين، وضد المؤسسة الدينية.

فإيران القادمة أقل تدينا وأكثر ليبرالية وقومية، أو عنصرية، وربما أكثر ولاء للغرب ولإسرائيل، وتنسجم مع ما تمناه منها المحافظون الجدد الغرب وأتباعهم في المعسكر العربي، وقد ينفع هذا الفرس والغرب والصهاينة، ولكن سيندم العرب المروجون للانخلاع من الدين؛ لأن هذا سيأتيهم بحكومة قد تكون أكثر ديمقراطية وأقرب للغرب وتهيمن بتأييد غربي على الخليج العربي.

أما الحالة الثورية الدائمة، فإنها غير مقبولة النتائج، فالثورات إذا نجحت فعلا عملت على إنهاء الثورة الداخلية، إذ يتحول الثوار إلى محافظين شديدي المحافظة في الداخل، يرون في كل ثورة عليهم فتنة، وخروجا على الثورة وخيان.

ولهذا فإن الدول الثائرة لا يقاومها العقلاء في لحظات انتصارها، فهي كتلة من نار وعزم وقوة وتوجه للخارج بشكل مندفع لكسب الأولياء وتصدير الثورة، وإن لم تجد هشيما في الجوار تلتهمه، كما فعلت فرنسا نابليون في مصر ثم في أوروبا، وكما فعلت روسيا في العالم بعد الثورة، أو كما حاولت إيران في العراق، فقد تحرق نفسها في داخلها إن لم تجد ما تحرقه في خارجها، فمن قوانين الثورات التوجه للحرب في الخارج، وحين تخسر هذه الفرصة تلتهم قوة داخلية تجعل منها عدوا لها وتفرغ فيها شحنتها.
*العصر
أضافة تعليق